سباق الإرادة الأميركي الأوروبي حول العراق
مقدم الحلقة: | محمد كريشان |
ضيوف الحلقة: | يورغن هوغريفي/ محلل سياسي– برلين د.إيريك شوبراد/ أستاذ الدراسات الجيوسياسية بالسربون |
تاريخ الحلقة: | 23/02/2003 |
– طبيعة الصراع بين النظام الدولي الجديد ودعاة تعدد الأقطاب
– ملابسات الموقف الفرنسي في ضوء تصاعد نذر الحرب الأميركية
محمد كريشان: صراعات الإرادات بين الولايات المتحدة وجبهة الرفض الأوروبية حول العراق يمضي إلى محطاته الأخيرة. تساؤلات حول طبيعة الصراع بين النظام الدولي الجديد ودعاة تعدد الأقطاب.
السلام عليكم. النموذجان الأميركي والأوروبي يواجهان امتحاناً عسيراً على عتبات العراق، فقد تظاهر ملايين الأميركيين والأوروبيين تعبيراً عن الرفض الصريح للحرب فيما يصر أصحاب القرار في واشنطن ولندن وعواصم أوروبية تابعة لهما على عدم الاستجابة لإرادة الملايين التي انتخبتهم، (شيراك) في فرنسا و(شرودر) في ألمانيا يأبيان إلا أن يكونا استثناءً يؤكد الأصل الليبرالي الذي تقوم عليه حضارة الغرب أو تتباهى به على الأقل، غير أن جبهة الرفض الأوروبية لا تستند في رأي البعض إلى توجُّه أخلاقي بقدر التمسك بمصالح القارة الأوروبية التي يشكل العالم العربي جزءاً مهماً من محيطها الاقتصادي، قد لا تهدف أوروبا بمعارضتها العنيفة حتى الآن إلى القضاء على الحليف الأميركي حسبما يشير الكاتب الفرنسي (إيمانويل توت) صاحب كتاب "ما بعد الإمبريالية"، ولكن إعادته إلى حجمه الطبيعي، فالصراع في جوهره بين أحادية دولية ودعاة لتعددية قطبية ينشدون عالماً يتسع لنفوذهم، هذا ما يتجه إلى ياسر أبو النصر في محاولته بلورة طبيعية الصراع في هذا التقرير.
طبيعة الصراع بين النظام الدولي الجديد ودعاة تعدد الأقطاب
تقرير/ ياسر أبو النصر: تبدو المعارضة الأوروبية التي تقودها فرنسا وألمانيا ضد قرار الحرب حلقة في مسلسل من التمرد الأوروبي المتصاعد على الهيمنة الأميركية، تلك المعارضة التي لاحت بوادرها فور سقوط الشيوعية برمزها الأشهر حائط برلين وبروز مساعي التميز الأوروبي على القطب الباقي في العالم. قطار التمرد الأوروبي مر بعدة تقاطعات مع الأسلوب الأميركي سواء في التعامل مع حروب البلقان أو الخلافات حول تعيين قيادات أوروبية في حلف شمال الأطلسي مروراً بحرب كوسوفا الأخيرة التي حظرت واشنطن خلالها معلومات وصور فضائية مهمة عن حلفائها الأوروبيين، وانتهاءً بمشروع الدرع الصاروخي الأميركي، ولكن ثمة اقتناعاً أوروبياً بأن الحرب الأميركية المزمعة ضد العراق هي قطب الرحى في استراتيجية أميركية للقرن الجديد تقوم على هيمنة مطلقة على المسرح الدولي لا يبقى معها للأمم المتحدة والقوى الأوروبية الفاعلة سوى مقاعد المتفرجين.
غيرهارد شرودر (المستشار الألماني): مهم جداً بالنسبة لنا استخدام لغة تعطي المفتشين الوقت الذي يحتاجونه، وكلمات من نوع "الوقت بدأ ينفذ" ليست مقبولة من جانبنا، الرئيس الفرنسي يشاركني الرأي أننا لا نحتاج إلى تغيير في موقف مجلس الأمن.
ياسر أبو النصر: التحصن الأوروبي في خندق مجلس الأمن والشرعية الدولية هو إحدى آليات الرفض الأوروبي، وهو رفض مسكون بهاجس تلك الاستراتيجية الأميركية التي يبدو أن الطبقة السياسية الأوروبية مقتنعة الآن أكثر من أي وقت مضى بأنها سابقة على الحادي عشر من سبتمبر وليست أثراً من آثارها.
تدلل على هذا وثيقة حول الصيغة الاستراتيجية الأميركية للقرن الجديد وضعها بول وولفويتس (نائب وزير الدفاع الأميركي حالياً، وأحد صقور الإدارة الأميركية المتنفذين) وعلى الرغم من أنها وجدت طريقها للنشر للمرة الأولى في العام 1991 إلا أنها عادت إلى الظهور في نهاية العام 2000 عندما تبناها تيار المحافظين الحاكم حالياً في الولايات المتحدة قبل الحادي عشر من سبتمبر.
وتنص أبرز محاور الوثيقة على:
اعتبار النظام العالمي القائم على منظمة الأمم المتحدة غير ملزم للولايات المتحدة.
العمل على منع ظهور أي قوة إقليمية منافسة عالمياً مثل اليابان أو ألمانيا.
نشر عدد كبير من القواعد العسكرية الأميركية في آسيا وأفريقيا.
منع أي دولة مشكوك في ولائها المطلق من امتلاك أسلحة التدمير الشامل.
الوصول بالجيش الأميركي إلى مستوى خوض أكثر من حرب في وقت واحد.
الأخذ بمبدأ الحرب الوقائية.
وأخيرا السيطرة المباشرة على منابع النفط وطرق إمداداته.
على أرضية الخوف من هذا المد الأميركي حاول الأوروبيون في قمتهم الأخيرة في بروكسل قبل أيام التمسك بأهداب النظام الدولي الذي يبقى لهم موطئ قدم على المسرح الدولي، ولكن عن أي أوروبا نتحدث؟ هل نتحدث عن أوروبا الأوروبية -كما يصفها البعض- التي تقودها فرنسا وألمانيا وبلجيكا ومعها رئاسة الاتحاد الأوروبي، أم ما يمكن أن نطلق عليه أوروبا الأميركية التي تتقدمها بريطانيا وإيطاليا وأسبانيا وينضوي تحت لوائها الآن عشر دول أخرى من الدول الاشتراكية السابقة التي وجدت في الظرف الحالي فرصةً لغزل العملاق الأميركي.
جاك شيراك (الرئيس الفرنسي): تصرف هذه الدول ليس مسؤولاً ولا ينم إطلاقاً عن الأدب، وأعتقد أنهم أضاعوا فرصة لإغلاق أفواههم، هذه الدول لم تدرك مخاطر انحياز متسرع إلى الموقف الأميركي.
ياسر أبو النصر: لقد حاول القادة الأوروبيون أن يتحدثوا بصوت واحد فتضمن بيانهم عدم حتمية الحرب وضرورة إعطاء المفتشين الوقت الكافي مع التأكيد على استمرار الضغط العسكري على العراق بحيث تكون الحرب هي الخيار الأخير.
وما لم يقله البيان قاله القادة الأوروبيون في مؤتمرات وتصريحات صحفية على حدة عكست اتساع شقة الخلاف.
أدريان نيستاس (رئيس وزراء رومانيا): في كل مرة اتشاجر مع زوجتي أوجه اللوم لأطفالي، مشكلة السيد شيراك بوضوح هي مع الأميركيين وليس مع رومانيا وبلغاريا.
ياسر أبو النصر: المواجهة الأوروبية الأميركية أعادت من جديد طرح الملف المؤجل الذي يشل حركة أوروبا سياسياً، فقد تحولت أوروبا بفضل وحدتها المالية إلى عملاق اقتصادي، لكن تباين سياسات دولها الخارجية يجعل من هذا العملاق -على حد وصف البعض- قزماً سياسياً عاجزاً عن الفعل.
محمد كريشان: إذن أكثر التحليلات شيوعاً في محاولة فهم صراع الإرادات الدولية حول العراق أن أوروبا الأوروبية -كما أصبح يسميها البعض- تريد إسماع صوتها بقوة تجنباً لتهميشها وتكريس استفراد واشنطن المطلق بإدارة دفة السياسة الدولية، فهل تفلح في ذلك؟
لبحث هذا الموضوع معنا من برلين المحلل السياسي (يورغن هوغريفي) سيد هوغريفي، إلى أين يمكن أن يسير هذا الخلاف الأوروبي الأميركي حول العراق؟
يورغن هوغريفي: إنه غير معروف حتى الآن، فالشق كبير جداً وواسع جداً، فالمسألة العراقية تفاقمت وأصبحت أزمة شديدة، وكما شاهدنا في السنوات الخمسة عشر الماضية بين أوروبا القديمة والولايات المتحدة، هذا الشق كبير جداً، ومن المحتمل جداً أن يؤدي ذلك إلى هوية جديدة أو.. هوية جديدة لأوروبا، وهذه الشراكة، فكل ذلك يعتمد على ما سيحدث خلال الأسبوعين أو الثلاثة القادمة.
محمد كريشان: ولكن كيف يمكن أن نفسر أن هذا الخلاف هو أعمق من مجرد مناكفة عابرة بين الجانبين؟
يورغن هوغريفي: كلا، هي ليست كذلك فحسب، بل هي أكثر من ذلك، فقد مضت أكثر من عشر سنوات بعد انتهاء الحرب الباردة وسقوط حائط برلين، وهذه بداية لمرحلة جديدة، وقد مضت عشر سنوات لكن هذا الأمر واضح جداً، فبقيت قوة عظمى واحدة في العالم، وكما ذكرت في التقرير الذي شاهدته بعد لحظات.. قبل دقائق قليلة أننا الآن في مرحلة علينا أن نقرر في أي اتجاه ستمضي أوروبا، هل ستكون أوروبا قادرة على إيجاد طريق خاص بها وفكر.. ومفهوم جديد خاص بها، أم أننا تجاه أوروبا تتبع بشكلٍ أو بآخر التوجه الأميركي وليس فقط الأسلوب الأميركي في الحياة، بل التوجه الأميركي السياسي، وأكثر من ذلك أيضاً.
محمد كريشان: ولكن في هذه الحالة على ماذا يراهن دعاة أوروبا الأوروبية؟ وعلى ماذا يراهن دعاة أوروبا الأميركية؟
يورغن هوغريفي: لست متأكد إذا فهمتك جيدا، لكن ما أقوله هو أن الأغلبية العظمى من الأوروبيين بهم من صالح توجهات الصداقة والشراكة بين.. الأطلنطي، أي أن تكون لهم شراكة جيدة مع الولايات المتحدة و.. بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة، فأكثر من 90% من الأوروبيين هم ضد الدخول في هذه الحرب ضد العراق، وهذا يبيِّن بشكلٍ واضح أنهم ليسوا ضد الولايات المتحدة والأمركة، بل هو قرار واضح أن معظم الأوروبيين لا يحبون الأسلوب الذي تقوم فيه هذه الإدارة في واشنطن العاصمة في التصرف في العالم وحلها للمشكلات العالمية التي تراها مشاكل بشكلٍ لا توافق عليه أي دولة أوروبية باستثناء بريطانيا العظمى وإسبانيا وإيطاليا فقط.
محمد كريشان: إذن في هذه الحالة هل يمكن القول إن باريس وبرلين دُفعتا إلى هذه المواجهة بسبب المواقف الأميركية؟
يورغن هوغريفي: إنه خليط من عدة أمور. كما تعلمون فإن ألمانيا ليس لها أية تقاليد كبيرة أو عريقة في إيجاد طريقٍ خاصٍ بها في السياق الدولي، فقد خاضت حربين عالمين.. عالميتين، فلديها الخبرة في خوض الحرب مع الآخرين، لكن.. وخلال السنوات الخمسة عشر الأخيرة لم تكن لدينا خبرات كثيرة في تحديد دورنا في السياق العالمي، بل حاولنا أن نتبع السياسات التي كانت تحددها أوروبا في بروكسل والسياسات الأوروبية، وأن نكون جزءاً من الغرب، لكن في هذه المرة فإن ألمانيا تحاول أن تحدد لها دوراً أوروبياً خاصاً وجديداً في سياق المفهوم الدولي الذي والسياق الدولي الذي يمكن أن نسميه متعدداً أو ربما أحادياً بشكلٍ ما، لكن (جيرهارد شرودر) هو الشخص الذي يحاول أن يحدد هذا الدور، وأن يقيم علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، وهي ممكنة فقط في سياق التعددية.
محمد كريشان: ولكن سيد هوغريفي، كيف يمكن أن نفهم لماذا عجز شيراك وشرودر على أن يجلبا أكثر من بلد أوروبي إلى صفيهما، باستثناء بلجيكا وفي إطار الحلف الأطلسي تحديداً؟
يورغن هوغريفي: هذا سؤال صعب ومهم جداً، وليس.. من السهل إجابته، فهذه.. هذه الأمور لأسباب تاريخية يجب أن نكون مع التوجه الأميركي، لكن إذا أخذنا بولندا، فهم يخافون أن يقفوا بالمواجهة بين روسيا وألمانيا، فقد عانوا كثيراً من الاضطهاد من هاتين الدولتين خلال القرن أو الـ 150 عاماً الماضية، وبالتالي يحاولون أن يجدوا طريقةً تجعلهم مستقلين عن الروس أو الألمان، فبالتالي يعتقدون أنه من الجيد بالنسبة لهم أن يتقربوا من وجهة النظر الأميركية.
محمد كريشان: الخلاف الفرنسي والألماني مع واشنطن وصل إلى حد ملاسنات صحفية لاذعة، الآن تبدو اللهجة خفت إلى حدٍ ما، كيف يمكن أن نفسر ذلك؟
يورغن هوغريفي: إن حدة الحديث في الصحافة والسياسات أيضاً في الجانب الآخر لا أركِّز على هذه الحدة اللغوية، فبالنسبة لوجهة النظر الألمانية، فهي واضحة جداً، فمنذ بداية هذا الخلاف الذي بدأ بعد الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 وضَّح جيرهارد شرودر أننا لسنا مستعدين للمغامرات، وقال أن.. أن الحرب مع العراق ستكون مغامرة، وهولا يود أن يخوضها، فأعتقد أنه سيستمر في هذا الخط حتى النهاية.
محمد كريشان: ولكن اللهجة خُففت أساساً من قبل واشنطن، برأيك لماذا؟
يورغن هوغريفي: إن واشنطن العاصمة والإدارة في.. الأميركية في واشنطن هي الآن في عملية تعلم أيضاً واستفادة مما يمر، فقد أدركوا أنهم خرَّبوا كثيراً في العلاقات الدولية، وخاصة في العلاقات مع بعض الدول الأوروبية من خلال قسوتهم وأحادية الاتجاه، ووضع وجهة النظر الأميركية وفرضها على الأوروبيين، وخلال الأيام الأخيرة يمكن أن نلاحظ أنهم خففوا اللهجة، وحاولوا أن يكونوا بلهجة بعض الصداقة مع الألمانيين حتى لإقناع الألمان أكثر مما كانوا عليه خلال الـ 12 شهر الماضية، فبالتالي أعتقد أن هذه الحدة ستخف بشكل كبير ضد الألمان.
محمد كريشان: في النهاية إذا ما تصالحت أوروبا مع واشنطن على موقف موحد من موضوع العراق وأساساً موضوع الحرب، هل يعني ذلك أن أوروبا أضاعت فرصة تاريخية لإثبات أنها عامل أساسي وفاعل في السياسة الدولية؟
يورغن هوغريفي: في الواقع إن أوروبا لا تتحدث.. لم تتحدث قط بصوت واحد وهذا يبين أيضاً ما يحدث الآن أن أوروبا لا تتحدث بصوت واحد، ولا أود أن أقول أكثر من أن الأمر بحاجة إلى عشر سنوات كحد أدنى ليكون لهم وجهة نظر واحدة، لكن على الرغم من كل هذه الأمور، إلا أنني أعتقد أن ألمانيا تحاول أن تحدد وتوجد لأوروبا دور جديد، وكل ما يحدث بعد ذلك يجب أن ينضم تحت هذا الإطار وإطار الدور الجديد وستكون بداية لمرحلة جديدة في السياسة الأوروبية فيما يتعلق بعلاقاتها مع الولايات المتحدة ودول أخرى في العالم.
محمد كريشان: سيد هوغريفي شكراً جزيلاً لك. إذن هذا عن الموقف الأوروبي بشكل عام، ولكن فرنسا تشكل حالة متفردة داخل جبهة الرفض الأوروبية لكن سوابق باريس المتعددة في اللحاق بالموكب.. أي بالموكب الأميركي في اللحظات الأخيرة، لا تزال تلقى مزيداً من الشك حول صلاحية المعارضة الفرنسية للاستمرار.
بعد الفاصل: نظرة في ملابسات موقف باريس وآفاقه في ضوء تصاعد نذر الحرب الأميركية.
[فاصل إعلاني]
ملابسات الموقف الفرنسي وآفاقه في ضوء تصاعد نذر الحرب الأميركية
محمد كريشان: تعتبر فرنسا نفسها أقدم حلفاء الولايات المتحدة الأميركية وخلال مائتي عام من عمر علاقاتهما، أي منذ عام 1803 وقَّع 71 اتفاقية ثنائية في شتى المجالات، وعقب أحداث سبتمبر 2001 كان الرئيس الفرنسي شيراك من أوائل من هرعوا لمواساة الأميركيين إلا أن كل ذلك لم يمنع باريس من أن تمضي في رفضها للحرب إلى شوط بعيد في تحدٍ للإرادة الأميركية، ولكن ترى هل تصمد أو تصمد المبادئ الأخلاقية والسعي الفرنسي الدائم للتميز أو الاختلاف داخل التحالف الأميركي -الأوروبي أم يتراجع شيراك في اللحظة الأخيرة طمعاً في المغانم المرتقبة بعد ما تضع الحرب أوزارها.
زياد بركات يحاول الإجابة في هذا التقرير الذي تقرأه رفاه صبح.
تقرير/ زياد بركات – قراءة/ رفاه صبح: تعيد معارضة الرئيس الفرنسي جاك شيراك لخطط واشنطن الحربية إلى الأذهان موقف سلفه الراحل (فرانسوا ميتران) من الأزمة العراقية عام 1990، فبعد أشهر من الحديث عن ضرورة البحث عن حل سلمي للأزمة التحق ميتران بقطار الحرب الأميركي في اللحظة الأخيرة، وهو ما دفعت فرنسا ثمنه لاحقاً حين دعت واشنطن إلى مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط استُثنت منه باريس، وذلك عقاباً على ترددها في دعم الولايات المتحدة، ويمكن القول: إن معارضة الأميركيين قبل اللحاق بهم في الأزمات الكبرى هي سمة الدبلوماسية الفرنسية بامتياز منذ قيام الحلفاء بقيادة (أيزنهاور) بتحرير باريس عام 1944، فـ (ديجول) بطل باريس وأسطورتها هو نفسه من سارع إلى دعم واشنطن فيما سُمِّي بأزمة الصواريخ الكوبية في مطلع الستينيات، ورغم أن أسطورته كزعيم تاريخي قامت على كونه معارضاً للنموذج الأميركي في إدارة الأزمات، ويرى كثير من المحللين أن شيراك لن يختلف كثيراً عن أسلافه في الإليزيه، وأنه ربما يلتحق بآخر عربات القطار الأميركي، دون أن يكسب واشنطن أو حتى ينسجم مع خطابه الأخلاقي المعارض للحرب ضد العراق ويرى هؤلاء في تأييد شيراك المتأخر للحملة الأميركية في أفغانستان مثالاً قد يتكرر في حالة العراق، ويشار إلى أن موقف شيراك المعارض لواشنطن استثار حنين الفرنسيين إلى ماضي بلادهم الأوروبي المجيد، ففي استطلاع للرأي نشر مؤخراً أعرب 81% من الفرنسيين عن تأييدهم لموقف شيراك من الولايات المتحدة بشأن الأزمة العراقية، في حين أعرب 15% منهم فقط عن معارضتهم لموقفه، وأظهر الاستطلاع أيضاً أن 76% من الفرنسيين ينظرون سلباً إلى الرئيس الأميركي (جورج بوش) غير أن هذا لم يمنع إبداء 60% من مؤيدي شيراك شعوراً إيجابياً تجاه الشعب الأميركي نفسه، وكذلك اعتقد 66% من الفرنسيين أن العلاقات بين بلادهم وباريس [أمريكا] ستعود إلى سابق عهدها، ورغم تصاعد حركة الشد والجذب بين الأميركيين والفرنسيين، فقد حرص شيراك في الآونة الأخيرة على النأي بنفسه عن عداء الأميركيين والتأكيد على معارضته وحسب لبعض سياساتهم، ففي حوار أجرته معه مؤخراً مجلة "التايم" حرص شيراك على نفي أن تكون بلاده معادية لواشنطن كما أكد على عمق الصداقة بين البلدين فهل يُشكِّل هذا وغيره مقدمة لتغيير في الموقف الفرنسي يعيد به شيراك سيرة سلفه ميتران، أم أنه طلاق بائن بين البلدين قد وقع؟
محمد كريشان: هذا هو التساؤل الرئيسي عند وضع الموقف الفرنسي من الأزمة العراقية تحت المجهر، فالبعض يراهن على طول نفس باريس في الوقوف في وجه واشنطن، فيما يشكك آخرون في ذلك بشكل جدي. معنا من باريس البروفيسور إيمريك شوبراد (أستاذ الدراسات الجيوسياسية بجامعة السربون).
بروفيسور، لماذا كانت فرنسا هي الأعلى صوتاً في معارضة سياسة واشنطن تجاه العراق؟
د. إيمريك شوبراد: كما تعلمون فإن فرنسا والولايات المتحدة تقوم بينهما علاقات كبيرة وهما حليفان، لكن كل واحد من البلدين يعتبر بلداً مستقلاً له مصالحه الخاصة ويمكن أن تكون له تحاليله الخاصة، ومن هنا يمكن أن تختلف المصالح والتحليلات فيما يخص القضية العراقية، وأنا لا أشاطر التعليق الذي تابعناه قبل قليل يمكن أن أقول إن ما يسمى بأزمة الصواريخ سنة 62 كان الخلاف فيها بين الأميركيين والسوفييت حينئذ، وكانت فرنسا بطبيعة الحال إلى جانب الأميركيين في هذه الأزمة، أما في سنة 91 فالسياق يختلف اختلافاً جذرياً كان هناك احتلال العراق لدولة مستقلة هي الكويت، وكان هذا خرقاً وانتهاكاً للقانون الدولي، وكان يختلف اختلافاً جذرياً مع ما وقع في كوبا عام62، إذن يمكن أن.. ما كان يمكن أبداً لفرنسا أن تقف موقفاً غير الموقف الذي وقفته عام 91، ففرنسا موقفها واضح، وهو احترام القانون الدولي والتشبث به، ونحن ضد ما يسمى بأي حرب تخاض من أجل تغيير نظام في بلدٍ ما، لأن النظام، أذن أنا أختلف مع هذا النظام، ولذلك فالعراق الآن لا يعتدي على أي بلد، وليس هناك أي سند قانون يمكن الاعتماد عليه بخوض حرب ضد هذا البلد، من جهة أخرى فنحن سنناقض أنفسنا ونتناقض مع القانون الدولي، إذا اتخذنا موقفاً مغايراً للموقف الذي نتخذه الآن، ولذلك ففرنسا من جهة أخرى ترى أن آثار هذه الحرب إن شُنَّت ستكون لها.. ستكون خطيرة خاصة على منطقة البحر الأبيض المتوسط، وستشجع على ما يسمى بصراع الحضارات والتي يمكن أن تصب في مصلحة الولايات المتحدة والصهاينة والإسلاميين، لكنها ليست في مصلحة الأوروبيين والشعوب الإسلامية.
محمد كريشان: الآن الموقف الفرنسي يبدو بشكل كبير مستند إلى اعتبارات أيضاً أخلاقية، إلى.. إلى أي مدى يمكن أن تستمر باريس في التمسك بهذا البعد الأخلاقي في الموضوع؟
د. إيمريك شوبراد: هناك البعد المتعلق بالقانون الدولي، وهناك أيضاً البعد المتعلق بالأخلاق، وهناك البعد المتعلق باحترام سيادات الدول، وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ولكن ينبغي أيضاً ألا ننسى أبداً أن فرنسا قوة عظمى على المستوى العالمي، وهي حاضرة على مسارح مختلفة في المحيطات الهادي والأطلسي، ولها مصالح يمكن أن تتعارض مع المصالح الأميركيين الذين يمثلون أكبر قوة في العالم اليوم، وعلى كل حال ففرنسا لن تقبل أبداً منطق الهيمنة الذي تتشبث به واشنطن في الوقت الحالي، ونحن نعرف أن المحللين الفرنسيين يرون هيمنة أميركية متزايدة، فواشنطن تحاول بسط سيطرتها على العالم خلال السنوات القادمة، وهذا أمر يمكن أن يكون صعباً جداً، لأن هناك أقطاب أخرى، منها القطب الصيني على سبيل المثال، و القطب الأوروبي، ويمكن أن نقول إن الحرب التي تنوي الولايات المتحدة خوضها على العراق غرضها الأساسي هو السيطرة على منابع النفط، وبالتالي خاصة أن.. أن مصادر النفط ستشكَّل مصدراً استراتيجياً متزايداً في السنوات القادمة، ولذلك تحاول الولايات المتحدة بسط سيطرتها من بحر قزوين إلى المحيط الأطلسي للسيطرة على كل منابع النفط في العالم، وهذا أمر لا يمكن إطلاقاً أن نقبله، ولا يمكن أن نقبل أن يكون سببا لشن الحروب على الدول.
محمد كريشان: على ذكر النفط، كيف يمكن أن يُرَد على أولئك الذين يعتقدون بأن الموقف الفرنسي له بُعد اقتصادي بسبب ضعف العلاقات الاقتصادية مع العراق وحرص باريس على أن يكون لها موطئ قدم في المنطقة من الناحية الاقتصادية؟
د. إيمريك شوبراد: ينبغي ألا نكون منافقين، ولكم الحق في ما قلتموه، ففرنسا لها مصالحها الاقتصادية، وهي تدافع عن هذه المصالح، لها مصالح في العراق، وروسيا أيضاً لها مصالح في العراق، وبطبيعة الحال فإن فرنسا كروسيا كلاهما تعلم أنه عندما تحتل الولايات المتحدة العراق فلن يكون لأي من البلدين نصيب في الثروة النفطية العراقية، لكل بلد مصالحة، وبالطبيعي.. ومن الطبيعي جداً أن يدافع عن هذه المصالح، لكن دفاعنا عن مصالحنا ينبغي ألا يحملنا على انتهاك القوانين الدولية، وينبغي أن يظل دائماً في إطار احترام القانون، واحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهذه الاعتبارات تجعلنا نرفض إعادة التشكيل وإعادة بناء الشرق الأوسط، لأنه عملٌ غير أخلاقي، وعملٌ يستند إلى معايير تنطلق من.. من اعتبارات غير أخلاقية، وفرنسا لها مصالحها في مناطق مختلفة من العالم في إفريقيا، وفي آسيا، وفي مواقع كثيرة تحاول الولايات المتحدة اليوم أن تطردها منها، وأن تنافسها فيها منافسة شديدة، لكن هناك أيضاً الصين وروسيا، وهما بلدان لهما أيضاً تناقضات عميقة مع الولايات المتحدة، ويمكن أن ينسحب نفس الشيء بالنسبة للاتحاد الأوروبي، نحاول.. نلاحظ أنه ليس هناك صوت أوروبي موحَّد، لماذا؟ لأن أغلبية الدول التي تشكل الاتحاد الأوروبي دول في الحقيقة تتعارض مصالحها الجهوية والإقليمية، وعندما يكون.. وعندما لا تتعارض مصالح بعضها مع المصالح الأميركية، فإنهم ينحازوا للأميركيين، لكن فرنسا وألمانيا في هذه الحالة العراقية تختلف مصالحهما عن المصالح الأميركية، وبالتالي يكون من المنطقي أن يعارضا واشنطن، وهذا سبب جيوسياسي يتعلق بتعارض المصالح.
محمد كريشان: سيد شوبراد، شكراً جزيلاً لك، وبهذا نصل إلى نهاية هذه الحلقة، دمتم في رعاية الله، وإلى اللقاء.