الأزمة الرأسمالية الأميركية
مقدم الحلقة: | مالك التريكي |
ضيوف الحلقة: | د. دين بيكر: مدير مركز البحوث الاقتصادية د. حليم بركات: باحث وأستاذ سابق في جامعة جورج تاون |
تاريخ الحلقة: | 08/08/2002 |
– مسلسل فضائح انهيار الشركات الكبرى وأزمة النظام الاقتصادي الأميركي
– التداعيات السياسية والاجتماعية لفضائح الاقتصاد الأميركي
مالك التريكي: تواصل مسلسل فضائح الإفلاس والانهيار في كبريات الشركات في الولايات المتحدة، تساؤلات حول الدلالات الاقتصادية والسياسية لأزمة الرأسمالية الأميركية.
أهلاً بكم، بعد أقل من 3 أشهر فقط من انهيار مبنى التجارة العالمي في الحادي عشر من سبتمبر انهارت شركة (إنرون) سابعة كبريات الشركات الأميركية، لهذا رأى البعض أن هنالك رابطاً دلالياً بين الانهيارين على اعتبار أن ما يرمز إليه مبنى التجارة العالمي هو ما تجسمه شركة إنرون، أي الرأسمالية الأميركية، وبعد أن تبعت شركة (إنرون) إلى هاوية فضائح الإفلاس والانهيار عدة شركات أميركية أخري، مثل (جلوبال كروسينج) و(زيروكس) و(أدلفيا كوميونيكيشن) و(باليجرين سيستمز) و(وورلد كوم) كتبت "لوس أنجلوس تايمز" أن الطفرة الخبيثة التي لا تزال تستحكم في الرأسمالية الأميركية منذ عقدين واستيلاء الشركات الكبرى بأموالها على السياسة الأميركية قد أصابا الولايات المتحدة بضرر أكبر وأخطر بكثير مما يمكن أن يسببه إرهابيو القاعدة بأية حال من الأحوال، انتهى الاقتباس، ذلك أن سلسلة الفضائح التي عصفت بعدد من كبريات الشركات في الولايات المتحدة على مدى الأشهر الثمانية الماضية قد كشفت اشتداد أزمة الرأسمالية الأميركية بفعل طغيان جانب الفساد والافتراس على بقية جوانب نظام إدارة الأعمال في الشركات الكبرى، فقد ظهر منذ أواخر السبعينات شكل جديد من الرأسمالية في الولايات المتحدة يقوم من الناحية النظرية على القول بأن تحرير الاقتصاد من التنظيم والتقنين بهدف إفساح المجال أمام كل فرد للسعي نحو تحقيق مصلحته الخاصة، سيفضي إلى قيام اقتصاد يتميز بأقصى قدر من النجاع وأن هذا في حد ذاته كفيل بضمان أقصى قدر من المصلحة العامة، وكان من نتيجة مباركة هذه النظرية للجشع أن تفاقمت اللا مسؤولية الاجتماعية والنزعة الاستغلالية ، فتحولتا إلى ثقافة سائدة لدى النخبة الاقتصادية.
غير أن النخبة السياسية لم تنج هي أيضاً من أضرار هذه الأزمة التي كشفت مدى تشابك المصالح بين أصحاب الشركات الكبرى وبين مسؤولي البيت الأبيض والكونجرس وموظفيهما إذ رغم أن قضية العلائق الوثيقة بين أوساط المال وأوساط المال وأوساط السياسة في الولايات المتحدة قضية قديمة ومعروفة فإنها قد اكتسبت في عهد الرئيس (بوش) بعداً إضافياً، ذلك أن إرادة بوش كانت تفاخر أول الأمر بأنها ستصلح ما فسد في واشنطن عن طريق انتداب عدد كبير من المسؤولين والموظفين السابقين في قطاع المال والأعمال، ممن يفترض أنهم أدرى من الساسة التقليدين بطرائق الإدارة الناجعة، إلا أن ما تبين هو أن هؤلاء لم يجلبوا معهم من قطاع المال والأعمال إلا روائح الفضائح من بعض الشركات التي كانوا يعملون بها وأولها شركة (إنرون).
ياسر أبو النصر يستعرض مسلسل فضائح الإفلاس والانهيار في الشركات الكبرى بالولايات المتحدة.
مسلسل فضائح انهيار الشركات الكبرى وأزمة النظام الاقتصادي الأميركي
تقرير/ ياسر أبو النصر: الفساد هو الفساد، لا فرق في ذلك بين واشنطن وجمهوريات الموز، مع من ترددت أصداؤه كثيراً خلال الشهور القليلة الماضية، بينما يتابع الأميركيون ومعهم العالم بدهشة مسلسل فضائح الشركات العملاقة الذي بدأ في ديسمبر الماضي ولا أحد يعلم متى ينتهي.
شركات تعلن ازدهاراً مصطنعاً عن طريق الكذب، وتلفق الحسابات بشكل ترتفع معه قيمة أسمهما بطريقة جنونية، ليفيد من ذلك مدراؤها والمتواطئون معهم، لتحقيق مكاسب شخصية، ويستيقظ المستثمرون الذين ابتلعوا الوهم ومنهم كثرة غالبة من عمال هذه الشركات، وقد تبخرت أموالهم التي أدخروها لقادم الأيام.
الأميركيون أصبحوا يستقبلون يومهم كل صباح على واقع فضيحة جديدة، منذ أعلنت شركة (إنرون) كبرى شركات الطاقة الأميركية في الثاني من ديسمبر الماضي إفلاسها بعد كشف النقاب عن مخالفات حسابية أخفت خسائر بقيمة 25 مليار دولار.
ولم تلبث شركة الإتصالات الأميركية العملاقة (جلوبال كورسينج) أن لحقتها لتفتتح فضائح هذا العام في الثامن والعشرين من يناير معلنة إفلاسها تحت وطأة ديون بلغت 26.6 مليار دولار.
وبينما كانت تحقيقات (إنرون) تتواصل دوت فضيحة شركة (أندرسون) العملاقة للمحاسبة، عندما أدينت في الخامس عشر من يونيو بالمشاركة في تلفيق حسابات (إنرون) وعن قلة سير التحقيقات.
لم يمض يومان حتى استقال المدير التنفيذي لشركة (كويسك كوميونيكيشن) في السابع عشر من يونيو الماضي إثر التحقيق معه في مخالفات محاسبية بلغت قيمتها 1.16 مليار دولار.
(أدلفيا كوميونيكيشن) سادس أكبر محطة تليفزيون أميركية أدخلت المؤسسات الإعلامية على خط الفساد، وفي الخامس والعشرين من يونيو الماضي أعلن إفلاسها تحت وطأة ديون غير ظاهرة في تقاريرها المحاسبية بقيمة 3.1 مليارات دولار.
لكن فضيحتها توارت أمام زلازل شركة (وورلد كوم) كبري شركات الاتصالات ونقل المعلومات، التي اضطرت في اليوم نفسه إلى الاعتراف بمغالطات في كشوفها المحاسبية بقيمة 3.8 مليارات دولار فيما وصف بأكبر مخالفة من نوعها، ولم تشأ شركة (زيروكس) أن يمر الشهر دون أن تعلن قرب نهايته اعترافها بمخالفات في التقارير الضريبية وإخفاء أرباح بقيمة 1.4 مليارات دولار.
أمثلة بارزة قد لا تحصي كل مكونات المشهد، ولكن تعددت الشركات والفساد واحد، غير أن نتائج الفساد ليست واحدة، فهي تتوزع على خارطة واسعة من الآثار يتصدرها اقتصادياً إفلاس العديد من المؤسسات ووضع أخرى على طريق التصفية، اهتزاز أوراق الأسهم والأوراق المالية، هروب الاستثمارات واهتزاز الثقة في الولايات المتحدة كملاذ أمن للاستثمارات، تراجع قيمة الدولار عموماً وأمام العملة الأوروبية على وجه الخصوص، في مقابل ذلك تعهد (بوش) بملاحقة المفسدين وتشديد العقوبات، وسبق تعهداته تلك اقتراح خطط في أوائل العام لحماية معاشات التقاعد من التلاعب، لكنه بدا حريصاً في تعامله الإعلامي مع الأزمة على التأكيد أن الصورة ليست بهذه القتامة.
كلمات بوش المتعادلة كثيراً ما تتوه في غمرة مشاعر عامة من افتقاد الاستقرار وهيمنة الشك أفرزتها الأزمة، وخاصة بعد أن تسلطت الأضواء على تلك العلاقات الخاصة بين رجال المال والسياسة كباب واسع للفساد، تفاصيل تلك العلاقات تنسجها تبرعات الشركات ورجال المال السخية للأحزاب والحملات الانتخابية، وتكشف عن خطورتها أرقام فلكية من ذلك النوع الذي نشرته صحفية "تكساس مو نتلي" حول هبات شركة (إنرون) للسياسيين والأحزاب، وتأكيدها أن 70 من كل مائة من أعضاء الكونجرس تلقوا من الشركة مساعدات سخية لتمويل حملاتهم الانتخابية، أجواء من التوجس، لم يكن غربياً في ظلها أن يمتد التنقيب إلى ممارسات مالية مشابهة ومشبوهة في سجلات كل من (بوش) ونائبه (ديك تشيني) أثناء تبوءهم مواقع قيادة سابقة في شركتي (هاركن إنرجي) ، و(هال برتن) فإلى أين يمضي قطار فضائح الفساد المالي (بجورج بوش).
استطلاعات الرأي وإن أشارت إلى انخفاض نسبي في شعبيته بوش عما كانت عليه بعد الحادي عشر من سبتمبر، لكنه يظل محتفظاً بتأييد نسبة لا تقل عن 60%، لكن الديمقراطيين المنافسين الذين ما برحوا ينتقدون تعامله مع الأزمة سواء من داخل الكونجرس أو خارجة ، تلقفوا تلك الهدية ليبنوا عليها آمالاً عريقة في تحقيق نصر في انتخابات الكونجرس في نوفمبر المقبل.
وفي سياق ذلك الرهان راحت كوادرهم تطلق التصريحات المتوالية بأن وصفة استعادة عافية الاقتصاد الأميركي لا يمكن إلا أن تكون ديمقراطية نسبة إلى حزبهم الديمقراطي، لكن العراك السياسي بين الجمهوريين والديمقراطيين مهما بلغت حدته يتضاءل أمام ما كشفته الأحداث من أزمة عميقة تضرب في صلب النظام الرأسمالي الحديث الذي بات يتعين عليه الكثير لاستعادة ثقة الناس.
مالك التريكي: مسلسل فضائح انهيار الشركات الكبرى في الولايات المتحدة يشير إذاً إلى حدوث أزمة في بنية النظام الاقتصادي الأميركي، خاصةً أن استطلاعات الرأي العام بينت أن ثقة المواطنين الأميركيين في مدراء الشركات أضعف من ثقتهم في كرادلة الكنيسة الكاثوليكية رغم الفضائح الأخلاقية التي هزت هذه الكنيسة أخيراً، كما بدأ الساسة وفي مقدمهم الرئيس بوش يحذرون من أن استمرار مسلسل الفضائح ينذر بأن يفقد الشعب الأميركي ثقته في نظام الاقتصاد الحر.
معنا من واشنطن لبحث هذه القضية الدكتور دين بيكر (أحد مديري مركز البحوث الاقتصادية والسياسية).
دكتور دين بيكر، لقد بينت كل التصريحات التي أدلها بها الرئيس بوش وزعماء أوساط المال والأعمال في أميركا في أعقاب مسلسل فضائح الشركات الكبرى في أميركا أنهم لا يعتقدون أن هنالك أي عيب جوهري في بنية النظام الاقتصادي الأميركي، وأن كل الفضائح إنما هي نتيجة بعض المخالفات التي ارتكبها عدد قليل من مسؤولي ومدراء هذه الشركات، هل هذا تحليل مقبول؟
د. دين بيكر: من الواضح إن هناك مشكلة عميقة جداً، لأن أكبر الفضائح التي سمعنا بها، وبالتأكيد سوف نسمع عن الكثيرات بالإضافة إلى ما سمعناه حتى الآن، ومن الضروري أن نتذكر أنه في كل قضية من هذه القضايا هناك أعداد كبيرة من الناس ضالعة في القضية.. عدا عن ثلاث أو أربع الذين قيل أنهم كانوا على علم فيما حدث في أنرون ووورلد كوم، ولكن بالتأكيد وبكل وضوح أن هناك أناس كثيرون مثل المحاسبين أيضاً الذين لابد وكانوا يعرفون بما يحدث، ومن جهة فإن لا يمكن أن نذهب لماذا لم يذهب هؤلاء إلى وكالات الشرطة والمتخصصة بفرض القانون ليخبروهم بما حدث؟ إن شيئاً كهذا لم يحدث، ولذلك فإن أعداد الناس الذين كانوا مستعدين لارتكاب أفعال التزوير والاحتيال مثل هذه ربما لا يكون كبيراً، ولكن هناك الكثيرين الذين سمحوا بهم وغضوا النظر عنهم وعن أفعالهم، ولم يقولوا أي شيء، واستمر القول والتأكيد على أن إنرون هي شركة عظيمة وممتازة، والأوضاع على ما يرام، والحسابات والكشوفات حسابات لم.. لم يكتشف أحد أي خلل فيها وأيضاً المدراء والمحاسبين المستقلين، صناديق التقاعد والمعاش الكبيرة لم يكتشفوا ذلك أيضاً، إذاً هناك أسباب كثيرة تدعو إلى القلق وتتجاوز المسألة عدداً صغيراً من الناس من مثيري المشاكل.
مالك التريكي: هنالك فرق كبير مثلاً بين التعقيدات القانونية التي لجأت إليها شركة أنرون لارتكاب هذه المخالفات وبين البساطة المذهلة مثلاً التي قامت بها شركة وورلد كوم لتضخيم.. تضخيم أرباحها، وهو نقل مثلاً نفقات من بند الديون إلى بند الاستثمارات، لكن ألا يصح للتبسيط لكي.. لكي نفهم لب المشكلة، ألا يصح للتبسيط القول إن السبب في معظم هذه الفضائح هو أن الشركات تضخم أرباحها لمجرد جلب المزيد من المستثمرين؟
د. دين بيكر: من الواضح أنهم كانوا ينظرون إلى الأمد القريب، لا أملك معلومات سرية، أو معلومات كيف كان يفكر هؤلاء؟ لكن شركة مثل وورلد كوم حسب تخميني إنهم كانوا يأملون إنهم سوف يحققون ويجنون الأرباح في الأمد القريب وعلى الأمد البعيد ربما سيحققون فعلاً بعد أن زوروا الحسابات وادعوا أنهم حققوها بالفعل من الآن، ولو تحدثنا عن مبلغ مثل 3.8 مليار دولار، فهو رقم كبير جداً حتى بالنسبة لشركة كبيرة، فحاولوا على المدى القصير أن يظهروا الأمور وكأنه على ما يرام، وأن أرباحهم عالية، على أمل إن الأمور ستتحسن بعد عامين أو ثلاثة وواضح إن الأمور لم تحدث كما كانوا يتوقعون.
مالك التريكي: ربما الأخطر من تراجع سوق الأسهم وتراجع الآداء الاقتصادي في أميركا هو أن هذه الأزمة قد أصابت المؤسسات الأساسية للرأسمالية الأميركية، مثل قواعد المحاسبة وهيئات الإشراف القانوني التي كان من المفترض أنها تراقب طريقة عمل هذه الشركات، ألا يدل هذا إلى انتفاء بعض من الشروط الأساسية لعمل النظام الرأسمالي فقدان الثقة؟
د. دين بيكر: نعم، وإلى حدٍ كبير، ودعني فقط أشير إلى نقطة مهمة، فإن من الأهمية بمكان أن ندرك إن قبل حدوث الفضائح وفي عام 99 وعام 2000 كانت هناك طفرة سريعة في الأرباح في سوق الأسهم، لم يمكن المحافظة عليها، ولم نعرف بالضبط الظروف المحيطة بذلك، ولكن السوق عادت إلى الوضع الطبيعي الذي يجب أن تكون فيه، فالمشكلة كانت في وجود هذه الطفرة السريعة أصلاً.
ولكن لو عدنا إلى سؤالكم، أنتم محقون تماماً، هناك مشاكل كبيرة وعميقة في نظامنا من.. من أسسه، وتذكروا إنني حضرت مؤتمراً قبل مدة، والكل كان يحتفي بالنظام الأميركي، وكيف يمتدحون أنه أفضل بكثير من النظم القائمة في البلدان الآسيوية، والآن أنا أكثر شكوكية، والسبب إلى الشك واضحة تماماً والنظام.. ونظام الضرائب الذي يُفترض أنه يظهر لنا إن هناك شفافية في كشوفات الحسابات بدا هذا نظام الضرائب أضعف بكثير مما كنا نعتقد، وأن الكثيرين من الناس الذين هم مسؤولون عن هذه أيضاً عليهم مسؤولية.
مالك التريكي[مقاطعاً]: دكتور بيكر.. دكتور بيكر، بما أنكم.. دكتور بيكر، بما أنكم ذكرتم الاقتصاد الآسيوي، قبل أعوام قبل أربعة أعوام بالضبط كان الاقتصادي الآسيوي يعاني من أزمة حادة عندئذٍ كان المعلقون الأميركيون يلومون أو يعزون هذه الأزمة إلى ما يسمونه برأسمالية الأصحاب والخلان رأسمالية الشللية Crony Capitalism الآن ألا يصح القول إن هنالك صيغة من الـ Crony Capitalism الأميركي؟
د. دين بيكر: نعم، وإلى حد كبير، وهذا بالضبط هو الذي حدث، وتكشفت الأمور عن وجود مدراء كانوا يتعاملون ويعقدون صفقات بناءً على معلومات داخلية مسبقة والوسطاء، واليوم مثلاً هناك قضية عن كيف إن (ميرو لنس) ساعدت شركة أنرون لتضخيم أرباحها إذاً كانت هناك تعاملات تتم بحسب معلومات داخلية سرية، وهناك محللين للأسواق كانوا يقولون أشياء طيبة عن الشركات عندما كانوا يدركون حقيقةً إن الأمر ليس كذلك نعم، نحن هناك مشكلة نعاني منها كما ذكرتم رأسمالية الشلل والأصحاب، وهذه.. وهؤلاء أيضاً تحركوا ضد مصالح المستثمرين، وكما حدث في أنرون ووورلدكوم، وغيرها، خسر الناس الكثيرين من استثماراتهم ومدخراتهم، إذاً هناك مشكلة كبيرة كما وصفتم.
مالك التريكي: دكتور دين بيكر (أحد مديري مركز البحوث الاقتصادية والسياسية بواشنطن)، لك جزيل الشكر.
بمثل ما يتحدث الرئيس (بوش) منذ مدة عن وجوب الإصلاح في السلطة الفلسطينية فإنه قد بدأ منذ مدة يتحدث أيضاً عن وجوب الإصلاح في إدارة الشركات الاقتصادية الأميركية، إلا أنه لم يفعل شيئاً في مجال إصلاح الحياة السياسية الأميركية وتنقينتها من التلوث المالي.
بعد الفاصل نظرة في التداعيات السياسية لفضائح قطاع المال والأعمال في الولايات المتحدة.
[فاصل إعلاني]
التداعيات السياسية لفضائح الاقتصاد الأميركي
مالك التريكي: فضلاً عن الأبعاد الاقتصادية والإدارية والأخلاقية المباشرة والواضحة هنالك أيضاً أبعاد سياسية واجتماعية خطيرة لمسلسل فضائح الشركات الأميركية، خاصة أن بعض أفراد الإدارة الحالية ارتبطوا ببعض هذه الشركات بأكثر من شكل، فنائب الرئيس الأميركي ديك تشيني مثلاً كان – قبل التحاقه بحملة الرئيس بوش-رئيس شركة خدمات نفطية كبيرة تخضع حالياً للتحقيق من قبل لجنة السندات المالية في شأن تلاعبات محاسباتية إبان فترة ولايته، ومن حيث الأبعاد الاجتماعية نجد أن المستثمرين في قطاع الاتصالات وحده في غضون العامين الأخيرين خسروا أكثر من ألفي مليار دولار، وهم ما يعني أن عدداً كبيراً من الناس فقدوا مدخرات العمر ومعها فقدوا الشعور بالأمن المالي والاجتماعي، وفوق هذا كله فقد تدفع مخاوف إدارة الرئيس بوش من انعكاسات هذه الفضائح على فيما يتعلق بالشرق الأوسط.
لمناقشة الانعكاسات السياسية والاجتماعية لهذه الفضائح، معنا من واشنطن الدكتور حليم بركات (الباحث والأستاذ سابقاً في جامعة جورج تاون بواشنطن) دكتور حليم بركات، لقد قدرت الخسائر الناجمة عن انهيار شركة إنرون فقط بـ 60 مليار دولار، وهذا يعادل مجموع المساعدات التي تقدمها في العام.. في عام كامل الدول الغنية والمؤسسات الدولية للتنمية في الدول الفقيرة، ألا يدل هذا على خطورة النهج الذي تسير فيه الشركات الأميركية المعولمة؟
د.حليم بركات: لا شك في ذلك أن لها أخطار عديدة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، ويهمني شخصياً التركيز على الجانب السياسي والاجتماعي، فالمسألة في الواقع ظهرت الآن، ولكنها ليست جديدة كلياً، نعرف نحن أن هناك علاقة قوية بين ما يسمي.. الاقتصاد ورجال الأعمال، والأحزاب التي تتنافس للوصول إلى الحكم، وأعتقد إلى حدٍ بعيد أن هناك نظام رشوة لم تعترف به أميركا حتى الآن، وهي ما تسمية Contribution فهذه الشركات تقدم تبرعات تسمى تبرعات، وهي في الواقع رشوة، في واقع الأمر، لدعم بعض المرشحين ضد الآخرين، وهذه لأمد طويل، وتزداد تفاقماً سنة بعد سنة، وانتخابات بعد انتخابات.
النظام.. إفساد الحياة السياسية قائمة، هناك تعطيل في الواقع للديمقراطية، وتحويل لمفهوم الحرية من حرية إنسانية إلى حرية اقتصادية يسود فيها الاستغلال.
مالك التريكي: هنالك مشاريع كثيرة واقتراحات كثيرة بشأن إصلاح نظام التمويل الانتخابي في.. في أميركا، أين وصلت مثل هذه المقترحات، هل.. هل هنالك احتمال عملي لأن.. لأن تؤدي إلى نوع من الإصلاح الذي يطالب به بعض بعض المنتصرين للنظام الحالي؟
د.حليم بركات: أعتقد أن هناك الكثير من الانتقاد، وهناك دعوة للإصلاح، لأن هناك قلق اقتصادي، وقد تبين للأميركيين أنه ليس حالياً، بل في المدى البعيد هذا القلق قد يستمر، ولذلك هناك ضرورة للإصلاح، وقد قام البعض مثل السيناتور (شاربين) بتقديم محاولات للإصلاح ومراقبة الشركات، ووضع قوانين جديدة في هذا الأمر، لأن المشكلة في أميركا، سبب القلق الاقتصادي أن المال حقاً لم يتبخر، لم.. ماذا نقصد تبخر؟ أنه ما حدث أنه انتقل من جيوب الصغار إلى جيوب الكبار في هذه المسألة، سياسيين ورجال أعمال ووزراء شركات، تستعمل للمصالح الخاصة، كما سبق وبنيتم في هذا، إذن هناك القلق الاقتصادي عميق، والدعوة للإصلاح عميقة، وربما هذا سيؤثر جداً فيما يسمى اليمين الاقتصادي، فقد يفقد الكثير من الشعبية.
نعرف أن الرئيس بوش قال للأميركيين يجب أن يوظفوا ما وفروه وما لديهم من مال وحتى الضمان الاجتماعي في البورصة، ولكن الآن يعرفون أن الضمان الاجتماعي غير مكفول، والكثير من الصغار والطبقة المتوسطة فقدوا ما كانوا يعتمدون عليه للتقاعد، هناك إحساس بضرورة تأمين الضمان الاجتماعي، بدل من المغامرات، والاتكال على اقتصاد مهزوز، إذن هذا سيكون له انعكاساته السياسية، وربما حُدد..
مالك التريكي[مقاطعاً]: ولهذا.. دكتور بركات أسف على المقاطعة، ولهذا.. دكتور بركات، بسبب.. بسبب فقدان كثير من المواطنين الأميركيين لمدخرات العمر في صناديق المعاش، الأوروبيون يقولون الآن إن أميركا التي كانت تريد أن تعمم هذا النوع من.. من نظام تأمين المعاشات عن طريق الاستثمار في البورصة، وليس عن طريق الضرائب، مثلما يحصل في ألمانيا وإيطاليا وفرنسا مثلاً، يؤكد الآن أصلحية وأسبقية النموذج الأوروبي الرأسمالي، وهذا يذكر بكتاب شهير كُتب بعد انهيار جدار برلين يقول.. عنوانه "الرأسمالية ضد الرأسمالية"، ويقول: "إن هنالك الآن.. ليس هنالك خيار أمام.. أمام المجتمعات إلا الرأسمالية، ولكن لابد من الاختيار بين الراسمالية الأوروبية، أو الرأسمالية الأميركية"، ما رأيكم في ذلك؟
د.حليم بركات: أعتقد هذا.. هذا صحيح، يتوقف ذلك على مدى وجود وعي أميركي بضرورة هذا الإصلاح، لأنه في أميركا على عكس أوروبا حتى الآن علم الاجتماع والعلم الاجتماع السياسي تجاهل موضوع التحليل الطبقي كلياً، وأستطيع أن أقول من اطلاعي على علم الاجتماع الأميركي أن التحليل الطبقي هو تابو محرم، ولذلك نادراً ما تجد أبحاث في التحليل الطبقي وأوضاع الطبقات المستفيدة على حساب الطبقات الأخرى.
ما يحدث الآن ربما ينبه إلى ضرورة تحليل الطبقي وفهم الواقع الاقتصادي، وأن الأزمات لا تأتي من لا شيء، إنما تأتي من الفساد، ومن الاستغلال ووجود طبقات متفاوتة في معيشتها.
مالك التريكي: ربما مما -ساهم دكتور- بركات في تغيب العامل الطبقي في تحليل المجتمع الأميركي أن النقابات غُيب دورها أيضاً، وأن هنالك فصلاً مهولاً وعبثياً في بعض الأحيان بين الاقتصاد الحقيقي العملي الذي ينتجه العمال، وبين الاقتصاد المالي المضاربي، مثلاً تبين أن جميع الشركات الأميركية المسجلة في البورصة، هنالك فرق بين قيمتها الحقيقية وبين القيمة المعلنة.. المعلنة في البورصة يتجاوز ألف مليار دولار، أي أن هناك ألف مليار نوعاً ما زائفة، غير موجودة في الاقتصاد، ولكنها متداولة في شكل سندات.
د.حليم بركات: هذا أيضاً صحيح، والآن هذه الطبقات المهددة في ادخاراتها وفي معيشتها، والبعض بدأ يتردد في التقاعد، كل هذا ربما ينبه إلى أن هناك هذا الاقتصاد يقوم في الكثير منه على الوهم، هذا الوهم لم يدركه، هناك ما يسمي نزعة القطيع، الناس تٌقبل.. تظن أن هناك يمكنها أن تغامر اقتصاديا، الآن تبين أن هذه المغامرة قد تسبب قلقاً اقتصادياً كبيراً، وأزمات يصعب حلولها في المدى القريب، لهذا التأثير مداه البعيد.. في المدى البعيد، وهو أمر جوهريٌ جداً.
مالك التريكي: هنالك من قال إن انهيار شركة (إنرون) لوحدها أخطر من أزمة عام 29، وهنالك حتى من قال إن أزمة (إنرون) هي المنعطف الحقيقي للقرن الحادي والعشرين، وليست أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ما رأيك؟ باختصار شديد.
د.حليم بركات: رأيي.. ولكن.. هذا صحيح، ولكن أعتقد لا يجوز أن نركز على (إنرون) على أنه شيء متميز ومتفرد، أعتقد هذا جزء من.. مما تعاني منه الشركات بشكل عام، والآن نعرف عن (إنرون) وغيرها، ولكن غداً قد نعرف عن شركات أخرى، فالمشكلة لها أصول في الواقع الاجتماعي والاقتصاد السياسي.
مالك التريكي: دكتور حليم بركات (أستاذ علم الاجتماع بجامعة جورج تاون بواشنطن سابقاً) لك جزيل الشكر.
وبهذا تبلغ حلقة اليوم من (قضايا الساعة) تمامها، دمتم في أمان الله.
محاضر بجامعة جورج تاون حليم بركات – 09/08/2002 |
مدير مركز البحوث الاقتصادية والسياسية دين بيكر – 09/08/2002 |