مأساة المتقاعدين المغاربة في أوروبا
حلقة "تحت المجهر" وعنوانها "جمرة التقاعد" رحلة في عمق قضية نمت وراء ظهور الدول التي تصدر المهاجرين وتلك التي تستقبلهم. فعندما كان الاهتمام منصبا على جذب العمالة الرخيصة إلى أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، كان التركيز على العمال الشباب الذين يوافقون على العمل ساعات طويلة وفي ظروف صعبة.
لم يفكر أحد آنذاك أنهم سيعملون عقودا في أوروبا، وسيبلغون سن التقاعد على الأراضي الأوروبية.
خلال إنتاجنا لـ "جمرة التقاعد" تكشف لنا حجم الإشكالية، وكان من الصعب الإحاطة بكل تفاصيل مشكلة المتقاعدين المغاربيين في أوروبا، لذا قررنا التركيز على الحالتين الهولندية والفرنسية لاعتبارين: الأول أن قوانين هولندا الخاصة بالتقاعد التي بدأت منذ عام 2014 تميل نحو مزيد من التشدد ضد المتقاعدين الأجانب مقارنة بباقي الدول الأوروبية
والاعتبار الثاني هو أن علاقة فرنسا بدول المغرب العربي متداخلة جدا، إلى درجة أن المتقاعدين الفرنسيين يفضلون العيش في تونس والمغرب بسبب رخص الحياة وسهولة الاندماج، ولهذا كان البعد الثاني للفيلم يسلط الضوء على الحياة المرفهة للمتقاعد الأوروبي في بلاد المغرب العربي ومقابلتها بحياة المتقاعد المغاربي الصعبة في أوروبا.
لم تكن القضية في عمقها سهلة، لأنها قضية قانونية إنسانية سياسية، كما واجهتنا مشكلة إيجاد الضيوف للحديث أمام الكاميرا، فمعظم المتقاعدين المغاربيين في فرنسا وغيرها غير متعلمين وأفنوا حياتهم في العمل فقط ولا يعرفون حتى حقوقهم، لذا استعنا بجمعيات وخبراء وسياسيين لهم علاقة مباشرة بهذا الموضوع وجربنا في فرنسا الحديث لحوالي 15 متقاعدا لنختار منهم اثنين في النهاية، يستطيعان شرح القضية بتفاصيلها، وحكاية قصتهما أمام الكاميرا.
كما أن التصوير في تونس والمغرب وهولندا وفرنسا جعلنا أمام إشكالية تنسيق عناصر الفيلم خاصة وأن الحالة المغربية والتونسية متشابهة كثيرا، وكذلك الحالة الفرنسية والهولندية من حيث القوانين ومن حيث تخبط المشرِّع في كلتا الدولتين في بلورة قوانين هدفها الأول خفض الإنفاق العام ولا بأس إن أجحفت في حق المتقاعد.
إنتاجيا عملنا مع عدة مصورين كون الإنتاج في أربع بلدان، وساعدنا كثيرا اعتمادنا على منتجين ميدانيين متخصصين في كل دولة على حدة. بالطبع يتعلم الإنسان من أخطائه، ولن أنسى في إخراج هذه الحلقة كيف صورنا في فرنسا ثلاثة أيام، ثم عدنا للمونتاج لنكتشف أن كل التصوير غير مناسب لخطأ تقني في الكاميرا، مما اضطرنا إلى العودة مرة أخرى لفرنسا، وإعادة التصوير.
في المغرب وتونس كانت مشكلتنا أن المجتمع المدني والسياسيين والخبراء لازالوا غير مهتمين بإشكالية المتقاعدين المغاربيين، ولم نجد سوى نائبة برلمانية واحدة فقط بدأت تثير النقاش حول هذه القضية بمحض صدفة جمعتها في إحدى المناسبات بناشط اجتماعي من أصل مغربي يعمل في فرنسا وهما معا من أبطال فيلمنا.
في المقابل أصبحت ظاهرة توافد المتقاعدين الأوروبيين بكثرة إلى المغرب – وبوتيرة أقل إلى تونس – معروفة لدى الجميع وتفاجأنا بحجم الاهتمام السياسي بالموضوع وكثرة المشاريع الموازية التي بدأت تنمو.
يسعدني أن أشير هنا للموسيقى التصويرية في هذه حلقة " جمرة التقاعد" التي ساهم فيها الملحن السوري زياد حلبي، فقد اختار ألحانا تعبر عن الأمل والعتاب وأعتقد أننا وفقنا في ذلك لأن الفيلم هو شرح لقضية أبطالها على كلا ضفتي المتوسط يأملون في حياة أفضل، بينما أمل المغاربة من جنوب المتوسط المضطرون للتقاعد في دول الضفة الشمالية مفعم باللوم على دولهم التي تنكرت لهم في أرذل العمر.
بعدما أنقذوا ملايين الأسر من الفقر لعدة عقود، وهم اليوم عاجزون عن العودة إلى الوطن والموت على أرضه بسبب قوانين قابلة بجرة قلم أن تتغير إذا توفرت الإرادة السياسية والقانونية لذلك.