تحت المجهر

عطبرة.. سكك حديد السودان

فتحت حلقة (22/6/2016) من برنامج “تحت المجهر” ملف خط سكك حديد السودان وتدهور وضعه بعد أن كان سبيلا لترسيخ هوية سودانية موحدة تجمع الإرث التاريخي المشترك بالمصالح الاقتصادية المتبادلة.

لقد ساهمت السكة الحديد السودانية بشكل مباشر في خلق نسيج اجتماعي متفرد، ونقلت الناس والبضائع والمعارف والثقافات، ولقد كان لتلاقي الأفراد والجماعات عبر الترحال في ربوع السودان الأثرُ الكبير في التعرف على أساليب العيش والتقاليد، بما قرّب المسافات بين مواطن البلد الواحد الأكثر تنوعاً في أفريقيا والوطن العربي.

وكان إخراج العمل لصالح شبكة الجزيرة الإعلامية، بإشراف فريق "تحت المجهر"، فرصة ثمينة للفت النظر لتك المؤسسة الضخمة وأثرها العظيم في الحياة السودانية، فضلاً عن تاريخها الثري ومساهمتها في ضخ الكثير من المعارف في الحياة العامة أفرادا وجماعات. 

إن تمدد خطوط سكة الحديد أنتج مجتمعاً جديداً، أفرز مدينة قائمة على الانضباط وثقافة العمل الجماعي الذي ساهم في قيام التنظيمات العمالية والنقابية التي كان لها أوضح الأثر في الحياة السياسية في مجموع السودان.

إن من أهم أهداف إخراج هذا العمل تقديم الحالات الإنسانية التي ساهمت في بناء وتسيير سكة الحديد وهي نسيج من العلاقات العملية والعاطفية والمدنية وما أفرزته، في ذلك الوقت، من حالة من الانفعال المجتمعي اللامحدود معرفياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً.

كطفل لن أنسى مشهد القطار في المحطة مع تأهب أسرتي للركوب، وأنا صغير، وكيف أن الركاب داخل القطار كانوا يتحولون إلى أسرة واحدة حيث إنهم سريعاً ما يتعارفون رغم الاختلافات الواضحة بينهم لتصبح لهم حياة أخرى داخل القطار. القطار من جهة معمارية في حد ذاته كان ساحراً، وركابه ومديروه والباعة وغيرهم يشكلون مشهداً يصعب نسيانه.

إن التجوال في جهات السودان المختلفة، وتتبع خط السكة الحديد الذي ينظر إليه بوصفه خط حياة لغالبية أهل البلاد، في ظرف أشد صعوبة من حركة القطار ذاته في زمن سابق، يعد مغامرة مفيدة. فالمسافات بعيدة والمناخات مختلفة والوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي متغير، والقصص والحكايات عن القطار صارت من الماضي بعد أن توقفت أغلب الخطوط عن العمل.

ولعل تغير المناخ وتقلبات السياسة في السودان من أعقد المشاكل التي واجهت فريق العمل، فضلاً عن الانتظار لمدد طويلة على أمل تحرك إحدى القاطرات التي يمكنها أن تتوقف في أي وقت دون سابق إنذار.

ظللنا أشهرا نترصد القطار في محطات مختلفة حتى نتابع مسيره وقصته. نستقله أحياناً ركوباً  ونتابع قضبان السكة الحديد خالية أحياناً أخرى بحثا عن قصة تستحق أن تروى، وكثيرا ما لا نحصل على شيء غير خطوط سكة متقطعة أو متهالكة. 

هوية سودانية
إن التنوع في طبيعة الأرض والإنسان وتفاعلهما أنتج مزيجاً ساهم كثيراً في خلق بُعدٍ بصري مختلف، وقصصاً وحكايات اختلفت من بيئة لأخرى بشكل ساهم في توليف متنوع للحكايات  والمشاهد.

لقد طاف فريق العمل خلال إنتاج حلقة "عطبرة.. سكك حديد السودان" كل المناطق السودانية التي يمر بها خط السكة الحديد تقريباً، وكان ذلك أمراً شديد الإثارة والتعقيد أحياناً وأكثر بساطة وجمالاً أحياناً أخرى، حيث إن لكل مكان خصائصه المختلفة التي تجعل منه حالة خاصة وكشفاً جديداً.

لقد كانت قاطرات السكة الحديد ناقلة للعلاقات الإنسانية التي لا تحدها حدود، وملتقى للكثير من المختلفين في السحنة واللهجة تجسيدا لهوية سودانية اتخذت بعداً آخر عبر التلاقي والتآلف والانصهار داخل تلك القاطرات.

ولأن السكة الحديد قربت المسافات كثيراً وجعلت التنقل بين الأرجاء ممكناً، فقد زادت فرص تلاقي الثقافات والمعارف في البلاد بشكل حوّلها إلى واحدة من وسائل تفعيل الوحدة الوطنية وترسيخها.

"السكة الحديد السودانية" كما نسميها في السودان واحدة من أيقونات الحياة في السودان، أنتجت مجتمعاً مختلفاً ومثقفاً ومترابطاً، كما أسهمت بفاعلية في دفع عجلة التنمية والاقتصاد، ويسرت انتقال الثقافات والمعارف إلى مناطق ما كان لها أن تصلها لولا السكة الحديد.

المخرج: زهير حسن أحمد