قضايا الساعة

جذور الصراع في ساحل العاج وصراع المصالح الأجنبية

الحرب الأهلية في ساحل العاج.. مفاوضات المصالحة الوطنية تتأرجح في باريس، والهدنة في البلاد أكثر هشاشة من الوحدة الوطنية نفسها. جذور الصراع في ساحل العاج بين تراكم الأخطاء السياسية وصراع المصالح الأجنبية.

مقدم الحلقة:

محمد كريشان

ضيوف الحلقة:

حلمي شعراوي: مدير مركز البحوث العربية والأفريقية – القاهرة
فرانسوا سودان: مدير تحرير أسبوعية جون أفريك – باريس

تاريخ الحلقة:

23/1/2003

– الصراع في ساحل العاج بين الجذور السياسية والتاريخية والتدخل الأجنبي.
– حقيقة الدور الفرنسي في ساحل العاج.


undefinedمحمد كريشان: الحرب الأهلية في ساحل العاج مفاوضات المصالحة الوطنية تتأرجح في باريس، والهدنة في البلاد أكثر هشاشة من الوحدة الوطنية نفسها.

تساؤلات حول جذور الصراع في ساحل العاج بين تراكم الأخطاء السياسية وصراع المصالح الأجنبية.

السلام عليكم. معارك ساحل العاج بين الحكومة ومعارضيها لا تهدأ إلا لتعود من جديد، فهاهي تندلع مرة أخرى رغم استمرار محادثات المصالحة في باريس، لقد فقد هذا البلد الإفريقي منذ رحيل (هوفوات بونيه) أبي الاستقلال عام 93 نعمة الاستقرار لتُفتح أبواب الفتنة فيه تدريجياً حتى شُرِّعت اليوم بالكامل، إذ إن البلد اليوم مقسم عملياً إلى ثلاث دويلات، دويلة في الجنوب يسيطر عليها الرئيس (جياج بو) وأنصاره وتقع بين الواجهة البحرية والمرفأين أبيدجان وسان بيدرو، وبين ياموسوكرو العاصمة ودالو في وسط البلاد، ودويلة الشمال الفسيح وبلاد الديولا، وتسيطر عليها الحركة الوطنية وعاصمتها كوروجو، دولة الغرب وبلاد الدان وتسيطر عليها الحركة من أجل العدالة والسلام والحركة الشعبية العاجية للغرب الكبير، مراسلنا في غرب أفريقيا عبد الله ولد محمدي يحلل الجذور السياسية التاريخية للصراع في ساحل العاج.


الصراع في ساحل العاج بين الجذور السياسية والتاريخية والتدخل الأجنبي

تقرير/ عبد الله ولد محمدي: الاستقرار الأسطوري الذي كان السمة الغالبة على ساحل العاج يتلاشى تحت تأثير ما ظل مسكوتاً عنه خلال العقود الثلاثة التي حكم فيها (هوفوات بونيه) أغنى دولة في غرب أفريقيا.

الدين والقومية لازمتان في حديث الأطراف العاجية بعضها لبعض، وفي صراعها ضد بعضها البعض، وهما أكثر عامل يقسم البلد الذي انشطر نصفين، وربما هو مُهدد بالانقسام أكثر فيما لو فشلت الأطراف في التفاهم حول مكانة كل منهما في صراع إثبات الوجود.

حكم هوفوات المسيحي الورع، الذي بنى في قريته ياماسوكرو أكبر كاتدرائية في العالم بعد روما، والمؤمن في الوقت ذاته بمعتقدات القبيلة الوثنية، حكم هوفوات ساحل العاج إذن دون أن ينسى للمسلمين دورهم في الحياة العامة، غير أنه ترك الثروة ومعظم السلطة في يد أبناء العمومة والقبيلة، أي أبناء الدين والعرق، ولم يشفع تعيينه (الحسن وتارا) المسلم الشمالي رئيساً للوزراء في السنوات الأخيرة من شعور المسلمين بأنهم يستحقون دوراً أكبر من ذلك، مات هوفوات وقد ترك بعض الجمر تحت الرماد، وحين خلفه ابنه السياسي والقبلي أيضاً -حسب معتقدات الباولي- (هنري كونان بيدييه) كانت طموحات الأغلبية الصامتة تتضح بشكل أكبر، فالمسلمون الذين باتوا يشكلون أكثر من 60% من سكان البلاد والذين ينتمي معظمهم إلى قبائل (الجولا) انضووا في غالبيتهم تحت لواء حزب جديد أسسه من اعتبر نفسه ابناً آخر لهوفوات بونيه.

غير أن وجود المسلمين لم يقتصر على الشمال فقط، بل امتد خلال الفترة الأخيرة إلى مناطق أخرى من الجنوب، وهو ما يعقد عملية حصرهم في مناطق معينة ويمد نفوذهم بشكل أكبر، طموحات (وتارا) ومعه قبائل الجولا لم تجد صدى مقبولاً لدى بيدجيه ومحيطه من قبائل الباولي والبيت الجنوبية، ولسد الطريق أمام تلك الطموحات، طورت الآلة السياسية والإعلامية لخليفة هوفوات فكرة جديدة هي القومية العاجية التي تلغي أحقية القبائل الشمالية في اعتبارهم عاجيين حقيقيين وتحصر تلك الصفة في أنظمة المتحدرين من القبائل الجنوبية، لا غنى من ذلك التعايش الذي ظل الصفة التي اشتهرت بها تلك البلاد.

القومية العاجية صنعت تناقضية كبيرة في مستوى المواطنة، وقطعت الطريق أمام الحسن وتارا، لأن يتقدم للانتخابات الرئاسية أو أي إمكانية لمسلم أن يحكم تلك البلاد.

سورو غيوم (الأمين العام للحركة الوطنية لساحل العاج): نحن مقتنعون بأنه إذا ما تمكن القادة من إبعاد شياطين العرقية والقبلية فإن ساحل العاج ستصبح مرة أخرى بلد سلام.

عبد الله ولد محمدي: وباسم القومية شهدت البلاد سلسلة من الأحداث الخطيرة التي مهدت لانقلاب عسكري قاده الجنرال (روبرجاي) الذي قال وقتئذٍ أنه جاء إلى السلطة لفتح الباب أمام جميع العاجيين قبل أن يستعذب البقاء في السلطة، ثم يُطاح به في انقلاب انتخابي أكثر منه انتخابات رئاسية حقيقية، تلك الانتخابات قادت الاشتراكي (لوران جباج بو) للسلطة بشرعية منقوصة لوران جباج بو الذي كرر نفس الوعود بالانفتاح والمساواة رضخ في نهاية الأمر لنفس قواعد اللعبة بإبقاء المسلمين بعيداً.

لم تعد القضية قضية جنود متمردين بعد أن انضم سياسيون بارزون إلى الحركة التي ترمي إحداث تغييرات جذرية في نظام الحكم بساحل العاج، ربما بسبب تكرار المظالم وانفجار الغضب وُلدت هذه الحركة التي شطرت ساحل العاج نصفين بنفس التميز الديني والعرقي، وإذا كان ثمة ما يُحسب لحركة التمرد الشمالية، والتي ساندها المسلمون بقوة بدليل قدرتها على السيطرة على مناطقهم هو كونها استطاعت استقطاب وجوه مختلفة خارج إطار الدين والعرق، وإذا كان دور حركة التمرد هو إعادة الأمور إلى نصابها الحقيقي -حسب ما يزعم القيِّمون عليها- فإن البعض قد يعتبرها قاعدة لتوجه أكبر مع إمكانية انضمام أحزاب المعارضة إليها، يعيد لساحل العاج بعض وئامها، هذا إذا ما استطاعت الأطراف الداعمة للسلام نزع فتيل الكراهية والحقد الطائفي والعرقي لأن ساحل العاج هي بمثابة القلب من المنطقة ككل، وإذا سعلت ساحل العاج، أُصيبت المنطقة بالزكام، فكيف بها وهي مُهددة بكثير من الأمراض المستعصية؟!

محمد كريشان: إذن مآسي ساحل العاج اليوم ليست سوى نتاج لتراكمات سنوات عديدة من الحيف الاقتصادي والاجتماعي والعرقي وما يقترن به عادة من إقصاء سياسي.

لمناقشة القضية معنا من القاهرة الأستاذ حلمي شعراوي (مدير مركز البحوث العربية والأفريقية) سيد شعراوي، هل أن ما يوصف بالقومية العاجية أو الهوية العاجية هي أصل البلاء؟

حلمي شعراوي: هي طبعاً أصبحت الآن في هذه الحالة، لأنه معظم.. يعني في ساحل العاج فيه حوالي 2.. أو 3 مليون بيُحسبوا قادمين من دول مجاورة زي بوركينا فاسو ومالي، ولظروف تاريخية في تقسيم البلاد في الفترة الاستعمارية أُضيفت هذه المناطق من هنا، وأُخذت من ساحل العاج إلى بلد مجاورة، فأصبح هؤلاء اللي ما يسمون الآن بالمهاجرين الأجانب اللي عليهم مشكلة الجنسية واللي أصلاً هم أهالي المنطقة أصبحوا في وضع الأجانب، اللي أشعل المشكلة إن (الحسن وتارا) وكان نائب رئيس البنك الدولي وجاي ببرنامج آخر ورأس الوزارة، وليس صحيح إنه استبعاد ولا هي.. يعني أنا معترض على التفسير بأنها قضية الدين وشمال مسلم وجنوب كذا لأن التوتر بدأ في الجنوب وامتد بهؤلاء الناس.. الأغلبية في الشمال، لاتهام حسن وتارا لرغبة في استبعاده ببرنامجه اللي جاي به جديد في مواجهة راجل انتُخب شعبياً بأكثر من 60% زي (جباج بو) فهذا التوتر اللي أحدثه الحسن وتارا اتخذ طبعاً إن الحسن وتارا مسلم وبدأت هكذا، المسألة إنها فيه مشكلة مواطنة فعلاً وجباج بو أخطأ بتعميم مسألة وتارا علشان يستبعده، وهو قد نجح بعده بتعميمها على مواطنين هم أهل بلاد بالفعل اللي زاد التوتر بهذا السلاح..

محمد كريشان[مقاطعاً]: يعني.. يعني عفواً.. يعني عفواً سيد شعراوي يعني تستبعد بالكامل أي بُعد بين مسلمين ومسيحيين ولو كبعد ثانوي في الصراع في ساحل العاج؟

حلمي شعراوي: ولا يكاد يكون ثانوي، ساحل العاج بالذات لم تعرف هذا التوتر إلا من باب إنه الإقليم مُبعد بأهله اللي هو مضافين تاريخياً من.. من بلاد أخرى إلى آخره، اللي ضاعف النهارده التوتر المسلح الفظيع دا هو أن حدث لظروف طويلة من العلاج تهدئة في سيراليون وليبيريا التي كانت موضع.. يعني صراع مسلح طول الوقت، الناس دي بتهاجر وتجد.. وجت تجد أمانها في ساحل العاج، وهي مسلحة في غرب ساحل العاج أيضاً، وبيضافوا -بكل ما قيل الآن في التقرير- بيُضافوا لقوة التمرد ومعاهم قوة سلاح، هذا تجارة السلاح الصغير في غرب أفريقيا بقت تجارة كبيرة جداً وحاولت الأمم المتحدة يعني منع تجارة السلاح بهذا الشكل، والولايات المتحدة نفسها منعت صدور القرار بمنع التجارة في السلاح الصغير بهذا الشكل على مستوى دولي، لأنها أساس الصراعات الصغيرة كلها في أنحاء أفريقيا وآسيا، فهذا الآن..

محمد كريشان[مقاطعاً]: ولكن عفواً سيد شعراوي إلى جانب بُعد موضوع المواطنة وأنت تلح على هذا الموضوع، هناك أيضاً مضمون اقتصادي لموضوع المواطنة، يعني قانون الملكية العقارية الريفية والذي حسم الملكية فقط لمن هم من أصول عاجية صرفة إن صح التعبير، أيضاً أعطى مزيد من المضمون الحيف الاقتصادي إلى جانب حيف موضوع المواطنة.

حلمي شعراوي: لابد أن نقدر إن جباج بو ابن المدرسة الاشتراكية الديمقراطية الاشتراكيين الديمقراطيين في باريس في فرنسا، لأنه أُبعد ونفي هناك لفترة طويلة وهو يملك تأييد اتحادات العمال والحركة الطلابية تاريخية، بهذا التأييد جاي بروح استعادة دور الدولة شوية، حيث ساحل العاج منطقة استثمارات وأموال وبنوك كبيرة جداً، الأراضي.. نعرف تاريخياً ملكية القبائل التاريخية لهذه الأراضي، المشكل الأكثر كان في منطقة الكاكاو هي في الوسط وامتداداً للشمال، والشعب العاجي لا بيأكل شيكولاته ولا بيشرب كاكاو ولا قهوة، فتجارته باقية بأسعار هي نفسها منذ عشرات.. منذ عشرات السنين وأكثر من مائة سنة في الواقع، بهذا الشكل الفقر بيزداد جداً في مناطق الزراعة، وهذا المحصول الغريب الذي تصدره من أكبر مناطق تصدير الكاكاو في العالم دون أي عائد، فالفقر يزداد مع رجل بيحاول تأكيد بعض التدخلات هذه التدخلات من قبل الدولة لأية.. لأي إصلاح اجتماعي ينال ما يسمى بالأجانب بالفعل، وهو لابد أن يعالجوا هذه المسألة حتى يُسقط حجج الحسن وتارا، والتدخل الأميركي المباشر عن طريق نيجيريين أو ليبيريين إلى آخره، وللأسف أنها الدولة الاستعمارية التي.. القديمة صاحبة الاستعمار القديم هي التي تعالج الآن أخطاءها في باريس بين المجموعة هذه وتلك.

محمد كريشان[مقاطعاً]: نعم، ولكن السيد شعراوي المفارقة: أن في الوقت الذي يُقصي فيه بعض المواطنين في بلده على أساس أنهم من الأجانب يستنجد فيه ببعض الأجانب المرتزقة لحسم الموضوع عسكرياً.

حلمي شعراوي: ما هو لأنه.. لو نذكر منذ أشهر أول ما حدث التوتر فوجئ بقوات أميركية بدون أي استئذان جاية لإنقاذ المواطنين الأميركيين اللي عددهم محدود جداً، فطبعاً شعرت فرنسا.. وفرنسا صاحبة النفوذ الأول بالتأكيد، وهو نفس جباج بو من أبنائها فبدأ التدخل، وثم جاءت نيجيريا لتتدخل كدولة كبرى في المنطقة بشكل آخر، فهنا أصبح الصراع يعني هو أمام خيار، من يضمن له استمرار وضعيته الدستورية؟ أصبحت هي فرنسا، ومن سيتدخل لفرض مصالح أخرى؟ هم سواء دولة كبيرة زي نيجيريا أو الأميركان، فطبعاً هذه هي المفارقة بالتأكيد، لأنه بهذا الشكل صراع.. يعني سلطات ونفوذ، والشعب الفقير هذا هو الذي يحتاج لبرنامج اجتماعي، وبرنامج..

محمد كريشان: يعني ما مدى..

حلمي شعراوي: خاص بالمواطنة، لأنه لا يمكن استبعاد 3 مليون في البلاد..

محمد كريشان: يعني عفواً.. عفواً، ما مدى أهمية الصراع الفرنسي الأميركي على هذه المنطقة في تأجيج الصراع الداخلي في ساحل العاج؟

حلمي شعراوي: يكاد يكون في النهاية المحور هو ذلك، ساحل العاج عاصمة اقتصادية لكل غرب أفريقيا، وفيها مصالح كبيرة جداً من الأموال والاستثمارات وإدارة الأموال الشائعة في غرب أفريقيا لأنها كانت فعلاً بلد مستقرة لحد كبير فمن هنا والبرنامج.. دائماً الإصلاح بتاع البنك الدولي أو الصندوق برنامج يتعلق بالأموال والتجارة بينما التجارة الأساسية في محصول الكاكاو مع فرنسا، فثمة إحساس فرنسي بأن الأميركان يريدون اختراق منطقة الفرنكفون بشكل كبير عن طريق عاصمة كبيرة مثل ساحل العاج هذا هو.. دا صراع أساسي، وفيه صراع إقليمي، طبعاً غانا ونيجيريا وليبيريا بيتصارعوا في المصالح والنفوذ بشكل آخر أيضاً، وللأسف يعني قوات.. قوات غرب أفريقيا مدعومة ومسلحة من قبل الولايات المتحدة الأميركية، لأن نيجيريا كانت مكلفة بإنهاء الصراع في ليبيريا ثم سيراليون هكذا، فمن هنا طبعاً فيه واجهة للصراع الفرنسي الأميركي بالتأكيد، لكن إحنا لا نريد أن نرمي كل الأسباب إلى الخارج بهذا الشكل، فيه أسباب داخلية، لكن كان لازم ياخد فرصته في معالجة ديمقراطية أو اجتماعية لهذه المشاكل الداخلية، واللي يعالج مشاكل يعالج كيف أن شعباً بهذا الشكل يظل فقط منتجاً إما لإدارة المال أو منتجاً للكاكاو الذي.. يعني لا مصلحة له فيه ولا يأكلونه ولا يشربونه.

محمد كريشان: نعم، سيد حلمي شعراوي شكراً جزيلاً لك.

المشهد العاجي من الداخل وجذور الخلافات التي قاد إهمالها إلى البحث عن حسم عسكري لا يمكن أن يكتمل دون تطرق إلى العامل الخارجي.

بعد الفاصل: نظرة إلى الدور الفرنسي فيما جرى ويجري في ساحل العاج.

[فاصل إعلاني]


حقيقة الدور الفرنسي في ساحل العاج

محمد كريشان: حتى قبل أن ينتهي مؤتمر المصالحة العاجية في ضواحي باريس، عادت المعارك من جديد إلى البلاد ليتضح لفرنسا مدى صعوبة بحثها عن تسوية سياسية في مستعمرتها السابقة، رغم حرص باريس على إخراج دولي لهذا الاتفاق من خلال قمة لرؤساء دول إفريقية معنية بالنزاع بحضور الأمين العام للأمم المتحدة تُعقد بعد الانتهاء من محادثات باريس بين الفرقاء العاجيين.

عياش الدراجي يتناول الدور الفرنسي في ساحل العاج، والتداخل السياسي والعسكري والاقتصادي فيه.

تقرير/ عياش دراجي: الاهتمام الفرنسي في ساحل العاج أو كوت ديفوار معروفة جذوره وخلفياته التاريخية، ومبررات الواقع الحالي كافية لجعل باريس حريصة أكثر على روابطها بهذا البلد الذي كان إلى وقت قريب أنموذجاً للاستقرار السياسي في غرب أفريقيا وبعلاقاته المتميزة مع فرنسا، وقد أعطت باريس نفساً جديداً لتلك العلاقات مع قدوم حكومة اليمين إلى السلطة من أجل إعادة فرنسا بقوة إلى معاقلها التقليدية في الصراع الجيواستراتيجي في مختلف المناطق الأفريقية وبدرجة أولى المستعمرات السابقة، وإذا كانت كوت ديفوار موطناً تقليدياً للمصالح الفرنسية، فإن أي اضطراب سياسي أو أزمة مسلحة فيها كانت تهدد بالدرجة الأولى المصالح الفرنسية، حتى في بقية الدول المجاورة وتخلط رهاناتٍ مرسومة.

فكوت ديفوار تعتبر الشريك الأول لفرنسا في أفريقيا في المجالات الاقتصادية والتجارية والعلمية، وبالنسبة لفرنسا تحتل كوت ديفوار المركز الأول في المبادلات التجارية بعد نيجيريا وجنوب أفريقيا، أما فرنسا فهي المستثمر الأول في كوت ديفوار، إذ تستحوذ استثماراتها على 68% من مجمل الاستثمار الأجنبي، هذا إضافة إلى أن 27% من رأس مال المؤسسات الإيفوارية بيد شركات فرنسية ويوجد في كوت ديفوار أكثر من 600 شركة لرجال أعمال فرنسيين.

كل تلك المصالح تلقت ضربة موجعة من انقلاب نهاية 99 بقيادة الجنرال (روبرت جيه) الذي قُتل مؤخراً، وعقب ذلك الانقلاب عكفت الحكومة الاشتراكية الفرنسية السابقة على بذل جهود مكثفة لاستعادة الاستقرار في كوت ديفوار الانتخابات الرئاسية الإيفوارية التي جرت في أكتوبر من عام 2000، رغم ما شابها من جدل كبير أسهمت في إعادة الأمل إلى الأوساط الحريصة على الاستقرار في كوت ديفوار والحفاظ على المصالح الفرنسية فيها، لكن تلك الانتخابات لم تمنع من تحول الأزمة إلى صراع مُسلح منذ أربعة أشهر بين الجنود الموالين للرئيس (لوران جباج بو) والمعارضة المسلحة أو من يوصفون بالمتمردين.

باريس سارعت إلى تعزيز تواجدها العسكري بحجة حماية رعاياها وحرَّكت آلتها الدبلوماسية على أمل إيجاد حل للأزمة، فجاء اتفاق وقف إطلاق النار في أكتوبر الماضي برعاية أفريقية لتجد فرنسا مبرراً جديداً لتواجدها العسكري، وهو حراسة خط الهدنة، لكن باريس بدأت حينها تشعر بقدوم أزمة مستعصية، وربما بإرهاصات تورط في آفاق نزاع أفريقي جديد، وبقيت باريس حذرة في التعامل مع الرئيس جباج بو وحذرة من معارضته المسلحة لتأرجح موازين القوة بينهما، وفضل (دوفيلبان) من خلال زيارته الأولى إلى كوت ديفوار أن يقلل من الوجه العسكري لفرنسا هناك، ويضفي عليه صبغة دبلوماسية تعيد الأمور إلى نصابها، وتلخصت مهمة الوزير الفرنسي في طمأنة الرئيس جباج بو على أن باريس تدعم شرعيته ورفع معنويات الجنود الفرنسيين الذين شعروا بطول مهمتهم واحتمال تعقدها، وإخراج الحسن وتارا الذي كان لاجئاً في سفارة فرنسا ونقله إلى جابون، كما تم تغيير السفير الفرنسي، الذي لم تكن علاقته مع جباج بو على ما يرام، ولكن خرق إطلاق النار من قبل مرتزقة جباج بو أغضب باريس، فاضطر (دوفيلبان) للعودة مرة أخرى لساحل العاج بداية العام الجاري، وحذر الرئيس الإيفواري من الانزلاق نحو تفضيل الحل العسكري، وفضلت باريس حينها تحجيم الرئيس الإيفواري من خلال لقاء (دوفيلبان) ببعض قادة المتمردين في بواكيه.

ومن هناك ومن خلال تلك الزيارة كانت باريس حاسمة في ترجمة جهودها وضغوطها إلى تنظيم لقاء شامل لا يزال يجمع منذ الخامس عشر من الشهر الجاري جنوبي باريس بين كل أطراف الصراع، لبحث الخلافات والحلول، وقبلت الأطراف المتصارعة المجيء إلى باريس والالتقاء تحت مظلة الوساطة الفرنسية في مركز المؤتمرات الدولية تحت إشراف (دومينيك دوفيلبان).

دومينيك دوفيلبان (وزير الخارجية الفرنسي): كلنا مجتمعون من أجل الوقوف إلى جانب أعمالكم وجهودكم، واليوم لم يعد الرهان مطروحاً فقط بشأن كوت ديفوار، بل الرهان على مستقبل أفريقيا بأكملها.

عياش دراجي: الحضور في باريس كان كافياً لخلق جو من التطهير الفرنسي على روح المحادثات وضعفها بشكل يضمن إسهام فرنسا في صناعة عودة الاستقرار إلى كوت ديفوار.

كونان بيدييه (رئيس ساحل العاج الأسبق): الوساطة تسمح بالتعجيل بحل المشاكل، ولابد أن تثق كل الأطراف في الطرف الوسيط، وفرنسا صديقة للشعب الإيفواري، بل إنها تعد قوة إفريقية.

عياش دراجي: المحادثات الفعلية بين فرقاء كوت ديفوار تجري هنا منذ 8 أيام في مجمع لرياضة الرجبي، وكأنما تريد باريس أن تقول للإيفواريين تصارعوا كلاعبي الرجبي، ولكن بفنيات وبدون عنف، ولكن مرة أخرى: هل يكفي نجاح محادثات باريس، حتى ينجح الفرقاء الإيفواريون في ترجمة ذلك على أرض الواقع؟

محمد كريشان: فرنسا المهمومة بالبحث عن تسوية سياسية في ساحل العاج تريد -على الأغلب- صيغة: لا غالب ولا مغلوب، مما يبعدها عن أن توضع في خانة هذا أو ذاك، وبالتالي يضمن لها استمرار علاقتها التقليدية مع مستعمرتها السابقة.

لمناقشة هذا الموضوع معنا من العاصمة الفرنسية باريس فرانسوا سودان (مدير تحرير أسبوعية "جون أفريك" والخبير في الشؤون الأفريقية).

سيد سودان، هل تعيش فرنسا ورطة ما في ساحل العاج؟

فرانسوا سودان: إنها أزمة كبيرة جداً للمصالح الفرنسية في غرب أفريقيا وغرب ساحل العاج، يعيش فيها 20 ألفاً من المواطنين الفرنسيين تحت حماية القوات الفرنسية، وتوجد مصالح اقتصادية فرنسية كبيرة، وهذه كانت واجهة للمصالح الفرنسية في المنطقة وهو بلد له ثقل في التوازن الاقتصادي للمنطقة وجيرانه، وهو مفتاح المنطقة الحرة، لمنطقة (…) الفرنكوأفريقي ويجب على فرنسا أن.. بطريقة أو بأخرى تتدخل لإحلال السلام في المنطقة لأن الرؤساء الآخرين في الدول الأخرى يجب أن.. يصعب عليهم أن يفهموا الدور الفرنسي في المنطقة، فدور فرنسا هو إحلال هذا السلام في المنطقة والدفع.. والدفاع عن.. عن.. الدفاع عن.. الدفاع عن نظام قيل عنه في البداية أنه ديمقراطي، ثم قيل عنه بعد ذلك أنه غير ديمقراطي، فنظام جباج بو لم يكن منفتحاً ديمقراطياً تماماً.

محمد كريشان: هل.. هل تعاني الآن حكومة اليمين في فرنسا من تبعات سياسة اليسار؟ هناك قول معروف لـ (ليونيل جوسبان) رئيس الوزراء السابق فيما يتعلق بالسياسة في إفريقيا: لا للتدخل لا للمبالاة.

فرانسوا سودان: هذا صحيح، أقول إن فرنسا، فرنسا شيراك، و(دومنييك دو فيلبان) ورثت بطريقة ما إرثاً من رئيس اشتراكي.. ينتمي إلى عمومية الاشتراكية وانتخب.. انتخب في عهد التعايش وهو السيد (جوسبان) الذي كان رئيساً للوزراء، (لوران جباج بو) ليس.. لا ينتمي إلى العائلة السياسية الموجودة في الحكم في باريس، ولم يرث.. وورث النظام الفرنسي هذا الوضع وتقبل الأمر كما هو، ولأن الحكومة مُعترف بها دولياً، فإن.. فيجب على فرنسا أن تفعل شيئاً، وهذا ما فعلته فإن دعم فرنسا العسكري لجباج بو وتعلمون أنه لو لم تُنشر القوات الفرنسية في كوت ديفوار، لما.. لتم القضاء على الحكم نهائياً، وهذا.. ولا يمكن أن نقول إن جباج بو له صورة جيدة في باريس، وأنه صديق لشيراك كما هو الحال بالنسبة لرؤساء دول أفارقة، هذا الدعم دعم خفي، وفرنسا مضطرة لدعم لوران جباج بو مع مطالبته.. مطالبته وبشكل مباشر الآن بتقديم تنازلات لإحلال السلام في بلده.

محمد كريشان: هل هذا الدعم الخفي مثلاً يمكن أن يتجلى في وصف باريس لجباج بو من أنه الرئيس الشرعي الآن تصفه بالرئيس المعترف به دولياً، هل يمكن أن نلمس ذلك في مثل هذا الموقف؟

فرانسوا سودان: أقول: إن انتخاب.. انتخاب جباج بو جرى في ظروف خاصة استثنائية، وتتذكرون أن.. أن سلفه الجنرال (…) استولى على القوة.. على السلطة بالقوة، تم الانقلاب عليه ووقعت مظاهرات وأعمال عنف في أبيدجان، وفي وضع دستوري يمنع المعارض الرئيس في كوت ديفوار وهو الحسن وتارا إذن أقول إنه منتخب ديمقراطياً في.. في حين أنه لم ينتخب إلا من طرف أقلية هي.. يعتبر شيئاً صعباً يصعب قوله ولكنه الآن معترف به من فرنسا والمجموعة الدولية، وفرنسا مضطرة لأن تتعامل معه والتطور.. تطور الأزمة الحالية هو بحيث أن التدخل الفرنسي كان بدرجة لأن تطلب فرنسا بأن يقدم تنازلات هو أيضاً، وسمحنا له بالبقاء في.. سمحنا له بالبقاء في الحكم إلى نهاية عهدته، وهو في نهاية عام 2005، وفي مقابل ذلك يجب أن يقدم تنازلات، وفتح حكومته للمعارضة واختيار رئيس وزراء من المعارضة نفسها، ويملك سلطات واسعة ويجب على جباج بو أن يقبل.. ومن هذا ما يجري الحديث عنه في باريس بين الفرقاء، وهذا ما.. وفي القمة الأفريقية.

محمد كريشان: باختصار شديد في النهاية: هل هناك صراع فرنسي أميركي في المنطقة؟

فرانسوا سودان: لا يمكن أن نقول إنه صراع مصالح في هذه المنطقة.. في منطقة أفريقيا الغربية، هناك صراع مصالح في أفريقيا الوسطى، في المناطق التي فيها بترول، وفي الأماكن التي يهتم بها الأميركيون كثيراً، في منطقة أفريقيا الغربية توجد.. يوجد تعاون إلى حد ما بين واشنطن وباريس، وتعلمون أن الأميركيين مهتمون كثيراً بجيران.. بجار لكوت ديفوار هو ليبيريا، الذي يقوده (تشارلز تايلور) الذي.. الذي كان له مشاكل قضائية في الولايات المتحدة وتم الحكم عليه، ولا تعترف به واشنطن، والولايات المتحدة تشتبه في أنه .. اشتبهت في وقت ما أنه كان يؤوي شبكات مافيا، لتهريب الماس لصالح تنظيم القاعدة، إذن تايلور..

محمد كريشان: سيد فرانسوا سودان، شكراً جزيلاً لك.

وبهذا نصل إلى نهاية هذه الحلقة، دمتم في رعاية الله، وإلى اللقاء.