السيد ولد أباه
ضيف وقضية

التجاهل العربي لموريتانيا

يعتب الموريتانيون على العرب جهلهم أو تجاهلهم لهم من قبل، في حين قد يرد العرب بالقول إن الموريتانيين مقصرون بدورهم في التواصل مع الآخرين، وأنهم-عمومًا- لا يبذلون جهدا كافياً للتعريف بقافتهم خارج الحدود.

مقدم الحلقة

محمد كريشان

ضيف الحلقة

د. السيد ولد باه، أستاذ الفلسفة بجامعة نواكشوط

تاريخ الحلقة

18/09/2000

undefined
undefined

محمد كريشان:

في موريتانيا عتاب يعبر عنه أهل البلد بالقول: إنه جهل أو تجاهل من قبل بقية العرب لهم.

في حين قد يرد هؤلاء بالقول: إن الموريتانيين مقصرون بدورهم في التواصل مع الآخرين، وأنهم -عموما- لا يبذلون جهدا كافيا للتعريف بأوجه مختلفة من ثقافتهم خارج الحدود.

القضية قد لا تكون مطروحة بمثل هذه الحدية بين رأيين متناقضين، ولكنها تبقى مطروحة على كل حال، وتحتاج لمن يتناولها في سياقها التاريخي القديم منه والحديث.

ضيفنا لهذا الأسبوع هو الدكتور السيد ولد باه أستاذ الفلسفة بجامعة نواكشوط.

صوت معلق:

دكتور السيد ولد باه

– دكتوراه في الفلسفة المعاصرة من جامعة تونس عام 92.

– أمين عام منتدى الفكر والحوار بموريتانيا

– عضو منتدى الفكر العربي بالأردن

– عضو الجمعية الفلسفية العربية

– عضو المنظمة العربية لحقوق الإنسان بمصر

– له العديد من الكتب والدراسات في الفلسفة والفكر العربي الحديث والدراسات الاستراتيجية والاجتماعية وصاحب مقالات في بعض الصحف العربية المرموقة.

محمد كريشان:

دكتور السيد ولد باه أهلا وسهلا.

د. السيد ولد باه:

مرحبا.

محمد كريشان:

إذا أردنا أن ننطلق في قضية هذا الأسبوع من وصف دقيق هل هو غياب موريتانيا عن الساحة العربية؟ هل هو تغييب؟ هل هو تهميش؟ كيف تصف الموضوع بشكل أدق؟

د.السيد ولد باه:

في الحقيقة العبارة التي أعتقد أنها أدق هي أنها نوع من انعدام أو محدودية التواصل، لا أقول: غيابا كاملا، ولا أقول: تغييبا كاملا، وإنما أقول في الحقيقة أن هناك محدودية في التواصل.

وتحضرني هنا إشارتان مقتضبتان.. الإشارة الأولى من كتاب (ياقوت الحموي) المشهور "معجم البلدان"، في هذا الكتاب عندما كان يتحدث عن بلاد السوس -وهي في جنوب المغرب- قال: وبعد ذلك بحر الرمل وليس وراء ذلك شيء يعرف.

محمد كريشان:

وليس وراء ذلك؟

د. السيد ولد باه:

وليس وراء ذلك شيء يعرف، فبحر الرمل هو هذه الصحراء التي تفصل بين الحواضر المغربية الجنوبية وبين هذه المنطقة التي كانت تسمى عدة تسميات، لعل أشهرها كانت بلاد شنقيط.

فهذا يعني أن ذاكرة العالم أوانها لم تكن تعرف شيئا جنوب الصحراء المغربية، أي الحواضر المغربية الجنوبية كل هذه منطقة الصحراء الموريتانية.

أما الإشارة الثانية فهي لأحد علمائنا الأجلاء وهو أحمد بن الأمين الشنقيطي وهو أحد العلماء الذين رحلوا إلى المشرق العربي في نهاية القرن المنصرم، وكان أحد فرسان النوادي الأدبية والفكرية في مصر أوانها، والذي يذكر في كتابه "المشهور الوسيط لتراجم أدباء شنقيط" أنه عندما كان يوما مع بعض أبرز أدباء مصر سألوه: هل في بلادكم أدب وشعر؟ وهل تتكلمون اللغة العربية؟ فأخذته الحمية لبلاده فكتب كتابا من ذاكرته ترجم فيه لعشرات بل مئات الشعراء، وأيضا أورد ما يزيد على عشرة آلاف بيت من الشعر العربي.. أورده كله من ذاكرته حتى يقدم للآخرين هذه الصورة الناصعة عن بلاده.. في الحقيقة هناك -دائما- موريتانيون مثقفون موريتانيون من بدء هذا العصر الحديث انتابهم دائما هذا الشعور تجاه أشقائهم العرب أنهم مجهولون أو متجاهلون، وهذه الصورة تتجذر أكثر فأكثر في العصر الراهن، بعدما تزايدت فرص الاتصال والتواصل بين الموريتانيين وأشقائهم العرب.

محمد كريشان:

أشرتم إلى الجهل والتجاهل، ما هو الرأي السائد أكثر من غيره هل هو جهل بموريتانيا أم تجاهل لها؟

د.السيد ولد باه:

في الحقيقة الرأي السائد أو الاتجاه السائد لدى الموريتانيين أن هناك جهلا، وأن هذا الجهل قد لا يكون مقصودا في نواحي كثيرة منه، وهذا له عدة أسباب موضوعية يمكن أن نقف عند بعضها، من هذه الأسباب: الانقطاع الجغرافي، فإذا كانت الصحراء هي العنصر الواصل أو المجال الواصل بين العرب بمشرقهم ومغربهم إلا أن هذه الصحراء الموجودة هنا كانت صحراء عازلة، صحيح كانت هناك قوافل تجارية تربط ما بين المدن الموريتانية العريقة إلى طريق القوافل التجارية المعروفة التي كانت تمتد من الحواضر المشرقية مرورا بقيروان بسجلماسة بفاس وبشنقيط وودان وولاته في شرق البلاد، هذه الطرق كانت موجودة، وهي طرق تجارية وطرق أيضا تبادل علمي وثقافي وفكري.

ولكن هذه الصحراء بطبيعتها كانت صحراء عازلة، بحيث أن هذه البلد تحولت في مرحلة معينة إلى نوع من المحمية، صحيح محمية تستوعب هجرات عربية متواصلة متعددة، محمية فيها علم، فيها حضارة، فيها ثقافة، ولكنها مع ذلك محمية معزولة إلى حد ما عن المنطقة عن قلب الدائرة العربية، مع أيضا اللحظة المعاصرة نجد أن المشروع الاستعماري -وهذا واضح في الأدبيات الاستعمارية- رمى إلى خلق منطقة عازلة تعزل بين موريتانيا.. تعزل على الأصح بين منطقة شمال إفريقيا ومنطقة غرب إفريقيا، باعتبار أن هذه القنطرة الواصلة بين المجالين المجال العربي المسلم والمجال الإفريقي المسلم، هذه القنطرة يجب أن يقع احتواؤها، وأن يقع خلق منطقة عازلة تكون معزلا بين منطقة شمال إفريقيا ومنطقة غرب إفريقيا، فهذا الدور هو اللي رسمه الفرنسيون بهذه المستعمرة التي أنشأوها وسموها بموريتانيا، ونحن اليوم نحتفل بأيامنا هذه، والحق لا نحتفل، وإنما نتذكر ذكرى مرور قرن على صدور المرسوم الفرنسي المنشئ لمستعمرة موريتانيا.

محمد كريشان:

ولكن قيام موريتانيا أيضا كجمهورية مستقلة حفت به خلفيات تاريخية محددة ربما ساهمت بدورها في هذه العزلة أو في هذا الجهل.

د.السيد ولد باه:

هذا صحيح، طبعا نشوء الدولة الحديثة في موريتانيا نفسه واكبته أزمة هوية كبيرة، فحتى قبل سنوات قليلة من استقلال موريتانيا لم تكن هناك استراتيجية واضحة حتى لدى المستعمر نفسه في مستقبل هذا الكيان، هل سيكون دولة مستقلة؟ هل سيكون جزءا من منطقة فرانكفونية غرب إفريقية؟

هل سيكون مجالا صحراويا مستقلا تنتمي إليه الصحراء الجزائرية أوانها وهي تحت الاستعمار وجوانب من الصحراء المغربية وصحراء مالي؟ أي دولة ما سماه الفرنسيون (دولة البياضين- البيادين) أي عرب الصحراء فكانت هناك عدة مقترحات مطروحة في مقابل حركة التحرير الوطنية أوانها.

إذن طالبت بنوع من التوحد بالإطار المغاربي أو الإطار المغربي -على الأصح- الضيق، فكان هناك نوع من التناقض بين عدة مطارحات وعدة أطروحات حول مستقبل هذا الكيان السياسي، بحيث أن مطلب الاستقلال لم يتضح بصفة واضحة إلا في نهاية سنة 59، أي في أقل من سنة قبل استقلال موريتانيا.

فكل هذا خلق أزمة هوية، هذه الأزمة تواصلت بعد استقلال البلد، ما هو هذا البلد؟ ما هو موقعه؟ هل سيكون جزءا من الأمة العربية؟ هل سيكون جزءا من منظومة غرب إفريقيا- فرانكفونية-؟ ما هو موقعه في هذا السياق؟

وتعرفون أن البلاد العربية تقريبا كلها باستثناء تونس أوانها لم تعترف بموريتانيا وأيدت المطلب المغربي الذي اعتقد أن هذا البلد جزء من المملكة المغربية، وينتمي إليها تاريخيا.

كل هذه الأسباب تفسر أزمة الهوية السياسية لهذا البلد، التي تواصلت عقودا متعددة قبل أن تحسم في الحقيقة، والآن أعتقد أنها حسمت من حيث الهوية السياسية، ولكن بقيت رواسب من هذه الصورة الغائمة في إخواننا العرب الآخرين.

محمد كريشان:

يعني هذه الرواسب -برأيك- إلى أي مدى يمكن أن تمتد حتى تصبح الصورة صافية وناصعة، ويمكن التغلب على العوائق الموضوعية حتى يصبح هناك نوع من التواصل؟ لأنه –مثلا- المعروف بأن العديد من الموريتانيين سواء تاريخيا أو حتى في العصر الحديث سافروا إلى المشرق العربي، ودرسوا هناك أو في المغرب العربي -أقطار عديدة- ولكن لم نسمع في الحقيقة بانتقال معاكس، لم نسمع عن عرب أتوا إلى موريتانيا أو استقروا فيها أو كانت لهم فيها مساهمات سواء في المجال العلمي أو غيره، هل هذا الانطباع صحيح على الأقل؟

د. السيد ولد باه:

في الحقيقة هو انطباع صحيح في بعض جوانبه، ولكن عندي بعض الملاحظات:

أول شئ يجب أن نعرف أن الهجرات العربية تواصلت بطرق متسارعة جدا في بحر تقريبا القرن الثاني عشر الميلادي حتى القرن السابع عشر، فسجلت هجرات بشرية متواصلة وسريعة وكثيفة.

وقد انعكس هذه الهجرات العربية على التعرب الثقافي في البلد، فنحن نعرف أن هذه البلد في تركيبته الأصلية يضم مجموعات من القبائل الصنهاجية، هذه القبائل الصنهاجية لا نريد أن ندخل في عروبتها العرقية أم لا، ليس هذا مهما، المهم أن هذه القبائل الصنهاجية اضطلعت بدور رئيسي في نشر الإسلام وإرساء التقاليد الثقافية العربية، وتكفي الإشارة هنا إلى دولة المرابطين التي انطلقت من هذه الشواطئ (شواطئ نواكشوط) وامتد تأثيرها بل امتد نفوذها إلى -حتى- باقي مناطق المغرب العربي والمناطق الأندلسية، على الأقل المغرب الأقصى والأندلس.

بعد ذلك تواصلت الهجرات العربية، بحيث أنه في القرن السادس عشر أصبحت البلاد تحكمها مجموعة من الإمارات من قبائل بني حسان، هذه القبائل التي واكبت هجراتها من الصعيد المصري هجرة بني هلال (قبائل بني هلال) التي امتدت إلى كل منطقة المغرب العربي وشمال إفريقيا، وهذه الهجرات البشرية المتواصلة الكثيفة انقطعت منذ بروز المشروع الاستعماري، هذا المشروع الاستعماري الذي كان من أهدافه الرئيسية والمعلنة كبح هذا التواصل بين هذه المنطقة وجذورها القومية والثقافية والحضارية، وهذا انعكس طبعا بالسلب على الهجرات العربية، وتقلصت الهجرات القادمة من المشرق العربي، وفي المقابل رغم وجود قوافل الحج، رغم الرحلات التي يقوم بها العلماء الشناقطة إلى المشرق العربي إلا أن التواصل ظل محدودا في القرنين الأخيرين قبل استقلال موريتانيا وبداية انفتاحها على مجالها العربي في فترة متأخرة.

محمد كريشان:

يعني -ربما- هناك مفارقة، الشناقطة كان لهم بصمات واضحة، وتركوا بصمات واضحة في المشرق العربي في وقت كان فيه عالم الاتصال عالم محدود، الآن العالم تغير بطبيعة الحال، في موريتانيا نخبة سياسية وثقافية لا بأس بها ومعروفة على هذا المستوى، ولكن ظلت محلية في عالم أكثر انفتاح، في حين خرج غيرهم في عالم أكثر انغلاق، هل هي مفارقة يعني؟

د.السيد ولد باه:

هي فعلا مفارقة، ودائمًا أقف عندها، كيف يعني هناك انزياح بين هذه الصورة المشرقة للعلماء الشناقطة وبين صورة المثقف الموريتاني في المرحلة الراهنة، فلا تجده في أي من الحواضر ومراكز الإشعاع الثقافي العربي يجسد في أي منها جهل لصورة الشنقيطي، الشنقيطي كرجل متعلم كرسول حضارة ورسول قيم ومرتبط بمجموعة من القيم الإيجابية، اشتهر في.. دور شناقطة معروف في مصر، في الخليج، في منطقة الجزيرة العربية، هذه أدوار معروفة، ولكن في المقابل المثقف الموريتاني اليوم والثقافة الموريتانية اليوم تشهد نوعا من الانتعاش الملموس، ولكن رغم ذلك لا نجد أثرا حقيقيا، ولا نجد صورة.. الصورة نفسها المشرقة لا نجدها في الوعي والمخيال العربي اليوم، طبعا هذا أسبابه متعددة، من بين هذه الأسباب العامل المادي المتعلق بالنشر، يعني البنية التحتية للنشر في موريتانيا لا تزال البنية التحتية محدودة جدا وهشة جدا، بحيث أن الكتب التي تصدر عن موريتانيا، وتصدر لمؤلفين موريتانيين ما زالت نادرة وقليلة في السوق العربية، هذا من الأسباب.. هناك سبب آخر يتعلق بالمجال الإعلامي، الثقافة اليوم صارت مرتبطة بأدوات الاتصال، طبعا الاتصال السمعي والبصري.. إلى آخره. هذه هناك محدودية وهشاشة في هذه الأدوات في موريتانيا، طبعا هناك حضور للمثقفين الموريتانيين في المهرجانات الأدبية، في اللقاءات الفكرية، في المنتديات العلمية.. إلى آخره، هناك الآن صارت نسبة كبيرة جدا من الطلاب الموريتانيين في المشرق العربي وفي مغربه كذلك، هناك الصورة بدأت تتغير وتتحسن بصفة ملموسة، ولكن بصفة بطيئة.

محمد كريشان:

يعني هل تلمس أوجه شبه بين أطراف البلاد العربية، سواء في المغرب أو من ناحية القرن الإفريقي؟ أنه كلما اقترب التماس بين البلاد العربية والبلاد الإفريقية كلما قل التواصل، وكلما أصبح الوضع الاقتصادي أكثر صعوبة يعني في فترة من الفترات حتى عندما التحقت دول مثل الصومال مثلا بالجامعة العربية طرحت تساؤلات بعضها ينطوي حتى على الكثير من الاستهزاء حول مدى عروبة الصومال، طرحت منذ قليل قضية الهوية بالنسبة لموريتانيا، ربما ليست مطروحة بالحدة التي تطرح بها قضية الصومال، ولكن هل ترى أوجه تشابه بين الطرفين؟

د.السيد ولد باه:

أنت هنا تمس جرحا نازفا بالنسبة للسكان الموريتانيين، هنا أشير فقط من باب التذكير إلى أن الموريتانيين -وهم أصحاب ذاكرة قوية- يتذكرون عبارات فيها بعض التجريح كلما قورن وضع هذا البلد مع أوضاع بلدان عربية سميت بحسب اصطلاحات الجامعة العربية بلدان عربية ذات الأوضاع الثقافية خاصة، ونعني هنا طبعا البلدان الصومال وجيبوتي، وبعدهما الآن جزر القمر، هذه البلدان لها عمقها الإسلامي، وبها وجود ثقافة عربية، ولكن ليست بلدانا ناطقة باللسان العربي.

محمد كريشان:

بنسبة كاملة على الأقل.

د.السيد ولد باه:

على الأقل بنسبة كاملة، يعني اللغة اللغة الصومالية أنها ليست لغة من اللغات ليست مشتقة من اللغة العربية، وكذلك اللغات الجيبوتية، الآن وقعت نوع من التصادف في انتماء على الأقل اقتران في الزمن بانتماء موريتانيا للجامعة العربية وانتماء هذين البلدين الإفريقيين في القرن الإفريقي، فصارت الصورة دائما أن تربط موريتانيا بالصومال وبجيبوتي.

بحيث أذكر أن الكاتب المصري المعروف محمد حسنين هيكل الصحفي المعروف والكاتب في إحدى المقابلات المنشورة معاه سنة 79 تحدث عن مصر وقال: مصر ليست كمثل البلدان التي أفسد دخولها الجامعة العربية مثل موريتانيا والصومال وجيبوتي، فهذا من الحساسيات التي تطرح عند الموريتانيين بصفة حادة، طبعا موريتانيا مسألة الهوية الثقافية والقومية محسومة فيها مطلقا، ولم تطرح يوما من الأيام، وإنما كانت الهوية السياسية والاستراتيجية لهذا البلد هو الذي كان.. هذا الموضوع هو الذي كان مطروحا ببعض الحدة.

أما موريتانيا فمن ناحية الانتماء الثقافي ومن ناحية الانتماء القومي فلا أعتقد أن مشكلة الهوية كانت مطروحة بالنسبة لها على الأقل بالنسبة للمثقف العربي العادي، لا أتحدث هنا عن العامة.

محمد كريشان:

أشرت قبل قليل إلى الانتماء القومي، يعني المعروف عن موريتانيا وجود تيار قومي عروبي لا بأس به، انتعش في فترات وخبا في فترات أخرى حسب الظروف، ما يهمنا هنا ليس الانتماء السياسي، ولكن التيار كتيار فكري في موريتانيا.. هل هذا التيار ساهم أكثر من غيره في مد الجسور مع البلاد العربية أم اقتصر نشاطه على ربما على التحركات السياسية أكثر منه العمق الاجتماعي والثقافي في البلاد؟

د.السيد ولد باه:

هذا يتعلق بالمراحل، طبعا التيار القومي العربي نشأ في إطار حركة التحرير الوطنية، التي لا تختلف من حيث الخلفية ومن حيث السياق عن حركات التحرير في بلدان المغرب العربي الأخرى، فمن بين الصفحات المجهولة في تاريخ حركة التحرير المغاربية دور الحركة الوطنية الموريتانية التي نشأت في نفس الظروف يعني في مطلع الخمسينات، واحتضنتها القاهرة مثلما احتضنت حركة التحرير في المغرب والجزائر وتونس، وكان زعيم تيار الحركة الوطنية وقتها حرمة ببانا قبل أن يلتحق بالمغرب كان موجودا في مصر.

فهذه حركة التحرير رفعت الشعار القومي العروبي، ليس بالمعنى الأيديولوجي الذي عرف في الساحة المشرقية، وإنما هو تأكيد الانتماء العروبي لهذا البلد وهو انتماء ثقافي وحضاري في مقابل المشروع الاستعماري الذي ذكرته آنفا.

طبعا في مرحلة ثانية نشأت بعض التنظيمات، كان من أول هذه التنظيمات حزب النهضة الوطنية الذي نشأ في الخمسينات، وهذا الحزب رفع الشعار القومي، وطالب بتجذير الانتماء العروبي للبلد، وبعد سنوات الاستقلال شهدت الساحة الموريتانية مثلما شهدت تأهيلات كل التيارات الأيديولوجية التي عرفتها الساحة العربية، شهدت تنظيمات قومية من مشارب شتى لها حضورها السياسي، ولها كذلك أدوارها الثقافية التي لا تنكر.

محمد كريشان:

يعني مثلا على سبيل المثال موضوع اتحاد المغرب العربي يعني كان عادة عندما يشار إلى المغرب العربي عموما يشار إلى المغرب والجزائر..

د.السيد ولد باه:

وتونس.

محمد كريشان:

تونس والجزائر والمغرب، وغالبا يسقط اسم موريتانيا عندما تأسس هذا الهيكل اتحاد المغرب العربي، هل برأيك أضاف شيئا ما في هذه القضية؟ هل نوعا ما أثر الانتماء الموريتاني بشكل واضح، وبالتالي خدم قضية ارتباط موريتانيا بمحيطها؟

د.السيد ولد باه:

بدون شك اتحاد المغرب رغم كل الملاحظات التي يمكن أن نقدمها حوله، إلا أنه بالنسبة لموريتانيا كان على الأقل من الناحية الإعلامية كان طريقة مثلى لتأكيد الموقع الفعلي لموريتانيا في سياقها الإقليمي، فالاتحاد المغاربي نظر إليه في هذا البلد ليس من حيث أبعاده السياسية الآنية المباشرة، أي الأبعاد التي ظهر أنها كانت عقيمة إلى حد الآلة، ولكن نظر إليه كإطار انتماء، خصوصا أنه ظهر هذا الاتحاد في مرحلة بدأت فيها بوادر التوتر بين موريتانيا وجارتها الجنوبية في سياق التطورات التي شهدتها العلاقات فيما بعد بين موريتانيا والسنغال.

محمد كريشان:

من يزور موريتانيا يشعر بأن فيها نخبة سياسية جيدة، نخبة فكرية، نخبة شعراء، كتاب، يعني النخبة بشكل عام، ولكنها وكأنها ارتضت لنفسها بالبقاء في هذا الإطار الموريتاني الضيق، ولم تطرح على نفسها الانتشار أو لعلها لا تعتقد –أصلا- بجدوى هذا الانتشار، هل هناك إشكال في هذا الموضوع؟

د.السيد ولد باه:

هذا على كل من بين العوامل، معروف ميل البدوي إلى الانكفاء على الذات، هذا معروف، البدوي بطبعه منكفئ على ذاته، ولكن هناك عوامل موضوعية -أيضا- لا بد أن نوجه إليها النظر من ضمن هذه العوامل الموضوعية أن إسهام الموريتانيين في الإنتاج الثقافي تمحور حول إطارين رئيسيين:

الإطار الأول: هو الشعر أو المجال الأول هو الشعر، فالثقافة الموريتانية فيها نوع من الأولوية للإبداع الشعري، وقد عرف الموريتانيون بهذه الصورة التي شاعت مشرقا ومغربا، وأنها هذه البلاد هي بلاد المليون شاعر، فالشعر الموريتاني لم يجد طريقه إلى النشر حتى الآن، رغم وجود آلاف الدواوين المطمورة التي لو اطلع عليها لظهرت صورة مغايرة لهذا البلد، بحيث أن بعض النقاد ومنهم أحد النقاد المصريين كتب بعض النقاد المصريين كتب مقالة في السبعينات في مجلة العربي الكويتية بعدما اطلع على بعض عينات هذا الشعر العربي لكي يقول: إن هذا الشعر لو عرف لوقع تصحيح للنظرية النقدية حول تاريخ الشعر العربي، ففي الوقت الذي كان هناك ما يسمى بعصور الانحطاط في المشرق العربي كانت هناك نهضة شعرية في هذا البلد، واعتبر أن هذا الشعر حلقة مفقودة في تاريخ الشعر العربي ثم المجال الأول الذي أبدع فيه الموريتانيون أكثر من غيره كذلك هو مجال الدراسات الفقهية، وهذا مجال كذلك ربما يكون اطلاع الإخوة في المشرق العربي عليه أكثر من غيرهم نتيجة لبعض العلماء الأعلام الذين نشرت لهم أعمال متعددة في المشرق العربي.

محمد كريشان:

هل تستحضر بعض الأسماء مثلا؟

د.السيد ولد باه:

طبعا معروف محمد الأمين ولد محمد مختار الشنقيطي وهو أحد الأعلام المشهورين في الخليج وفي الجزيرة العربية، وكان أحد الأئمة الكبار في المدينة المنورة، ومثل -قبله- سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم، وهو أيضا مؤلف أصولي معروف وغيرهم كثر جدا، محمود أحمد بن التلاميد الذي أيضا اشتهر في القاهرة وصحح لسان العرب، وكانت له.. يذكره (طه حسين) في (أيامه) و(الزيات) إلى آخره، فهؤلاء رسل الثقافة الموريتانية للمشرق العربي، معروفون جدا، ولكن معروفون لدى الخاصة، ولدى النخبة المتخصصة في الدراسات الإسلامية، أو الذين لهم اطلاع واسع في الشعر العربي.

طبعا هنا أشير فقط إلى أن الناقد المصري المعروف (شوقي ضيف) صحح بعض الشيء هذه الصورة عندما أصدر في إطار سلسلة حول تاريخ الأدب العربي كتابا خاصا بشعر الصحراء أو الشعر الموريتاني بصفة خاصة.

محمد كريشان:

يعني هو -ربما- يكون سؤالنا افتراضيا هل الوضع الاقتصادي الصعب لموريتانيا أيضا لعب دورا؟ يعني -ربما- لو كانت موريتانيا بلدا غنيا نفطيا أو غيره لما كان -ربما- السؤال يُطرح عن تهميش أو غياب موريتانيا، هل هذا الجانب -أيضا- جانب محدد إلى حدٍ ما؟

د.السيد ولد باه:

بالتأكيد هذا جانب له دوره الرئيس والذي لا ينكر، والله تذكرني فقط طرفة، في مرة كنت في ندوة فكرية عربية، وقدم لها أحد الإخوة ورقة حول أوضاع المغرب العربي من الناحية السياسية، بس المعلومات كلها التي وردت حول موريتانيا معلومات من أغرب ما يكون، معلومات ملفقة وزائفة وليست حتى تستند إلى أي مصدر علمي موثوق به.

افترض مثلا أنه يتحدث عن نسبة مسيحيين في موريتانيا، رغم أن موريتانيا بلد مسلم 100%، يتحدث عن نسبة 3% من البربر غير المتعربين، وهذا لا يوجد أبدا في موريتانيا، لا يوجد أي عنصر لا ينطق اللغة العربية، عنصر بربري لا ينطق اللغة العربية أبدا، فتعرب المجموعات الصنهاجية قد تم منذ أكثر من قرن أو قرنين، فعندما بدأت أتحدث وأطيل الحديث كان هناك أحد الإخوة من كبار المفكرين العرب قال لي: لا تبتئس هذا ليس مهما، كلامك كله غير مهم، لو كان عندكم بير واحد من البترول لحللتم كل مشاكلكم.

في الحقيقة هذا أيضا له دور رئيسي، الثقافة الموريتانية الآن لا تزال حبيسة المخطوطات، وأعطيك مثالا واحدا، لو تتصور أن في معهد المخطوطات في موريتانيا ما يزيد على ستة آلاف مخطوط، وأن هذه المخطوطات الستة آلاف لم تجد من يعين على حفظها إلا التعاون الفرنسي والإسباني، وأن المنظمات الثقافية العربية والجهات الثقافية العربية دورها ضئيل جدا في الحفاظ على هذا التراث الموريتاني وفي نشره، رغم كل المحاولات التي قدمت من أجل استمالة هذه الأطراف، فهذا عندما يذكره الموريتانيون يذكرونه بعتب شديد على إخوتهم في المشرق العربي وفي البلاد العربية كلها الذين لا..، ليس عندهم الصورة كاملة حول الدور الكبير الذي اضطلع به هذا البلد في خدمة الثقافة العربية وحفظها ونشرها جنوبا.

وأنا كتبت مرة مقالة فيها نوع من الاستغاثة في إحدى الصحف العربية الكبرى قلت فيها: "دعوة عاجلة لإنقاذ المخطوطات الموريتانية"، وذكرت فيها أن هناك مكتبة واحدة مكتبة عائلية في مدينة شنقيط تحتوي على أكثر من 2000 مخطوط، بعضها مخطوطات نادرة عرضة اليوم للتلف، لأنها لا تتمتع بالحد الأدنى من الحماية، وهذه الصيحة ظلت صيحة يائسة لم يستجب لها أحد.

محمد كريشان:

يعني على ذكر المقالات ربما أنتم من القلائل من الموريتانيين الذين لديهم مساهمات ثابتة في الصحف العربية، يعني لماذا لم نجد كتابا آخرين من الموريتانيين يساهمون في حركة أصبحت حركة إعلامية نشطة منذ سنوات، سواء على صعيد الصحافة المكتوبة أو الآن مؤخرا على صعيد الفضائيات؟ يعني هل هناك -أيضا- تقصير في محاولة الخروج من حدود الوطن الضيق؟

د.السيد ولد باه:

هذا صحيح، ولكن هذه المرة سأحاسب نفسي وأحاسب.. أنا أعتقد أن هذه المرة يجب أن نقوم بنقد ذاتي، أيضا الموريتانيون لم يقوموا بدور حقيقي للتعريف بأنفسهم، النخبة الثقافية الموريتانية نخبة نشطة وحية ومتعلمة، ويكفي وأنا أدرس في الجامعة أن أقول لك أن عدد الأساتذة في الجامعة يتزايدون على الأقل بالثلث كل سنة، وأنه صارت هناك فعلا نخبة أكاديمية ونخبة ثقافية جيدة ومتعلمة، وأن تجربة الصحافة الحرة المتعددة التي أطلقت منذ قبل سبع سنوات أيضا أثبتت أن هناك أقلام صحفية قوية وجريئة ولها مستقبلها، لكن هناك حاجز نفسي لدى الشخص الصحراوي في أنه لا يتحدث عن نفسه، وعنده ميل للانطواء وللانكفاء على الذات، وربما أيضا هناك عامل يتعلق بكل هذه، منطقة المغرب العربي، فأيضا أنا ممكن أن أعمم فأقول: إن الحضور الإعلامي للمثقف المغاربي في الإعلام العربي مسألة محدودة جدا، ويكفي الاطلاع على كبريات الصحف وشاشات التليفزيون حتى نعرف أن حضور المثقف المغاربي في كل منطقة المغرب العربي لا يزال محدودا وهشا، ولا يتناسب مع طبيعة الوضع الثقافي الحي والمتميز في منطقة المغرب العربي التي أعتقد وقد لا أقولها بنوع من النرجسية، ولكن أعتقد أن هذه الحقيقة أن الفكر العربي الآن تجدد في السنوات الأخيرة من مغرب الوطن العربي وليس من مشرقه.

محمد كريشان:

بعض الذين تابعوا موضوع العلاقات بين موريتانيا وإسرائيل، لا نريد أن نخوض في التفاصيل السياسية، ولكن بعض الذين تابعوا الموضوع اعتبروه وكأنه نوع من (الثأر) بين قوسين لتبرم الموريتانيين من العرب ومن تقصيرهم في دعم موريتانيا وفي الوقوف إلى جانبها اقتصاديا وسياسيا، هل نظر إلى الموضوع من قبل النخبة هنا في موريتانيا من نفس الزاوية؟

د.السيد ولد باه:

لا أعتقد، أنا أعتقد أنه من الزاوية المعاكسة، أن هذا الإطار كنوع من تأكيد الانتماء العربي لموريتانيا رغم ما في المفارقة من علامة جلية وواضحة، لا أعتقد أن الموقف الموريتاني، ولا أريد أن أدخل معك أيضا في هذا الجانب السياسي.. ولكن أعتقد أنه يندرج في السياق الإقليمي العربي، أن هناك مع الأسف في الفترة الأخيرة نوعا من الاختراق الإسرائيلي المتزايد للساحة العربية، ونوعا من الإدارة الانفرادية لمسار العلاقات مع إسرائيل، الذي انطلق منذ مسار أوسلو مع الجانب الفلسطيني، وتواصل مع الجانب الأردني، وأعتقد أن الوضع العربي بمجمله ينطبع بهذه السمة، وأن الموقف الموريتاني يجب أن يقرأ في هذا السياق الإقليمي وليس خارجه.

محمد كريشان:

ما الذي يمكن أن يقال الآن عن الحركة الثقافية والفكرية في موريتانيا؟ ما هي الملامح الأساسية التي لا بد من التركيز عليها حتى ينتبه المتابع في المشرق أو في غيره إلى تفاعلات الساحة في موريتانيا؟

د.السيد ولد باه:

السؤال أساسي، وأنا أعتقد أنه مفيد للمشاهد العربي، وللمثقف العربي بصفة خاصة، الساحة الثقافية لموريتانيا الآن حية وديناميكية، رغم أن منشوراتها لا تعكس هذه الحيوية وهذه الديناميكية، هناك الآن ثلاث اتجاهات رئيسية في هذه الساحة الثقافية، هناك مدرسة تاريخية متميزة في إعادة كتاب تاريخ هذا البلد، تاريخ هذا البلد الذي لم يكتب حوله إلا القليل جدا، هناك حركة تاريخية، حركة كتابة تاريخية حية، استطاعت أنها تقرأ تاريخ هذا البلد من منطلق خصوصياته أو مميزاته وهي دراسات هامة لا شك أنها لو أتيح لها النشر، وقد أتيح لبعضها.. أن تشكل إسهاما نوعيا في كتابة التاريخ العربي.

هناك أيضا في الجانب الأدبي.. هناك طفرة الآن في كتابة الشعر، ليس الشعر الكلاسيكي القصيدة الموريتانية العمودية التقليدية، وإنما الشعر الحديث انطلاقا من تجربة المجتمع الصحراوي الموريتاني.

وهناك من ناحية ثالثة -وهذه أيضا أساسية- في جانب دراسات الفكر الإسلامي، وتعرفون أن أهل البلد بلد سماه البكري بلد الفقهاء والنساء، بلد الفقهاء والنساء، المرأة أيضا تضطلع بدور رئيسي في هذا البلد هذا البلد أيضا فيه نخبة علمية متميزة، ولا شك أن المدرسة الفكرية الدينية في موريتانيا تستدعي انتباها خاصا، فمن مميزاتها أنها شهدت نموها وتطورها خارج سياق السلطة السياسية، نتيجة لما كان يسم العلاقة بين الفقيه والحاكم من انفصام، فهذا جعل هذه الحركة الفكرية يتطور خارج قيود السلطة السياسية.

وأنا أعتقد أن هناك حركة، وهناك حيوية تستدعي نوعا من انتباه المثقف العربي.

محمد كريشان:

ما مدى تأثر هذه الحركية بالمشرق العربي، ببقية البلاد العربية سواء في المغرب أو في المشرق؟ يعني إذا كانت موريتانيا غائبة أو مغيبة كما ذكرنا، ما مدى تفاعلها بالقادم؟

د.السيد ولد باه:

أعتقد أنه تفاعل حي، أغلب هذه الدراسات الجامعية، قيم بها في جامعات عربية مشرقية أو مغربية، الجامعة الموريتانية استقبلت كبار الأستاذة بمشرق الوطن العربي ومغربه، هناك تواصل، هناك ترابط في المنهج، في الرؤية، ولكن مميزات المجتمع الموريتاني وخصوصياته، أيضا كان لها الأثر الكبير في تميز الاتجاهات الفكرية التي أشرت إليها، لأن هذا المجتمع له خصوصيته، طبعا في السياق العربي الأشمل اللي هو سياق متشابه ومتكامل، ولكن هناك بعض الخصوصيات التاريخية والثقافية التي لا بد أن يحسب لها حسابها.

محمد كريشان:

الكثير من الشخصيات الفكرية والأدبية العربية زارت موريتانيا في مواسم وفي مناسبات متعددة، في الجامعة وغيرها، هل لمستم بعض الارتسامات الغريبة عن موريتانيا؟ أو بعض الحقائق التي اكتشفوها هنا وكأنهم أتوا إلى بلد لا علاقة له بالمنطقة يعني؟

السيد والد باه:

تذكرني هنا بمقالة وسلسلة مقالات كتبتها في الحقيقة في صحيفة الشرق الأوسط حول ما سميتهم المستكشفون العرب لموريتانيا، وأرجو ألا تكون منهم، فهؤلاء لاحظوا أن أغلب الكتاب الذين يزورون موريتانيا يقدمون نفسهم وكأنهم (ابن بطوطة) في زياراته لمجاهيل آسيا وإفريقيا، وأنهم يزورون بلدا لم يزره أحد من قبلهم ولم تطأه قدم من قبلهم، وهذا يصدق بصفة خاصة على الكتاب والصحافيين الذين زاروا موريتانيا في بداية سنوات استقلالها.

ولكن لو نظرنا إلى الأمور بطريقة جدية نلاحظ أنه بالسنوات الأخيرة، وفي العقد الأخير، استقبلت موريتانيا الكثير جدا من المفكرين والكتاب والشعراء، وقد كان لي شرف الإشراف ما زال لي هذا الشرف الإشراف على برنامج في إطار التعاون بين جامعة نواكشوط ومنتدى الفكر والحوار ومركز دراسات الوحدة العربية ببيروت لتنظيم زيارات لكبار المحاضرين العرب لموريتانيا، واستقبلنا مجموعة كبيرة ومتميزة من هؤلاء الكتاب والمثقفين، فكانت دائما يخرجون بصورة مغايرة لهذا البلد كانوا دائما يخرجون بانطباعات أنهم فعلا يزورون بلدا مظلوم ومتجاهل، وأغلبهم كتب كتابات رائعة حول هذا البلد، حقيقة بينت ما لم يفصح عنه الموريتانيون من عتب على الإخوة في المشرق العربي في تجاهلهم، أو في جهلهم، أو في.. لا أعرف العبارة التي أقول إزاء هذا البلد الذي يشكل حقيقة قلعة من قلاع الثقافة العربية والحضارة الإسلامية في هذه المنطقة.

محمد كريشان:

يعني على ذكر مركز دراسات الوحدة العربية، هل يفترض أن تلعب مثل هذه المؤسسات وغيرها من مراكز الأبحاث، سواء كانت الأكاديمية التابعة للجامعة العربية أو المستقلة أن تعلب دورا متميزا، إذا كانت السياسة العربية لها حساباتها والوزن الاقتصادي لكل دولة له تأثيره، هل هذه المؤسسات، وهذه الأطر الثقافية مدعوة أكثر من غيرها لـ..؟

السيد ولد باه:

أعتقد أن هذا هو دورها في الحقيقة، كما قلت الجانب السياسي له خلفياته وله آلياته، ولكن أنا أعتقد أن العرب لم يبق له إلا الوحدة الثقافية، ولم يبق لهم إلا العنصر الثقافي الذي مع حسن الحظ يتوطد ويتحسن تدريجيا، أي جانب الوحدة الثقافية ما بين العرب، والمؤسسات الثقافية العربية مطالبة ومدعوة، وأعتقد أن هذا هو المنبر الذي يجب أن ندعوها منه إلى أن تعطي عناية خاصة لهذا البلد الأقصى من الوطن العربي، وذكرت تجربة مركز دراسات الوحدة العربية، المركز قام بدور لا ينكر في التعريف بهذا البلد، وقد نشر أول كتاب تعريفي جامع بموريتانيا، أعده منتدى الفكر والحوار، ونشره هذا المركز، وكان له صدى إيجابيا كبيرا جدا في كل البلاد العربية، أنا أعتقد أن باقي المؤسسات يجب أن تهتم بهذه الثقافة الموريتانية، وأن تعطيها بعض العناية التي تستحقها.

محمد كريشان:

يعني إذا أردنا أن نتطلع إلى المستقبل قليلا في نهاية هذا الحوار، ما الذي تتوقعه من خطوات مستقبلية؟ هل تنظر بتفاؤل؟ هل تعتقد بأن هذه المرحلة، مرحلة الجهل أو التهميش سائرة إلى الغياب لا محالة يعني؟ كيف تنظر إلى هذه القضية في المستقبل؟

السيد ولد باه:

أنا أنظر إلى المستقبل بكثير من التفاؤل، أنا أعتقد أن الصلات الآن بين موريتانيا وباقي أقطار الوطن العربي صارت صلة وطيدة من الناحية الثقافية، ومن ناحية التواصل البشرى، وتبادل البعثات التعليمية، لو تعرف أننا الآن في جامعة موريتانيا لدينا مجموعات كبيرة من الطلاب في الوطن العربي والبلدان العربية المختلفة، لو تعرف الآن أن المثقفين الموريتانيين صار لهم حضورهم تقريبا في كل المحافل، وفي كل المنتديات، لو تعرف أنه على الأقل صارت تطبع كل شهر مجموعة كتب تتعلق بموريتانيا، أعتقد أن هذه خطوات إيجابية، وخطوات أيضا لا بد من تثمينها ومن إعطائها العناية والتقدير المستحق، وأعتقد أننا يجب أن ننظر بتفاؤل كبير إلى صورة موريتانيا في الذاكرة العربية أنها ستتغير إن شاء الله وتتحسن نوعيا.

محمد كريشان:

ولكن هل يمكن أن تكون هناك تخوفات من أن -على الأقل- الشباب الحالي في البلاد العربية، الجيل الجديد، ربما تسيطر عليه اهتمامات أخرى، ربما متقوقع أكثر في الإقليمية وفي المحلية، وبالتالي ربما، الشاب المصري أو الشاب اللبناني قد لا يرى ما ينفعه أو ما يهمه أصلا في الشاب الموريتاني، أو ربما حتى الشاب الموريتاني لا يرى في اطلاعه على تجربة الشاب العراقي، يعني هل هناك مثل هذا التخوف فيما يتعلق بهذا التواصل بين الأجيال؟

محمد ولد باه:

أعتقد أن هذا جانب لا شك أنه صحيح، وأعتقد أنه هو الإشكال الأكبر المطروح اليوم في الساحة العربية، وأننا نعيش نوعا من ثنائية الانتماء في سياق العبارة التي صارت شائعة في سياق العولمة، أن هناك نوعا من المواطنة العالمية وهناك في المقابل نوعا من الانكفاء الضيق، الخصوصيات، ما سماه أحد الكتاب الإستراتيجيين الفرنسيين بالقبلية الجديدة (nouveaux tribalism)، فهذه القبلية الجديدة أي الانكفاء على الخصوصية الضيقة أصبحت تتجذر بصفة ملموسة، وأنا كنت قد نبهت مرة في مقالة إلى أننا مع الأسف أصبحنا نشهد خطر أفرقة الوطن العربي، أي تجسد المسار الإفريقي مسار التفكك والتجزؤ داخل الأقطار العربية نفسها، والكثير من هذه الأقطار أصبح يشهد نوعا من الحروب الأهلية، بحيث أصبح نوع من الخيار القطري، أي تحصيل الوحدة القطرية، هدفا أساسيا وعاجلا.

محمد كريشان:

بعض المرارات الموريتانية هل دفعت ببعض الأقسام من النخبة السياسية والثقافية إلى البحث عن امتدادات موريتانية أخرى سواء إفريقية أو غيرها، أم المرارة وقفت عند هذا الحد؟

محمد ولد باه:

لا شك أن هناك بعض التيارات السياسية، وهي ليست جديدة ترفض، أو على الأقل أقول ترفض إنما لا تعطي عناية، أو لا تقيم شأنا كبيرا للهوية العربية لموريتانيا، سواء التيارات التي تراهن على الوطنية الضيقة أو التيارات التي تركز على الانتماء الإفريقي لموريتانيا، فهذه تيارات سياسية موجودة في الساحة السياسية، ولكن أعتقد أن الاتجاه الواسع والاتجاه الذي برز هو اتجاه تأكيد الانتماء العربي لموريتانيا قوميا وثقافيا، وأعتقد أن هذا خيار لم يعد موضوع شك وموضوع تساؤل.

محمد كريشان:

دكتور سيد ولد باه شكرا جزيلا.

السيد ولد باه:

شكرا لكم.