تأمـــــلات

ما هكذا تورد الإبل.. ما قصة المثل؟ ومن هو ابن جني؟

يضرب هذا المثل لمن يقوم بعمل أو يؤدي مهمة بلا حذاقة أو إتقان، وقصة المثل تدور حول شخص من الجاهلية يدعى مالك بن زيد مناة بن تميم، وكان آبل أهل زمانه، أي أكثرهم عناية بالإبل.

ووردت قصة المثل في برنامج تأملات (2022/2/1)، حيث قيل إن مالكا تزوج ودخل بامرأته، فقام أخوه سعد برعاية أغنامه وتوريد إبله، ولكنه لم يكن بمهارة أخيه، ولم يحسن التعامل معها مثله، ولم يرفق بها كرفقه.

وعندما عاد أخوه من إجازته رأى ما فعل سعد مع الإبل، فقال مالك: أوردها سعد وسعد مشتمل، ما هكذا يا سعد تورد الإبل.

والبيت يشير إلى أن سعدا أورد الإبل ماء لا تصل إليه بالاستقاء، ثم اشتمل ونام وتركها، ولم يستق لها، أي يرفع لها الماء لتشرب، فصار البيت مثلا لمن لا يجيد القيام بمهمته كما يجب.

ابن جني وأثره

وعرّفت حلقة "تأملات" أيضا بـ"ابن جني"، وهو أبو الفتح عثمان بن جني إمام في اللغة والأدب والنحو، ولد في الموصل سنة 322 للهجرة، كان أبوه "جني" مملوكا روميا.

وكان عف اللسان والقلم، شديد الذكاء نبيه الملاحظة، تفوق على أقرانه وهو حدث يافع، وتذكر بعض الروايات أنه كان أعور، واتكل من قال بذلك على أبيات منسوبة إليه قال فيها معاتبا صديقا على غيابه: فقد، وحياتك، مما بكيت خشيت على عيني الواحدة، ولولا مخافة ألا أراك لما كان في تركها فائدة، نشأ ابن جني في الموصل وتلقى بعض العلم فيها، ثم استقر في بغداد.

ثم التقى بأستاذه وصديق عمره أبي علي الفارسي، ويقال إن أبا علي اجتاز بالموصل، فمر بالجامع وابن جني في حلقة يقرئ النحو وهو شاب، فسأله أبو علي عن مسألة في التصريف فقصر فيها، فقال له أبو علي: زببت وأنت حصرم. فسأل ابن جني عنه، ولزمه من يومئذ، ودامت علاقتهما لأكثر من 40 سنة كان ابن جني فيها تلميذا ومستشارا ومساعدا أكاديميا وصديقا شخصيا لأبي علي.

زار ابن جني حلب سنة 341 فاجتمع بأبي الطيب المتنبي، واستقام التجانس بين الرجلين سريعا، وكان المتنبي يجله ويقول فيه "هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس"، و"ابن جني أعرف بشعري مني".

في المقابل، أحسن ابن جني الثناء على المتنبي في كتبه، واستشهد بشعره في المعاني والأغراض، وكان يعبر عنه بـ"شاعرنا"، فيقول "وحدثني المتنبي شاعرنا، وما عرفته إلا صادقا.."، وقد عني بشرح ديوان المتنبي المسمى "الفسر" في شرحين: كتاب الشرح الكبير، وكتاب الشرح الصغير.

عرف عن ابن جني انفتاحه الفكري وعدم تعصبه لفكر أو موقف، فهو مثلا كان بصريا في النحو، لكنه أخذ عن الكوفيين كالكسائي وثعلب وأضرابهما، وكان يميل إلى المعتزلة في المذهب الكلامي إلا أنه لم يكن يظهر تعصبا لهم صراحة، ولم يبدُ أسير معتقدهم الخاص.

ترك ابن جني مؤلفات كثيرة في علوم اللغة والبيان والمعنى لا يزال الباحثون ينهلون منها إلى اليوم، بل إننا نجد أشباها لها في دراسات حديثة، ولا سيما في دراسات علاقة الدال بالمدلول في الكلام، والتي تشكل أس النظريات البنيوية في التحليل والنقد، ومن كتبه "سر صناعة الإعراب"، و"الخصائص"، و"المنصف في شرح تصريف المازني"، و"المقتضب"، وغير ذلك الكثير.

أفاض أئمة اللغة وأصحاب التراجم قديما وحديثا في الثناء عليه وفي الحديث عن كتبه وعن نهجه في مباحثه والذي يدل على عمق ثقافته ونفاذ بصيرته واستشرافه الممكنات في اللغة والتعبير، فقال فيه ياقوت الحموي "واعتنى بالتصريف، فما أحد أعلم منه به، ولا أقوم بأصوله وفروعه، ولا أحسن أحد إحسانه في تصنيفه".

وقال عنه الثعالبي "هو القطب في لسان العرب، وإليه انتهت الرياسة في الأدب". كانت وفاته جسدا في بغداد سنة 392 للهجرة، لكن روحه العلمية المرهفة ما زالت تحوم بيننا حتى اليوم.