عادل قرشولي
تعليق صوتي: المواطن الأول في مدينة لايبزيغ الألمانية العريقة هذا الذي تلتقي بوجهه على الجدران أو يتسلل صوته إلى إذنيك أينما ذهبت اسمه يوهان سباستيان باخ، وقد رحل عن العالم قبل مئتين وستين عاما، إلا أن عبقريته الموسيقية ذات الأوجه المتعددة كفلت له صدارة موسيقي العالم ابد الدهر بحسب مؤرخي الموسيقى الكلاسيكية وجعل لايبزيغ تزهو أيما زهو بأنه عاش فيها ربع قرن الأخير من حياته، والمدينة تعلمت من عبقريها الموسيقي أن تحترم الفن بكل تجلياته وأيا كان مصدره ولهذا هي تزهو أيضا محل الإقامة المختار لشعارنا العربي الكبير عادل قرشولي.
نشأته وبداية تعلقه بالشعر
عادل قرشولي: أنا أعيش في هذه المدينة منذ نصف قرن بالضبط يعني بعد أشهر سأتم الخمسين عاما ولا شك أن الإنسان عندما يعيش في مدينة هذه الفترة الطويلة تتحول هذه المدينة إلى جزء من سيرته الذاتية وتتمازج مع هذه السيرة الذاتية ورغم إنني عشت في برلين الغربية وفي ميونخ سنتين إلا أن دمشق ولايبزيغ كونتا سماتي كونتا الخلايا الثقافية والروحية عندي.
[مقطع شعري لعادل قرشولي]
وقال عبد الله لي غربة يمينك ويسارك غربة
أنت ترقص على حبل وقال لي..
السؤال يعرقل فيك السؤال..
والجواب يجانب الجواب..
أنت ترقص على حبل..
وقال لي لا الغرب غرب فيك..
وليس شرقا فيك..
ذاك الشرق أنت ترقص على حبل..
وقال لي أغمض عينيك..
وانطلق بأقصى ما استطعت من بصيرة..
أنت ترقص على حبل.
عادل قرشولي: الحقيقة إحنا اشترينا هذا البيت لأنه يذكرني بغوطة دمشق في الخمسينات اللي نشأت أنا فيها في دمشق في تلك الفترة في الخمسينات، وكان بيتنا هو ثالث بيت تقريبا قبل أن تبدأ هذه الغوطة، أنا من عائلة دمشقية درست في التجهيز الأولى في البداية ولكن بدأت القراءة مبكر، كنت جيد بقواعد اللغة العربية وبالإعراب وفي إلقاء الشعر كان الأستاذ كثير يشجعني في هذا الأسلوب، وصادفت كتاب عن حياة ربوش شاعر فرنسي ومكتوب على الغلاف كان جملة أثارتني جدا وهي: "من العبث أن نبلي سروالنا على مقاعد الدراسة" فبعت كتب المدرسة واشتريت كتب من الشعر لعلي محمود طه ونازك الملائكة وأمين معلوف وغيرهم من الرومانسيين بشكل أساسي، وبدأت في كتابة الشعر مبكر يعني أول قصيدة نشرت لي لم أكن أتجاوز الخامسة عشر من العمر، وفي عام 1957 ضممت إلى رابطة الكتاب العرب التي كانت معروفة في العالم العربي آنذاك وكان يعني أكثر الكتاب العرب المعروفين مثل البياتي والشرقاوي وآخرون، وأنا كنت اصغر عضو في هذه الرابطة سنا، ولكن بعد سنتين من دخولي إلى الرابطة حدثت الوحدة بين سوريا ومصر ويومها منعت الأحزاب والمنظمات الجماهيرية ومنها رابطة الكتاب العرب واعتقل بعض أعضاء الرابطة وأنا خفت وذهبت إلى بيروت وبعد ذلك في مارس عام 1960 أتيت إلى ألمانيا الشرقية آنذاك إلى برلين السبب هو أن دكتور حسين مروة كان يعرف شخصا حجز طائرة إلى معرض لايبزيغ ولم أكن احتاج إلى فيزا لدخول ألمانيا الشرقية، طلبت اللجوء السياسي ولكن للأسف لم يقبل طلبي لأنني لم أكن منظما في أي حزب فتم طردي إلى برلين الغربية، وكانت في برلين الغربية في الحقيقة تلك الفترة من أصعب فترات حياتي هي وميونيخ لأنني اشتغلت كعامل أجنبي ولم تكن لدي فيزا واضطررت للعمل كعتال وكناس شوارع وفي مطاعم واغسل صحون وإلى ما هنالك انتم تعرفون، معروف هذه الأمور بالنسبة لشاب أجنبي لا يعرف اللغة ويعامله الآخرون كشخص معوق عقليا، رغم إنني كنت اعرف من الأدب الألماني والفلسفة الألمانية أكثر بكثير من العمال الذين كنت اعمل معهم آنذاك.
[مقطع شعري لعادل قرشولي]
وقال لي: كن مرة أنت..
وكن مرة أنا..
فلو صرت أنت أنا..
بقيت أنا وحيدا معي..
ولو بقيت أنت دائما أنت..
لأصبحت ذرة رمل في ريح.
عادل قرشولي: اللغة الألمانية في الحقيقة أنا تعلمتها في البداية في معهد غوتي وكنت اعمل في إحدى المصانع وكنت مساء مسجل في معهد اللغة ولكن في الحقيقة لم أتعلم الكثير، بعد مقتل لومومبا وكان رئيس الكونغو قتل فأرادت ألمانيا الشرقية أن تستغل هذا الموقف وأعطت بعض الطلبة الأجانب الذين كانوا في برلين الغربية منح دراسية وكنت أحد هؤلاء الطلاب الذين قبلوا في منحة دراسية في شرق ألمانيا آنذاك فأنهيت اللغة بستة أشهر، واقترح مدير المعهد أن انتدب إلى معهد الأدب، ومعهد الأدب هذا كان فريد في العالم تقريبا لا يدرس فيه إلا الكُتاب الشبان الألمان وكنت آنذاك أنا الطالب الوحيد في هذا المعهد الأجنبي وتعلمت في هذا المعهد بعد سنتين من دخولي للمعهد انطلقت الموجة الشعرية في ألمانيا، وأنا كنت قد نشرت بعض القصائد المترجمة عن اللغة العربية وشاركت في إحدى الأمسيات الأولى في مدينة لايبزيغ وكان عدد الحضور كبير جدا بالنسبة لأمسية شعرية أكثر من 500 شخص ولاقت قصائدي إعجابا كبيرا أرعبني.
[مقطع شعري لعادل قرشولي]
كالحفيف كالعيون الناعسات حين تحكي..
كأعناق الأمسيات الحالمات للنخيل..
كرفيف الآهة في ثغر حزين..
وشوشتني وسكرت أنا من دون نبيذ..
وبلا دم وتفاح لذيذ أو عنب..
أنا بل بالبحة أسكر وأغيب..
لا تخافي قلت لليل الظليل أن يطول..
أن يناديني إذا اهتز السحر أو أفاق..
ليس في الليل سوى ذاك العدو..
أنا لا أخشى الرفاق ورفيقي ذلك الحلم القمر.
عادل قرشولي: خلال هذه الفترة تعرفت على زوجتي كانت تدرس الأدب الألماني والأدب الإسلامي في جامعة لايبزيغ أيضا يعني التقينا فكريا قبل أن نلتقي حسيا كما يقال، يعني كانت فتاة وديعة لاحظت أنني أستطيع أن أعيش معها ويبدو أن الحدس كان حقيقيا وصحيحا ولكنها بعد أن كبر الأولاد سلمى وسليمان قليلا درست اللغة العربية مجددا.
ريجينا قرشولي/ كاتبة ودكتورة في الأدب العربي: أنا حبيت اللغة العربية كثير كثير لأن بحب زوجي، نحن متزوجين من ايمتى؟ من عقود من أربعين سنة حتى أكثر، بالأول درست اللغة الألمانية الأدب الألماني ولكن بعدين تعرفنا على بعض وأنا قررت أن أدرس اللغة العربية.
عادل قرشولي: قرأت لها في الانترنت بالصدفة حوارا مع طلابها قالت سألوها: لماذا لم تكملي دراستك الألمانية عوضا أن تبدئي دراسة اللغة العربية من البدء؟ قالت: لأنني شعرت أنني لن أفهم هذا الرجل إذا لم أتعرف على ثقافته.
ريجينا قرشولي: طبعا اللغة العربية صعبة كثير كثير جدا يعني ولكن هي شفافة وفي غنى وفي يعني إيقاع حلو كثير بالنسبة للغة الألمانية مثلا في كلمات في اللغة العربية لا تترجم إلى الألمانية.
تعليق صوتي: ليس البيت وحدة على النمط الدمشقي، عادل قرشولي أستاذ المسرح والشاعر المبرز باللغتين العربية والألمانية صنع أسرة دمشقية في لايبزيغ الألمانية، ابنته سلمى التي تعمل في برلين مستشارة في شؤون المهاجرين والاندماج الاجتماعي لا تذهب إلى العاصمة إلا نادرا وتفضل أن تمارس عملها بمكتبها القريب من بيت أبيها، أما الابن سليمان الذي يعمل معالجا فيزيائيا فان بيته لا يبعد إلا أمتارا عن بيت أبيه، الأحفاد إذن يطرقون بيت الجد ليل نهار والعائلة تجتمع مرات أسبوعيا يتصدرها الشاعر العجوز الوسيم.
[فاصل إعلاني]
[مقطع شعري لعادل قرشولي]
في الهذا وفي الذاك..
في اللاهنا واللاهناك، أين أنا؟
في وطن بلغتين تصاغ الجملة..
يداي تمسكان بالأشياء في عالمين..
أمي تتحدث معي في الحلم بالألمانية..
وبالعربية تكلمني زوجتي الساكسونية..
عادل قرشولي: في الحقيقة لم اعد اعرف ما هو الوطن تقريبا يعني أو الموطن، ما هو الوطن؟ هل هو الأشجار، هل هو المدينة، الأبنية أم الناس أم الموقف الفكري؟ اعتقد أن لكل وطنه وأنا استخدم كلمة الموطن لأن مجموعتي عنوانها "Haus und Heim" وهي تعني الوطن والموطن يعني تستخدم الكلمتين تقريبا معا، ولكن حيث أعيش يصبح وطنا لك بالضرورة إذا أردت أن تكون جزءا من هذا المكان الذي تعيش فيه، وأنا اعتقد لم أعش على هامش هذا المجتمع منذ اللحظات الأولى.
دور فاعل في الأدب الألماني
تعليق صوتي: حينما سأله صحافي سوري خلال إحدى زياراته الأخيرة لدمشق عما إذا كان صحا من نومه في سريره الدمشقي مشتاقا للايبزيغ الألمانية، أجابه عادل قرشولي بالفعل اشتقت للايبزيغ، لكنني اشتاق لدمشق حينما أصحو في لايبزيغ أيضا. هذا الرجل الذي تعده لايبزيغ من مفاخرها الحية نال جوائز عديدة منها جائزتها الأدبية الرفيعة، وانتخب رئيسا لاتحاد الكتاب الألمان في لايبزيغ طوال خمس سنوات حتى عام 2002 وحصل على منحة التفرغ للكتابة لسنة 2010 من الصندوق الأدبي الألماني.
عادل قرشولي: بعد إنهاء الدراسة في معهد الأدب، عرض علي إني أتابع دراسة الدكتوراه، أعطيت منحة لدراسة الدكتوراه فاخترت موضوع التلقي العربي لمسرح (Bertolt Brecht) فكتبت عن سوء الفهم الذي حدث في فهم نظرية بريشت في المسرح السردي، أنا لأنني خرجت مبكرا من سوريا، لم أصدر قبل خروجي من سوريا مجموعة شعرية عربية، وفي ألمانيا أصدرت مجموعة باللغة العربية بعنوان "موال في الغربة" هو قصائد كتبتها عندما كنت في برلين الغربية وميونخ وبيروت وهي قصائد في الحقيقة يعني تعبر عن البعد عن الوطن وعن الحزن الذي كان يكتنفني وثم أصدرت في سوريا مجموعة الخروج من الذات الأحادية، وفي قصائد أجنح فيها إلى الأطروحة الفلسفية، كنت بديت يعني في الثمانينات، في نهاية السبعينات في التوجه نحو القصيدة التأملية والتي تعطي للبعد المعرفي مداه، وجاءت لحظة معينة شعرت إنني لا بد لي لكي أتواصل مع هذا الجمهور الألماني الواسع الذي كان يأتي إلى أمسياتي الشعرية وان أؤثر به، أن أكتب القصيدة الألمانية، لاحظت إنني عندما كنت اكتب قصيدة عربية عن موضوع ألماني كانت لا تعطي ما أريد إيصاله إلى الآخر، ولكن في الحقيقة أول قصيدة كتبتها ومن القصائد الأولى هي قصيدة حب، يعني بعد تعرفي على زوجتي أردت أن أقول لها ما أريد أن أقوله بالكلمات التي كنت اعرفها بالصيغ النحوية التي اعرفها باللغة الألمانية، فكتبت قصيدة بعنوان"dialektischen" لأنه تعرف يعني"dialektischen" مصطلح ماركسي وأنا كنت في ألمانيا الشرقية، فكتبت قصيدة قصيرة أقول فيها ما معناه..
[مقطع شعري لعادل قرشولي]
لأنني احبك، أحب العالم…
لأنني احبك، أراه جميلا..
لو كنت استطيع أن أكرهك..
لكرهت العالم..
ولأن العالم في ذاتي..
لكرهت نفسي..
ولأنني لا أريد أن اكره نفسي..
فأنا احبك..
تعليق صوتي: أليس ما فعلته هذه المرأة الألمانية من اجل الاقتراب من هذا الشاعر العربي هو اشد أفعال الحب قوة على الإطلاق، تركت دراستها المتقدمة للأدب الألماني وشرعت في دراسة العربية وآدابها من الصفر، كل هذا من اجل عينيه! للفارس السوري أن يهنئ إذن بكل هذا الحب الذي كانت له منافعه العملية أيضا بعد أن ترجمت ريجينا قرشولي روايات عربية أساسية عدة إلى الألمانية، وقد وصف الروائي المصري جمال الغيطاني، القرشولي وزوجته بأنهما خلية مبدعة في خدمة الحضور الثقافي العربي في العالم الناطق بالألمانية.
عادل قرشولي: لي بعض المجموعات، مثل المجموعة الأولى "عناق خطوط الطول في الكرة الأرضية" وثم كتبت "موطن في الغربة" والكتاب الأول كان "كحرير من دمشق"، وثم في بداية التسعينات نشرت مجموعتي التي بدأت كتابتها في بداية الثمانينات إلى التسعينات هي "هكذا تكلم عبد الله" أخذت صيغة النفري التي يقول فيها "وقال لي" هذه الصيغة غيرتها "وقال عبد الله لي" لأنني حولت نفسي إلى مخاطب نفسي في هذه القصيدة.
[مقطع شعري لعادل قرشولي]
وقال عبد الله لي..
فوق النعناع يتحرك..
على الصخرة يتحرك..
تحت الجسر يتحرك..
وفي الجذر يتحركُ..
كالنور هذا الوجد..
وقال لي..
يتفتح النعناع في النعناع..
تتوطد الصخرة في الصخرة..
يتطاول الجسر في الجسر..
وفي الطفولة يتجذر الجذر..
أشواق على بوابة الوطن
عادل قرشولي: الآن اعمل أيضا في كتابة مجموعة أنا متفرغ من قبل أكاديمية، أكاديمية لغة والأدب الهام لهذا العام لكتابة مجموعة شعرية جديدة ولأبحاث عديدة وترجمات عديدة يعني ترجمت محمود درويش يعني ترجمت له مختارات من السنوات العشرين من حياته الأخيرة، من حياته مختارات لاقت صدا كبيرا هنا ثم ترجمت له أيضا لاعب النرد وهي آخر قصائد محمود درويش وقد أقمنا له تكريما في برلين عالميا بعد رحيله، وكنت احد من ساهموا في صياغة البيان الذي أرسل إلى ثلاثين ألف جهة أدبية في العالم ووقع لي يعني أربعة من حملة جائزة نوبل يومها وأقيم في نفس اليوم في خمسة أكتوبر بعد وفاته بعام تقريبا في أربعة وعشرين دولة التي وصلنا منها ايميلات، يعني في نفس اليوم عملوا تكريم لمحمود درويش أصدرت أيضا مجموعة بعنوان "لو لم تكن دمشق"، وهو أنا بقول بالقصيدة انه لو لم تكن دمشق يعني لكنت عشت هنا بشكل سعيد لأني عايش في غربة يعني أصبحت وطن إلي كمان، بس الشوق إلى المنبت إلى الجذر، المنابت الأولى للطفولة إلى الذكريات، أحيانا بنغص عليك غربتك يعني الأليفة، ولكن تشتاق إلى دمشق ولذلك لو لم تكن دمشق لكنت أكثر سعادة بهذه الغربة الأليفة.
[مقطع شعري لعادل قرشولي]
شجرة تحرس شباكي تسكنها عصافير..
تحييني بود في الصباح..
اجلس خلف طاولتي أمام النافذة..
أتأمل الثلج الناصع وأتدثر بدفء مفاجئ
ليس بسيخ نار تطبب جراحي..
ولا بالغبار..
ودودة تطل على يوم عيون الحبيبة..
كتحية العصافير..
ولو لم تكوني يا دمشق أيتها العجوز العذبة..
أيتها الصبية الوحشية..
يا ملحا و ماء على الجبين..
يا وردة في القلب…
لو لم تكوني..
في مكان ما..
على قشرة هذه الأرض..
بعيدة كل هذا البعد..
قريبة كل هذا القرب..
الله لو لم تكوني يا دمشق..