تأمـــــلات

مي زيادة.. أديبة ملكت قلوب الأدباء وأودعت المصحة العقلية

قالت “ولدت في بلد، وأبي من بلد، وأمي من بلد، وسكني في بلد، وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد؛ فلأي هذه البلدان أنتمي؟ وعن أي هذه البلدان أدافع؟” هكذا اختصرت مي زيادة مسيرة حياتها.

وسلطت حلقة (2021/9/21) من برنامج "تأملات" الضوء على الأديبة مي زيادة، المولودة لأب لبناني وأم سورية في فلسطين، والتي عاشت القسط الأكبر من حياتها في مصر، ودفنت فيها.

وُلدت ماري إلياس زيادة في الناصرة سنة 1886، والدها إلياس لبناني عمل مدرسا، وأمها نُزهة معمّر ذات ثقافة أدبية رفيعة. ونشأت ماري وحيدة بعد وفاة أخيها الأصغر، وتلقّت في الناصرة مبادئ القراءة والكتابة، إلى أن انتقل والدها إلى قرية عينطورة في لبنان، حيث التحقت بمدرسة داخلية وهي في سن 14، وأمضت هناك 3 سنوات تدرس اللغة العربيّة واللغات الأجنبية والفنون والعزف على البيانو.

مع انتهاء دراستها عادت إلى الناصرة، حيث مكثت مع عائلتها حتى سنة 1908، حين انتقلوا جميعا إلى القاهرة، فعملت في تدريس الإنجليزية والفرنسية، وتعلّمت الألمانية والإسبانية والإيطالية، وما لبثت أن التحقت بجامعة القاهرة لدراسة الأدب العربي والتاريخ الإسلامي والفلسفة.

سنة 1909، وبسبب تقدمه في السن، منح إدريس بك راغب جريدته "المحروسة" ومطبعتها لمي ووالدها، فتولى الأب رئاسة التحرير. أما اسم ميّ فظهر للمرة الأولى في عدد "المحروسة" الصادر في الثالث من فبراير/شباط 1911، في الصفحة الثانية، لا الأولى، وذلك ضمن إطار خاص بعنوان "خواطر"، وفي السنة عينها بدأت صلتها بجبران خليل جبران عبر المراسلة، التي امتدت 20 عاما، وهذه العلاقة أسهمت في تكريس حضور مي في الساحة الثقافية المصرية.

أبدعت مي زيادة في مجال الصحافة، فكتبت مقالات كان لها أثر اجتماعي في الصحافة المصرية، نظرا إلى أسلوبها وثقافتها الواسعة. وكان لها في جريدة المحروسة باب خاص وثابت اسمه "يوميات فتاة"، وكانت تستعرض فيه مقالاتها بطريقة جريئة وتُوقع في نهايتها بأسماء مُستعارة، من بينها "شجية، وخالد رأفت، وإيزيس كوبيا، وعائدة، وكنار، والسندبادة البحرية الأولى".

أما الكتب فقد كان باكورة إنتاجها عام 1911 ديوان شعر كتبته باللغة الفرنسية بعنوان "أزاهير حلم"، ولاحقا صدر لها "باحثة البادية"، و"كلمات وإشارات"، و"المساواة"، و"ظلمات وأشعة"، و"بين الجزر والمد"، و"الصحائف" وغيرها.

وكجزء من نشاطها الثقافي، وموقفها المناصر لحقوق المرأة وحضورها البيّن في كل الساحات، ولدت فكرتها بإنشاء صالونها الأدبي الخاص، وعقده أسبوعيا كل ثلاثاء، وبالفعل انطلق الصالون، وكان من رواده نخبة المثقفين المصريين مثل: طه حسين، وخليل مطران، وشبلي شميل، ويعقوب صروف، وعباس محمود العقاد، وأحمد شوقي، وأحمد زكي، وإبراهيم المازني، وغيرهم كثير.

تميز صالونها بحرية فكرية واجتماعية وحركة ثقافية، وشكل منبعا للإنتاج الأدبي، وفي هذا الشأن يقول عميد الأدب العربي طه حسين "كان صالونا ديمقراطيا مفتوحا، وقد ظللت أتردد عليه أيام الثلاثاء إلى أن سافرت إلى أوروبا لمتابعة الدراسة، وأعجبني منه اتساعه لمذاهب القَول وأشتات الكلام وفنون الأدب، وأعجبني منه أنه مكان للحديث بكل لسان، ومنتدى للكلام في كل علم".

وقيل الكثير عن عشاق مي، لا سيما من مرتادي الصالون، لكن الحب الحقيقي الذي دام في قلبها كان الحب المضمّخ بالحبر على الورق، في علاقتها بجبران خليل جبران، التي دامت 20 عاما حتى وفاته.

كانت تلك الفترة عصيبة على الأديبة الرقيقة، فقد توفي أبوها عام 1929، ثمّ تلاه جبران عام 1931، ووالدتها بعد ذلك بسنة؛ كل ذلك أدخلها في دوّامة من العزلة والبعد عن الناس، حتى عادت إلى لبنان لتُفجع بغدر بعض أقاربها، فشككوا في قواها العقلية وأودعوها مستشفى الأمراض العقلية بغية الحصول على ميراثها من والديها. وعانت طويلا لتحرّر نفسها من المستشفى، والحصول على تأكيد بسلامة قواها العقلية.

عادت مي إلى مصر سنة 1937، وبقيت هناك حتى وفاتها سنة 1941 لتنتهي معها حياة كاتبة قلقة أحبّت الأدب والحياة، وأحبها أدباء عصرها.

وضمّت حلقة "تأملات" فقرات متنوعة، منها: لغتنا البليغة، وأصل الكلمة، وأقوال مأثورة، وفصيح العامة، وتأملات لغوية، ووقفات، وأخطاء شائعة.