نقطة ساخنة - العراق.. مشهد ما بعد السقوط
نقطة ساخنة

العراق.. مشهد ما بعد السقوط

تبحث الحلقة في حيثيات انهيار عاصمة عربية، شهادات الإدانة والخيانة، بغداد.. توطئة لما قد تكون عليه الأخريات، أخطاء القيادة العسكرية العراقية.

مقدم الحلقة:

أسعد طه

ضيوف الحلقة

المقدم صفاء: شرطة بغداد
العقيد أبو عمر: شرطة بغداد

تاريخ الحلقة:

31/07/2003

– بغداد بين الماضي والحاضر
– أسباب وخفايا سقوط بغداد

– معركة المطار.. الحقيقة وخفايا الأسرار

– أخطاء القيادة العسكرية العراقية

– المتطوعون العرب والخيانة التي طالتهم

– بغداد ما بعد السقوط بين الاحتلال الأميركي والبحث عن المستقبل


undefinedأسعد طه:

في يومٍ غير يوم الزحف العظيم

أدس نفسي بين زحام المخلَّفين، أطأطئ رأسي.

أحني هامتي

أدق بابك ثم أطلب المعذرة

يا أيتها السيدة احكي لنا كيف وقعت الواقعة

اشمأزت ثم ردت: رفع الأعجمي طرف ثوبي

فصحت وامعتصماه

واعادلاه

وامنصفاه

إلى أن نفذت كل الأسماء العربية

على رَجْع الصدى اعتدى.

ولما انتهى تمتطأ وتجشأ ثم رؤوسنا اعتلى

ثم هتف: اعلوا يهود.. اعلوا يهود بين القوم وبين الكتاب ألفٌ من السدود.

بغداد بين الماضي والحاضر

السلام عليكم، المشهد بالفعل عبثي:

ديكتاتورية ظالمة مستبدة تتحكم في مقدرات البلاد وثرواتها، وتُورط شعبها في حروب هالكة ومهلكة، ثم هي تستخف بالعقول، فتدّعي القدس هدفاً لها.

وديمقراطية هزلية تصم آذانها عن شعبها إذا ما ناداها أن تنحاز إلى المبادئ لا إلى المصالح، تملك الأسلحة المحرمة دولياً ثم تخرق الشرعية الدولية بدعوى تخليص العالم من نظام يملك الأسلحة المحرمة دولياً.

وشعب يعيش في كَبَد، يدفع ثمن مغامرات الزعيم الطائشة، وأحلام القوة العظمى، لينتقل بين يدي سجانٍ من صلبه إلى يد سجانٍ من صلب عدوه.

في الخلفية إخوة الدين والعرق يتظاهرون مطالبين بالمقاومة، وعلى مسافة غير بعيدة منهم تنطلق طائرات وتمر سفن أجنبية لتدك إخوة الدين والعرق.

وفيما رائحة النفط تسكن الأنوف نرقب نحن في ألمٍ حيثيات المشهد العبثي، مشهد بغداد ما بعد السقوط.

حوالي ألف كيلو متر عليك أن تقطعها براً من عمان حتى تصل بغداد، مسافةٌ كافية لرصد مشاهد غير مألوفة لبلاد النفط والشِّعر والنخيل، مشاهد تثير فيك ألف سؤال وسؤال، كيف حدث ما حدث؟ وكيف وقع ما لم يكن في الحسبان؟ لم يكن الرهان على قدرة الجيش العراقي في هزيمة القوات الأميركية ولكن على قدرته في المقاومة ولو إلى حين، فمن يملك تفسيراً للسرعة التي سقطت بها بغداد على هذا النحو؟ ومن بوسعه أن يجيب عن الأسئلة الصعبة؟

مَنْ سرق بغداد؟

مَنْ أحرقها؟

بل مَنْ خانها؟

فإذا ما شاء المرء ألا يغرق في حزن عميق عليه اتباع العادة العربية والهرب إلى التاريخ ليتخيل كيف كانت بغداد حين بناها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عام 762 من ميلاد المسيح عليه السلام، بغداد تلك التي سرعان ما تفنن الخلفاء العباسيون في رعايتها، فاتسعت، ونمت، وشهدت حضارات متعددة، وازدانت بالمعالم العمرانية التاريخية على كافة الصعد الدينية والدنيوية، قيل فيها: إن الأرض كلها بادية، وبغداد حاضرتها، ووُصِفَت بأنها وسط الدنيا، وصرة الأرض، والمدينة العظمى التي ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها، وبولغ في الغزل فقيل في بغداد: إن الدنيا كلها معلقة بها، صائغة إلى معناها.

في بغداد ارتفع شأن الأدب، فتُرجم كتاب "كليلة ودمنة"، ونُسجت قصص "ألف ليلة وليلة"، وعاش الشعر عصره الذهبي، وقصدها المتنبي وأبو العلاء المعري وأبو تمام والبحتري ومروان بن أبي حفصة، وزيَّن مجالسها أبو العتاهية وأبو نواس، كما ازدهرت فيها مقامات بديع الزمان الهمذاني ومقامات الحريري، وكان لمجالس الموسيقى والغناء أثرٌ بالغٌ في نفوس الناس في العصر العباسي الأول، وجذبت بغداد العلماء إليها، ومنهم أبو حنيفة النعمان والإمام محمد بن إدريس الشافعي، والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم، وشهدت أبهى سنواتها أيام الخليفة هارون الرشيد.

وبقدر ما كان لبغداد من قدرٍ، بقدر ما عانت على مرِّ التاريخ، لقد سقطت اثنتي عشرة مرة، أولاها كانت على يد (هولاكو) حين اجتاحها عام 1258 ميلادية مرتكباً أبشع المذابح في حق عشرات الآلاف من السكان، وآخرها في التاسع من أبريل/نيسان عام 2003، عندما دهمتها القوات الأميركية.

هذا العدوان الخارجي سبقه عدوان داخلي، فقد شهدت البلاد في حقبة صدام مظالم فاقت الخيال، وطالت كل فئات المجتمع، وأُرغمت البلاد خلالها على خوض حربين حصدت أرواح الآلاف من الأبرياء، وفُرِضَ على إثرهما حصار اقتصادي امتد لثلاثة عشر عاماً، وترك آثاره القاتلة على كل شبرٍ في الأرض العراقية، فيما تغللت حملات لجان التفتيش الدولية في كل أنحاء البلاد، حتى باتت المؤسسة العسكرية العراقية صفحةً مكشوفةً بالكامل أمام أعدائها.

أسباب وخفايا سقوط بغداد

المقدم صفاء (شرطة بغداد): الجيش العراقي والشعب العراقي قاتل في بداية الحرب دفاعاً عن وطنه، ما دفاعاً عن أي شخص، ولا دفاعاً عن حكومة أو سلطة أو أمر آخر، دافع بغيرته، إحنا العراقيين نسميها الغيرة، وأكو بالمقابل في النصف الثاني من عقله أو من دماغه، في تفكيره الثاني إنه أكو سلطة كاتمة عليه، فهو ظل بين اتجاهين، يا إما يدافع بس بالمقابل راح يحمي الشخص اللي ضاغط عليه، راح يدعمه، وبين إنه يسلم بس هذا بلده أيش لون هذا يعني فاد شيء صعب، إنه إنسان يترك بلده من دون دفاع، أو ما يدافع عن بلده وعرضه، فصارت يعني مثل حالة تأرجح.

أسعد طه: في رحلة البحث عن مغزى سقوط بغداد على هذا النحو السريع الذي سقطت به، تجاوزنا آراء المحللين والخبراء، وآثرنا أن نستمع لشهادات من شاركوا بالفعل في هذه الحرب وحاولنا أن تشمل هذه الشهادات طبقةً واسعةً من شهود العيان، من مقاتلين بسطاء إلى قيادات رفيعة.

العقيد أبو عمر (شرطة بغداد): بدا ملامح الانهيار في اليوم الرابع أو الخامس من بعد الضربات الأولى، كنا نمشي بالطريق ونلقى سلاح الجنود العراقيين موجود، يعني كلاشينكوف نلقاه على الشارع، نلقى الخوذة مال الجندي مشمورة.

عقيد (الحرس الجمهوري): أصبح مثلاً تسرب للمقاتلين اللي هم جنود بأعمار 18 إلى 19 سنة، عدم اشتراكه في معارك سابقة، دا يشوف قدام الدبابات هي وعلى الناقلة (..) بتدمر وتباد هي واللي فيها، وعدم إخلاء الخسائر من قِبل القطاعات أدى إلى زعزعة ثقة المقاتل بقيادته.

العقيد أبو عمر: وأنت ما تسألني على القوات النظامية ماكو.. ماكو، من قبل خمس أيام انتهى، آخر واحد منهم ما موجود بالشارع، كنا يعني نادر ما نشوف عسكري.

أسعد طه: يعني قتلوا أو هربوا أو..

العقيد أبو عمر: لا أخي يعني ثلاثة أرباعهم هربوا.

أسعد طه: ميزان القوى بين الطرفين كان ينبئ بلا شك بما آلت إليه الأحوال، لكن هناك من كان يراهن على عنصر الزمن الذي سوف تستغرقه المقاومة واعتماداً على ما تملكه آلة الحرب العراقية التي قيل أنها كانت تتهيأ لتحرير فلسطين.

عقيد (الحرس الجمهوري): فيه عدة أسباب، أولاً: ضعف السيطرة من قِبَل المشرف على الحرس الجمهوري اللي هو قصي صدام حسين، قراراته ارتجالية وغير قابلة للنقاش.. غير قابلة للنقاش، من يصدر أمر من عنده لا يناقَش هاي واحدة.

ثاني شيء: انقطاع المواصلات ما بين المقرات العليا والدنيا، خوف الآمرين من قرار ارتجالي خوفاً على حياتهم.

أسعد طه: بوسع أي زائرٍ لبغداد ما بعد السقوط أن يرى بأُم عينيه كميات الأسلحة التي كان الجيش العراقي يمتلكها في طول البلاد وعرضها، وهو الأمر الذي كان يكتشفه الصحفيون ببساطة خلال جولاتهم المعتادة هنا وهناك، غير أن هذا السلاح ظل في مخابئه دون أن يُمس، في الوقت الذي أبيدت فيه فرق بأكملها دون أن يتسنى لها القتال، وهو ما جعل البعض يعتقد أن الأمر لم يكن سوءاً في التخطيط بقدر ما كان مسألةً مقصودة.

عميد (الحرس الجمهوري): يؤلمنا نقول أنه ربما ومن المؤكد أنه صار تنسيق مع قسم من القيادات الميدانيين تصور شون حضرتك، وإعطاء قسم منهم أوامر للمقاتلين بإمكانية التنقل قطاعات عسكرية باستمرار بالحرس الجمهوري، من ها المكان إلى ها المكان.. من ها المكان وتعرف حضرتك وأي واحد يعرفه إنه القطعة العسكرية لما تكون محصنة بموضع دفاعي كدبابة أو ناقلة أو سيارة أو صاروخ، من ينتقل يكون عرضة للقطاع الجوي، (ضعف) البلاد، الكلام اللي قلناه إنه إلهم سيادة جوية، فَنطَت.. نَطِينا كثير من الخسائر بهذه التنقلات..

أسعد طه: هنا سرعان ما تكتشف أن كل ما هو كائن أمامك في الشوارع والميادين من بنايات وتماثيل إنما تكسوه طبقة من الطين تراكمت بعد عاصفة من الغبار اجتاحت العاصمة العراقية قبل أن تجتاحها القوات الأميركية.

آه يا بغداد.. وكأنكِ امرأة راحت تلطم خديها وتلطخ وجهها بالطين ندباً وحزناً عما أصابها من عدوانٍ سبقه تخاذل الإخوة والجيران، وأعقبه حدث جلل.

أبو عبد الله (أحد المتطوعين العراقيين): الخيانة.. الخيانة.. الخيانة، كانت بارزة من أول ما وصلوا إلى بغداد، لم يكن هناك جندي عراقي واحد، لم يكن هناك ضابط عراقي واحد، كلهم أُعطوا الأوامر لهم الذهاب إلى البيت ولبس الملابس المدنية، وترك الأسلحة على الأرض.

نقيب (الحرس الجمهوري): واللي شفناه يعني بعيننا أحد القادة الكبار العسكريين، شالته إحدى الطائرات الأميركية من مطار صدام.

النقيب أحمد (الحرس الخاص): الالتباسة اللي حصلت مو من قِبل الرتب الصغيرة، وإنما الرتب الكبيرة وخصوصاً القادة، إحنا في بداية الحرب أميركا بثت خبر بأنه عندها اتصالات بقادة كبار بالجيش وبالحرس وبمختلف التيارات العراقية، ولكن هذا الخبر ما حصل (دقة) باعتبار إنه حرب إعلامية، إنه هذا الخبر لصالح أميركا أو حتى محاولة (…) معنويات، لكن طلع بالأخير إن هذا كلامها صحيح، وعندها اتصالات في أغلب القادة اللي كانوا موجودين.

عميد (الحرس الجمهوري): الخيانة موجودة من قبل القادة الميدانيين يؤسفني نقوله، وهذه كانت ضربة في الصميم للقائد.. للسيد الرئيس -الله يحفظه- ومع هذا كان الجواسيس منتشرين داخل.. بالأرض يعني، وكانوا يعطون إحداثيات لمواضع الأسلحة، قطاعات الحرس، بطاريات الصواريخ، بطاريات المدفعية..

أسعد طه: إن أجهدك الحاضر فإن الماضي يكاد يحمل نفس التفاصيل، وهو الذي يذكرنا بابن العلقمي الذي كان وزيراً لدى الخليفة العباسي المستعصم بالله، وفيه يقال إنه شكَّل طابوراً خامساً كان يعمل في الخفاء مع المغول، وأنه كان يراسلهم سراً توطئةً لغزو بغداد الذي جرى على يد هولاكو وفق الصورة المريبة التي أوردها التاريخ.

عقيد (الحرس الجمهوري): يوم الأحد وكأن القيادات تبخرت كنت أدور على مقر الحرس الجمهوري اللي آخذ الأمر من عنده لنقله لمقرات الرئاسة ما لقيت المقر، إجا خبر إنه رئيس أركان الحرس الجمهوري تم عزله من.. من منصبه لعدم كفاءته في إدارة قطاعات الحرس الجمهوري وتعيين رئيس أركان الجيش اللي هو الفريق الأول ركن باهي عبد الستار اللي كان رئيس أركان الحرس الجمهوري سابقاً.

النقيب سلام (الحرس الجمهوري): بداية الخرق للقوات الغازية على بغداد هذه منطقة استراتيجية طبعاً مجرد عبورهم هذا الجسر الذي كان يُسمى جسر صدام، طبعاً هذا الجسر كان ملغوم، فعندما تقدمت القوات الغازية وتمركزت في تلك المنطقة، وكان هنالك لواء كامل مدرع وهو اللواء العاشر، أشهر لواء في الجيش العراقي أسلحته منظمة، كان في الضفة الثانية من النهر، وهم أتوا من جهة الصحراء، فالجسر كان ملغوم من قِبَل الهندسة العسكرية، قامت الهندسة العسكرية بتفجير الجسر ولكنه لم ينفجر، رأيته بأم عيني، المادة المفجرة في الجسر والواير الموصل ولكنه لم ينفجر، كان الواير مقطوع قطعتين، أنا موجود.. أنا موجود على ضفة الجسر، على ضفة الجسر التي هي من جهة الصحراء من جهة القوات الأميركية، وبعدها دخلت القوات الأميركية على الجسر، وكانت هنالك خيانة عظمى من هذا.. من آمر هذا اللواء، إذ ترك لهم الدبابات وتقدموا.. وقدَّم جنوده على الأميركان بالبنادق فقط.

مقدم ركن (الجيش العراقي): يوم 6/4 الحرس الجمهوري لم يكن في بغداد، كان ينتقل في مناطق خارج بغداد، لو كان الحرس الجمهوري سوار على مدينة بغداد لبقى القتال يستمر لمدة عدة شهور، ولكن لم تتهيأ له أماكن محصنة في بغداد.

عميد (الحرس الجمهوري): أحد المشاهدات اللي شاهدتها اللواء ركن النجم عبد الله زهوان قائد قوات حمورابي جالس في بيت هيكل في منطقة العامرية قرب منطقة الخضراء في بغداد تحيط به هيئة الركن، سلِّمت عليه، قال لي بعدك موجود قلت له أدور القيادة أدور قطاعات الحرس الجمهوري، قال: أهلك أولى، وإذا بـ.. تبخرت القيادات، تبخر الضباط.

أبو عبد الله (أحد المتطوعين العراقيين): كلهم أعطوا الأوامر لبس المدني والذهاب إلى البيت وتركوا المجاهدين على أرض المعركة بدون دليل بدون أي شخص يحميهم أو يدلهم على الطريق.

أسعد طه: في كل مكان نذهب إليه نستمع لرواياتٍ تحمل اختلافات في التفاصيل، لكن لها مغزىً واحد يفسر ما جرى بالخيانة، خيانةٌ بدا واضحاً أنها كانت منظمة بشكل دقيق بعد أن تورطت فيها قياداتٌ على مستويات عدة، اتخذت وفقها خطوات متعددة لضمان تحقيق الهدف، وهو ما دعا القيادة الأميركية إلى دفع جنودها لدخول بغداد على هذا النحو الهوليودي الذي دخلت به إلى ساحة فندق فلسطين وهي واثقة أنها لن تواجه بمقاومة وإن حدث فلن يكون سلاح المقاومة بتاراً.

العقيد أبو عمر: قلت لك المقاومات الأرضية 57.. قذائفها كانت بتقع على البيت، المفروض هذا ينفلق بالجو، لكن يوم يقع هو وبعد ما انفلق على بيوت العراقيين، ويسبب أكثر الضحايا من عندنا، يعني حتى عتاد قسم من الكلاشينكوف اللي هذا العتاد البسيط كان ما يعمل بصورة صحيحة.

نقيب (الحرس الجمهوري): طلبنا تعزيزات واللي هي الـ7 RBJ المحمولة على الكتف، فوصلت هذه التعزيزات لكن بدون قادحات بدون قادحات نار، فهذا يعني شككنا أن أكو فاد نوع من التآمر أو فاد شيء

النقيب سلام (الحرس الجمهوري): القاذفات الـ7 RBJ ما موجودة بها إبر، الإبر مالتها سُحبت هذه من قبل الأساتذة من الحرس الجمهوري اللي هم عايدين للرئيس السابق فسُحبت وبعدها.. وبعدها سُلِّمت إلى.. إلى الجنود، فحين.. يعني الرماة عندما يتقدم على الدبابة يرمي ما تترمي القاذفة، فتحتها لقيت إبر ما بها، وهذا عندي دليل قاطع هذه الإبر جاعلها في جيبي أنا فتحتها من أحد القاذفات.

معركة المطار.. الحقيقة وخفايا الأسرار

أسعد طه: يقف المرء كثيراً أمام الروايات التي تناولت معركة المطار، حتى لا يظن أن أسراراً خطيرة سوف يكشف عنها مقبل الأيام بشأن هذه المعركة التي تتحدث تفاصيلها عن دخولٍ سهل للقوات الأميركية إلى منطقة المطار أعقبته معركةٌ ضارية شارك فيها صدام بنفسه بحسب ذات الروايات، وقد تكبدت القوات الأميركية فيها خسائر فادحة.

النقيب محمد (الحرس الخاص): أعلمونا أن الجيش الأميركي استحل منطقة الرضوانية ومطار صدام الدولي، يوم الجمعة حضر السيد الرئيس إلى منطقة (السويف)، والتقى بالأشخاص المسؤولين عن هاي العملية وعن الشخص المسؤول الأول عن معركة المطار والرضوانية، ووصى الأشخاص المسؤولين عن المطار، قال لهم خلي يحافظ الجيش بالليل من الساعة من واحدة لتنتين يدخلو المواضع، لأنه من واحدة لتنتين راح تنطلق صواريخ كثيفة على منطقة الرضوانية وعلى المطار، وبثلاثة أنطيكم إشارة بدلالة طلقة تنوير حمراء تبدءون الهجوم على الجيش الأميركي.

النقيب أحمد (الحرس الخاص): بدت القصف المدفعي زاد من صواريخ أرض أرض، القطاعات العراقية ضربت الأميركان داخل المطار حوالي 40 صاروخ أرض أرض وزن الصاروخ كان 1600 كيلو.

عقيد الحرس الجمهوري: تم الهجوم مساءً أعيد احتلال المطار، أُعيد مسكه من قبل قطاعاتنا.

نقيب الحرس الجمهوري: شوفنا فدائيي صدام من دخلوا المطار أمامنا، من الحالات اللي الواحد يفخر بها إنه لزموا الأميركان وذبحوهم كالخراف، يعني أنا اللي شوفتهم بعيني بس تقريباً 21 إلى 22 رأس أميركي.

النقيب محمد (الحرس الخاص): والقتلى تقريباً ما يقارب الـ730 أو أكثر يعني كانوا تحت المباني، قتلى أميركان، ونظرنا شاهدنا مدرعاتهم ودباباتهم يعني شون هي محترقة ومتفجرة من آثار القصف مالتنا.

النقيب أحمد (الحرس الخاص): الصواريخ فعلاً كان كليش رهيب تجاه الأميركان، يعني لقينا ما يقارب الـ71 إلى 72 شخص وأغلبهم كانوا جرحى في القطاعات الأميركية، الخسارة الأميركية اللي كانت اللي أنا شوفتها بعيني، وما أقدر إن أقول لك أعطيك فاد رقم محدد بس من 2500 إلى 3000 قتيل.

أبو عبد الله: يعني في منطقة المطار يعني كان هناك وبهذا.. وبهاي السكاكين ذبحت آلاف الرؤوس من الأميركان، وكان يخرجون رؤوس كل أميركي وبكل مجاهد كان يحمل رأس كل أميركي ويخرجه من الباص ليري للشعب العراقي كيف.. كيف جاءوا بالرؤوس الأميركية.

أسعد طه: صحيحٌ أن كل من تحدث إلينا عن معركة المطار أكد أن القوات الأميركية تكبدت خسائر جسيمة غير أن ذلك لا يبرر هذا الرقم المبالغ فيه، وإن كان هذا الإجماع يبرئ ذمة وزير الإعلام الشهير محمد سعيد الصحاف، عما اتُّهم به من كذب في هذا الشأن.

النقيب محمد (الحرس الخاص): الساعة 11 بالليل بنفس اليوم السبت الصحاف ذاع البيان تحرير المطار وتحرير الرضوانية، ووجَّه دعوة إلى الصحفيين الأجانب والصحفيين العرب المواطنين أو أي مواطن بالعراق يجي يشاهد يشوف الرضوانية ويشوف المطار، وأعلمونا إنه احتمال راح يجون صحفيون الصبح فلازم نوفر لهم الحماية والأمان.

عقيد (الحرس الجمهوري): قال الصحاف إنه طهر المطار، وراح آخذكم ثاني يوم، هذا شيء واقع، صار إنه المطار تم تصفيته.

أخطاء القيادة العسكرية العراقية

أسعد طه: الأخطاء التي وقعت فيها القيادة العسكرية العراقية فادحة إلى الحد الذي يدعم فكرة الخيانة، باعتبار أن هذه الأخطاء إنما تخص ألف باء العلوم العسكرية التي تلزم أية قوة بتسليم المنطقة المحررة إلى قوة مساندة أخرى قبل الانسحاب منها.

عقيد (الحرس الجمهوري): الجولة الثانية للمطار غريبة جداً إنه أولاً ما مسكت قطعة من قطاعات الحرس الجمهوري المطار، أُخلي المطار.. شبه أُخلي من قطعة ماسكة، بعدها القطاعات القريبة على المطار أُبيدت تماماً.

النقيب أحمد (الحرس الخاص): تم تحرير المطار بيوم 6/4 سلمناه لقيادة قوات الحرس الجمهوري مو من الجيش حرس جمهوري باعتباره فرقة كاملة مسكت المطار حتى تدافع عنه.

عقيد (الحرس الجمهوري): أخلي المطار من قبل الحرس الخاص ولواء القوات الخاصة على اعتبار إنه راح يجي يمسكه لواء 38، هاي من ضمن الغلطات اللي صارت إنه بقى المطار بعد تطهيره غير ممسوك من قبل قطعة من قطاعات الجيش العراقي.

النقيب أحمد: الانفجارات اللي صارت داخل المطار غير طبيعية، يعني حتى شواهد مدنية مو عسكرية إنه يقول لك إنه ناس كانوا بمنطقة المنصورة أو منطقة الكرادة، منطقة بعيدة عن المطار، ولكن سمعوا أصوات كُلِّش قوية، وحتى داخل بغداد يقول لك إحنا وحتى الجيش صراحة إحنا ما شوفنا أو انطلاقات أو قنابل سقوطها هيك بها الصوت هذا وبها القوة هاي.

عميد (الحرس الجمهوري): يوم 7 نيسان عندما استخدموا قنابل تكتيكية محدودة التأثير فرق من الحرس أُبيدت حقيقةً وكانت الضحايا تظهر مثل الهياكل العظمية أذيبت جلودها.

النقيب محمد (الحرس الخاص): بالرضوانية شوفنا الجيش اللي كان قبلنا بالرضوانية والمطار إنه ما بيهم يمكن القليل القليل قاعدين عايشين والقتلى موجودين.. شهداءنا موجودين على الأرض، وقتل مو طبيعي يعني قصف مو طبيعي يعني كانت حاويات عنقودي وأنواع القنابل اللي ما نعرف حتى شنو الاسم.

مقدم ركن (الجيش العراقي): عندما نقلنا.. نقلناهم إلى المستشفى كان يتقيأ تقيؤ لا إرادي ومصحوب بمادة سوداء، وهذا (…) حتى صار غبار كبير جداً كثيف، فكل اللي كان يخطر على البال لولا استخدامهم أسلحة محرَّمة.. محرَّمة دوليا لم يستطيعوا على الجيش العراقي.

المتطوعون العرب والخيانة التي طالتهم

أسعد طه: الخيانة طالت المتطوعين العرب الذين اختلف العراقيون بشأنهم اختلافاً ظللته الطائفية، ففي المناطق السنية تروى الحكايات عنهم باعتزاز لما فعلوه، وبألمٍ لما لحق بهم من خيانة، وفي المناطق الشيعية يبَّرر ما وقع لهم من إطلاق النار عليهم وتسليمهم إلى القوات الأميركية بما ارتكبوه بأنفسهم من أخطاء أودت بحياة العديد من المدنيين حين أصروا على المقاومة انطلاقاً من أحياء مكتظة بالسكان.

لواء (الحرس الجمهوري): سقط عدد من الإخوان العرب شهداء بفعل المقاومة اللي حصلت من الخلف.

أبو عبد الله: في منطقة القصر الجمهوري كان المجاهدين المسلمين يعني يتمشوا قرب القصر، فوجدوا دبابة ليحرقوها، فإذا بالقناصة يطلقون على المجاهدين المسلمين بغزارة من أحد أسطح البيوت، فسمعنا إنه على هذا السطح عدد من الخونة العرب والعراقيين فرجعنا إلى الخلف ورميناهم بقاذفة أحرقتهم جميعاً.

المقدم صفاء (شرطة بغداد): الفدائيين العرب لما يبقون في منطقة وتدخل الدبابات وراح ترمي وتؤذي المناطق وتؤذي العوائل قامت العوائل تطردهم يعني تقول لهم أنتو بتجونا هنا بتؤذونا يعني.

لواء (الحرس الجمهوري): قسم من الإخوان جاءوا ولم يعرفوا كيفية استخدام الأسلحة، يعني طلاب ما داخلين ولا منخرطين في سلك العسكرية، طلبوا من عندنا أن نفتح لهم دورات سريعة لغرض تدريبهم على السلاح.

أبو عبد الله: مجرد جاء من أي دولة عربية أو مسلمة سلَّموه سلاح وقالوا له: قَاتِل.

الحاج محمد (شاهد عيان): أنا سمعت من كثير منهم قالوا نحن شاركنا في الشيشان وفي أفغانستان وفي فلسطين، كانوا أصحاب خبرة يعني، نحن كليتنا أدينا الخدمة العسكرية الإلزامية هنا في العراق لكن تبقى الخبرة متفاوتة.

أبو عبد الله: لم يأتِ نفراً واحد من المجاهدين المسلمين إلى العراق إلا وفي نيته الشهادة وليس لأجل المال وكانوا أغلب المجاهدين المسلمين هم من البسطاء وقد باعوا أغراض بيتهم في سبيل أن يأتوا إلى العراق ويدفعوا أموالاً طائلة في سبيل الدخول إلى العراق، لأنه كان بصورة غير شرعية.

عميد (الحرس الجمهوري): كان يوم 9 يوم الأربعاء، الخميس الجمعة بعد صلاة الجمعة كانت معركة مشرِّفة لأن طلبوا من المقاتلين يعني الأهالي بإيوائهم وإخفائهم في الدور، فأبوا أن يكونون وقالوا: لأ، نستشهد في هذا المكان ولا ندخل بيت.

العقيد أبو عمر (شرطة بغداد) : هو الوحيد اللي قاتلوا فيه (…) هم الفدائيين، الوحيدين اللي بقوا أخير يوم بعد سقوط التمثال بيومين هم الفدائيين.

[فاصل إعلاني]

بغداد ما بعد السقوط بين الاحتلال الأميركي والبحث عن المستقبل

أسعد طه: أجدِّد التحية. على أن الحدث جلل إلا أنه لا يمكن أن نحصر الخسارة في كم من قتيل وكم من جريح وكم يبلغ حجم الضرر المادي، المسألة أن بغداد انتقلت فجأة من الاستبداد إلى الاحتلال دونما يكفي لأن تلتقط أنفاسها أو تحفظ توازنها، مما جعل التناقضات هي سيدة الموقف في مشهد بغداد ما بعد السقوط.

في شوارع العاصمة وحتى في أزقتها بدا كل شيء وكأنه انطلق من مَحبسه في ثورة على قائمة الممنوعات الطويلة، هواتف عبر الأقمار الاصطناعية، ولاقطات للقنوات الفضائية، وأحزاب وليدة تتسابق على مقار لها، وصفوف طويلة من السيارات ضمن أزمة نفطٍ في بلد النفط، ومتطوعون لتنظيم حركة المرور مع غياب كل مؤسسات الدولة، وحسينيات للاحتفاء بالشهداء ضحايا النظام، فيما تمثال ميشيل عفلق (مؤسس الحركة البعثية) يأكل الطير من رأسه.

مع هذه الفورة في الحركة هناك فوضى في الاتجاه، لا تعرف مَنْ مع من؟ ولا ماذا يبغي هؤلاء؟ أو ماذا يريد أولئك، أحمد حسن البكر (أول رئيس بعثي للعراق)، كتب أحدهم على قاعدة تمثاله: سنثأر لك يا صدام، وأحالها آخر إلى سنثأر منك يا صدام، إلى أن هدم التمثال عن آخره لاحقاً ضمن تناقضٍ بين من يترحم على أيام مضت ومن هو ساخط عليها.

وعلى جدران الحوائط وجد الناس متسعاً للتعبير عن آرائهم التي ظلت مكبوتةً لسنوات طوال، شعارات تدعو إلى مواقف متناقضةٍ، وتحمل رؤى متنوعةً، أفكارٌ تعاكس أخرى، ومطالب تتناقض فيما بينها، لكنها جميعاً تحملك على الاعتقاد بأنها تعكس حالة اضطراب أصابت المجتمع العراقي، حتى أنك تجد الجندي الأميركي يواجه بترحيب هنا وبمقاومة هناك.

لقد وجد المجتمع العراقي نفسه فجأةً في مواجهة خياراتٍ صعبة، في غياب الرجل الذي كان يتخذ باسمهم كل القرارات التي تخصهم، حتى في أخص خصائصهم، هذا الرجل الذي ارتكب في حق شعبه ما ارتكب، فاستوجب سخطاً أطاح بصوره وأصنامه التي ظلت لحقبة طويلة تتصدر كل شارع وكل بناية، ودفع المواطنين إلى تكوين جمعيات وهيئات تبحث في مصير أقربائهم الذين غيبوا في عهده.

محمود أبو النور (سجين سابق): هذه أول غرفة من سجن انفرادي (…) لأكو شون أجهزة هنانا لتعذيبنا على (…)، شغلة قال أيش يسووها، يعني التعذيب إحنا بس اللي شوفناه، وكان علينا (…) كهربائية من فوق أو من جوه.

إحنا في المكان يعني يسمحون للسجناء مرات إذا ما (…) أو فاد شيء يطلعوهم بره يشوفون يعني فاد الشمس أو فاد شيء، مرة يمكن أقول لك في السنة، مرة واحدة بالسنة ما يشوفون.. ما يشوفون الشمس أبداً، وهذا قدامك هسه الآن بدك تشوفه أنت مصنع بسيط بس هو معتقل لاعدامات النظام السابق.

أسعد طه: الأمر ليس خصوصية عراقية، فالمعتقلات ظاهرة في أنحاء العالم العربي حتى باتت واحداً من عوامل وحدته إلى جانب التاريخ والجغرافيا واللغة والدين، تماماً كشأن المقابر الجماعية التي تكتشف هنا وهناك لتستدعي من ذاكرتنا حكايات عن نظم تقصف شعوبها بالطائرات أو تبيد قراهم بمن فيها.

شاهد عيان: وهاي المقبرة العدد الموثق بها والمضبوط هو 11165 شخص هنانا حالياً من اللي انعدموا بالانتفاضة الشعبية بـ91، الوضعية صدام أنطاهم على كل راس يكون شو يعدموه على كل راس على شخص 3 آلاف دينار بذاك الوقت، 3 آلاف دينار يعني ما.. ما يعادل فاد ألف دولار بذاك الوقت، يقع ما يكون شو رجل على امرأة على شاب.. شاب على شيخ كلها.

أسعد طه: إنه مشهد لا يرصد إلا في مناطق الحروب الأهلية، ولا يملك المرء إزاءه إلا أن يندهش من قدرة نظام على ارتكاب هذا الجرم في حق شعبه، وهو الجرم الذي يختصر الحكم البعثي في العراق كما يختصر نظماً أخرى في المنطقة تماثله ديكتاتوريةً وظلماً، لكن لم تحن بعد ساعة سقوطها، ربما لأنها مدعومةٌ أميركياً، أبشع ما في الأمر أن هذه الجرائم تمنح الغزاة والخائنين ذريعةً ومبرراً لفعلتهم الشنعاء.

الديمقراطية في العلن، والنفط في الخفاء، يا لهول الحلم الذي شغل بال القوة العظمى فاستعدت بما يكفي للاحتلال، لكنها لم تستعد بالقدر نفسه لما بعد الاحتلال، ليبدو الأداء الأميركي في العراق مرتبكاً إلى حدٍ بعيد.

عندما تصل بغداد مُدَّ النظر يُمنة ويُسرى، لن تستطيع أن ترى من بين كل ما هو كائن إلا القوة الأميركية، عنصر شاذ في الصورة، الدبابات والجنود المدججون بأحدث ما أنتجته مصانع السلاح تراهم على نفس الشاكلة التي كنت تراها عبر شاشات التلفاز، لكن وقعها على النفس هنا أكثر إيلاماً، وإن شئت أن تكون مواطناً صالحاً لا تُتهم بمناصرة صدام، عليك أن تؤمن بأن هؤلاء الجنود قد تركوا حياتهم المترفة وزوجاتهم وصديقاتهم وأتوا إلى هنا لخير البلاد والعباد، وهي غاية سامية يضطرون من أجلها إلى اقتحام المساجد ودهم المنازل وتفتيش النساء تفتيشاً دقيقاً باليد، إنها مسألة لم يكن يتخيلها أهالي بغداد قبل بضعة أسابيع كما لا يتخيلها الآن أهالي القاهرة ودمشق وعمان والرياض.

ورغم ذلك فإن مشاعر الشفقة تتملكك أحياناً عندما ترى الجنود الأميركيين، فشريحة كبيرة منهم هي من شباب صغير السن من أصول غير أميركية وينتمون إلى طبقات فقيرة، وقد اعتقدوا أنهم في مهمة لاصطياد عصفورين بحجر واحد، تخليص المواطن العراقي من حكم جائر، والفوز بعائد مادي مجزٍ يمكنهم من بدء حياة كريمة عند العودة سالمين إلى أرض الوطن.

جندي أميركي1: أنا لا أحب الحرب ولكنها شيء يجب القيام به للتخلص من صدام حسين.

أسعد طه: لكن من الواضح أن بعضهم على غير قناعة بما يفعل، ومن ثم هو يفخر بأنه حتى الساعة لم يتورط في قتل أي مواطن عراقي.

جندي أميركي2: عندما ينشئ العراقيون حكومتهم الخاصة أعتقد أنه علينا الرحيل.

أسعد طه: في المقابل فإن آخرين اعتقدوا أو ربما فُهِّموا أنهم في أرض مستباحة لا رقيب ولا محاسب، وتحت اسم عملية تحرير العراق بوسع العسكر الأميركيين دهم المنازل ومصادرة أموالٍ لا يُعلم مصيرها، ويبدو أنها تذهب إلى جيوب الجنود المحررين الذين دكت مدافعهم وطائراتهم أنحاء بغداد، معتقدين أن هذا الدمار كلفة لازمة لتحرير العراق من نظامه البعثي.

دمارٌ تجد آثاره في أنحاء العاصمة المختلفة، خلَّف سقوط ضحايا، اضطر الناس لدفنهم في باحات المشافي والحدائق العامة وجعلهم يعتقدون أن صدام وبوش وجهان لعملةٍ واحدة.

شهر بعد السقوط ومازال الجنود الأميركيون يعيشون شهوة الانتصار، ترقبهم في مشيتهم وحركتهم فتتذكر أفلام (رامبو) ويبدو أنهم قد لُقِّنوا كيف يتصرفون أمام كاميرات وسائل الإعلام المختلفة.

أحد القصور الرئاسية يتعرض مجدداً لعمليات سلب ونهب، وبنايات دون سبب تتعرض للحريق، خبثاء يقولون: إنها ضمن خطة لزيادة صفقة الإعمار، لكن ما نراه بعيوننا يُفيد أن الجنود الأميركيين يقفون على مقربة من أعمال السلب والنهب والحريق غير مبالين، فما أن يروا أمثالنا من الصحفيين إلا ويبدأ المشهد الاستعراضي للتدخل، هذا الهوس الاستعراضي يتجلى عند التعامل مع الأطفال أمام كاميرات الصحفيين، ينقلب فيها المقاتل الأميركي إلى كائن وديع يستجدي تحسين صورته أمام الرأي العام والتأكيد على أن مهمته تحمل طابعاً إنسانياً، وهي بالفعل تحمل طابعاً إنسانياً يمتد منذ حرب الخليج الثانية مروراً بسنوات الحصار، وزيارةٌ إلى قسم الأطفال بالمستشفى الذي كان يحمل اسم الرئيس الراحل تكفي للدلالة على ذلك.

د.محمد دحام (مستشفى الإسكان للأطفال): هناك مشكلة تكاثر حالات السرطان في المستشفى، إحصائية المستشفى تصل إلى 1780 حالة سرطان وأكثرها هي حالة سرطان الدم وخاصة حالات (الإيغل) هناك تقارير وبحوث تثبت العلاقة بين إصابة أطفالنا بهذا النوع من السرطان والتعرض لإشعاع اليورانيوم المنضب، كثير من أطفالنا المصابين هم من سكنة جنوب العراق وهذا يؤكد هذه التقارير.

جندي أميركي3: هذا الدرع يحمينا من الأشعة كما وأننا نستخدم جهازاً لقياس الإشعاعات.

أسعد طه: وسقطت بغداد ودخلت الدبابات الأميركية عاصمة الرشيد تحمل فوقها صنم الديمقراطية الهزلية، وكهنة جدداً لدى كل واحد منهم المطلوب من الشروط، أعجمي الهيئة، عذب اللسان، يدرك بحاسته الانتهازية أن أقصر الطرق إلى كرسي الحكم يمر بالحلم الإسرائيلي الممتد من الفرات إلى النيل، فيما يتشكل على عين الوطن نبت جديد يقسم أنه لا الفرات ولا النيل.

الغضب.. سمة عامة في بغداد عما كان وعما هو الحال الآن، غضبٌ تعبر عنه التظاهرات التي باتت شبه يومية وكأنها تعويض عن سنوات الكبت حيث يعتقد العراقيون أن هذه التظاهرات إحدى ثمرات الديمقراطية التي وُعِدُوا بها، وغاب عنهم أن صاحب القرار الأميركي تجاهل التظاهرات المليونية التي جابت العالم للمطالبة بمنع الحرب.. على كل حال بات بوسع العراقيين أن يتكلموا، لكن لم يصبح من حقهم بعد أن يتملكوا قرارهم بأنفسهم.

دخلنا إلى أحد المتاحف الذي تحاول القوات الأميركية إعادة بعض الآثار المسروقة إليه، غير أن الكثيرين هنا يعتقدون أن عمليات نهب الآثار كان مخططاً لها بدقة عالية، وأنها تمت تحت سمع وبصر القوات الأميركية، ولم تكن عملاً عشوائياً، خبراء آثار أشاروا إلى سرقة لوحات الأسر الآشورية والبابلية التي تؤرخ الفترة التي اتخذ فيها ملوك العراق اليهود عبيداً لهم، ويضيف هؤلاء الخبراء إن اليهود هم أصحاب المصلحة الأولى في إخفاء معالم الحضارتين الآشورية والبابلية لكونهما تحويان أدلة تاريخهم المخجل وتكشف مزاعمهم الكاذبة عن مملكة إسرائيل الكبرى، وعلى ذكر الكيان الصهيوني فإن مصادر متعددة تشير إلى ظاهرة شراء يهود الكيان أراضٍ وعقارات بأسعار مغرية ضمن حملة إسرائيلية منظمة.

القوات الأميركية صحيح أنها لم تتمكن من حماية المتاحف، لكنها بحق تمكنت من حماية بناية وزارة النفط، واتقاءً لغضب المتأمركيين نقول إن ذلك إنما جاء بمحض الصدفة وليس من قبيل المؤامرة التي يظنها البعض، وإن سَعْي القوات الأميركية لحماية حقول النفط يأتي ضمن مهامها الاحتلالية التي منحها مجلس الأمن الدولي صفة الشرعية وفق القرار الصادر يوم الخميس المشؤوم في الثاني والعشرين من الشهر الخامس لعام 2003 والذي يعترف بالقوات الأميركية البريطانية كقوة احتلال في العراق.

حين تستعد لمغادرة بغداد تباغتك ذات الأسئلة: مَنْ أحرق بغداد؟

من سرقها؟

بل من خانها؟

هل تلك القيادات المتهمة بالتعامل مع قوات الاحتلال، أم المقاتلون الذين وجدوا في دفاعهم عن بلادهم حماية لنظام أذاقهم صنوف العذاب على مدى سنوات حكمه؟

أم الشعوب العربية التي رأت في أعمال السلب والنهب عذراً لها عن المُضي قدماً في دعمها الشعب العراقي؟ كما رأت في المقابر الجماعية وحشيةً تستلزم التخلص من مرتكبيها حتى وإن استلزم ذلك الاستعانة بالقوات الأجنبية.

نتهيأ للرحيل من العاصمة العراقية بعد حوالي شهرين من سقوطها، الذين خانوا والذين سرقوا يتوارون، فيما شرفاء بغداد يمضون، يتجاوزون خذلان إخوة الدين والعرق واتهاماتهم وذل الاحتلال وكلفته بعد أن أدركوا أن حرب استنزاف طويلة الأمد قادرة على إجهاض الحلم الاستعماري الذي يمتد ويمتد كأي مرض خبيث ليطال الوطن العربي كله، شرفاء بغداد أدركوا أن التظاهرات الشيعية والمقاومة السنية لابد أن تنتظم يوماً في آلية تؤرق العدو ومن ثم تهزمه.

أبو عبد الله: إن شاء الله ما نتوقف عن الجهاد لحظة، ومن يفكر إنه القتال قد توقف في بغداد فهو واهم واهم، وإنما يزدادون المجاهدين يوماً بعد يوم وبالآلاف، وإن شاء الله سنخرج هؤلاء الكفرة من أرض العراق.

أسعد طه: نلوم العدو أن ساعده طويل، ثم نأكل مما يزرع، ونلبس مما يصنع، ونمضي ندين أمراءنا وملوكنا، ثم نركن إلى ما ركنوا إليه، ويلٌ للمنافقين الذين يلعنون المؤامرة ويَدَعون المقاومة.

السلام عليكم.