علي جهاد الراسي / أستاذ موسيقى
موعد في المهجر

علي جهاد راسي

فلسطيني الأصل، نشأ في كنف والد شاعر ومشتغل في اللغة ووالدة شاعرة وأديبة، عالم ومؤلف ومؤرخ موسيقي وله مؤلفات علمية قيمة في هذا المجال، ملحن وعازف على مستوى أكاديمي راق وعاشق للموسيقى العربية.

ضيف الحلقة:

علي جهاد راسي: موسيقي مهاجر

تاريخ الحلقة:

23/01/2004

– ذكريات الطفولة والفن
– دراساته العلمية والموسيقية

– تجارب الهجرة

– مازال القلب عربياً


undefinedعلي جهاد راسي: أود أن أعرِّف بنفسي، الاسم علي جهاد راسي من مواليد لبنان، غادرت الوطن العربي منذ حوالي 35 سنة وأتيت إلى أميركا لتعلم علم موسيقى الشعوب (Ethnomusicology) وغادرت لبنان بعد أن تشربت الروح الموسيقية الشرقية العربية وأتيت إلى الولايات المتحدة ودرست علم الموسيقى الشعوب والموسيقى الغربية وبذلك مزجت حضارتي العربية الشرقية مع بيئتي الغربية التي عشت فيها طيلة هذه السنوات وعلم موسيقى الشعوب الذي يتناول موسيقات الشعوب المتعددة في العالم، كان من خيرة الحقول لمزج الموسيقات المتعددة والموسيقى طبعا لغة تتحدى الحدود الجغرافية وهي لغة تحاكي الضمير والوجدان والعاطفة وبواسطة الموسيقى طبعا حاولت أن أتعايش مع الحضارات المختلفة وأهلا وسهلا بكم.

على مر تاريخها وتنوعها، ظلت الفنون محطة تلتقي عندها الشعوب لتتحاور بلغتها مع الرغم على اختلاف الألسن والألوان والأجناس وما من فن من الفنون بتأثيره استطاع أن يتجاوز كل ما رسمت السياسة من حدود كما استطاعت الموسيقى، هذا الفن الذي رسم لنفسه جسرا عليه تلتقي أذواق البشر وتتفق على عمق تأثيره في النفس الإنسانية وللموسيقى العربية دور كبير في بناء ذلك الجسر، فعبر تاريخها الأصيل استطاعت أن تؤثر وبشكل عميق ومُثْرٍ في التراث الموسيقي لشعوب أوروبا الذي تركت فيهم الموسيقى العربية آثارا لا يمكن محوها أو نكرانها.

ذكريات الطفولة والفن

علي جهاد راسي: لا شك أن ذكريات الطفولة لا تزال تعيش معي طيلة هذه السنين وهي لا تنمحي من ذاكرتي، ولدت ونشأت في قرية صغيرة في جنوب لبنان اسم القرية ابل السقي في منطقة مرج عيون ونشأت في عائلة كانت تحب الأدب والشعر والفنون الجميلة ومنها الموسيقى طبعا فأنا وأخويا خالد ورمزي نشأنا في بيئة شجعتنا على الإبداع والقيام بالأعمال الفنية والموسيقية والتصوير .. وإلى آخره، إن والدي وهو سلام راسي الأديب المعروف وله ما لا يقل عن العشرين كتاب والمنشور الذين انتشروا بشكل واسع في لبنان وفي العالم العربي وأيضا والدتي أميل راسي كانت أيضا تحب -ومازالت على قيد الحياة- تحب الفن والتراث ولها بعض مؤلفات ووالدي توفى منذ شهور قليلة.

في القرية أبديت ولع شديد في الموسيقى وكان هذا نوع من الهوس تقريبا، كنت أتبع خطى الموسيقيين وعندما أسمع آلة موسيقية يعزفها أبناء القرية أشعر بنوع من السرور والانفعال طبعا أذكر أنه مرة أتت فرقة موسيقية للقرية أظن أن الموسيقيين من مصر وعزفوا بأسلوب التخت التقليدي وطبعا كان محظورا على الأولاد أن يحضروا هذه المناسبة وأذكر أني تسلقت شجرة لكي أسمع الموسيقى ولكي أرضي رغبتي وحشريتي في سماع الموسيقيين وأذكر أنه يعني كان عمري تقريبا سبع سنوات عندما والدتي بدأت تأخذ أصابعي وتدرجها على آلة الكمان لكي أتعلم بعض الأنغام البسيطة وكان في ذلك العمر طبعا لا يمكن أن نتعلم بعض الألحان التي كنت قد سمعتها في القرية وبعد ذلك نمت هذه الموهبة وبدأت أعزف على آلات مختلفة في القرية وأيضا كذلك ألفنا فرقة موسيقية في ابل السقي وكنا نقوم بحفلات ونعزف في جلسات وأمسيات وكان القرويون يحبون الموسيقى وينسجمون في تلك الأجواء.

أسباب عديدة ساهمت في تكون ذوق الدكتور علي راسي وميوله للفن والموسيقى والأدب منذ طفولته، فالبيئة القروية الصافية التي نشأ فيها بكنف والدين محبين للآداب والفنون فوالده أديب ولغوي وشاعر مؤرخ للتراث معروف، ظروف هذه النشأة المشجعة وموهبته كانت من أهم الأسباب لفسح الطريق أمام ملكاته الفنية أن تنمو وتكبر في مجال الموسيقى التي تعلق بها منذ الصغر وصار أستاذ عالما بشؤونها وفنانا متقنا لفنونها بالإضافة إلى تمتعه بلغة عربية رصينة، حرص والده على تنشئته على آدابها منذ نعومة أظافره.

دراساته العلمية والموسيقية

علي جهاد راسي: وفي بيروت درست في مدرسة ثانوية وبعد سنة تقريبا أو سنتين تخرجت، شهادة (High School) ودخلت إلى الجامعة الأميركية في بيروت وكانت هذه طبعا نقطة تحول أن أصبح تلميذ في الجامعة وفي الجامعة كان علي أن أختار موضوع لكي أتخصص به وكان طبعا الخيار -وهذا شيء طبعا ينطبق على كثير من العائلات- أن تختار مادة يمكن أن تجد وظيفة بعد التخرج في هذه .. في هذا الموضوع؟ والنتيجة كان يدرس الإدارة العامة والموسيقى في نفس الوقت وخلال سنين الدراسة كنت أدرس، أخذت بعض الدروس في المعهد الوطني الموسيقي ومعهد صليبي للفنون الجميلة وتحولت في أواخر سنوات دراسة في الجامعة للكلية للموسيقى، إذ تبين أن رغبتي في الموسيقى ونشاطي الموسيقي طغى على أي اختصاص آخر وأذكر أن .. وفي الجامعة كونا فرقة اسمها ثلاثي الجامعة.. الثلاثي الجامعي وهي مكونة من أخي خالد وأنا وسهيل حمصي وكان زميل وما يزال صديق مقرب لنا، أذكر عندما كنت أدرس في الجامعة أتى للجامعة موسيقي أميركي معروف جدا وهو بيت سيجر وكان يختص بالموسيقى الشعبية الأميركية وكان زائرا للبنان وطلب إلي والثلاثي أن نعزف لهذا الموسيقي المشهور وقد قدم حفلات على صرح الجامعة الأميركية فعزفنا لـ بيت وأعجب جدا بالموسيقى العربية وبالتالي تراسلنا معه وعند .. هذا شجعني أن آتي لأميركا وأن أدرس هنا طبعا، من الأشياء التي شجعتني والشيء الآخر الذي شجعني هو رغبتي في المزج بين الموسيقى كفن ممارس والموسيقى كفن.. كعلم اجتماعي تاريخي حضاري وتعرفت من خلال أستاذ آخر، اسمه ويليام مال على شيء يسمى علم موسيقى الشعوب (Ethnomusicology) وكان هذا الأستاذ أيضا زائرا في بيروت لفترة .. لفترة أيام قليلة وسنة الـ 1968 أتيت لأميركا إلى جامعة كاليفورنيا ودرست مع أستاذ معروف جدا اسمه برونو ناتيل.

[فاصل إعلاني]

خلال الدراسة الجامعية كان هاجس الدكتور علي راسي في كيفية المزج بين الموسيقى كفن ممارس وبين الموسيقى كعلم اجتماعي تاريخي حضاري وقد عبر عن خاطره المبكر هذا في برنامج أعده للإذاعة اللبنانية، عبر حلقاته قدم موسيقى الشعوب وتاريخها وإرضاء لهذه الرغبة في فهم موسيقى الشعوب سافر إلى الولايات المتحدة لإتمام دراساته العليا في هذا التخصص الذي نال فيه درجة الدكتوراه ودرسه في العديد من الجامعات الأميركية حتى استقر بجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس أستاذا للموسيقى الشرقية منذ 25 عاما، نشر خلالها أكثر من مائة بحث وكتاب تناول فيه وبتحليل سيكولوجي حالة تأثير والتأثر بالموسيقى العربية بين العازف والمتلقي ووصفا دقيقا لحالة التصعيد النفسي الذي يتقمصها العازف وصولا لحالة الطرب.

علي جهاد راسي: تاريخ الجامعة يعود لعدة عقود أوائل هذا القرن .. أوائل القرن الماضي وبالتالي في منتصف القرن العشرين بدأت بوادر الاهتمام في علم موسيقى الشعوب وجامعة كاليفورنيا استقطبت علماء مختصين في موسيقات العالم منها موسيقى إندونيسيا واليابان والصين ودول أخرى وكذلك استقطبت مدرسين لموسيقات هذه الشعوب، فنرى اليوم في هذه الجامعة فرق أو أساتذة يعلمون موسيقى الصين واليابان وكوريا وأفريقيا وإلى آخره وطبعا إلى جانب موسيقى الجاز وموسيقات غربية أخرى، فكذلك فأن الكثيرين من الذين تخرجوا من هذه الجامعة يدرِّسون في جامعات أخرى ولهم طلابهم وأنا بدوري عندما أتيت إلى هذه الجامعة دأبت على تعليم الموسيقى العربية من وجهتين وجهة النظريات والحضارة ووجهة العزف، الوجهة التقنية ومن هذا القبيل هناك ظاهرة تثير الاهتمام وهي تعلم الطالب الغربي للموسيقى العربية وبعض الأسئلة التي تظهر من هذا، أنه كيف يتقبل هذا الطالب هذه الموسيقى؟ وبالدرجة الأولى لماذا يدرسها؟ وكيف يسمعها ويستسيغها؟ طبعا هنالك تحديات وعقبات في تعليم الأوروبي موسيقانا، إذ أن موسيقانا لها ميزات لم تتعودها الأذن الغربية ومن ذلك الموسيقى التي أحيانا نسميها ربع صوت وهي أبعاد لا تنطبق، ليست دارجة في السلم الموسيقي الأوروبي وهناك حليات صوتية مختلفة وتكنيك عزفي يختلف، فعندما أعلم مثلا أنا من الاختصاص آلة الناي وآلة البزق طبعا أعلم على آلة الكمان الشرقي –الكمانجة- والعود طبعا والفرقة التي أعلمها التي ينتمي إليها الطلاب تشمل آلات أخرى مثل التشالو والباه وإلى آخره وهذا التحدي ممكن أن يسهل عندما الطالب يستمر في العزف لأكثر من سنة مثلا سنة سنتين وذلك طبعا يعتمد على أذن الطالب ويبدأ الطالب بالتعود على الأبعاد الصوتية العربية وهناك تحدي آخر وهو الحس الموسيقي كثير من.. عندما أذكر يعني مثلا أعلم غربيين موسيقانا، يتساءل البعض وهل هناك إحساس.. يحسون بموسيقانا كما يحسها العازف العربي؟ وطبعا لا، ربما لا يكون هنالك جواب نهائي في هذا الموضوع ولكن من خبرتي أنه بعد المراس الطويل يبدأ الموسيقي يتذوق الموسيقى الجيدة ويتفاعل مع الموسيقات التي نتفاعل معها نحن وإن كان طبعا هنالك طريقة لسماعها لدى ذلك المستمع تختلف بعض الشيء عن الطريقة التي نستمع بها نحن لموسيقانا العربية.

في عالم يضج بالأصوات والثرثرة وكم من الضجيج وغياب المعنى وكلما أوغل العالم بإنكار معنى صوته الداخلي الذي يهفو للسلام وللمحبة وراحة النفس والألفة، لا يجد الفنان في هذا الزحام من ملجئ سوى الموهبة التي من خلالها يعبر عما يريد قوله للعالم ودونما ضجة وأضواء خادعة وسرعان ما تجد رسالته طريقها للقلوب وسبيلها للوجدان بلغة متفردة خصه الله بها لإيصال ما يريد قوله للناس برسالة عاقلة قد يصعب فهمها إذا ما قيلت بالشفاه أو فوق سطور الورق وللموسيقى بهذا المضمار سبل تعرف طريقها إلى القلوب وأحاسيس البشر ووجدانهم.

تجارب الهجرة

علي جهاد راسي: ولا يخفى أنه عندما وصلت لأميركا شعرت بالوحشة بدون شك أن وصلت إلى بلد غريب ومن التحديات طبعا كانت اللغة، طبعا أنا درست اللغة الإنجليزية في الجامعة الأميركية في بيروت وطبعا في الثانوية التي درست فيها وهنالك فرق طبعا بين أن تتكلم لغة الكتب وشكسبير وتشوسر وإلى آخره وأن تأتي إلى قرية أميركية نائية وأن تحاول أن تفهم ماذا يقولون والتعابير واللياقات كلها لها لياقات معينة عليك أن تتقنها لكي تتعايش مع الناس وشعوري بالوحي يذكرني بقصة طريفة سمعتها من حوالي أسبوعين وهي تدور حول رجل من سكان أميركا الأصليين وهم لهم حضارة عريقة وحكم في حياتهم وفي أقوالهم وتقول القصة أن هذا الشخص ذهب من بيئته إلى بلد معين في أميركا ونزل في المطار ولما وصل للمطار ذهب إلى غرفة استلام الحقائب وبقي جالسا في باحة الحقائب لمدة يومين جالسا في مكانه ولما أتى المسؤولون سألوه ما بالك لماذا لا تذهب إلى البيت؟ فقال هذا الرجل لقد وصل جسمي بسرعة ووصلت الحقائب إنما نفسي لم تصل بعد، فلما وصلت أنا لأميركا شعرت بنفس الشعور أن جسمي وصل وحقائبي وإلى آخره ولكن الروح والنفس التي هي جزء مني لا تزال على الطريق. إن وجودي في المهجر أمدني بمنطلق لكي أذهب إلى أماكن متعددة من العالم وأجري الأبحاث وأقوم بأعمال موسيقية منها تقديم حفلات أو محاضرات عن الموسيقى أو اشتراك في مهرجانات موسيقية وأذكر أن في طليعة هذه المحاولات أو التجارب أنه في سنة 1988 ذهبت مع زوجتي إلى قطر وبقينا في الدوحة حوالي نصف سنة وقمنا بأبحاث تتعلق بالفلكلور الخليجي وكان ذلك بالتعاون وتحت رعاية مركز التراث الشعبي لدول الخليج ولا أزال أذكر الكرم والحفاوة التي لقيناها من الأخوة والأخوان الخليجيين .. في قطر وفي الإمارات وأذكر أنه عندما كنا نتصل بالموسيقيين الشعبيين كنت أحيانا أشرح لهم عن اختصاصي الموسيقي وكانوا يبدون كثير من الحشرية وحب الاستطلاع من ناحية من هذه الناحية وفي أحد المناسبات التقينا بفريق يعزف على آلة غريبة وتسمى الهبان وهي تشبه آلة القربة الموسيقية وهي مؤلفة من ظرف من الجلد مزود بأنابيب تصدر الصوت وهذه الآلة تصاحب الرقص، فعزفوا لنا على هذه الآلة وسجلناها وأيضا أنا عزفت على آلتي التي كانت تشابه -وهي المجوز- وكانت تشابه صوتها تلك الآلة التي يعزفونها وكان هنالك تبادل بين الموسيقات وشيئا من الطرافة طبعا والفكاهة في هذا الموضوع لحد ما كان هناك تبادل إنساني وموسيقي والطريف في الأمر أن هنالك تقليد موسيقي وتراث غني جدا يتعلق بصيد اللؤلؤ وكان مازال هؤلاء يقومون به والجميل في الأمر أن مع أن هذه الصناعة اندثرت ولكن أغاني الغوص استمرت واستمرارية الذكرى كانت من خلال الموسيقى وطبعا وهذا يدل على أن لواجب لمعايشة ذلك على هذا الشغف والصعوبة في الحياة ولكن الموسيقى تمكنك من معايشة التجربة هذه وأنت في جو مريح وعادات اعتيادية.

مازال القلب عربياً

في حضرة الصانع الماهر لا تفكر فيما تحاوله الأصابع، بل عليك أن تراقب في عينيه دهشتها لتستقرأ ما يدور في مخيلته لتعرف تماما ما تحاول الأكف الوصول إليه، فمن بين عشرات الآلات الموسيقية التي يتقن البروفسير علي الراس استنطاقها بالعزف، استبد به الحنين لقريته وناسها فراح يفتش عن ناي صغير كان والده أهداه له منذ زمن بعيد ومن بين آلاف المقطوعات الموسيقية التي يجيدها أختار مقطوعة ريفية أدرك عندها كل ذاكرته تحت صنوبرة عتيقة عند سفح الجبل ومضى بنغمات الشوق الحنين يحاكي ذكرى والده الذي غيبه الله.

علي جهاد راسي: هذا اللقاء كان هاما جدا بالنسبة لي، لأنه تجاوز فكرة سرد الأحداث التاريخية والتجارب الحياتية الخاصة، بل كان نواة لاتصال مهم وتواصل مع الوطن وكان همزة وصل بين المقيم والمهاجر والوطن الأم والمغترب وفي هذه المناسبة أود أن أتذكر والدي سلام راسي في آبيات من الشعر نشرها في كتبه وفي كتاب يا جبل ما يهزك ريح، نشر الوالد صورة لي أعزف على الناي لجمهور أميركي هنا في واشنطن (D.S.E) وكتب هذان البيتين من الشعر:

يا عازف الناي هل فتشت في كبدي عما تقول وقد ألهمتها أدبا
مهما لقينا وقد جار الزمان بنا بالناي قلنا بأنا لم نزل عربا