كوسوفا بين الماضي والحاضر والمستقبل
أسعد طه:
وفيكم سماعون لهم، وفيكم من قال: إنهم لكم، ويحهم.. أويرعى الذئب الغنم؟! أوتجري الشمس لا مستقر لها؟!
هو الأمر إذن فانظروا، تخلعون زيكم وأسماءكم، والمسبحة، والمئذنة، وتغمضون عيونكم، وتكممون أفواهكم، وتسدون آذانكم، وتسيرون ورائهم، وتسيرون حتى إذا انتهيتم انتبهتم أن الأرض صارت لهم، ولكم صارت المقبرة..
السلام عليكم.. هنا تمامًا هنا، إلى الشمال من العاصمة (بريشتينا) والمشهد الأول يأتي مع انتصاف الشهر السادس لعام 1389م، وعشرات عشرات الآلاف من الجنود يلتحمون في معارك ضارية، المسلمون تحت العلم العثماني، والمسيحيون في تحالف مشترك: صرب، وألبان، وبلغار.. وغيرهم، وحين ينفض غبار المعركة يقول التاريخ: كان النصر حليف العثمانيين.
هنا.. تمامًا هنا، نفس المكان، حيث يأتي المشهد الثاني بعد دورة طويلة للزمان، هي بالتمام ستة قرون، وإذا شئنا تحديدًا في الثامن والعشرين من الشهر السادس لعام 1989م، وعشرات عشرات الآلاف من المواطنين الصرب يحتشدون في احتفال مهيب بذكرى المعركة، والرئيس الصربي (سلوبودان ميلوسوفيتش) يذكر أهله بأن المعركة.. معركة كوسوفو لم تنته بعد.
هنا.. تمامًا هنا ذات المكان، حيث يتواعد المشهد الثالث مع الزمان عند الرابع والعشرين من الشهر الثالث لعام 1999م، وعشرات عشرات الآلاف من الصرب المهاجمين والألبان الفارين، وطائرات غربية، قالوا: إنما جاءت لنصرة المسلمين الألبان، رغم أن بعضها عائد لتوه من قصف مسلمين غير ألبان.
هنا.. تمامًا، هنا قدس الصرب، فلذة كبد الألبان، وموقع استراتيجي رائع يغري الجميع، حتى أولئك الذين يدافعون عن حقوق الإنسان.
في قديم الأزل كان اسمها (داردانيا) ومعناه بالعربية أرض الكمثري، ويسميها الصرب (كوسوفو) ويطلق عليها الألبان اسم (كوسوفا) وفي كل الأحوال أنت الآن هنا في هذه المنطقة البلقانية التي يتصادم فيها كل شيء بكل شيء، الدين بالقومية، والتاريخ بالجغرافيا، ورموز النظام الدولي القديم برموز النظام الدولي الجديد، لقد ظل الأتراك هنا خمسة قرون، ومن بوسعه ألا يبقى هنا عمره كله؟! بين جنبات تلك الطبيعة الساحرة وبين هؤلاء الناس البسطاء المتشبثين بهويتهم القومية والدينية، وهذه وتلك أسباب وجيهة للسلام، لا لحرب ما أن تضع أوزارها حتى تشتعل من جديد.
والقصة قديمة جدًا تستدعي أن نبدأ بها، ولنذهب إلى حيث جرت.
إلياس رجا [أستاذ التاريخ العثماني]:
عندما وصلت القوات العثمانية من هذه الجهة توقفت عند هذا الجبل الذي يسمى جبل بريشتينا، في مواجهة الجيش الصليبي المحتشد في الجهة المقابلة قريبًا من نهر (لاب) والذي بدأ التقدم ناحية الجنوب، إلى أن استعد الجيشان للقاء في هذا الوادي، كان الأمير (لازار) على رأس الجيش المسيحي، وإلى يساره ملك البوسنة وبعض أمراء الألبان، وإلى يمنيه بعض أمراء الصرب والمجر، وأمراء الكروات ومولدافيا، الجيش المسيحي كان قادم من الشمال نحو هذا المكان، وكانت حركته بطيئة، فيما كان الجيش العثماني قادمًا من الجنوب الشرقي بحركة أسرع، وبعدد أكبر من الفرسان، إلى هنا وصل السلطان مراد وتوقف عند هذا الجبل، وإلى يمنيه كان الأمير (بايزيد) وإلى يساره (يعقوب جلبي) وهنا التقى الجيشان ودارت المعركة.
أسعد طه:
شهدت هذه الساحة إذن معركة دينية خالصة بين جيش العثمانيين، المندفع بقوة شمالاً صوب أوروبا المسيحية، وعبر كوسوفا إحدى بواباتها وبين الجيوش المسيحية من بلغار، وبوسنيين، وكروات ومجريين تحت قيادة الصرب الذين اعتبروا أن مهمتهم الرئيسية هي حماية أوروبا من الخطر الإسلامي القادم من الشرق.
انتصر العثمانيون في تلك المعركة الرهيبة التي دارت رحاها بين الخامس عشر والثامن والعشرين من يونيو (حزيران) من العام 1389م، وقد قتل الأمير الصربي (لازار) قائد الجيوش المسيحية، كما قتل السلطان (مراد) قائد الجيوش العثمانية بطعنة سكين مسمومة من جندي صربي، ويقال: أن هذا الضريح يضم أحشاء السلطان مراد.
وهاهو نصب تذكاري أقامه الصرب تخليداً لهذه المعركة، وجنود من القوة السويدية يتولون حمايته من أي أعمال تخريب محتملة، وقد كتب عليه: كل من ولد وتجري في عروقه دماء صربية، ولم يأت لقتال الأتراك في كوسوفو فلن يولد له صبي أو صبية، ولن يرث أرضه ابن.. إلى آخر ما قاله الأمير لازار قبل بدء المعركة، وقبل أن يصبح قديساً وأسطورة لدى الصرب الذين واصلوا المقاومة عبر قرون طويلة حتى تمكنوا من إلحاق الهزائم بالإمبراطورية العثمانية، التي انحصرت عن أوروبا تماماً، وهو ما حدا بالمجتمع الدولي إلى أن يكافئ صربيا بإهدائها كوسوفا، وذلك عبر المؤتمرات الدولية الأربعة الشهيرة في (سان ستيفانو) و(برلين) و(لندن) و(باريس) مهما كان الأمر فإن معركة كوسوفا ظلت معلماً تاريخياً وقومياً للصرب، وملهماً لشعرائهم وأدبائهم يستمدون منها وقوداً ثورياً يدفعون به في عروق الأبناء للانتقام والثأر من العثمانيين، ومن أحفادهم المسلمين أينما كانوا في البلقان، وهو ما فعله رجل منهم اسمه (سلوبودان مليوسوفيتش)Slobodan Milosevic في هذا الحشد المهيب.
وفي ذكرى مرور ستة قرون بالتمام والكمال على معركة كوسوفا، راح سلوبودان ميلوسوفيتش يؤجج المشاعر القومية والدينية في شعبه، ويعلن أن معركة كوسوفا لم تنته بعد، وأنه قد آن الأوان ليسترد الصرب حقوقهم، معلناً إلغاء الحكم الذاتي الذي كان يتمتع به الألبان في عهد (تيتو) منذ العام 1963م كان ميلوسوفيتش يرى في ذلك أقصر الطرق لأن يبقى في سدة الحكم رئيساً غير منازع، وكان الألبان يرون في ذلك بداية لمرحلة جديدة تسلب فيها المزيد من حقوقهم.
بايزيد نوشي [رئيس لجنة حقوق الإنسان]:
لقد مررنا بثلاث مراحل، تعرضنا في الأولى منها لدعاية صربية مكثفة استهدفت تاريخنا وهويتنا، وفي الثانية بدأت الحكومة الصربية تسن وتطبق قوانين للتمييز والتفرقة ضد الألبان، ثم كانت المرحلة الأخيرة من كانون الثاني (يناير) عام 1998م، وحتى العاشر من يونيو (حزيران) عام 1999م، مع انتهاء العمليات الحربية للناتو.
أسعد طه:
يقول الألبان: إنهم تعرضوا في هذه المرحلة لحملة اضطهاد صربية عنيفة، فقد أغلقت جميع مؤسساتهم العملية والطبية، وكذلك المدارس بمراحلها المختلفة وطردوا من الوظائف الحكومية، ومن الشركات، والمصانع التابعة للدولة، وحتى من الجامعة والمدارس، وواجهوا صعوبات في تنظيم حياتهم الدينية، وزُج بالشباب والرجال في السجون، ليصبح شعب كامل محروماً من التعليم، والعمل والاستشفاء، فاقداً حقوقه السياسية، معرضاً لعمليات الاغتيال و الاعتقال.
ما من عائلة هنا إلا وتجد أن أحد أفرادها –على الأقل- قد هاجر، وهؤلاء المهاجرون هم الذي تكفلوا الإنفاق على ذويهم في كوسوفا تمشياً مع ما عرف عن الألبان من تكافل اجتماعي فيما بينهم قلما يتمتع به شعب آخر.
إزاء هذه الحالة من القمع والاضطهاد كان طبيعياً أن يبدأ الألبان في تنظيم حركة مقاومة، اتخذت في البداية –وعلى مدى سنوات طويلة- طابعاً سلمياً، قاده إبراهيم رجوبا (رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الألباني) وبلغ هذا النضال السلمي ذروته في سبتمبر (أيلول) من العام 1991م، عندما نظم الألبان استفتاء عاماً جاءت نتائجه لتؤكد رغبتهم في إقامة جمهورية مستقلة، وفي العام التالي وتحديدًا في الرابع والعشرين من الشهر الخامس من العام 1992م، انتخب الألبان إبراهيم رجوبا رئيساً لما سموه جمهورية كوسوفا التي لم تنل –بالطبع- اعتراف الحكومة الصربية.
ومع فشل الخيار السلمي الذي انتهجه إبراهيم رجوبا في تحقيق أية مكاسب تذكر بدأ الشباب الألبان في تكوين خلاياهم العسكرية، التي عرفت فيما بعد بجيش تحرير كوسوفا، وشهد العام 1998مواجهات عسكرية متصاعدة بين الطرفين،فيما ارتكبت القوات الصربية من جيش نظامي وشرطة أعمال عنف ضد المدنيين الألبان، وارتكبت مذابح زادت فتيل الأزمة اشتعالاً، إلى أن دخل الطرفان برعاية دولية مفاوضات (رامبويية) في فبراير من العام 1999م، ووافق الطرف الألباني على العرض الدولي فيما رفضه الصرب، لتبدأ قوات حلف شمال الأطلسي في صباح الرابع والعشرين من الشهر الثالث من العام 1999م حملة جوية ضد القوات الصربية، لإرغامها على الانسحاب من كوسوفا، وهو ما تم بعد ثمانية وسبعين يوماً من الغارات المتواصلة، فيما ذاق الألبان في غضون ذلك جرعة مضاعفة من أعمال القمع والاضطهاد الصربي.
بايزيد نوشي:
بحسب إحصائياتنا فإن مائة وثمانية وعشرين ألف بيت للألبان دُمرت أو أحرقت، كما قُتل وذُبح ما يزيد عن اثني عشر ألف مواطن ألباني، وهو عدد غير نهائي لأننا مازلنا نكتشف المقابر الجماعية، التي وصل عدد المكتشف منها حتى الآن خمسمائة وخمسين مقبرة، تضم ما بين اثنين إلى مائة وخمسين قتيلاً، وتحتفظ سجلاتنا بأسماء مائة وثمان وسبعين عائلة قتل كل أفرادها، كما أننا نُقدر عدد المفقودين بثلاثة آلاف ومائتي مواطن، غير أساليب شرسة من التعذيب كانت تماس ضد المعتقلين، كما تعرضت ثلاث آلاف فتاة وسيدة للاغتصاب من قبل القوات الصربية.
أسعد طه:
أينما ذهبت، على قارعة الطريق، أو بين الحقول، أو في الميادين العامة تجد نصباً تذكارية، ومقابر جماعية مزينة بالأعلام والزهور، لتشعر كما لو أن الناس هنا يريدون للأجيال المقبلة ألا تنس أبداً ما حدث لها.
اركب سيارتك واذهب إلى أي مكان في كوسوفا، وامش في أي شارع، في أي مدينة، أو قرية، واسأل أي مواطن ألباني أياً كان عمره تسمع حكايات يشيب لها المرء.
والمشهد من مدينة (بيا) حيث الدمار وآثار الحرائق التي طالت كل شيء، والصغار يدركون أنك عربي فيدلونك على مسجد لم يسلم من الأذى. عشرات القصص يرويها لك الصغار والكبار في هذه المدينة، التي كانت تتمركز بها القوات الصربية يوماً.
تصف السيدة الحالة فتقول: إن أهل الحي هاجروا جميعاً باستثناء عائلتها المكونة منها، ومن زوجها، وولديها، وحماتها، وتصف أياماً مرعبة أمضوها عندما قدمت القوات الصربية، واحتلت البيوت هنا وهناك، وتذكر كيف كان الجنود الصرب يأمرونها وزوجها أن تقف حيث تقف الآن حماتها، ثم يعطون طفليها قنبلة ويأمرونهما باللعب بها، ويتلذذون بمشاعر الهلع التي تنتابها وزوجها، وتصف كيف حشدوا في بيت مجاور لها عدداً كبيراً من الألبان إلى أن سمعت في إحدى الليالي إطلاق نار كثيفاً، ولم تر بعد ذلك شيئاً سوى آثار الدماء.
مواطنة ألبانية:
كنا نأكل من حشائش الأرض، وما نأكله في الصباح يبقينا حتى المساء، نحن لا نعرف الآن كيف صبرنا على ذلك؟ نحن لا نصدق أنفسنا، لكن الإنسان –بالفعل- يمتلك قوة احتمال غير عادية.
كانوا يأتون إلينا ويهينوننا بكل الوسائل ماذا فعلنا نحن بهم ليفعلوا ذلك بنا؟ نحن (أمة محمد) لم نؤذ أحداً أبداً، كانوا يأتون ويجلسون في هذا المكان ويخرجون سكاكينهم المغطاة بالدم، ويأمروننا أن نغسلها.
هل يمكن أن تصدقوا ذلك؟
كيف يجرؤ إنسان على ذبح طفل؟
كنا دائماً نردد الله.. الله. وهو الذي نجانا مدبر الكون كله، اللهم افعل بهم ما فعلوه بنا، لقد ذبحونا حتى تعبوا، لقد دمرونا تمامًا.
أسعد طه:
هو التاريخ إذن، الماضي يفسر الحاضر، والحاضر ينبئ بالمستقبل، وما يتعرض له الألبان يرفضه منطق كل الناس، وما يتذرع به الصرب يقبله منطق بعض الناس.
[فاصل إعلاني]
أسعد طه:
في الخلفية كنسية صربية ومصفحة دولية، والمنطقة اسمها (فوش كوسوفا) بالألبانية، وبالصربية كوسوفو (بوليا).
فالمناطق والمدن هنا تحمل دوماً اسمين: أحدهما صربي، والآخر ألباني في معركة محتدة منذ سنوات طويلة لإثبات هوية المكان، أما الألبان فقد فهمنا منطقهم فماذا عن منطق الصرب؟
في هذه الضاحية التي تبعد عشرة كيلو مترات عن بريشتينا، ويسكنها الصرب وتحميهم القوات النرويجية بوسعنا أن نفهم شيئاً من المنطق الصربي.
الأب سافا[مستشار رئيس الأساقفة]:
لكوسوفو أهمية تاريخية وثقافية عظمى بالنسبة للصرب، لأنها –في الحقيقة- شطر البلاد الذي أسسنا فيه أولى ولايات القرون الوسطى، وبنينا العديد من الكنائس والأديرة الجميلة، فهنا تراث مزدهر جداًيعود تاريخه إلى القرون الوسطى، ويمكنني القول: إن مهد حضارتنا كان هنا.
أسعد طه:
دير (ديتشاني) واحد من هذه العمائر الدينية الجميلة التي تحدث عنها الأب سافا، ويقول الصرب: إنها بنيت عام 1335م في مدينة (بيتش) مثلما ينطقها الصرب، أو (بيا) بالألبانية، وإنها مركز رئاسة الكنيسة الأرثوذكسية، وأهم مزارات الصرب الدينية والقومية، لكنها اليوم تقبع في حراسة القوة الإيطالية.
القس/ جوفان ستاكيت [دير ديتشاني]:
في الوقت الحالي لا يوجد هنا من الصرب سوى خمسة وعشرين من أصل ستمائة وخمسين، وقد اضطر الباقون للرحيل، لانعدام مقومات بقائهم هنا.
أسعد طه:
ولا يستطيع سكان الدير الحركة خارجه، إلا بمرافقة جنود القوة الإيطالية المكلفة حمايتهم، ويرى الصرب في الكنائس والأديرة الأثرية شواهد على حقهم التاريخي في كوسوفا، فيما يعتقد الألبان أن هذه الأبنية الدينية، إنما تعود إلى العصر البيزنطي، وإنها بنيت على أراضيهم في عصور متعاقبة تعرضوا خلالها للاستعمار من قوميات متعددة.
القس جوفان ستاكيت:
في الواقع فإن كوسوفو كانت القلب النابض لأول دولة صربية، وكانت مدينة (بيتش) مقر الكنسية المركزية الأرثوذكسية الصربية، ومازالت كذلك حتى الآن، كما أن في كوسوفو الكثير من المؤسسات الدينية الملكية والشعبية، التي كانت تقام فيها الصلوات لله، وكانت –أيضًا- مسرحًا لمعركة كوسوفو الشهيرة التي أُريق فيها الكثير من الدماء في سبيل الديانة الأرثوذكسية، ومن هنا تتضح أهمية كوسوفو بالنسبة لنا.
أسعد طه:
والحقيقة أن الكنسية لاعب رئيسي على الساحة الصربية، ولها دورها في رسم سياسات الدولة والتأثير على الرأي العام، وشحذ عواطف الشعب الصربي تجاه قضاياه الوطنية، ولذلك فإن الألبان يتهمون الكنيسة الصربية بأنها مؤسسة قويمة وليست دينية، هؤلاء الألبان يشكلون نحو 90% من سكان كوسوفا، ويعيد المنطق الصربي ذلك إلى سببين:
أولهما: الاحتلال التركي للبلقان على مدى خمسة قرون.
وثانيهما: سياسات النظام الشيوعي اليوغسلافي، التي أدت إلى تدفق الألبان من المناطق المجاورة، نتيجة ما أغدق عليهم من منح ومزايا في الصراع الذي كان قائماً بين الزعيمين: (تيتو) في (يوغوسلافا) و(أنور خوجة) في ألبانيا.
لويس سيل [مدير مجموعة الأزمات الدولية]:
بالإضافة إلى الخسائر البشرية، فإن ما فقد في الحرب هو طابع التعددية العرقية الذي كانت كوسوفو تتميز به، فبعد انتهاء الحرب، وعودة اللاجئين الألبان، قام هؤلاء بالانتقام من الصرب، كان الأمر عفوياً بعض الشيء، لكنه بالتأكيد لم يمنع من قبل الزعماء الألبان، وأدت هذه الحملة التي شنت على الصرب في كوسوفو إلى هروب نصفهم على الأقل، ومن ظل منهم هنا فإنه يعيش في جيوب منعزلة وتحت حماية قوات KFOR الكفور.
أسعد طه:
ويُعتقد أن نحو مائة ألف صربي قد نزحوا من كوسوفا، وعدت قوات حلف شمال الأطلسي بإعادة خمسة وعشرين ألفاً منهم خلال الشهور المقبلة، فيما لا يزال نحو مائة ألف آخرين يعيشون هنا في جيوب محمية من قبل قوات حلف شمال الأطلسي، وفي شمال مدينة (ميتروفيتسا). وكما الحال هنا، الحال في (جراتشا نيتسا) أيضًا، حيث يعيش نحو ألف عائلة صربية في عزلة تامة، أشبه بالمحكوم عليهم بالإقامة الجبرية، إذ لا يستطيعون الخروج منها، والعودة إليها إلا بحماية القوات الدولية، وتشاركهم الأقلية الغجرية في ذلك، بعد اتهام الألبان لها بالتضامن مع الصرب في الحرب.
وبالطبع فإن شكاوي الناس لا تنقطع من العزلة التي يعانونها، والخوف من المجهول الآتي، غير أن بعضهم استطاع أن يتكيف مع الحياة الجديدة معتمداً على موارده الخاصة، كما فعلت هذه العائلة التي تعيش على ما تزرعه، وما تقوم بتربيته.
الأب سافا:
على العموم.. فإن الحالة سيئة جداً بالرغم من مرور عام على الحرب، فلسوء الحظ فإن المجتمع الدولي لم يطبق الشروط الأمنية على كل السكان، وبعد نظام السيد/ مليوسوفيتش القمعي، وبعد الحرب التي عاني منها الناس خصوصاً الألبان، فإننا نشهد الآن حالة مغايرة بعد أن انتقل القمع من فريق لآخر، لكن الأكثر مأساوية في الموضوع أن هذا يحدث وقت السلام، وفي وجود القوات الدولية.
[فاصل إعلاني]
أسعد طه:
في الطريق نجد كنسية مدمرة تماماً، وأخرى في مدينة (جاكوفا) أصابها شيء من الدمار، وتحميها القوات الإيطالية ضمن ما يتعذر وصفه إلا بالجريمة، حتى وإن كانت انتقاماً لجريمة مماثلة، حتى وإن كانت تصرفاً فردياً، غير أن الكاتدرائية الصربية في العاصمة بريشتينا ظلت على حالها.
نغادر المناطق الصربية وفي آذاننا تتردد كلمات رصينة قالها الأب سافا، لا نعرف لماذا لم يناد بها قبل فوات الأوان.
الأب سافا:
ما لدينا في صربيا هو ديكتاتورية رجل واحد، ونظامه المدعوم من قبل الشرطة والجيش اللذين يسيطر عليها بالكامل، وبالطبع فإن السبيل الوحيد لأن نغير الصورة المأخوذة عن شعبنا هو أن نغير النظام، أي نجعل السيد ميلوسوفيتش، وسياساته ونظامه من ماضي الصرب، فذلك –في الحقيقة- يفتح المجال أمام الصرب للانضمام إلى أوروبا، والانصهار في ديمقراطيتها، ورفاهيتها الاقتصادية.
أسعد طه:
خلفي قلب بريشتينا، مساجد عتيقة، وأسواق شعبية، وحمامات تركية، وهو –ربما- بعض ما تظهره الصورة، ما تخفيه بالتأكيد هذه الإشكالية الناشبة بين تيارات ألبانية متعددة تتفق على الهدف، تختلف على الوسيلة، ما تخفيه الصورة كذلك، هو هذا التداخل غير العادي بين: ما هو قومي، وما هو ديني.
فريقان ألبانيان يتصارعان على قيادة شعبهما، فريق يمثله إبراهيم رجوبا (زعيم حزب الرابطة الديمقراطية لكوسوفا) هذا الأديب المنتمي إلى التيار العلماني الليبرالي، صاحب خيار المقاومة السلمية على طريقة (غاندي) في مواجهة فريق آخر بزعامة (هاشم تاتشي) الذي كان يقود جيش تحرير كوسوفا قبل حله، والمتهم بانتمائه إلى الماركسية، وصاحب خيار المقاومة المسلحة.
فريق إبراهيم رجوبا وحزبه يعتقد أن ما أنجز من انسحاب صربي، وإشراف دولي على كوسوفا، إنما يعود الفضل فيه إلى الجهود السلمية المضنية التي بذلها على مدى سنوات طويلة، فيما يرى فريق هاشم تاتشي وأعوانه أن ما أنجز إنما كان بسبب المقاومة المسلحة، وبما دفعه أنصار هذا الخيار من شهداء، وجرحى ومعتقلين.
كول بريشا [السكرتير العام لحزب الرابطة الديمقراطية]:
إن شعبنا يدرك تماماً أن بوسع حزب الربطة الديمقراطية تأسيس الدولة وإدارتها، وذلك استناداً إلى تجربة الرابطة على مدى السنوات العشر الأخيرة، ففي هذه الفترة التي حكمت الحكومة الصربية فيها بلادنا أدرنا نحن عملية التعليم، والثقافة، والتمويل، والصحة بمعزل كامل عن الصرب، لذلك فإن الشعب يعرف لمن يمنح صوته.
هاشم تاتشي [رئيس وزراء كوسوفا]:
بوسعي تأكيد أن جيش تحرير كوسوفا كان ولا يزال بعيداً عن الأفكار الماركسية، بالطبع نحن نختلف مع إبراهيم رجوبا في مواقفه وآرائه، وهو لمم يساند جيشنا، ولم يدعم مبدأ الحرب لتحرير كوسوفا، وهو ما لم يكن بوسعنا السكوت عنه، وحتى في زمن السلام، فإن لدينا أفكارنا المخالفة لأفكاره.
أسعد طه:
في عهد السيطرة الصربية على كوسوفا كان أمام الألبان خيار صعب لاستعادة الحكم، فإما الحرب، وإما السلام، وفي عهد الإدارة الدولية كان أمامهم مرة أخرى خيار صعب، فإما أن تبقى خلافاتهم في إطار اللعبة الديمقراطية، وإما أن تتحول إلى صراع يفقدون فيه احترام العالم، وتعاطف الأصدقاء، ويخسرون فيه –أيضًا- ما كسبوه من نضالهم العسكري والسلمي، مهما يكن الأمر فإن زيارة إلى مدينة (بريزرن) الجميلة قد تذكرنا أن ثمة ما يجمع الفرقاء، وهو تلك الروح القومية، ففي هذه المدينة القديمة المحاطة بالجبال، وتحديداً في العام 1878م، شكل الألبان رابطتهم القومية في أولى خطواتهم النضالية نحو وحدة الأراضي الألبانية واستقلالها، وفي متحف المدينة سنجد تكريماً من الألبان لرموزهم
الوطنية، والحقيقة أن الحس القومي في كوسوفا يفوق كثيراً الحس الديني، حتى أنه بوسعنا القول أن الألبان يرفعون الراية القومية في مواجهة الراية الدينية، التي يحارب الصرب تحت لوائها، وفي ذلك يقول الألبان، إن المرء إنما يناضل في سبيل ما يفتقده، وهم يرون أنهم قد افتقدوا قوميتهم، فيما ظل الدين راسخاً في نفوسهم، وهو ما يمكن أن نلاحظه.
منظمات تابعة للأمم المتحدة، وأخرى غير حكومية.. فرنسية، وإيطالية وأمريكية.. وغيرها، وقوات عسكرية تابعة لحلف شمال الأطلسي، ولروسيا ولدول أخرى منها عربية، باختصار العالم كله هنا، لتصبح الصورة مشوشة تمامًا وليتداخل ما هو إنساني بما هو استراتيجي، وما هو مبدئي بما هو للصالح الخاص.
بانتهاء الهجمات الدولية، وانسحاب القوات الصربية من كوسوفا منتصف العام 1999م أصدر مجلس الأمن قراره رقم 1244 ليحدد شكل ومهمات الإدارتين الدوليتين العسكرية، والمدنية في كوسوفا.
أما العسكرية، فإنها تحمل اسم KFOR الكفور، وتتشكل من قوة تقدر بخمسين ألف جندي، ينتمون إلى 39 دولة، ويتوزعون على خمس مناطق تتولى قيادتها خمس دول، هي: الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا وإيطاليا، وحددت مهامها بضمان الأمن، ومراقبة الحدود، وتسهيل عمليات الإغاثة الإنسانية، وهانحن في قاعدة عسكرية أمريكية في منطقة جيلان وهي أكبر قاعدة عسكرية لقوات حلف شمال الأطلسي في كوسوفا، أهلاً بكم في أميركا.
عصفوران بحجر واحد، نتذكر هذا المثل ونحن نتجول في أنحاء هذا المعسكر الضخم الذي زرنا معاً مثيلاً له في البوسنة والهرسك، أما العصفور الأول الذي كسبه الأمريكان فهو بشأن أوروبا، ففتح هذا الجرح العميق في قلبها –أقصد كوسوفا- يعزز المصالح الأمريكية على المستوى الاستراتيجي العام، العصفور الآخر هو الوجود الإسلامي في البلقان، المقبول إذا ما كان في صورة جاليات محدودة تعيش هنا وهناك، المرفوض إذا ما أراد أن يكون دولة، حتى ولو كانت ليبرالية علمانية، وهو ما لم يفهمه الألبان من أصحاب خيار المقاومة السلمية حين لم يتلقوا دعماً دوليا ملموساً لتحقيق الاستقلال، وما لم يفهمه –أيضًا- الألبان من أنصار المقاومة المسلحة، حين رُفض طلبهم التسلح على نفقتهم الخاصة بديلاً عن التدخل العسكري الدوليين، ووفق ذلك نفهم نحن أن الدور الغربي الحالي امتداد للقديم.
شمس الدين إيوازي [أستاذ العلوم السياسية]:
الدور القديم معروف، وأوروبا الغربية –دائمًا- كانت تفرض على الدول البلقانية الحدود الدولية، والدور الذي يجب أن يلعب في هذه المنطقة، وقد قسموا أراضي الألبان المسلمين إلى خمس دول، ومع ذلك لم ينجوا في سياستهم –بفضل الله تعالى وتكافل المسلمين- وبدءوا أن يفكروا في دور آخر، وهي تغيير الهوية الألبانية من الإسلامية، أولاً: جربوا الإلحاد الشيوعي، والآن يطبقون الحضارة الأوروبية الاستهلاكية، وهذا دور خطير جدًا بالنسبة لهويتنا الألبانية، والمسلمة.
أسعد طه:
وبخصوص الإدارة المدنية التي عرفت باسم (أونميك) فإن الفرنسي (برنار كوشنير) يترأسها ممثلاً للأمم المتحدة، ويعد هو الحاكم الفعلي لكوسوفا، ودورها هنا ليس رقابياً، بل تنفيذي كإدارة انتقالية في إطار حكم ذاتي، إلى أن يتم التوصل إلى صيغة نهائية للحكم، وتتوزع هذه الإدارة بدورها على أربعة فروع هي: الأمن الذي يتولى مسئوليته ألفان وخمسمائة رجل شرطة، قدموا من بلدان مختلفة، وفرع المساعدات الإنسانية، وتتولاها المفوضية العليا للاجئين، وفرع ثالث لبناء المؤسسات، وترسيخ الديمقراطية، تحت إدارة منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، ثم الفرع الرابع المعني بالشأن الاقتصادي، ويتحمل مسئوليته الاتحاد الأوروبي، وذلك كله بموازاة حكومة محلية مؤقتة تم تشكليها إلى حين إجراء انتخابات عامة في البلاد.
إلى جانب ما يزيد عن ثلاثمائة من المنظمات غير الحكومية، قدمت من أنحاء مختلفة من العالم، ومن المفترض أن الإدارتين الدوليتين العسكرية والمدنية إنما تسعيان في النهاية إلى تنفيذ اتفاق رامبويية، الذي قبله الألبان، ورفضه الصرب وهو الاتفاق الذي لا يمنح كوسوفا استقلالها، بل يضعها تحت الوصاية الدولية إلى أجل غير مسمى، فيض من مشاعر الامتنان العميق تجاه المجموعة الدولية وخصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية تجده لدى الألبان هنا، والسبب في ذلك أنهم كانوا يريدون الخلاص بأي ثمن مما كانوا يتعرضون له من صنوف القهر على أيدي القوات الصربية، وللسبب نفسه فإن نظرة الألبان للقوات العسكرية الدولية التي تحملت إجلاء القوات الصربية عن بلادهم، أفضل بكثير من نظرتهم إلى الأجهزة والمؤسسات الدولية العاملة على الصعيد المدني.
وفي خضم ذلك كله يتناسى الألبان ويتجاهلون الأجندة الخاصة للأطراف المتدخلة، وأهدافها من التدخل، ويبالغ في ذلك، فيتجاوز الألبان مساحة المصالح المشتركة التي قد تجمعهم مع تلك الأطراف الدولية إلى ما هو أبعد من ذلك.
العميد هارلد كوايل [قوات الكفور – بريشتينا]:
ليس هناك وقت محدد لبقاء قوات الكفور في كوسوفو، ويتعين علينا أن نخطو قدماً يما يتعلق بالتطور المدني، وأعتقد أن ذلك سوف يستغرق عدة سنوات، حتى نتمكن من الحديث عن تقدم حقيقي، وحينها سيكون القرار سياسياً على أعلى مستوى في مجلس الأمن.
هاشم تاتشي [رئيس وزراء كوسوفا]:
لا.. حلف الناتو ليس محتلاً، إنه ليس استبدال استعمار باستعمار، فالذي حرر كوسوفا هو العمل المشترك بين الناتو، وجيش تحرير كوسوفا، ولسنا على خلاف معه، إن اعتبار أن الناتو يحتل كوسوفا، هو ادعاء ميلوسوفيتش، لقد أعادوا السلام إلى بلادنا، ونحن نحترمهم لذلك.
محمود باكالي [عضو سابق للجنة المركزية للحزب الشيوعي]:
علينا ألا نتعجل في هذه المرحلة الانتقالية تحت إدارة بعثة الأمم المتحدة، ويتوجب علينا أن ننتهز الفرصة للانتقال من مرحلة الشيوعية إلى مرحلة الديمقراطية، وأن نستكمل بناء مؤسساتنا، حتى نحظى بموقف دولي مؤيد لاستقلالنا، وأرى أن على حلف الناتو أن يستمر في وجوده هنا، وأن يمتد إلى الدول البلقانية الأخرى.
أسعد طه:
ليس بوسع أحد التهوين من قدر ما أنجزته المجموعة الدولية هنا، وفي الوقت نفسه لا يستطيع المرء أن يتجاهل حالة الغموض الشديد، التي تحيط بمهام الوجود الدولي هنا، وبمستقبل كوسوفا السياسي، ولذلك لن نندهش إذا ما سمعنا أصواتاً تبدي –على استحياء- شيئاً من الانتقاد.
بوبار بوكوشي [رئيس وزراء سابق لحكومة المنفي]:
يثمن الألبان التدخل العسكري، لأنه أوقف المذابح التي كانت ترتكبها القوات الصربية في حقنا، ولكننا غير راضين عن إدارة الأمم المتحدة هنا، لأنها تفتقر إلى مفهوم واضح لكيفية تشكيل المجتمع الديمقراطي في كوسوفا، كما أن الأمور ليست بأيدينا، بمعنى أن الألبان لا يملكون قوة التنفيذ، ويتخذ السيد (كوشنير) ما يراه مناسباً من قرارات دون مشورة الألبان، ويساعده على ذلك الخلافات القائمة بين الأحزاب الألبانية الثلاثة المماثلة في إدارته.
لويس سيل [مدير مجموعة الأزمات الدولية]:
أعتقد أن السياسيين المحليين قادرون على قيادة البلاد، فقد نجحوا من قبل في إقامة دولة تحت الأرض، شبة شرعية في ظل وحشية السنوات العشر من الاحتلال الصربي، ولذلك أعتقد أن المجموعة الدولية تحتاج لأن تتحرر من هذه العقلية الاستعمارية، سنفعل كل شيء لكم، سنضع الدستور، ونكون الحكومة.. إلى آخره، يجب أن يمنحوا السكان الألبان والصرب الفرصة، حتى يشكلوا بأنفسهم مستقبلهم كما يرونه.
أسعد طه:
الملفت للنظر أيضاً هو وجود هذا العدد الهائل من المنظمات الدولية غير الحكومية، مدعومة بميزانيات ضخمة، لكن المفارقة أنك لا تشعر بدور ملموس لها على الأرض، ويقول الناس: إن معظم ميزانيات هذه المنظمات تهدر على شراء السيارات، وتأسيس المكاتب، وكمزايا مالية لموظفيها الأجانب، وإذا ما تجولت في شوارع العاصمة بريشتينا ستشعر كما لو أنك في بلد سياحي، لوجود هذا العدد الضخم من الأجانب العاملين في المنظمات الدولية، والحريصين –بلا شك- على إقامة علاقات حميمة مع الشعب الألباني، وفي المقابل يمكن القول أنه –وبالرغم من بعض السلبيات – فإن أداء منظمات الإغاثة الإسلامية في كوسوفا يكاد يكون هو الأفضل مقارنة بأدائها في مناطق أخرى.
يوسف أبو زيد [رئيس مجلس التنسيق للمنظمات الإسلامية]:
مجلس التنسيق للهيئات العربية، والإسلامية تأسيس في كوسوفا في شهر سبتمبر من العام الماضي، بناء على اجتماع جميع الهيئات العاملة في كوسوفا، بلغ عدد الأعضاء المشاركين في هذا المجلس حوالي 20 هيئة عربية وإسلامية من مختلف الدول والبلدان، الحاجة كانت ماسة جداً لمثل هذه المجالس، وهذه ليست التجربة ليست الأولي في كوسوفو، وإنما هي امتداد لمراكز أو مجالس تنسيقية في دول أخرى، أثبتت وجودها وجدراتها، لأنه لابد منها، وخاصة في وضع مثل كوسوفا، الحكومة هنا حكومة (NGOS)يعني هيئات إغاثية وأفنية، فلابد من مجلس يكون حلقة الوصل ما بين هذه الهيئات، والهيئات الرسمية العاملة في الدولة.
أسعد طه:
وتعد اللجنة السعودية المشتركة من أكبر الهيئات الإسلامية العاملة هنا.
د. فارسي الهادي [رئيس اللجنة السعودية المشتركة]:
أيضًا واجهتنا مشاكل مع النواحي الأمنية، بالذات إنه –للأسف- ينظر إلى الجهات الإسلامية، وكأنها أتت لهدف معين ليس للإغاثة، وهذا ما هو صحيح إحنا صارت لنا تجربة مع الكفور البريطاني، وقدموا لنا أيضاً اعتذار على مداهماتهم أو اتهامهم لنا في كل (ما اتضح أنه غير صحيح) لكن بشكل عام الآن الأوضاع تغيرت تماماً، وأصبح تفهم الدور الإسلامي يعني دور واضح، وحتى أصبحوا يتوجهوا لنا –نفس الكوسوفيين- إلى مقرنا يبحثوا عن المساعدات، لأنه عادة الهيئات الإسلامية عندما توعد تنفذ، وأنا أتكلم عن اللجنة السعودية المشتركة نحمد الله لم نوعد بأي برنامج، وبأي مهمة إلا أنجزناه على أكمل وجه.
أسعد طه:
وباستثناء بعض التحركات الرسمية فإن علاقة كوسوفا مع العالم الإسلامي مازالت محدودة، ومازال العالم الإسلامي يعتقد أن احتياجاتها محصورة في أكياس الطحين، والمساعدات الإنسانية، وهو ما يسعد بعض التيارات الغربية، التي لا تحبذ علاقات متينة بين كوسوفا والعالم الإسلامي.
شمس الدين إيوازي:
طبعاً أي واحد من السياسيين الألبان، سواء كان في كوسوفو أو في ألبانيا، لو اتصل، ولو عمل العلاقات مع الدول حتى العربية أو الإسلامية، يمكن أن يصبح معزولاً، ويصبح في موقف لا يستطيع أن يلعب أي دور هنا.
طبعاً هذه الضغوط هي ليست علنية، ولكن دائماً هم يؤيدون الناس الذين يهرولون إليهم، حتى يذهبون إلى بابا في روما يقبلون يده، لكي يثبتوا استعدادهم لتطبيق ما يرون أصحابهم في أوروبا الغربية.
أسعد طه:
الصرب، والألبان، والمجموعة الدولية عبر مؤسساتها العسكرية والمدنية، هي أطراف الأزمة الآن هنا، لكل طرف رؤيته الخاصة، والمناقضة للأطراف الأخرى الواقع في النهاية يفرض نفسه، مرحبًا بكم في (ميتروفيتسا) مرحبًا بكم في واقع التقسيم.
كان إلى زمن قريب جسراً عادياً، يربط ما بين ضفتي نهر (إيبر) إلى أن بات الآن الفاصل بين شطر مدينة ميتروفيتسا الشمالي، حيث يعيش الصرب، وبين شطرها الجنوبي حيث يعيش المسلمون، فإذا انتقلت بحماية القوة الفرنسية إلى الشطر الصربي، فإنك مجدداً ستسمع الشكوى في كل مكان، وتعبيراً عن استيائهم من الأوضاع التي خلفها التدخل الدولي أعلن الصرب مقاطعتهم لكل الإجراءات المتعلقة بالانتخابات المقررة في البلاد.
أوليفيرا إفانوفيتش [عمدة شطر ميتروفيتسا الشمالي]:
كل الأعمال والمشروعات الاقتصادية موجودة في الشطر الجنوبي، ولا يوجد شيء منها هنا، ولذلك فإن أوضاعنا الاقتصادية سيئة للغاية، والصرب كلهم يعيشون ظروفاً قاسية بسبب ذلك، فنحن لا نستطيع العبور إلى الجهة الأخرى حيث مصانعنا واستثماراتنا الوطنية.
محمود باكالي:
إننا نواجه في كوسوفا مشكلة عدم التسامح بين الأغلبية الألبانية، والأقلية الصربية، وهذا –برأيي- ليس غريباً بعد الجرائم التي ارتكبها الصرب في حق الألبان من قبل، ويجب أن أذكركم أن هجوم ميلوسوفيتش على كوسوفا، خلف بين الألبان أكثر من أحد عشر ألف قتيل، وسبعة آلاف من المعتقلين والمفقودين غير آلاف المنازل المحروقة والمدمرة في المدن والقرى.
أسعد طه:
الحركة في هذا الشطر الصربي من المدينة تبدو هادئة، والشوارع نظيفة، والعملة النقدية المتداولة هي الدينار اليوغوسلافي، لا المارك الألماني كما هي الحال في أنحاء كوسوفا، لكنك تشعر بالتوتر في كل مكان، وعلى الجدران تجد الشعار الصربي الشهير المكون من الصليب ومن الحروف الأولى لجملة من أربع كلمات معناها: التضامن وحده هو الذي ينقذ الصرب، وعلى مرتفع نصب تذكاري من العهد الشيوعي، وهاهو منجم تربيتشا الذي يعد واحداً من أغنى مناجم الذهب والزنك في أوروبا، فيما عمليات التصنيع كانت تجري في الشطر الآخر من المدينة، حيث يعيش المسلمون، بالطبع فإن العمل متوقف منذ اندلاع الحرب.
نحو خمسمائة ألباني ما زالوا يعيشون هنا في ثلاث بنايات، وفي عزلة تامة عن محيطهم الصربي، الذي تحميهم منه قوات الكفور على مدار الساعة، وينتقلون إلى حيث أعمالهم ومشاغلهم الحياتية عبر جسر للمشاة، أنشي حديثاً، فإذا ما انتقلت إلى الشطر الجنوبي حيث يعيش المسلمون، فإنك ستشعر كما لو أنك انتقلت إلى بلد آخر، فهنا مدينة عادية تعيش حياتها اليومية الصاخبة، وتحتفظ بذكريات الحرب، على عكس الحال في الشطر الصربي للمدينة، وكلا الشطرين يشيران إلى مخاطر واقع التقسيم القائم، والحياة في جيوب معزولة، سواء تلك التي يسكنها الصرب في مناطق الألبان، أو يسكنها الألبان في المنطقة الصربية.
ويعاني الألبان من أزمة اقتصادية طاحنة، وهو أمر متوقع بعدما تعرضوا له من حرب اقتصادية على مدى السنوات العشر الأخيرة، التي فقدوا خلالها وظائفهم، وأغلقت فيها مصانعهم ومؤسساتهم، وتعرض قطاعهم الزراعي للأمر نفسه، فأتلفت المحاصيل، وقتلت الماشية، ولذلك فإننا نجد الآن أن نصف ميزانية كوسوفا تأتي من التبرعات الخارجية، وينعدم وجود المصارف المحلية والأجنبية و90% من الأطعمة تستورد من الخارج.
في شمال مدينة (بريزرن) زرنا معسكراً لتدريب قوات ما عرف باسم فيلق كوسوفا، وهو الاسم الذي أطلقته الإدارة الدولية على جيش تحرير كوسوفا بعد حله، وتجريده من أسلحته، وتحويله إلى ما يشبه جهازاً للشرطة منزوع السلاح.
يعقوب كراسنيتشي [أول ناطق باسم جيش تحرير كوسوفا]:
لقد كان قراراً صعباً ذلك الذي اتخذناه في الخامس عشر من شهر كانون الأول ديسمبر عام 1999م، ولكن كان لابد منه، بعد أن بدءوا ينسبون الكثير من الأعمال الإجرامية، والسياسية، والمشاكل الاقتصادية إلى أفراد جيشنا، لذلك اضطررنا إلى أن نقول: نعم لإدارة المجتمع الدولي، حتى يتحمل المسئولية بنفسه وأسسنا حزباً سميناه حزب التقدم الديمقراطي، وهو يمتلك مشروعاً متكاملاً لتحقيق الاستقلال والديمقراطية.
بالقرب من مدينة (جاكوفا) نرى معسكرات استطيان كانت السلطات الصربية قد أسستها، وجلبت إليها الصرب الفارين من الحرب التي شهدتها كرواتيا والبوسنة والهرسك ضمن ما كانت تبذله دوماً، لتغيير الخريطة الديموغرافية لكوسوفا، الحروف الصربية المكتوبة على العلاقات الإرشادية على طول الطريق طُمست أو استبدلت بحروف ألبانية، وأُعلنت غرامة مالية قدرها خمسون ماركاً ألماني على كل من يضبط من الألبان متحدثاً باللغة الصربية.
دمار شديد أصاب كوسوفا، مرة من قبل الصرب، ومرة من قبل حلف شمال الأطلسي، فيما لا تزال جهود الإعمار فردية، فلم تشهد البلاد دعماً خارجياً ملموساً في هذا المجال، حتى أن بعض المدارس اضطرت أن تنصب خيماً [خياماً] لتلاميذها، إلى حين استكمال بناء ما دمرته الحرب، وفي هذه الخيام المدرسية ينشد الأطفال أناشيدهم الوطنية، ويتعلمون دروس التاريخ، التي أعيدت صياغتها من جديد، لتؤكد على هويتهم القومية، وحقوقهم التاريخية في أرضهم.
في بريشتينا العاصمة سنجد أن تلاميذ المدارس بمراحلها المختلفة أفضل حالاً، وكذلك الأمر في جامعة بريشتينا، والحقيقة أن الناس هنا تسيطر عليهم مشاعر متناقضة، فالظروف العامة التي تجري خلالها العملية التعليمية صعبة للغاية، لكن في المقابل، فإن الألبان استعادوا حقهم في تعليم أبنائهم لغتهم الخاصة، وفي إدارة مؤسساتهم المختلفة بأنفسهم، بعد أن حُرموا من ذلك خلال الحقبة الصربية.
أينما ذهبت تجد الأعلام الألبانية مرفوعة في كل مكان، فيما تكتظ الشوارع بشعب فتي، أكثر من نصف عدده تقل أعمارهم عن العشرين عاماً، وأكثر من ثلاثة أرباعه تقل أعمارهم عن 35 عاماً، وتحرص العائلات الألبانية على إنجاب عدد كبير من الأطفال، رغم كل الظروف التي يعيشونها، ويبدو أن ذلك كان شكلاً من أشكال مقاومة الفناء الذي كان يهددهم به الطرف الآخر.
نمر بقرى ألبانية جميلة، ونحن في طريقنا إلى الحدود الشرقية لكوسوفا، ونفهم أن ثمة أزمة تهدد المنطقة بالاشتعال من جديد، وهي مسألة كوسوفا الشرقية، تلك المنطقة الواقعة جنوب غربي صربيا، وتضم ثلاث محافظات رئيسية، وتسكنها غالبية ألبانية، تقدر بنحو مائة ألف ألباني، بحسب الإحصاء الرسمي للعام 1991م وقد اقتطعت من إقليم كوسوفا، عندما كان هذا الإقليم يتمتع بالحكم الذاتي ضمن الاتحاد اليوغوسلافي.
وفضلاً عن ثرواتها المعدنية، فإن كوسوفا الشرقية تعد حلقة الوصل بين وادي (مورافا) في شمال صربيا، وادي (فردار) في جنوب مقدونيا، وتمر فيها أهم الطرق والسكك الحديدية، وعندما نصل إلى الحدود نجد قوات الكفور KFOR، على بعد نحو مائتي متر من حدود كوسوفا شرح لنا جنود قوات الكفور الحالة هنا، وتحدثوا عن سماعهم لأصوات اشتباكات تجري بصفة شبه يومية بين القوات الصربية وقوات ألبانية، على غرار جيش تحرير كوسوفا.
النقيب إيريك مكفادين [قوات الكفور]:
البداية لاحظنا أشكالاً مختلفة من التدريب، تقوم بها القوت الألبانية في معسكر بالقرب من هنا، يضم مجندين جدداً، قدموا من مقدونيا وألبانيا، وأماكن مختلفة من كوسوفا، لكننا نعتقد أن التدريبات قد توقفت الآن، ونعتقد أن ما يجري هو اشتباكات بين القوات الألبانية والقوات الصربية، ونحن نسمع أصوات انفجارات متعددة يومياً، وأصوات إطلاق للنار.
أسعد طه:
عند هذه النقطة الحدودية يمكن أن تلتقي ألباناً من سكان كوسوفا الشرقية، إما فارين من أجواء حرب توشك أن تعم المنطقة، وإما قادمين لقضاء حاجاتهم والعودة مرة أخرى.
علي رجب:
اسمي على رجب، معلم في هذه القرية منذ عشرين سنة، وأوضاعنا –كما تراها- صعبة للغاية، خصوصاً منذ الرابع والعشرين من مارس (آذار) من العام 1999م والناس يعيشون في خوف ورعب، ونضطر للهجرة من منطقة لأخرى، فنحن نعيش حالة حرب حقيقة، فأنت تسمع أصوات الاشتباكات في أوقات متفرقة من الليل والنهار.
أسعد طه:
وإذا عدنا إلى مدينة (جيلان) نعلم أن الصليب الأحمر قد قدر عدد اللاجئين القادمين من كوسوفا الشرقية، حتى شهر مارس (آذار) من العام 2000م بنحو 60 ألف لاجئ يعيشون في ظروف صعبة.
عبد العزيز [ممثل المفوضين العليا للاجئين]:
وصل إلى هذا الملجأ حتى الآن خمس وخمسون عائلة، ونحاول الآن إعادة إيوائها في بعض البيوت، في القرى القريبة من هنا، وكما أخبرونا فإن من المتوقع وصول أعداد كبيرة من اللاجئين في الفترة المقبلة.
شيخ ألباني:
عندما وصل الصرب إلى بلدنا، أمرونا بأن نخرج من بيوتنا، وقاموا بتجميعنا في مجموعات، وتعرضنا للضرب والتعذيب، وبعضنا لقي حتفه، وبعد أن أحرقوا بيتي، اضطررت للجوء إلى مقدونيا، وهرب ابني إلى أستراليا.
أسعد طه:
هذه هي كوسوفا إذن، ما يزيد عن عشرة آلاف كيلو متر مربع تكون وحدة جغرافية واحدة، مؤلفة من سهول خضراء واسعة، تحيط بها الجبال والتلال، وفيها سبع عشرة بحيرة، وأربعة أنهار، تصب في بحار البلقان الثلاثة، ويتمتع باطن أرضها بثروات طبيعية غنية، وعلى سطحها يعيش ما يزيد عن مليونين، 90% منهم ألبان، و8% صرب، و 2% قوميات أخرى، هذه هي كوسوفا إذن.. انحصار للوجود الصربي في مقابل سلبيات الوجود الدوليين، وغياب لتصور واضح لمستقبل كوسوفا في ظل رفض غربي لاستقلالها، ومخاوف لدى الألبان من أن يفقدوا في السلام ما كسبوه من زمن الحرب، وخلافات داخلية بين الألبان يؤمل ألا تتجاوز حدودها، مع واقع التقسيم القائم في بعض مناطق كوسوفا، وفي انتظار تفجر أزمة شطرها الشرقي، وفي ظلال أزمة اقتصادية طاحنة، وسلاح مازال في كل البيوت ينتظر الإشارة، الصورة ليست قائمة تماماً فقد أهدت كوسوفا درساً نضالياً إلى أخواتها من المناطق المقتطعة من الوطن الأم ألبانيا، تلك التي ضمت اليونان، ومقدونيا، والجبل الأسود، درساً يفيد الاعتماد على الذات قبل طلب المساعدة من الآخرين، وكل ما هو مطلوب من كوسوفا الآن: ألا تتجاوز مساحة المصالح المشتركة، وأن تدرك أنها في الجغرافيا غربية، لكنها في المعتقد غير ذلك.
الشرائع الدولية تمنح الشعوب حق تقرير المصير، لكنها تمنع عنها الوسيلة، والعزيمة وكل ما يمكن به أن تعي حقيقة أنه ليعود الوطن شكله الأول ليس سوى الحجر.
السلام عليكم.