عالم الجزيرة

العودة للديار.. مأساة تتار القرم

مأساة إنسانية عاشها تتار القرم عندما رحّلهم السوفيات عام 1944 من ديارهم، وشرعوا منذ عام 1967 في العودة إلى موطنهم الأصلي ليطالبوا بحقوقهم، ولكنهم لا يحظون إلا بوضع الأقلية.

في يوم 16 مارس/آذار 2014، صوّت سكان القرم في استفتاء عام بنسبة ساحقة لصالح أن تكون القرم جزءاً من الاتحاد الروسي، لكن 12% منهم -أي حوالي ثلاثمائة ألف- هم تتار قرميّون لم يصوّتوا.

تلقي حلقة 7/8/2014 من برنامج "عالم الجزيرة" الضوء على مأساة هؤلاء الناس الذين كانوا في وقت من الأوقات يشكلون أغلبية في هذا الإقليم، وعلى تاريخهم المضطرب مع روسيا، وعودتهم إلى ما يعتبرونه وطنهم.

تتار القرم هم السكان الأصليون للقرم الواقعة في شبه جزيرة إستراتيجية شمال البحر الأسود، وفي عام 1944 رحّلهم الزعيم السوفياتي الراحل جوزيف ستالين إلى آسيا الوسطى، بحجة أنهم خونة حاربوا إلى جانب الألمان خلال الحرب العالمية الثانية.

آلام التهجير حاضرة حتى اليومفي حياة تتار القرم (الجزيرة-أرشيف)
آلام التهجير حاضرة حتى اليومفي حياة تتار القرم (الجزيرة-أرشيف)

وتروي الكاتبة أوريي إيديموفا -وكانت وقتها في السابعة من عمرها- كيف تم ترحيل عائلتها من قرية بجنوب القرم عندما كان والدها غائبا يقاتل مع الجيش السوفياتي، وتقول إن الجنود السوفيات اقتحموا بيتهم ليلا وقالوا لهم "اخرجوا يا تتار القرم.. أنتم خونة.. لقد قررنا ترحيلكم".

في تلك الليلة (18 مايو/أيار 1944) جلب الجنود السوفيات أوريي وأسرتها مع نحو مائتي ألف تتريّ من جميع أنحاء القرم من منازلهم ونقلوا إلى خمس محطات قطارات، حيث كان 67 قطاراً في انتظارهم تمهيداً لرحلة مات فيها كثيرون.

توفيت والدة أوريي منفية في أوزبكستان، وكذلك حدث لآلاف غيرها من التتار، دون أن يروا وطنهم مرة أخرى على الإطلاق.

نفس المأساة عاشتها حليفة ياشلافسكي التي كانت في الخامسة من العمر عندما ركبت القطار الذي نقل التتار وكان معظمهم من النساء والأطفال والمسنين، فقد قتل الجيش السوفياتي أسرتها بكاملها، واختفى والدها في الحرب.

عادت حليفة عام 1990 إلى مدينتها التي رحّلت منها وتعرف الآن في القرم باسم ييفياتوريا، وتقول إن حياتهم كانت صعبة، "فأثناء ترحيلنا وضعونا في عربة تنقل فيها الحيوانات.. كنتُ أبكي باستمرار، وأطلبُ من أمّي خبزاً. وبعد فترة طويلة، توقف القطار في الصحراء.. كان هناك حقل قمح قرب المكان.. ترجّلت أمي من القطار كي تأتيني بشيء من القمح.. عندئذٍ رآها جندي سوفياتي فأطلق النار عليها، وبقيت هناك.. لم أدْرِ إن كانت حيّة أم ميتة".

وتضيف حليفة "قتلوا أمي بسبب ثلاث حبات من القمح، فكيف لي أن أحبّ هؤلاء الناس؟ وكيف لي أن أجلس معهم إلى طاولة واحدة؟".

استغرقت الرحلة التي نقل فيها التتار إلى وسط آسيا 22 يوماً، لم يزوَّدوا خلالها بأي طعام ولم يُسْقَوا إلا قليلا من الماء. ماتَ حوالي ثمانية آلاف تتري جوعاً ومرضاً، وقد ألقى الجنود السوفيات بجثثهم من القطار.

واستناداً إلى وثائق الجيش الروسي، رُحّل قرابة 194 ألف تتري من القرم في ظرف يوم واحد. كما يشير إحصاء أجراه تتار القرم بُعيد الحرب العالمية الثانية، إلى أن حوالي نصف سكان القرم التتار ماتوا أثناء ترحيلهم أو في معسكرات الأشغال الشاقة.

"أرابات"
عندما أمر ستالين عام 1944 بترحيل تتار القرم إلى وسط آسيا، سَها الجنود السوفيات عن بلدة "أرابات"، لكنهم عادوا وجمعوا حوالي 500 شخص من سكانها وأركبوهم في قارب لإرسالهم إلى بحر الأزوف، لكن القارب غَرِق ولم ينج من ركابه أحد.

ولم يشهد على الحادث سوى شخص واحد يدعى ميخائيل بلوهين وكان في الخامسة عشرة من عمره، وجاء في شهادته أن كل موجة كانت تحمل معها مزيداً من الجثث وتقذف بها إلى الشاطئ، وإن كثيراً من تلك الجثث كانت لنساء وأطفال وشيوخ من التتار.

توفي بلوهين عام 1998 ولم تنشر شهادته في الصحف إلا عام 2001، لأن الجنود السوفيات كانوا هدّدوا بسجنه إذا تجرأ على أن يتحدث بما شاهده.

ليس لدى التتار الذين عادوا إلى القرم اليوم سوى وضع الأقلية، ولا يزالون يطالبون بحقوق ثقافية واجتماعية في شبه الجزيرة، وبدون هذه الحقوق وهذا الاعتراف، فإنهم يخشون أن يذوبوا ويفقدوا هويتهم التترية.