تطور الحركة الشعرية الموريتانية
مقدم الحلقة | محمد كريشان |
ضيف الحلقة | أحمد ولد عبد القادر، شاعر موريتاني |
تاريخ الحلقة | 11/12/2000 |
محمد كريشان:
أشهر ما توصف به موريتانيا هو أنها بلد المليون شاعر وبغض النظر عن مدى دقة التعبير فإن ظاهرة كثرة الشعراء التي نشأت وترعرعت هنا في أعماق الصحراء ما تزال مستمرة رغم تغير الأحوال، وإذا كانت البداوة والصحراء قادرتين دائماً على إنتاج شعراء، فإن القضية هي في استمرار هذا العطاء الإبداعي في وقت شحَّت فيه العواطف، وفي عالم لم يعد يتحدث إلا عن آخر الابتكارات العلمية والتكنولوجية، ضيفنا هذا الأسبوع هو الشاعر الموريتاني أحمد ولد عبد القادر.
أحمد بن عبد القادر من مواليد عام 1941م نشأ في بيئة بدوية تحترف تربية المواشي وتنتشر فيها المعارف العربية، الإسلامية، وقد تعلم الشعر من عائلته.
عمل مدرساً بالتعليم الابتدائي من عام 1965م إلى 1971م.
شارك في تحرير نشرية (موريتانيا الفتاة) وهي أول نشرية للقوميين العرب بموريتانيا. كما عمل محرراً في نشرية (صحيفة المظلوم) السرية التي كانت تصدرها الحركة الوطنية الديمقراطية في بدايات السبعينيات. عضو لجنة القيادة المحلية لحركة القوميين العرب عام 1966م بزعامة الدكتور جورج حبش آنذاك.
عرف السجن السياسي ثلاث مرات في الستينيات والسبعينيات. له ديوان شعر جمع فيه كل القصائد ما بين 1961م إلى 1977م، ونُشر ببيروت بعنوان (أصداء الرمال).
له روايتان هما: (الأسماء المتغيرة) و (القبر المجهول).
محمد كريشان:
سيد أحمد ولد عبد القادر أهلاً وسهلاً.
أحمد بن عبد القادر:
أهلاً بكم.
محمد كريشان:
عندما نتحدث عن موريتانيا كبلد المليون شاعر، متى بدأت هذه المقولة؟ وهل فيها بعض المبالغة ربما؟
أحمد بن عبد القادر:
هذا المصطلح الشائع جداً على ما أتذكر بدأ منذ سنة 1967م، وكان مطلق شرارة هذا الشعار هو مجلة العربي الكويتية، أتذكر أنها كانت وقتها جزيرة الوقت، كانت بإخراجها الجيد ومواضيعها المتنوعة جامعة للعرب..، جمهور من القراء العرب واسع النطاق، زارتنا البعثة وقتها، بعثة العربي وأتذكر أنها كانت تتألف من صحفي يسمى سليم زبال ومصور يسمى إدوار متريادا، وصادفت الصحراء الموريتانية على حقيقتها يعني قبل عهود الجفاف الذي أصاب بلدان الساحل فيما بعد فغير أوجه الحياة وترتبت عليه نتائج اجتماعية كثيرة، وأتذكر أن المرحوم الأستاذ أحمد بن عبد الله كان هو المرافق الدليل لهذه البعثة وتنقل معها بين المحاضر، محاضر البادية وشهدوا كثير من المطارحات الشعرية الليلية والسهرات الأدبية وأثناء التحقيق سأل أحدهم –أحد أعضاء الوفد- مرافقه: كم عدد سكان هذا البلد؟ قال له: مليون، قال له إذاً أنتم مليون شاعر، وطلع التحقيق بعنوان.. زاوية اعرف وطنك أيها العربي. موريتانيا بلاد المليون شاعر، فشاع هذا اللقب أو هذا الشعار أو هذه الصفة، من حيث المبالغة طبعاً تعرفون قبل أن تسألوا أنها مبالغة، لأنه لم يكن في العالم العربي كله مليون شاعر في أي وقت من الأوقات في زمن واحد، طبعاً هناك مبالغة، مبالغة إعلامية كما يقال.
محمد كريشان:
يعني جمالية العنوان هي التي فرضت ربما..
أحمد بن عبد القادر:
ربما يعني..
محمد كريشان:
ولكن مع ذلك حتى وإن لم يكن هناك مليون بالمعنى العددي الصارم ظاهرة الشعر في المجتمع الموريتاني ظاهرة منتشرة.
أحمد بن عبد القادر:
ظاهرة منتشرة، فعلاً منتشرة كانت ولا تزال، وللمبالغة ما يبررها، ولكنها تبقى مبالغة، فشاع في البلدان العربية أنها بلاد المليون شاعر، بعض العرب يأخذها على حقيقتها إعجاباً وتبجيلاً للموريتانيين أو تدليلاً، أو شيئاً من هذا القبيل، والبعض على وجه السخرية يعني فيه مفارقات، موريتانيا رغم كثرة دواوين شعرائها القدامى والمحدثون متخلفة في ميدان النشر، أن تقول بلد المليون شاعر ولا تجد دواوين كثيرة في المكتبات، ولا في المعارض العربية وتبقى المفارقة.
محمد كريشان:
ما تفسير هذه المفارقة يعني؟
أحمد بن عبد القادر:
المفارقة أننا في ميدان النشر متخلفون هو السبب.
محمد كريشان:
إذاً كيف يمكن الحفاظ على إبداعات بعض الشعراء لا شك بأن المستوى يتفاوت من شاعر إلى آخر، ولكن كيف يمكن لموريتانيا أن تحفظ هذه الذاكرة الشعرية طالما أن النشر متخلف كما ذكرت؟
أنتم ربما تراهنون على الذاكرة، ولكن الذاكرة لا يمكن أن تستوعب كل شيء.
أحمد بن عبد القادر:
الذاكرة في عهد الصورة يقال أنها تتراجع، في عهد الصورة والوسائل المرئية ولم تعد الذاكرة لدينا كما كانت وإن كان البقية من أفراد الجيل القديم أفراد ونماذج يحفظون بشكل جيد لكن لم تعد كما كانت، فقط الحل هو النشر ونحن نعتزم هذا ونتجه إليه.
محمد كريشان:
يعني ربما أنتم من الشعراء المخضرمين في موريتانيا المعروفين، هل كان الإبداع الشعري في موريتانيا زمن الاستعمار، أو في بدايات الاستقلال أكثر نضجاً وأكثر ثراءً وعطاءً من الآن؟ يعني إذا أردنا أن نعطي نوع من الفكرة الأولية التقييمية على تطور المستوى الإبداعي في الشعر في موريتانيا.
أحمد بن عبد القادر:
سؤال وجيه، موريتانيا في القرنين أو الثلاثة الماضية كان الشعر فيها ناضج بشكل ممتاز كشعر عربي قديم، تبدأ القصيدة بالمقدمة الطللية، وفعلاً كان الشعراء في مجتمع رُحَّل، من الرُّحل يقفون عند مرابع الأحباب وتهيج بهم نار الحنين ويبكون الحبيبة ويقفون على الرسوم والطلول، لا تقليداً وإنما تجاوباً مع..
محمد كريشان[مقاطعاً]:
البيئة.
أحمد بن عبد القادر[مستأنفاً]:
الواقع المعطى، وكانت أغراضهم متنوعة هذا الشعر رغم أنه أكثره مخطوط يوجد منه ديوان جامع نموذجي صدر في القاهرة 1911م (الوسيط في أدباء شنقيط) لأحمد بن الأمين الشنقيطي، وعلى درجة عالية من الرصانة وقوة الأسلوب والإبداع كمان، الإبداع.. الإبداع في محيطه وبيئته، وخاصة في نقاء اللغة العربية، أعطيك مثال: في الخمسينات أو الأربعينات حقق في مصر كتاب (الخصائص) لابن جني في النحو، هو كتاب صعب، فأثناء التحقيق جماعة التحقيق من علماء الأزهر وعلماء اللغة العربية في مصر بدأوا في باب الإبدال، باب الإبدال لكلمة (زبرجد) فقالوا يجوز قياساً، الكتاب يقول إن الزبرجد يجوز قياساً إبدال داله جيماً زبرجد فلم يجدوا له شاهداً من الشعر العربي القديم، ولكنهم قالوا وجدنا له شاهداً في الوسيط في أدباء شنقيط للشاعر محمد بن الطلبة، جيميته الشهيرة الزبردجي في قصيدة جميلة لا أتذكر،لا أتذكر مطلعها هذا مثال، أنه كان على درجة قوية من نقاء اللغة العربية. الشعر العصري، الشعر الحديث، أو الشعر الزمن الحاضر إذا أردت أن أتكلم عنه فعلي أن أقول لك إن عصر التنوير العربي الثقافي في المشرق وصلنا متأخراً يعني لم نبدأ نكتب الشعر في أغراضه الحديثة إلا بعد الستينات، إلا بعد الستينات، ونشترك مع المشرق والمغرب في -إلى جانب تلك الخاصية- في أن هذا العصر الذي هو عصر وضع علامات استفهام حول الشعر ومستقبله والعالم الذي يقودنا في طريق العولمة والغرب ترك الشعر منذ زمن قديم، والشعر دخل أزمة.. أزمة الكينونة لأن الوسائل المرئية، الخيال العلمي وما إليه من مستحدثات زاحمته في الخيال وفي الإثارة والتغني وفي كل شيء يعني نتحد مع الشرق في وصول هذه المرحلة الكأداء في آن واحد إلى جانب أننا وصلنا التنوير متأخراً.
مع أن أؤكد لك أن من السبعينات إلى الآن الساحة الموريتانية مليئة تعج بالشعراء الذين يكتبون الشعر بجميع أجناسه الشعرية، أجناسه الشعرية المعروفة اصطلاحاً.
محمد كريشان:
لكن هل اختفى تدريجياً ذلك الشعر الذي -كما ذكرت- يقف على الأطلال ويتشبه ليس من باب التشبه بالشعر الجاهلي أو الشعر العربي عموماً، وإنما نظراً للبيئة الصحراوية والبدوية هنا في موريتانيا، هل انقرض تدريجياً هذا النوع بفعل تقدم النمط الحضري في موريتانيا وإن كان ببطء يعني.
أحمد بن عبد القادر:
تقريباً، عندنا في الحركة الأدبية الشعرية تجد القصيدة العمودية ذات الجرس الإيقاعي القوي المقلد للشعر..، التي هي امتداد للشعر الموريتاني القديم و التي لا يستسيغها كثير من الجمهور اليوم، وتجد القصيدة العمودية ذات الأغراض العصرية، وتجد قصيدة الشعر التفعيلة عند الشعراء، وتجد حتى القصيدة النثرية التي يسمونها الشعر المنثور، عرفت لها مكانة في الساحة الأدبية، يعني جميع الأجناس الشعرية المتعارفة في الساحة العربية معروفة عندنا الآن.
محمد كريشان:
الغالب تقليدياً أنكم تحبذون هنا في موريتانيا الشعر العمودي، يعني هذا النوع من الشعر الذي عُرف في البلاد العربية في السنوات الماضية الشعر الحر أو أحياناً في غير العمودي والحر وغيره من التسميات، هل كان مستهجناً إلى حد ما نظراً لتشبث الشعراء الموريتانيين بالنمطية التقليدية للقصيدة العربية؟
أحمد بن عبد القادر:
الجمهور الواسع الواسع يرفض الخروج عن قانون الخليل ومرة عرضت على واحد قصيدة من قصائد التفعيلة هو بدوي فقال لي: هذا شعر؟ قلت له: نعم، فأنشد بيتاً للبرعي –شاعر عربي قديم-
وكم من سمىَّ ليس مثل سميه
صفاتاً ويُدعى باسمه فيجيب
يعني مسخرة عند الجمهور الكبير، مسخرة عندهم.
محمد كريشان:
التفاعلات التي تابعت بها الساحة الموريتانية الأوضاع العربية، يعني سواءً بعد الـ 1967م أو 1973م أو غيرها من الأحداث العربية الكبرى سياسياً، كيف انعكست على الشعر الموريتاني؟ هل ظل الشعر الموريتاني يتغنى بالأنماط التقليدية ولم يتفاعل مع الأحداث على الساحة العربية؟ مدى التفاعل الذي كان في الساحة؟
أحمد بن عبد القادر:
الشعر الموريتاني في الستينيات والسبعينات وحتى الثمانينات في أغلبه كان شعر القضايا العربية، أو القضايا المحلية الاجتماعية والسياسية، ولكن كانت قضية فلسطين لها الصوت الأعلى في القضايا، كانت القضايا العربية عندما كان للعرب قضايا.
محمد كريشان:
يعني ما الذي بقى في الذاكرة من بين هذه القصائد التي ربما كانت لها مكانة متميزة في الأحداث السابقة يعني؟
أحمد بن عبد القادر:
أنا مثلاً كتبت ديوان كبير عن القضية الفلسطينية وغيري من الشعراء زملائي كتبوا.
محمد كريشان:
هل تذكر منه شيئاً؟
أحمد بن عبد القادر:
لا أذكر قصيدة بذاتها ولكن مثلاً: في السبعينات عندي قصيدة عمودي بعنوان (نشيدي نشيد الرعد) أو نشيد فلسطين على لسانها يقول الشاعر:
سأجمع أشلائي بخيط من اللظى
وأزرع في حقل الجحيم رمادي
وأمضي.. وأمضي واليتامى فوارسي
وحمحمة الأقدار بين جيادي
ليخضر وجه البدر في صحن دره
على نغم الزيتون عبر جهادي
إلى آخره.
محمد كريشان:
هل صحيح أنه يكاد لا يوجد أي بيت موريتاني إلا وفيه شاعر؟ إذا اعتبرنا المليون شاعر مبالغة، هل هذه أيضاً يمكن أن توصف بالمبالغة؟
أحمد بن عبد القادر:
رجعتم بنا إلى نفس الغرض.
محمد كريشان:
نعم.
أحمد بن عبد القادر:
لا، يوجد بيت لا يوجد به شاعر وبيوت كثيرة.
محمد كريشان:
لا يوجد فيها شعراء.
أحمد بن عبد القادر:
لا يوجد فبها شعراء، أدعياء الشعر موجودون في المشرق والمغرب، أما الشعراء فهم قلة، قلة وفي بلدنا خصوصاً في الجيل المتحضر من المحضرة نسبتهم عالية، نسبة عالية جداً.
محمد كريشان:
يعني استمرار المحاضر والتي كما ذكرنا هي نمط تقليدي للمدارس في موريتانيا، هل تشكل هي المعين المتواصل لاستمرار الشعر والشعراء في موريتانيا؟
أحمد بن عبد القادر:
أولاً المحضرة لم تعد كما كانت لأنه كما سبق أن أشرت إلى ظاهرة الجفاف في دول الساحل قضت على مقومات الحياة الريفية، فالمدارس كثير منها اختفت، المحاضر كثير منها اختفى أو هاجر إلى المدن، والمدن ليست هي الأرضية، ليست هي الرحم الذي ترعرعت فيه المحضرة، هي قامت على قاعدة اقتصادية اجتماعية تقوم على تربية المواشي، وخيام الصوف، والتنقل بين النجوع من مكان مخصب.. من مكان مجدب إلى المكان الأخصب، ومازالت منها بقية لا بأس بها من المحاضر لكنها نسبية جداً، أما الآن فالتعليم عندنا والثقافة بوجه عام والحركة الأدبية بالتالي تقوم بين تراث المحضرة وبالجامعة كمان، إحنا عندنا جامعة وعندنا معاهد وحياة ثقافية في المدن، هناك ازدواجية الآن ما بين ما هو من أصل محضري بدوي وبين ما هو ناشيء من المدن بتعليم مؤسسات (حضارية).
محمد كريشان:
لكن سيد أحمد مع ذلك وجود المحاضر التي مثلما ذكرنا هي النمط التقليدي للمدرسة في موريتانيا، الطالب فهيا يكون مطالب بحفظ المعلقات وبحفظ قصائد تتكون من ألف بيت، هل هذا بدوره يعني ساعد على نمو ظاهرة الشعراء وجعلها أكثر قدرة على الاستمرار في هذه البلاد؟
أحمد بن عبد القادر:
هو المنهاج المحوري ساعد لأنه كان الشعر الجاهلي خصوصاً يحفظ بكثرة، في المنهاج كان الطالب عليه أن يحفظ المعلقات، كان عليه أن يحفظ ديوان الشعراء الستة الجاهليين، كان عليه أن يحفظ ديوان غيلان ذي الرمة، غيلان ذو الرَّمة شاعر من العهد الإسلامي شعره قوي من نطاق الدهنة، وكان يحفظ شعر للشعراء المحليين، وحتى شعر الأدباء العباسيين، ثم كانت البيئة لها عامل، البيئة هنا كانوا ناس رُحل يقطعون في السنة آلاف الأميال، أو مئات الأميال بحثاً عن المراعي ويقول أحد أساتذتنا القُدامى المختار بلبونة صاحب الشرح الكبير على ألفية ابن مالك في النحو من القرن الثاني عشر الهجري، يقول يصف سفره مع محضرته يقول:
ونحن ركب من الأشراف منتظم
أجل ذا العصر قدراً دون أدنانا
قد اتخذنا ظهور العيس مدرسة
فيها نبين دين الله تبيانا
كانت هناك عوامل تشابه البيئة المُعبَّر عنها بالشعر الجاهلي، بالبيئة التي يعيشها الطالب والأستاذ، ويعيشها الشاعر بالتالي، أنا كنت في نجد قبل شهور، نفس النباتات ونفس طبيعة الأرض في الصحراء الموريتانية، نفس الأرض، ونفس المسميات تقريباً من حيث النباتات والتضاريس، حضر أحدهم شعر امرئ القيس ورأى وتشبع به وتذوقه ورأى الأرض مشابهة هذا أيسر أن يكون هذا مساعداً له، ثم هناك اجتهاد من رجال الدين كان يربى عليه الطلاب أن من لم يفهم اللغة العربية لن يفهم كتاب الله ولا الفقه ولا العلوم الدينية، كان هناك إقبال كبير على اللغة من وجهة نظر دينية واحد اسمه بن متالي أحد الفقهاء البارزين، يقول: تعلم اللغة أفضل من عبادة الله. تعلم الشعر الجاهلي، تعلم اللغة العربية أفضل من التخلي للعبادة،
قل تعلم اللغة شرعاً فضلي
على التخلّي للعبادة الجلي
إذاً عوامل كثيرة خلقت الظاهرة المحضرية الثقافية منها ما هو متعلق -كما قلت لك- بمنهاج المدرسة، وما متعلق بالبيئة، وما هو متعلق بالمنظور الديني الذي يوصي ويُلح على محاولة فهم الدين الإسلامي عن طريق التطلع في اللغة العربية.
محمد كريشان:
ولماذا لم يبرز اسم شاعر موريتاني يكون محل إجماع داخل الساحة العربية رغم هذا التاريخ من الشعر؟
أحمد بن عبد القادر:
أنا سبق أن قلت لكم إن التحاقنا بقافلة التنوير والتحديث مُتأخرة، ثم جاءت مع السبعينات والستينات، وأعتقد إنه بعد الستينات، بعد السبعينات لم يظهر شاعر عربي موضع للإجماع العربي ككل، لأنه بدأ تدخل البيت العربي الصورة، آلة التلفزة، وبدأ الناس ينشغلون انشغالات أخرى عن هذا الاجماع، بينما كان الشعر في الماضي وفي أوائل القرن هو الشغل الشاغل للناس، ورغم ذلك ففي تلك المرحلة لم يتخط هذا الجدار المغربي، إهدار الخمول أو التخميل المغربي إلى منابر الشرق إلا أبو القاسم وحده، وحده لا سواه.
محمد كريشان:
يعني هل هناك أيضاً حركة نقد في موريتانيا؟ يعني ما الذي، من هو الشخص الآن المؤهل حتى يحكم على مستوى الشعر في موريتانيا طالما أنه غير منتشر خارج حدود موريتانيا، وطالما أن أغلب الناس يقولون الشعر، ولكن مَنْ يُقوِّم هذا الشعر؟ من الذي يُجزم بأن هذا الشعر جيد، وهذا متوسط، وهذا قابل للانتشار خارج موريتانيا، وهذا شعر محلي؟
أحمد بن عبد القادر:
الشعر يُقوَّم على مستويين وبمقياسين، أبناء المحضرة من المسنين ومن الجيل المحضري القديم يقومون حسب ذوقهم وحسب اختياراتهم ومقاييسهم الجمالية تقليدية طبعاً، في المدينة، في الحركة الثقافية في المدينة فيه الجامعة، وفيه أساتذة نقد، فقط لم تظهر عندنا مجلة نقدية متخصصة حتى الآن، ودعني أقول لك إن النقد ما زال عندنا في بداية الطريق لأنه لم تظهر بعد مجلة متخصصة، يضاف إلى هذا الشرذمة -إن صح التعبير- لأن الشرذمة العربية لا تعني الواقع السياسي والتفرق في الآراء والأهواء، فقد تعني أيضاً في الأذواق، فالشعر أصبح يُطلق على أجناس مختلفة والنقاد انقسموا حسب ذلك،فالقصيدة العمودية ذات الجرس القوي يسميها بعض الناس (هذرمة) أو هزيان قديم لا قيمة له، لا يعتبر شعر، وهناك الجانب الآخر أناس لا يعتبرون القصيدة المنثورة شعر، فتفرق الآراء والأهواء ليس لدينا على المستوى العربي مرجعية نقدية متفق عليها، إذا ما تذكرنا مدرسة الحداثة عند أودنيس ومدرسته في النقد تنفي وجود أكثرية ما هو شعر لدينا وله أعداء يعاملونه نفس المعاملة، إن عدت إلى هنا فالنقد عندنا نقد عصري بالمقاييس العصرية، ولكنه في بداية الطريق هو الآخر.
محمد كريشان:
نعم، على ذكر أدونيس، أدونيس زار موريتانيا في فترة من الفترات وكذلك الشاعر محمود درويش، كيف تُقيِّم تفاعلهم مع الشعر الموريتاني؟ كيف وجدوه؟ أو بالأحرى كيف وجدتم مدى تجاوبهم مع ما سمعوه هنا من شعر؟
أحمد بن عبد القادر:
بالنسبة لدوريش، بالنسبة لدرويش كعادته خصصنا له أمسية لوحده، لا شاعر إلا هو، وهذه كان يفرضها على العراقيين وعلى المصريين، وعلى المغاربة، وعلى التونسيين، أفردنا له ليلة، وأفردنا ليلة للشعراء المُحيِّين له فأبدى الإعجاب وقال لي وقتها أنه وجد نفسه ومشاعره من خلال السهرات الأدبية المتنوعة قصائد حرة، قصائد عمودية كلها عن القضية، كلها تحمل مشاعر عربية، كلها تأخذ من لغة الشعر بحظها، ومن المرامي القومية بقسطها، فكان مرتاحاً، وأعتقد أنا حسب معرفتي به أنه لا يرتاح إلا إذا ارتاح لم يكن مجاملاً ولا (…)، أما أدونيس فلم أحضر زيارته كلها، إنما كانت مناورات في الجامعة حول أطروحاته وآرائه الفكرية في النقد وما إليها والثابت والتحول وما إلى ذلك كان هو كل ما عمر به وقته ولم يكن هناك أمسية شعرية، لم تكن هناك أمسية شعرية بمناسبة مجيئه إلينا.
محمد كريشان:
نعم، من بين القصائد الأكثر، ربما التي أخذت رواجاً أكثر في خارج موريتانيا، هل تذكر بعض القصائد سواءً لكم أو لغيركم؟
أحمد بن عبد القادر:
أنا كتبت قصيدة في الثمانينات من القصائد العمودية التي يسميها بعض الناقدين خطابية، وأنا أسميها شعر عمودي بأغراض عصرية، كان عندنا مؤتمر، مهرجان شعري ساهم فيه شعراء من تونس والجزائر والمغرب وليبيا قلت فيه قصيدة قلما زرت بلد عربي إلا وجدتها عند بعض الأساتذة، رغم أني لم أنشرها في كتاب.
محمد كريشان:
السفينة؟
أحمد بن عبد القادر:
لا ليست الفنية.
محمد كريشان:
ليست السفينة.
أحمد بن عبد القادر:
السفينة أكثر انتشار عند الأوروبيين لأنها تُرجمت إلى الفرنسية ترجمة جيدة، وتعالج إشكالية محلية لا يتذوقها إلا –أعتقد- الإنثروبولوجيين أكثر، لأنها تطرح مشكلة الصحراء ورحيل أهلها، الرحيل المزدوج بالسفينة، الرحيل من المكان إلى المكان بسبب الجدب والرحيل من الداخل، أي رحيل الناس عن عاداتهم وقيمهم إلى لا أدري، يعني رحيل مزدوج، القصيدة اللي إذا حبِّيت أسمعك نماذج.
محمد كريشان:
أي نعم.
أحمد بن عبد القادر:
من قصيدة مهرجان الشعر المغاربي
أحباب عند أهله
وادي الأحبة هلا كنت مرعانا
إن الحبيب حبيب حينما كان
ويا أخ البعد هل تشفيك قافية
تبوح بالنفس أنفاساً وأشجان
أفٍ على الشعر والدنيا بأجمعها
ما لم تقرب إلى الإخوان إخوانا
هون عليك فذاك الشمل مجتمع
والنجع لاقى على التحنان خلانا
إن الحمائم قد عادت مغردة
فوق الغصون وعاد البان نشوانا
أما رأيت طيور البحر حالمة
في أفقنا ترسم الأفراح ألوانا؟
فسل معللة الأنخاب هل نسيت
بعد الرحيل كؤوساً كن هجرانا؟
وسل أحباءك الآتين كيف أتوا
وكيف ناموا على الهجران أزمانا
وشائج الأرض أقوى من نوازعنا
والحر ينسى طباع الحر أحيانا
أحبابنا الأهل مرحى يوم مقدمكم
هذا لقانا فهل تنضم أشلانا؟
هذا لقانا فهل آمالنا انعتقت؟
وهل نسينا ربيع الوصل قد لانا
نريده غرسة للمجد واحدة
لروحاً يكلِّلُ عُري الأرض تيجانا
ولا نريد مواثيقاً
الاتخاد المغازي يعني..
ولا نريد مواثيقاً مطرزة
تعيش في الورق المنسي أدرانا
ولا نريد ابتسامات مؤقتة
تغشى الوجوه وتغدو بعد نكرانا
قبل اللقاء أحرف التاريخ ما عرفت
وجه الصباح ولم تطربه عنوانا
كأن (طارق) أوصانا بأندلس
شراً و(عقبة) لم يحلل مغنانا
نروي لأبنائنا فخر الجدود ولا
نبدل الشوك عبر الدرب ريحانا
وكيف ينفعنا عز الأوائل
ما دمنا بغاة وطار الغير عقبانا؟
حار الأدلاء والبيداء تبحث
عن نجم السبيل ولم تعرف له شانا
وإنما نفنحات الضاد تسعفنا
نوراً إلى الليل في بلواه أعشانا
وإذا الرياح تراتيل بغير هدى
تسبي الذي يعبر الأمواج وسنانا
وتخطف البرق من أحشاء سطوته
وتترك الغيم في علياه ظمآنا
يا غرسة المجد، هل تسقيك أغنية
من وحي (أوراس) تبري الكون ألحانا؟
وهل تجود عليك الدهر ماطلة
من القلوب تحيل الصخر وجدانا
نبه لها عمر المختار وادع لها
عبد الكريم بمازان وما صانا
ونادِ شنقيط واستنفر منابعها
والقيروان وتطواناً وغزانا
فالكرم قد عانق الزيتون في مرح
والطلح يزهو عساليجاً وأغصانا طويلة
محمد كريشان:
نعم، يعني هذا الالتزام مثلاً إذا أردنا أن نكون أكثر دقة مثلاً التطورات الأخيرة التي شهدتها موريتانيا والجدل الداخلي الذي أثاره موضوع التطبيع مع إسرائيل، هل حفز همم بعض الشعراء؟ أم ربما في مرحلة مقبلة؟
أحمد بن عبد القادر:
ما دام التطبيع ظاهرة عربية فلابد يوماً، ما أن تكون له أن يوجد أدب تطبيع، ولكن هنا لم أره بعد، لم أجد هنا أدب تطبيعي، وعندما يوجد سأجيبك بملاحظتي عليه، لا مساهمتي فيه.
محمد كريشان:
لا أقصد الأدب التطبيعي، الأدب المناهض للتطبيع.
أحمد بن عبد القادر:
قد يوجد، قد يوجد.
محمد كريشان:
لكنه لم يوجد بعد؟
أحمد بن عبد القادر:
أنا لم أتصل به لكن أعتقد أنه موجود.
محمد كريشان:
لأنه بعد القرار الأخير تحرك الساسة، تحركت الأحزاب، تحرك، إذا لم يتحرك الشعراء؟
أحمد بن عبد القادر:
أعتقد أنا شخصياً لم أتحرك.
محمد كريشان:
لماذا؟
أحمد بن عبد القادر:
ربما لم يستحق الموضوع عندي، لم يستحق الموضوع عندي.
محمد كريشان:
يعني كل الهموم العربية التي أثرتها في شعرك، الموضوع الموريتاني الإسرائيلي لم يحرك فيك شيئاً يعني هنا مفارقة ربما؟
أحمد بن عبد القادر[مقاطعاً]:
ربما..
محمد كريشان[مستأنفاً]:
ولم يحرك شعراً ربما بالتحديد.
أحمد بن عبد القادر:
على كل حال شعوري لم يحركه فأمدحه.
محمد كريشان[مقاطعاً]:
ولم يغضبك فتهجوه.
أحمد بن عبد القادر[مستأنفاً]:
وإن أغضبني فلم أتكلم عنه بعد.
محمد كريشان:
نعم، إشارتنا قبل قليل إلى قصيدة السفينة تعود بنا مرة أخرى ربما إلى ما يسمى هنا بأدب التصحر، يعني ما هو هذا الأدب بالتحديد؟ ما هي ملامحه.
أحمد بن عبد القادر:
هذه كلها ظاهرة اجتماعية أدبها، والموقع اللي تقع فيه موريتانيا هو في شمال الصحراء، شمال غرب إفريقيا، والصحراء الكبرى تشغل 40 أو 60% من البلاد الموريتانية، وهي في الشمال، وعواصف التصحر تأتي من الشمال، الصحراء تتجه.. والتصحر يتوسع جنوباً، يعني إلى ما جنوب الصحراء، والموريتانيون يشعرون بالغربة عن أمتهم ولغتهم، عن أمتهم بسبب البعد، فنحن الصحراء الكبرى تقع ما بيننا مع المغرب والجزائر وتونس، وتعزلنا عن محيطنا، وأعتقد أن مَنْ تتبع تاريخ التصحر يجد أن سكان موريتانيا كانوا قبل خمسة قرون يوجد 90% منهم على مسافة ألف، ألفين كيلو متر إلى الشمال، فكانت الصحراء.. كانت كل دورة تصحرية يعني البلد تتداوله فترات خصب وفترات تصحر، لكن كل فترة خصب تأتي بعد أن توسعت الصحراء، ولا تعوض، فتأتي الدورة الجافة فتبتعد الصحراء إلى الجنوب، فنحن كنا ندفع إلى خط الاستواء بعيداً، لأنه بلغ المنى دول غرب إفريقيا بعضهم بلغ بالمواشي أدغال إفريقيا البعيدة بحثاً عن المرعى..
محمد كريشان[مقاطعاً]:
وأيضاً انعكس في الشعر هذه الهموم بـ..
أحمد بن عبد القادر:
بالبعد وبالاقتراب من خط الاستواء البعيد علينا شوية إلى الجنوب، فكان هناك اضطراب قوي، وكنا نرحل عن أرضنا، يعبر أحد البداة تعبيراً شاعرياً جميلاً، ولكنه نثري، يقول: سلم عليه ابن عمه قال له: ماذا طرأ فيكم؟ في أرضكم؟ قال له: اللي طارئ فينا إنه فيه كثبان جديدة وتلال جديدة، معالم جديدة في الأرض، لازم تذبحوا لها كباش وتسموهها، ما تحمل أسماء، المعالم القديمة ماتت، وعندنا أصبحنا نعيش بين معالم جديدة لا تحمل أسماء، يعني يشعرون بانفصام، اجتذاه من العروق ينتج عنه قلق كبير.
قصيدة السفينة -كما تفضلتم بالحديث عنها- تمثل هذا النوع، وأفضلها:
رحلنا كما كان آباؤنا يرحلون.
وها نحن نبحر كما كان آباؤنا يبحرون.
تقول لنا ضاربة الرمل وا عجباً سفينتكم..
رفعت كل المراسي مبحرة.. ألا تشعرون؟
وهو حوار مع ضاربة رمل..
محمد كريشان[مقاطعاً]:
رمل.
أحمد بن عبد القادر[مستأنفاً]:
تخبرهم بحظوظ الفناء، أو ما يدعو للقلق..
محمد كريشان[مقاطعاً]:
هل..
أحمد بن عبد القادر[مستأنفاً]:
من قصيدة السفينة سبقتها قصيدة اسمها الكواليس، كواليس التصحر، أقول فيها:
مرت بقربي حمائم ثكلى
وردن الغدير، وسرن عطاشاً جنوباً جنوباً
يطاردن أعشاش جيل جديد
يحلق في الجو من غير ريش.
ويؤسفني في بكاء الحمام أن ضحاياه..
في عهد طوفان الرمادة أنسته ضحاياه..
في عهد طوفان نوح عليه السلام.
ويؤسفني يا سيال الرمال نور البطاح..
أن الحياة..
يعني إلى آخره.
محمد كريشان:
نعم، هل هذه المحلية الخاصة بالشعر الموريتاني وارتباطه بالبيئة هو الذي ربما يجعله لاحقاً أكثر انتشاراً، أكثر من ارتباطه بقضايا الأمة العربية والقضايا السياسية، يعني أشرتم مثلاً إلى السفينة أنها لاقت اهتمام في أوروبا لأنها تُرجمت، ربما لأنها موريتانية قحة، ولأنها محلية وخاصة بالبيئة، وأحياناً يُقال: كلما كان الأدب محلياً كلما صار عالمياً.
أحمد بن عبد القادر:
الأقطار العربية، أو الشعوب العربية على تباعدها المطلوب من كل واحد منها هو ما سيضيفه، لا ما سيأخذه من الآخرين من الأشقاء، والسؤال.. كل ما (…) خصائص هذا البلد، إبداعاته التي لا توجد في شعر مصر، ولا في شعر الحجاز، ولا في شعر.. في أي بلد هي التي سيُكتب لها البقاء، وهي المهمة، فأروي لك حكاية إني كنت مرة في طرابلس، مؤتمر اتحاد أدباء العرب، وكان فيه أستاذ عراقي يُسمى دكتور ناجي.. محامي ما أذكر اسمه، ناجي هلال أعتقد، في السبعينات، وكان ينظم دائماً إذا وصل، وحصل حضور مؤتمر اتحاد الأدباء العرب، يقول: أنا سأنظم مؤتمر الأدباء المنقح على الهامش، ويأخذ شعراء من كل قطر يبدؤون بمطارحات شعرية كل اللي بتحكيه بيت من شعر بلده، وعند اليمين يقوم هذا، مطارحة يعني، كان معي زميل من موريتانيا، فوصلت إليّ الدورة، وعليّ أن أبدأ بيت أوله ألف [أ] في المطارحة، فألقيت بيت لأحد الشعراء القدامى في موضوع غزلي يقول:
أطعت العوازل خوف الجفاء وخوف الحشيشة أن تُنتفَ
فصاحبي غمزني قال لي: هذا ليس فصيحاً، فمدير الندوة قال: أعد البيت واشرحه لنا. قلت له: هذا شاعر يحب زوجته ويكرمها، وله تعلق بغيرها، ويعيره العُزَّال ألا يمنح قلبه لغير زوجته، فقال:
أطعت العوازل خوف الجفاء وخوف الحشيشة أن تُنتفَ
عندنا مثل شعبي يقول: "نتفوا الحشيشة بينهم.. يعني كان بيت.. الزوج إياه كان شاب، حوله خيمة أصهاره بينهم حياء، يجعلون ساتر من الحشائش بينهما، للحياء بس باب الحياء، فإذا وقعت بينهم مشاجرة أو مشادة تنتف الحشيشة يعني تنتزع المهابة بينهم، فاستنبط الشاعر الفكرة من هذا المثل الشعبي الذي لا يوجد له نظير هناك، بل هو محلي هنا.
أطعت العوازل خوف الجفاء وخوف الحشيشة أن تُنتفَ
فكان.. أن كانت الخلاصة أمر مطلوب من كل حركة أدبية وكل شعراء كل قطر هو إغناء العرب بما سيرفدونه به المجرى العام بما يأتي من الروافد، نحن روافد، كل قطر يعني رافد، فأنا معك أن ما ركز على الخصائص هنا هو اللي يحكم له البقاء، أما الآخر فيجمعنا مع الآخرين، ولكن ليس بالعمق نفسه.
محمد كريشان:
على ذكر المطارحات، يعني أحياناً يُذكر بأن بعض الشعراء في موريتانيا بإمكانهم أن يرتجلوا على الفور قصيدة ما أو أبياتاً ما، هل هذا يمكن أن يكون إبداعاً شعرياً له مقومات الإبداع الحقيقي؟ يعني هذا الارتجال الفوري هل هو مفتعل؟ هل هو فعلاً حقيقي، ويدل عن موهبة خاصة؟
أحمد بن عبد القادر:
الارتجال الشعري من قطعة.. من خمسة أبيات.. ستة شيء معروف عند العرب. والارتجال يأخذ دقائق، إذا كان الإنسان منفعلاً، إذا كان موضوع يعني موضوعاً يحس به إحساساً خاصاً يرتجل، لكن هذا الارتجال لم يعد اليوم، هذا في الماضي، في الصحراء هنا الماضية كانت للشعراء وللناس عقليات وحاضرات وحاجات لا نفهمها نحن هذا اليوم، كانت أشبه بحياة الجاهليين العرب القدماء، وكان مردودها الارتجال، يدل على سرعة البديهة والدربة، وعلى –أيضاً- حساسية.. أهمية، حساسية خاصة للموضوع في نفس الشاعر، إذا كان غضبان في موضوع مفاخرة، أو إذا كان عاشقاً وهدَّه البين بالحزن، هذا من الشاعر استذكرت اللي الآن بيتاً من شعره يُقال: إنه ارتجل أربعة أبيات أو خمسة عندما رأى حبيبته ترحل من حيه إلى حي آخر، قال.. ارتجل:
أتمسك دمع العين وهو يروف
أتأمن مكر البين وهو مخوف وتمسك دمع العين وهو يروفُ تكلم منا البعض والبعض ساكت غداة افترقنا والوداع صنوفُ
حلفت يميناً..
وآلت بنا الأحوال آخر وقفة إلى كلمات مالهن حروفُ
حلفت يميناً لست فيها بكاذب بعقبى الحانثين عروفُ
لئن وقف الدمع الذي كان جارياً إذا الماء مور مالهن وقوفُ
هذا ارتجال وهذا الشعر مقبول.
محمد كريشان:
سيد أحمد، وتحدثنا عن الهموم المحلية والهموم العربية في الشعر الموريتاني، ولم نتحدث عن مكانة المرأة في الشعر الموريتاني، المرأة لها وضع خاص ومتميز في موريتانيا، كيف انعكس ذلك على الشعراء، سواء في غزل أو في غيره من المواضيع؟
أحمد بن عبد القادر:
كان الشعر الغزلي منتشراً، وفي المجتمع القديم.. في المجتمع القديم كان الشعر الغزلي كثير، وكان أوسع الأنواع الشعرية..، الأساليب الشعرية من حيث استقبال المتلقي، وكان الشعر العربي عندنا الغزلي شعر يميل للعذرية، كان شعراؤنا الأوائل تلامذة للجاهليين في لغتهم وتلامذة للعذريين الإسلاميين في أسلوبهم، ولم يكن.. ولكن كان هناك نوع من التقليد إنه لا يمكن أن تمدح أحداً، أو تهجو أحداً، أو ترثي ميتاً، أو تمدح الرسول إلا بمقدمة غزلية.
محمد كريشان:
يعني هل فقط اختصر الأمر على التعاطي مع المرأة في موريتانيا على قضايا الغزل دون غيرها أم امتد إلى قضايا أخرى؟
أحمد بن عبد القادر:
كان عندنا في الستينات شعر لشاعرات يطالبن بتحرر المرأة ومساواتها مع الرجل، ولكن هذا حديث.
محمد كريشان:
ماذا عن شعر المرأة المتغزل –أحياناً- بالرجل المعروف هنا في موريتانيا (بالتبراع)؟
أحمد بن عبد القادر:
هذا عندنا بالحساني، هذا عندنا بالعامي، تغزل المرأة بالرجل بنوع من الشعر الشعبي الخاص، وبالعربي لا يوجد.
محمد كريشان:
لا يوجد.
أحمد بن عبد القادر:
لا يوجد، والله إذا كان قد وُجد فهو نادر، يوجد بالعامي.
محمد كريشان:
المعروف بس بالتبراع. يعني مثلاً بالنسبة إليك هل كانت المرأة لها حضور خاص في شعرك أو في شعر الجيل الذي تنتمي إليه من الشعراء؟
أحمد بن عبد القادر:
أنا المرأة أجلها كثيراً، وتبهرني كثيراً، لأنها هي إنسان، وهي نصفنا الآخر، وهي جمال، وهي أمومة، وهي روعة، لكنني لم أكن -حسب التجربة- متغزلاً كثيراً، لم أكن متغزلاً، ربما لأني أيام نضوج كتابتي للشعر كنت في التزامات سياسية واجتماعية.
محمد كريشان[مقاطعاً]:
لم يكن لديك وقت للمرأة.
أحمد بن عبد القادر[مستأنفاً]:
لم يكن.. يعني نراه نوعاً من الترف الذي لا داعي له، وله مَنْ يقومون به، مرة دعوني بعض الجماعات وهذا من باب الارتجال ولم تكن من زمن بعيد، زمن قريب دعاني أصدقائي في ملتقى في حفل أكتب لنا غزلاً، أكتب لنا غزلاً ولازم أن تُضيف إلى دواوينك شيئاًمن الغزل فارتجلت بيتين:
قالوا تغزل فالحياة خميلة والقلب يندى بالجمال ويورقُ
فرفعت عودي كي أبوح وإنما عفت الديار فلا مليح يُعشق
محمد كريشان:
من بيتين فقط لاغير.
أحمد بن عبد القادر:
شطر مضمن تقريباً، كفاية فيه بركة.
محمد كريشان:
سيد أحمد ولد عبد القادر شكراً جزيلاً.
أحمد بن عبد القادر:
شكراً لكم وللجزيرة.