موعد في المهجر / د.صفاء روميا - صيدلي
موعد في المهجر

صفاء رومايا

يستضيف البرنامج الدكتور الصيدلي العراقي صفاء رومايا ليتحدث عن تجاربه من خروجه من العراق وصولا إلى النمسا. أخذ الفن هواية والصيدلة دراسة فهو يجود القرآن ويرتل في الكنيسة هللويا هللويا.

– البحث عن الشرق في فيينا
– رحلة الصيدلي، رحلة المغني

البحث عن الشرق في فيينا


 

صفاء رومايا

صفاء رومايا: كيف أعيش وكيف أسكن؟ كل ما في الأمر لا تغيب عني لحظة أجواء الشرق الصاخب الجميل ولذلك حاولت أن أجعل من جو السكن لي وللعائلة جوا شرقيا بحتا إضافة إلى أنني أمارس هواية، أجمع السجاد النادر وأعشقه عشقا، يعني أتمتع فيه وهذه قد تكون ورثتها من أبي اللي كان موظفا على الحدود العراقية الإيرانية وكان يمارس دائما هواية جمع السجاد ولذلك تشوفوني حاولت قدر الإمكان أن أستعيض السنوات التي فقدت أعيشها في الشرق وعشتها في أوروبا في جو الغرب الهادئ الثقيل، حاولت أخلق هذا الجو الشرقي في بيتي. في مثل أوروبي يقول أخبرني كيف تعيش وأين تسكن أقل لك من أنت. وأنا أجيب أنا صفاء رومايا، الشرقي، الشرقي العربي حتى العظم وحتى الثمالة. كنت منذ صباي معروفا بتواضع أن لي جمال صوت وكنت أغني لأساتذتي ما تقدمه كوكب الشرق أم كلثوم في حفلاتها الشهرية، أنا أحفظ ذلك خلال أسابيع وأقدمه كما واصلت ذلك في غربتي بعد ذلك ولكن الشيء اللي كان ملفت للنظر أنه كان يطلب مني بعض الأخوان أن أجود أثناء حصة المدرسة القرآن الكريم أثناء درس الدين اللي هو الآن مثلا يعني في النظام الأوروبي في درس الدين المسلم لا يحضر أو المسيحي لا يحضر في درس الدين، هذه ما كانت موجودة عندنا أيام زمان مطلقا لدرجة أني بأقول كنت بجود القرآن الكريم، وكنا نحتفظ بكتاب من آيات الله في بيتنا، في مكتبتنا وهذا كان شيئا أنا عزيز على نفسي وعزيز على نفس العائلة وأنا أعتز فيه جدا، جدا. أذكر إلى الآن خواتي اللي كانوا أكبر مني يساهمون كل سنة مع صديقاتهم مع زميلاتهم في صيام رمضان في المولد النبوي الشريف ومن هذا المنطلق أنا أذكر إلى الآن أنني وأنا صغير أحفظ أروع القصائد الدينية اللي تغنت بها مثلا كوكب الشرق أم كلثوم اللي كانت من أشعار أمير الشعراء أحمد شوقي، مثلا "سلوا قلبي"، مقطع، يعني من أقف أمام مقطع

إعلان

أبا الزهراء قد جاوزت قدري

بمدحك بيد أن لي انتساب

مدحت المالكين فزدت قدرا

وحين مدحتك اجتزت السحاب

هذا المقطع كان يؤثر بي جدا إلى درجة وأنا في غربتي في فيينا قدمت يمكن أربع أو خمسة مرات ليلة على أم كلثوم، كنت دائما أحرص أن أغني مقطع "سلوا قلبي" وهذا المقطع، هذا إن دل على شيء فيدل كم إحنا كنا نعتز على الواحد بالآخر، كم كنا شعبا متلاحما، كنا لا نعرف مطلقا من هو المسيحي ومن هو المسلم، من هو الشيعي ومن هو السني، من هو الكردي ومن هو العربي أو التركماني أو الآشوري إلى آخره، هذه المصطلحات قد تكون غريبة جدا جدا هذه الأيام على مسامعنا نحن اللي عشنا العهد الزاهر عهد الأخوة والتلاحم في العراق العزيز.


المعلق: دواء العراق أن يتذكر نفسه، أن ينصت إلى صوت هذا الصيدلي المغني جامع السجاد ابن خانقين وفيينا معا، صفاء رومايا، صوته الذي طالما رتل القرآن في حصة الدين المدرسية في أول النهار ثم أنشد حين المساء مع الشمامسة في الكنيسة هللويا هللويا. دواء العراق أن يعود إلى حقيقته قبل أن يشوهه الطغاة والمحتلون كما يتذكره الدكتور صفاء.


صفاء رومايا: في بداية الستينيات حزمت حقائبي وركبت القطار الذي كان يسمى آنذاك نفس الاسم قطار طوروس لأن كان ما متعارف عليه أن نركب الطائرات يعني كان السفر دائما في القطار، كانت الرحلة تستغرق معنا من بغداد إلى اسطنبول ثلاثة أيام  ومن اسطنبول إلى فيينا عبر بلغاريا ويوغسلافيا يومين، كان وصولي إلى فيينا حدثا كبيرا جدا في حياتي، قفزة مفاجئة لكن صعبة، صعبة، صعبة، أسترجع قسوتها علي وشدتها إلى يومنا هذا، الغربة كانت صعبة، فيينا وأوروبا بصورة عامة كانت شيئا آخر غير اللي يشهده الجيل الآن، النمسا كانت مدينة نمساوية أوروبية بكل معنى الكلمة، لم تكن فيها شبه مسحة شرقية أيام ما بدأنا إحنا الدراسة هنا في النمسا وهذا أمر كان يصعب علينا الحياة لدرجة لا تزال تحضر في ذاكرتي أنني لما كنت أروح للنوم ليلا أبحث عن اللحاف اللي يغطيني وين ريحة هلي، أين رائحة أهلي؟ وهذه كلمة عزيزة، اصطلاح عراقي أقوله، وين ريحة هلي، ريحة هلي ضليت أدور عليها إلى يومنا هذا. النمسا بدأت تتحول شرقية بنزوح عدد كبير من الأخوان الأتراك إليها واليوغسلاف، العرب لم يكثروا إلا في نهاية السبعينات، انتقلت الأونروا من بيروت أعتقد، على ما أعتقد إلى فيينا وتأسست منظمة الأوبيك وبدأت فيينا تدخل المجال العالمي، تصبح مدينة عالمية. أنا اليوم أحب فيينا أكثر من السابق لأن فيينا أصبحت أتنفس وأشم فيها النسمات الشرقية أكثر من أيام زمان، قد يختلف البعض معي، صحيح دخول الجيران من الأوستبلوك أحدث شوي تغيير كبير، أحدث شوي نوع من الفوضى ولكن نحن نعتز بطبيعتنا بكل الشعوب وإن شاء الله يعني تبقى فيينا محافظة على النظام والأمان والأمن اللي نحن اعتدنا عليه، ففيينا كانت بالحقيقة أيام زمان، كنا نحن محرومين من أشياء كثيرة، المغترب الشاب كان يدورها مطعم عربي، أكلة عربية، جو شرقي، هذه كنا نفتقدها تماما، فإحنا حاولنا عن طريق تشكيل رابطات، روابط طلابية، عن طريق النوادي عن طريق اللقاءات عن طريق السفرات كنا نحاول نخلق نوعا من الأجواء الشرقية ولكن هذه كانت بعيدة جدا مقارنة بما نشهده هذه الأيام، اليوم فيينا تقريبا هي شرقية أوروبية، قد تكون نصف بالنصف، هذا ما يحلي أجواءها.

إعلان

[فاصل إعلاني]

رحلة الصيدلي، رحلة المغني


صفاء رومايا: قدومي للنمسا في بداية الستينيات جئت وأنا بعمر 18 سنة طالب بكالوريا يعني ثانوية عامة وكان سبب قدومي الرئيسي كما هو السبب لقدوم كل الأخوة العرب اللي جاؤوا درسوا الطب أو الصيدلة أو الهندسة هو أنه في السنة اللي كنا نتخرج فيها كان يكونوا اللي طلعوا معدلات عالية عدد كبير فيكون نصيبنا قليلا أن نقبل في الكليات اللي نحن نقبل فيها، وكانت الكليات اللي مرغوبة جدا الطب والصيدلة والهندسة، وأنا حبي للكيمياء خلاني أتمسك كثيرا كثيرا بدراسة الصيدلة وأنا سعيد أني درست هذا الفرع لأني وفقت فيه حقيقة بعد ذلك في الحياة العملية. في عام 1970-1971 تخرجت من كلية الصيدلة جامعة فيينا (كلمة أجنبية) ماجستر يعني ماجستير في الصدلية والكيمياء، سافرت مباشرة إلى ألمانيا لأتدرب في شركة بايير، شركة بايير شركة معروفة جدا في الأدوية حتى في الشرق، وكانت تجربة مفيدة وعملية استفدنا منها كثيرا، رجعت إلى فيينا عملت امتحانا خاصا في اللاتيني كان يطلب من خريجي الصيدلة الأجانب، وبعد الامتحان اشتغلت سنتين لكن كنت دائما حنيني يشدني إلى العراق لازم أنا أرجع إلى العراق، رجعت للعراق ووفقت أن أجد صيدلية، كانت صيدلية اشتريتها أنا، وكان اسمها صيدلية زينب وأبقيت أنا هذا الاسم لدرجة كنت أيامها غير متزوج فكنت معروفا يعني اسمي الفني والتجاري والاجتماعي أبو زينب، ومارست تجربة العمل في بغداد من سنة بداية 1976 إلى نهاية 1981 وللأسف الشديد سوء حظ العراق، الحرب العراقية الإيرانية وتبدأ ظروف الحرب والتعتيم الليلي ونحن أصلا نظام الصيدلة في العراق كنا شغلنا نفتح الساعة 5 مساء بسبب ظروف الطقس ونغلق 10 مساء، صرنا نغلق الساعة 6 أو 7 أو كذا، ظروف عكرت مزاجي كثيرا، برغم كان قرارا صعبا علي جدا أن أتخذه ولكنني بعت الصيدلية، مكرها أخاك لا بطل، ورجعت إلى النسما اللي أنا من يوم تخرجي عضو في نقابة الصيادلة النمساوية من 1970-1971 فرجعت ما كان بالنسبة إلي مشكلة العمل مشكلة لكن لم أفكر بعد تجربة تأسيس صيدلية في بغداد أن أؤسس أو أشتري  صيدلية وإنما ضليت (كلمة أجنبية)، ما يسمى بالألمانية (كلمة أجنبية) اللي هو مدير صيدلية وإلى يومنا هذا أنا حتى أمارس عملي بعد خروجي إلى المعاش منذ أربع سنوات.

إعلان


المعلق: يحكي صفاء رومايا بزهو عن إصرار زملائه الصيادلة في فيينا على بقائه عاملا بينهم رغم تجاوزه سن التقاعد، أرادوا أن يتعلموا منه الانشغال الشخصي الصادق بالمريض حتى بعد أن يدفع ثمن الدواء ونبرة المحبة الشافية في صوته وهو يقول مودعا اتصل بي غدا لتطمئنني عليك يا صديقي. عليهم أن يقتربوا من ابن خانقين هذا أكثر فأكثر ليعرفوا أنه يمارس الصيدلة طوال عمره بمنطق الغناء فبين يدي هذا العراقي يمكن للمرضى التداوي جسدا وروحا فهو بارع في علم العقاقير، هو أبرع في علم السيكا والنهاوند والصبا والبياتي، حافظ لا نظير له لنوادر القدود والموشحات والقصائد، يجمع روح الشرق الحقيقية المتوهجة في قلبه نغمات دافئة مبدعة كما يجمع سخونة السجاد الإيراني الوفير على حوائط بيته الذي يشبه واحة من صيف الشرق زرعت زرعا في شتاء فيينا البارد.


لست نادما على دراسة الصيدلة بل أنا سعيد لأنني اخترت الطريق الصحيح، والفن أخذته هواية تسليني في الغربة

صفاء رومايا: في سنة مبكرة جدا اكتشفت أنني أغني لكبار المطربين آنذاك من عبد الوهاب وفريد وأم كلثوم، بعض المقام العراقي، كما كنت أشارك في مدينة خانقين أيامها في الكنيسة في المناسبات الدينية العزيزة على نفوسنا جدا، المسيحيون، فكنت أرتل وكان هذا يلاقي استحسانا كبيرا سواء من رجل الدين أو من الأخوة والأخوات اللي كانوا يحضرون وكذلك أهلي، لكن علشان أكون صريحا أهلي كانوا سعداء بذلك كثيرا لكن كان في خط أحمر فاصل كما كان يشمل هذا أيامها كل العوائل العراقية أو العربية أو الشرقية، ماكو كلام مثل ما يقولون بالعراقي، ماكو نقاش، ماكو دراسة فن، وإنما لازم تكمل الثانوية العامة وتتخرج، فرع تأكل منه خبز أو عيش، وإلى يومنا هذا أنا مو نادم بل أنا سعيد وأعتقد أنني اخترت الطريق الصحيح أن اتخذت هذا الفن هواية، ولكن أي هواية؟! لو تسألوني اليوم أقول لكم أنا 90% أحب الغناء وأحب الطرب ومرتبط بالطرب و10% مرتبط بالصيدلة والكيمياء لكن هذا لا يعني أنني تخلفت أو تأخرت عن أداء مهمتي بأمانة وإخلاص وقدرت أخدم الناس سواء في العراق أو في أوروبا خلال ممارستي مهنة الصيدلة، لكن هذا الفن لا يمكن أتصور ولا لحظة كان لها معنى بدون هذا الفن. مكتبتي الموسيقية التي أنا جمعتها تحتوي تسجيلات نادرة لعظماء الفن حتى اللي سبقوا القرن العشرين يعني في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وحتى طبعا حتى عندي تسجيلات حديثة بين تسجيلات نهاية القرن العشرين إلى بداية القرن الواحد والعشرين لمعظم مطربي ومطربات وموسيقيي وفناني الوطن العربي بألوان مختلفة وهذه طبعا كل هذه الخطوات كنت أساويها عبر هالسنين ما كان بعد عصر الكمبيوتر وعصر الإنترنت ظهر، بس أنا لم ولن أندم أني ساويت هذه المكتبة من فيديوهات من سيديات من كاسيتات من أشرطة بكرات كنت أجمعها وأنا طالب لسه، لأنه في تسجيلات وحفلات نادرة واحد ما يعثر عليها إلا عند هواة التسجيلات وأنا سعيد بالاحتفاظ بها وآمل أنه حتى تحفظ ولو في غرفة خاصة، في مكتبة صغيرة تحيي ذكرى كل هؤلاء العظماء وذكراي كذلك. "عليك صلاة الله وسلامه" اللي غنتها فقيدة الفن أسمهان من تلحين شقيقها فريد الأطرش منذ أكثر من 60 عاما قبل رحيلها، هي رحلت سنة 1944 إلى الآن من أنا غنيتها مرة ومرتين وثلاثة في حفلات ليالي عيد الأضحى في فيينا، كنا نحتفل بهذه الذكرى العزيزة صرت أطالب فيها في كل مكان. أكثر شيء لفت انتباهي وأثار بي الحماس والحب أنا طلاب المدرسة الليبية من كم سنة يجوا علي في حفلة كنت أحييتها لهم يقولون لي عمو أنت غنيت لنا أشياء كثيرة بس ما غنيت لنا "عليك صلاة الله وسلامه"، فكان فرحي كبيرا جدا، جدا.

إعلان


المعلق: الاغتراب ثقيل الوطأة على النفس وإن طال نصف قرن، وانكباب صفاء رومايا على حفظ وإجادة بدائع الغناء العربي الأصيل يبدو حيلة بارعة للتخفف من هم الغربة والعودة إلى أجواء الوطن، فكأنه وهو يتسلطن بإحدى روائع ناظم الغزالي أو أم كلثوم كأنه يعود ثانية ليتمشى وقت العصر على جسر الوند الحجري العتيق الذي يربط بين طرفي خانقين التي يعبرها النهر كالشريان. الصيدلي صاحب الصوت الرخيم صار الآن علامة فريدة من علامات فيينا العربية يسعون إليه ليطربهم في احتفال المولد النبوي وفي عيد الميلاد، في عيد الجلوس المغربي وفي شم النسيم المصري، هل سيدهشكم إذاً أن مقهاه المفضلة اسمها النيل، النيل على ضفة الدانوب!


صفاء رومايا: ليش غنيت؟ ولمن أغني؟ أنا غنيت وسأظل أغني لأني اعتبر نفسي مدافعا قويا عن فن الغناء الأصيل، بنفس الوقت الغناء خلاني أتصل بالناس والناس هم كل حياتي، الناس وحب الناس هم ثروة كبير وعزيزة عندي لا يمكن أن استغني عنها أبدا، لا يمكن أن أعيش بدون حب هؤلاء الناس كالسمكة التي لا تعيش من غير ماء. هدف آخر، ساهمت في مناسبات وحفلات خيرية كثيرة وهذه كانت الحقيقة تدر أيضا مبالغ تساعد سواء أطفال العراق، حتى أذكر حفلة قدمتها قبل شهور اللي كانت من أجل إنشاء مستشفى في مصر. عدا ذلك قبل أسابيع أحييت حفلة عيد شم النسيم للأخوة المصريين لاحظت أي جذوة من الحماس والوطنية تشتعل في نفوس الجماهير حين أذكرهم بأغاني "بالأحضان" و"أحلف بسماها وبترابها"، كل شيء يتعلق بالوطن ويحلف باسم الوطن ويتغنى بحب الوطن، فكل هذا أشوف أني أنا رح أغني وسأظل أغني طول ما هناك عطاء مستمر من حب الجمهور إلي.

المصدر : الجزيرة