القطب الشمالي.. ساحة تنافس بين القوى الكبرى
يحوي القطب الشمالي كمية كبيرة من المعادن الأساسية في الصناعات التقنية، بالإضافة لاحتياطات ضخمة من النفط والغاز.
تلألأت أمواج بحر بارنتس الباردة، وعلى سطحه تهادت حاملة الطائرات البريطانية "كوين إليزابيث". كان بارنتس في ذلك الصباح من أكتوبر/تشرين الأول 2023 مسرحا لإحدى مناورات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبدت الأمور اعتيادية إلى حدٍّ كبير، حتى اخترقت طائرة استطلاع روسية من طراز "إليوشن 38" أجواء النرويج الشمالية.
على الفور، أقلعت في إثرها مقاتلات نرويجية وبريطانية، وفي أعالي السماء القطبية بدأت عملية المطاردة. كانت الطائرة الروسية تناور، بينما تفضِّل المقاتلات الغربية الاحتفاظ بمسافة آمنة محاولةً تجنب التصعيد، إلى أن استدارت "إليوشن 38" وابتعدت، متجهة إلى قواعدها في شبه جزيرة "كولا" شمال غربي روسيا.
ليست هذه الحادثة إلا واحدة من سلسلة مواجهات متزايدة في المنطقة القطبية، حيث تتكرر الاحتكاكات بين القوى الكبرى. ففي عام 2022، أمر قائد غواصة روسية طاقمه بتجهيز الطوربيدات أثناء مواجهة مع غواصة نووية أميركية في المحيط المتجمد الشمالي، وفقا لتقارير نقلتها مواقع إخبارية غير رسمية، وهي الحادثة التي لم تعلِّق عليها الجهات الرسمية في البلديْن، نفيا أو تأكيدا.
وفي العام التالي، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أنها دفعت بمقاتلة من طراز "ميغ 31" للتحرُّك بعدما اقتربت قاذفتا قنابل أميركيتان من طراز "بي-1 بي" من الحدود الروسية فوق بحر بارنتس، مما دفع القاذفتين الأميركيتين إلى الابتعاد. أما العام الماضي، فشهد عبور غواصتين نوويتين روسيتين تحت الجليد القطبي قرب السواحل الأميركية، في استعراض واضح للقوة.
تعكس هذه المواجهات واقعا جديدا في منطقة طالما وُصفت بأنها "منخفضة التوتر". فالقطب الشمالي، الذي كان يوما ما محيطا متجمدا بلا حياة، يتحوَّل إلى ساحة تنافس بين القوى الكبرى مع تزايد الاهتمام الدولي بثرواته ومساراته البحرية.
وقد صارت التحركات العسكرية والاستفزازات المُتبادلة في تلك الأصقاع مؤشرا على السباق المحموم الجاري من أجل السيطرة والنفوذ، بعدما فتحت تغيُّرات المناخ الطريق أمام القدرة على استغلال الثروات، وفاقمت الأزمات الاقتصادية من ضرورة البحث عن مصادر جديدة للثروة.
لسنواتٍ طويلة، شكَّلت الجبال الجليدية والمناخ القطبي القاسي حواجز طبيعية أمام أي نشاط بشري واسع النطاق في المنطقة، لكن تسارع الاحترار العالمي، الذي بلغت وتيرته نحو 4 أضعاف المعدل العالمي منذ عام 1979، تسبَّب في الكشف عن موارد وإمكانيات هائلة مُخبأة تحت الجليد، حيث تكمن في الأعماق البحرية وفي الجرف القاري ثروات ضخمة من النفط والغاز والمعادن، فضلا عما يوفره ذوبان الجليد من فتح ممرات بحرية استراتيجية وطُرق ملاحية جديدة، بإمكانها اختصار المسافة بين آسيا وأوروبا بنسبة تصل إلى 40%.
وبحسب تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأميركية (USGS)، يحتوي القطب الشمالي على حوالي 13% من احتياطيات النفط غير المُكتَشفة عالميا، أي ما يعادل 90 مليار برميل، بالإضافة إلى نحو 30% من احتياطيات الغاز الطبيعي غير المكتشفة.
وتتركَّز معظم هذه الموارد في الجرف القاري التابع لروسيا وولاية ألاسكا الأميركية، مما يُفسِّر التنافس الشديد من قبلهما على تعزيز نفوذهما في المنطقة. وتشمل هذه الموارد معادن ضرورية في الصناعات التكنولوجية المتقدمة، مثل صناعة بطاريات السيارات الكهربائية، وتوربينات توليد الطاقة الهوائية، والإلكترونيات الدقيقة.
وتُظهر الدراسات أن غرينلاند الدنماركية وحدها تحتوي على نحو 18% من الاحتياطيات العالمية من هذه المعادن، مما دفع الولايات المتحدة ودولا أخرى إلى توقيع اتفاقيات مع حكومة غرينلاند، في حين تبدي الصين اهتماما بهذه الموارد رغم أنها لا تُطل على القطب الشمالي.

من يسيطر على القطب الشمالي؟
4 قوى رئيسية تُعَد الأبرز حضورا جيوسياسيا في القطب الشمالي، وهي: الولايات المتحدة وروسيا وكندا والصين.
تتقاطع في القطب الشمالي مصالح 4 قوى رئيسية تُعَد الأبرز حضورا جيوسياسيا هناك، وهي: الولايات المتحدة وروسيا وكندا والصين، علاوة على الدول الإسكندنافية. ولكل من هذه الأطراف استراتيجيات وطموحات خاصة مدفوعة باعتبارات أمنية واقتصادية.
وبينما تشترك جميعها في إدراك القيمة الهائلة لموارد القطب الشمالي وممراته البحرية، تتباين مواقفها حول كيفية اقتسام النفوذ والثروة في المنطقة. وتتوزع هذه الدول اليوم بين السبعة الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الولايات المتحدة وكندا والدول الإسكندنافية الخمس)، ومن جهة أخرى الصين وروسيا.

اكتسب هذا التوزيع الجديد للقوى القطبية أهمية خاصة بعد انضمام فنلندا والسويد رسميا إلى الناتو في العامين الماضيين، فقد تحوَّل الحلف إلى قوة قطبية شبه مكتملة تُطوِّق روسيا من جهتي الشمال والغرب، وهو ما يعتبره الكرملين "تهديدا مباشرا لأمن روسيا القومي".
وبينما كانت منطقة القطب الشمالي تُدار تاريخيا بمنطق التعاون العلمي والبيئي، فإن ميزان القوى الناشئ يُنذر بتآكل هذا التوافق وتحويل المنطقة إلى ساحة صراع جيوسياسي.
بيد أن هذه البلدان ليست كلها دولا ساحلية في القطب الشمالي. خمسة بلدان رئيسية فقط تحيط بمياه المحيط المتجمد الشمالي: الولايات المتحدة وكندا والدنمارك (عبر غرينلاند) والنرويج وروسيا.
تتربع روسيا وكندا على قائمة أهم الدول في القطب الشمالي، حيث تمتلك روسيا أطول خط ساحلي في القطب الشمالي، وهو ما يُشكِّل نحو نصف إجمالي السواحل القطبية، كما أن قرابة 20% من مساحتها البرية تقع في نطاق الدائرة القطبية الشمالية، وتضم مدنا كبرى وموانئ صناعية، وهي جغرافيا فريدة تمنحها أفضلية طبيعية، وتجعلها القوةَ القطبية الرئيسية.
ويُعَد القطب الشمالي ركيزة أساسية للاقتصاد الروسي، إذ تسهم موارده بنحو 15% من إجمالي الناتج المحلي، وتُشكِّل نسبة كبيرة من صادرات الطاقة الروسية.
والأهم من ذلك، هما الطريقان البحريان الرئيسيان اللذان سوف يسمحان للسفن بعبور القطب الشمالي على طول السواحل الروسية والكندية: طريق البحر الشمالي والممر الشمالي الغربي. طريق البحر الشمالي هو طريق تجاري بحري أكثر موثوقية من الممر الشمالي الغربي، ويمتد بمحاذاة الساحل الشمالي لروسيا من بحر بِرينغ إلى بحر بارنتس.
وقد تبنَّت موسكو منذ سنوات عدة استراتيجية تمزج بين توسيع البنية التحتية في الشمال والتركيز على ترسيخ المطالب القانونية، إلى جانب تكثيف الوجود العسكري عبر تجديد قواعد يعود بعضها إلى العهد السوفياتي، ونشر أسطول من كاسحات الجليد، فضلا عن تعزيز القدرات الدفاعية بطول "طريق بحر الشمال"، الممتد بمحاذاة الساحل الشمالي لروسيا من بحر بِرينغ إلى بحر بارنتس (كما هو موضح في الصورة أعلاه).
ويُشكِّل هذا الطريق شريانا اقتصاديا واعدا، وتأمل موسكو أن يتحوَّل إلى ممر تجاري عالمي، مع فرض رسوم مرور واستخدامٍ على السفن الأجنبية.
كما تمتلك روسيا وكندا أكبر أساطيل بحرية مجهزة للتعامل مع المناخ القاسي في القطب الشمالي، حيث تمتلك روسيا أكثر من 41 كاسحة جليد في أسطولها، بينما تمتلك كندا نحو 18 كاسحة. وبالمقارنة، فإن الولايات المتحدة لديها اثنتان فقط من كاسحات الجليد العاملة، وعلى الرغم من أنها يمكن أن تبني المزيد، إلا أن ذلك قد يستغرق من 5 إلى 10 سنوات.
على النقيض من الحضور الروسي المُبكِّر، تأخَّر اهتمام الولايات المتحدة بالقطب الشمالي رغم امتلاكها ساحلا قطبيا عبر ولاية ألاسكا. فعلى مدار الحرب الباردة، انحصر التركيز الأميركي في الجانب الأمني، ومن تجلياته إنشاء منظومة رادار "الإنذار المبكر" (DEW) لرصد أي هجوم سوفياتي مُحتمَل، بينما تراجعت أولوية المنطقة في الاستراتيجية الأميركية بعد انتهاء الحرب الباردة، نظرا لاعتبارها منطقة منخفضة التوتر.

ولكن التحولات المتسارعة في العقد الأخير -وعلى رأسها الحرب الأوكرانية والتغيُّر المناخي وصعود الصين الراغبة في التأثير في المنطقة القطبية- دفعت الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في موقفها. وقد بدأت الإدارة الأميركية تتبنى خطابا جديدا يصف القطب الشمالي بأنه "ساحل أميركا الرابع" الذي يستحق الحماية والتنمية.
اقتصاديا، يُشكِّل حقل "برودو باي" في ألاسكا ركيزة مهمة في إنتاج النفط الأميركي (حيث مثَّل إنتاجه في وقت ما 8% من إجمالي الناتج الأميركي)، بينما تثير الاحتياطيات غير المستغلة جدلا بين دعاة الاستقلال في مجال الطاقة وبين المدافعين عن البيئة.
على الصعيد العسكري، شرعت وزارة الدفاع الأميركية في تدارك الفجوة مع روسيا والصين، مما دفعها إلى تبني استراتيجية جديدة عام 2022 لتعزيز الجاهزية القطبية. ولكن الفارق لا يزال كبيرا، إذ لا تمتلك أميركا سوى كاسحتين جليديتين نشطتين، مقابل أسطول روسي ضخم يضم أكثر من 50 كاسحة. لذا، كثَّفت واشنطن تعاونها مع كندا، ورفعت وتيرة مناوراتها العسكرية في ألاسكا، مستفيدة من انضمام فنلندا والسويد إلى الناتو، لتصبح جزءا من تحالف يطوِّق القطب ويعزز نفوذها في مواجهة موسكو.
ولكن ثمة نقطة قوة أخرى بالغة الأهمية تمنحها الجغرافيا للولايات المتحدة في القطب الشمالي؛ فعلى الرغم من أن روسيا تبدو على الخريطة كما لو كانت تسيطر على المنطقة، إلا أن أن حيازاتها الشاسعة من الأراضي هناك لا تساعدها في التعامل مع أحد نقاط ضعفها الاستراتيجية الأساسية: عدم وصولها إلى محيطات العالم. إذ لا تستطيع روسيا الخروج من القطب الشمالي للوصول إلى المحيط الهادئ دون المرور ببحر تشوكشي ومضيق بيرينغ، وكلاهما قبالة ساحل ألاسكا الأميركي.
وقد تكون جميع هذه المعطيات سببا في تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الثانية برغبته في ضم غرينلاند وكندا ليصبحا جزءا من الولايات المتحدة، ولما تحققه هذه الخطوة من هيمنة أميركية على النطاق الجغرافي المتنازع عليه في القطب الشمالي، كما أنه سيمنح أميركا قوة جيوسياسية هائلة، وهو الأمر الذي ترفضه كندا والدانمارك على السواء.
قد لا يكون لدى الولايات المتحدة العديد من كاسحات الجليد، ولكن قواتها البحرية الأخرى متقدمة للغاية ويمكنها بسهولة إغلاق هذا الممر في حال قررت أن هذا القرار من مصلحتها الوطنية. وفي هذه الحالة، للخروج من المحيط المتجمد الشمالي إلى المحيط الأطلسي، سيتعين على روسيا عبور المياه بين أيسلندا وغرينلاند، أو بين أيسلندا والمملكة المتحدة. وهذه فتحات أكبر من مضيق بيرينغ حتى الآن -حوالي 200 و500 ميل، على التوالي- لكنها لا تزال عرضة أيضا للحصار من قبل القوات المناهضة لروسيا، بحسب تحليل جيوبوليتيكال فيوتشرز.
الصين.. دولة شبه قطبية
بدأت بكين منذ سبعة أعوام في توسيع أسطولها من كاسحات الجليد، مع خطط لبناء كاسحات تعمل بالطاقة النووية.
بدورها، تسعى الصين إلى ترسيخ موطئ قدم في الشمال، ورغم عدم امتلاكها أي سواحل على المحيط القطبي، فإن بكين تصف نفسها بأنها "دولة قرب قطبية" (Near-Arctic State)، وهو مصطلح يستخدمه أكاديميون صينيون منذ عام 2012.
وتولي بكين أهمية خاصة لطرق الشحن القطبية، وعلى رأسها طريق بحر الشمال المحاذي للساحل الروسي، الذي يمثل فرصة لتقليص زمن وكُلفة نقل بضائعها إلى أوروبا بنسبة قد تصل إلى 40%، مقارنة بمسار قناة السويس.
وتشير التقديرات إلى أن هذا الطريق قد يتحوَّل بحلول منتصف القرن، إلى أحد أكثر ممرات الشحن كفاءة وربحية، مع تزايد وتيرة ذوبان الجليد الصيفي.
ولتحقيق غاياتها، تتبع بكين استراتيجية متعددة المسارات، فهي تعزز أولا حضورها العلمي عبر إنشاء محطات أبحاث في النرويج وآيسلندا، وثانيا تضخ استثمارات كبرى في مشروعات الطاقة والبنية التحتية، وأبرزها مشروع الغاز الروسي في يامال الذي موَّلته الصين بنحو 12 مليار دولار، بعد انسحاب الاستثمارات الغربية عقب فرض العقوبات على موسكو.
أما على صعيد قطاع النقل، فقد دشَّنت روسيا والصين في يوليو/تموز 2023 خطا بحريا منتظما يربط بين الموانئ القطبية الروسية (مثل مورمانسك ويامال) والموانئ الصينية (مثل شنغهاي)، في محاولة لتأسيس ممر تجاري آمن بديل عن طرق الملاحة التي تتداخل مع مناطق النفوذ والسيادة الغربية.
وقد شهد هذا الخط أكثر من 80 رحلة شحن تجريبية في عامه الأول، ويأمل الطرفان تحويله إلى مسار استراتيجي لتبادل الطاقة والسلع، وبما يحققه من تقليص للكلفة والوقت.
وقد امتد التعاون بين موسكو وبكين في المسألة القطبية إلى توفير غطاء سياسي مُتبادل، حيث دعمت الصين موقف روسيا في مفاوضات الأمم المتحدة بشأن حدود الجرف القاري، وامتنعت عن انتقاد تحركاتها العسكرية هناك.
وفي المقابل، ساندت موسكو طموحات بكين في الحصول على موطئ قدم في المؤسسات القطبية، وأيدت خطابها بشأن "حقوق الدول غير القطبية" في استخدام الطرق البحرية، وهي مساع أثمرت عن نيل الصين صفة "مراقب دائم" في مجلس القطب الشمالي منذ عام 2013.
وقد تلا ذلك إصدارها وثيقة سياساتها القطبية عام 2018، التي أكَّدت فيها على حق الدول غير القطبية في المشاركة في تنمية الإقليم على أساس "الاستفادة المشتركة"، كما أطلقت مبادرة "طريق الحرير القطبي" امتدادا لمشروع الحزام والطريق.
وبدأت بكين منذ سبعة أعوام في توسيع أسطولها من كاسحات الجليد، مع خطط لبناء كاسحات تعمل بالطاقة النووية. وفي صيف عام 2024، أرسلت ثلاث كاسحات جليد دفعة واحدة إلى القطب الشمالي لأول مرة، في خطوة اعتبرتها البحرية الأميركية "إشارة واضحة" على الطموح القطبي الصيني.
كما اتسع نطاق التعاون الروسي الصيني في المنطقة، وشمل سلسلة تدريبات ومناورات ثنائية وعمليات بحث وإنقاذ في المياه القطبية، بالإضافة إلى دوريات بحرية وجوية مشتركة قرب ألاسكا عام 2023، شاركت فيها قاذفات استراتيجية من الجانبين، في رسالة رمزية تعكس استعداد الصين لدعم الحضور العسكري الروسي في أقصى الشمال، حتى قرب السواحل الأميركية، مما استدعى تحركا من سلاحي الجو الأميركي والكندي لإظهار الجاهزية والردع.
ورغم أن التفاهم بين موسكو وبكين يُشكِّل محورا فعالا لموازنة نفوذ حلف الناتو في الشمال، فإنه لا يخلو من التوترات. فلطالما تحفَّظت موسكو على تنامي أي نفوذ أجنبي في مناطق تعتبرها امتدادا استراتيجيا لأمنها القومي، في حين تدرك الصين أن نجاحها طويل الأمد لا يمكن أن يُبنى على تحالفها مع موسكو وحده، بل يتطلب مقبولية أوسع من الدول القطبية الأخرى، مما يدفعها إلى إبقاء تحالفها مع روسيا في إطار مرن وغير رسمي.
فضلا عن ذلك، يدرك الطرفان أن هذا التعاون يجمع بين قوة صاعدة تسعى لتوسيع نفوذها، وقوة تقليدية تتراجع تدريجيا إلى موقع الشريك الأصغر، في ظل ضعف قدرات موسكو نتيجة تداعيات الحرب الأوكرانية، بمعنى أن معادلة الشراكة تحكمها الضرورة في المقام الأول، مما يجعل موسكو حذرة بدورها في إدارة هذا التقارب مع الصين.
ومع ذلك، تُظهر هذه التطورات تجاوز الشراكة بين بكين وموسكو إطار التعاون الاقتصادي، واتجاهها نحو تنسيق عملياتي فعلي في ساحة قطبية باتت مسرحا لتنافس القوى الكبرى، وسط مخاوف غربية متزايدة من أن تسعى بكين إلى إعادة رسم قواعد النفوذ في أقصى شمال العالم. في هذا السياق، تصطدم مساعي الصين بارتياب غربي، رغم حرصها في خطابها على تقديم وجودها القطبي بوصفه سلميا وعِلميا.
غير أن بعض صناع القرار في الدول الغربية يرى أن بكين تواصل بناء قدرات لها أبعاد عسكرية مُحتملة، في إطار "الدمج العسكري المدني" الذي تطبقه الصين على أنشطتها البحثية. فمحطاتها العلمية ومختبراتها العائمة مثلا تجمع كمًّا هائلا من البيانات حول البيئة التحتية البحرية والمجال الكهرومغناطيسي في الدائرة القطبية، وهي معلومات ذات قيمة عالية بالنسبة للغواصات وأنظمة الاتصالات العسكرية.
وتبدي الصين أيضا اهتماما متزايدا بإقامة محطات أرضية للأقمار الصناعية في المناطق القطبية، بهدف تعزيز قدراتها في مجالي الاستطلاع والمراقبة.
روسيا.. العودة من بوابة الجليد
تمتلك روسيا اليوم أكبر بنية تحتية عسكرية داخل الدائرة القطبية.
من اللافت أن موسكو تعتمد نهجا مشابها لنهج الصين، عن طريق المزج بين الأهداف المدنية والعسكرية في القطب الشمالي. فقد صُنِّفت العديد من القواعد الروسية الجديدة رسميا على أنها مراكز ذات استخدام مزدوج، عسكري ومدني، وأبرزها محطات البحث والإنقاذ التي أنشأتها روسيا على امتداد طريق بحر الشمال.
على الورق، تهدف هذه المحطات إلى تنفيذ مهام الإغاثة البيئية والاستجابة لحالات الطوارئ البحرية، إلا أنها عمليا توفر بنية تحتية لوجستية مرنة يمكن للقوات الروسية الاستفادة منها عند الحاجة، سواء كمراكز تموين أو نقاط اتصال وتعقّب. ويمنح هذا الاستخدام المزدوج روسيا غطاء قانونيا وإنسانيا لنشر منشآت قابلة للتوظيف العسكري في أي لحظة، دون إثارة ردود فعل صريحة من المجتمع الدولي.
ولا يأتي هذا المزج بمعزل عن استراتيجية روسية أوسع، ترى في القطب الشمالي مسرحا مركزيا لتوازن القوى مع الناتو، ومجالا حيويا لتعزيز الردع. ومن هذا المنطلق، أدركت موسكو مبكرا الأهمية المتزايدة للقطب الشمالي بوصفه جبهة استراتيجية بالنسبة لها، وشرعت منذ بدايات القرن الحالي في تنفيذ خطة طموحة لترسيخ حضورها العسكري هناك، مستفيدة من الطفرة النفطية حينها ومن رؤية تعتبر الشمال عُمقا حيويا لأمن روسيا واقتصادها.
فمنذ عام 2005، أعادت روسيا افتتاح العشرات من القواعد العسكرية السوفياتية المهجورة وحدثتها بالكامل، كما أنشأت قواعد جديدة بقدرات عصرية، امتدت من مورمانسك غربا إلى تشوكوتكا شرقا، أبرزها قاعدة "ناغورسكوي" في أرخبيل "فرانز جوزيف لاند"، التي تُعد أقصى قاعدة عسكرية في شمال العالم، وتضم مرافق لاستقبال قاذفات استراتيجية وإيواء الجنود في ظروف التجمد القاسي.

كما أنشأت روسيا قاعدة "المدرج الشمالي المؤقت" في جزيرة كوتيلني، ومنشآت مماثلة في رانغِل وتشوكوتكا، فضلا عن تأسيس "قيادة الأسطول الشمالي" عام 2021 كمنطقة مستقلة تضم جميع فروع القوات المسلحة في الشمال، وتشرف على أسطول غواصات نووية يشكل عماد الردع الروسي، حيث تتمركز 8 منها في شبه جزيرة كولا.
إلى جانب ذلك، توسَّعت روسيا في تطوير أنظمة تسليح نوعية، فضلا عن اختبارها في المنطقة القطبية، ومن بينها صاروخ كروز فائق السرعة من طراز "تسيركون"، وطوربيد نووي يُعرف باسم "بوسَيدون". كما نصبت موسكو منظومات دفاع جوي مثل "إس-400"، وبطاريات صواريخ ساحلية من طراز "باستيون" لتأمين الممرات البحرية.
ونتيجة لهذه الجهود، باتت روسيا تمتلك اليوم أكبر بنية تحتية عسكرية داخل الدائرة القطبية، حيث يفوق عدد القواعد الروسية في الشمال عدد قواعد الناتو مجتمعة بنحو الثُلث، وفق بيانات المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)، ويقول بعض الخبراء إن الغرب لو قرَّر مجاراة روسيا بالوتيرة نفسها، فقد يستغرقه سد الفجوة عقدا كاملا.
ورغم أن موسكو تطرح تمركزها في القطب بوصفه موقفا دفاعيا بالأساس، فإن المؤشرات الميدانية توحي باستعدادها الدائم للتصعيد السريع وتنفيذ عمليات هجومية محدودة النطاق، قد تشمل السيطرة على أجزاء من شمال الدول الإسكندنافية في حال اندلاع نزاع.
ومع ذلك، تدرك موسكو حدود قوتها، خاصة في ظل انشغال قسم كبير من جيشها بحرب أوكرانيا، فضلا عما كشفته تلك الحرب من ثغرات غير متوقعة في قدراتها، إذ تفيد التقارير أن روسيا اضطرت لسحب بعض وحداتها من شبه جزيرة "كولا" نحو جبهة أوكرانيا لتعويض خسائرها هناك، مما ترك ثغرات مؤقتة في الوجود العسكري الروسي شمالا، وإن كانت روسيا تُعوّل على غياب تهديد مباشر لوجودها القطبي على المدى القصير.

ولكن مع مرور الوقت، فإن زيادة إمكانية الوصول إلى القطب الشمالي قد تفتح "القلب الروسي" أمام نقطة ضعف لم تكن موسكو مضطرة لمواجهتها من قبل. فقد كان جوهر الإستراتيجية الروسية في أوروبا يتمثل في إنشاء مناطق عازلة تفصلها عن سهل أوروبا الشمالي، لا سيما في أوكرانيا وبيلاروسيا.
وتعتمد هذه الإستراتيجية جزئيًا على قناعة مفادها أن روسيا لا تحتاج للقلق بشأن تهديد محتمل من جهة ساحلها الطويل في القطب الشمالي، نظرا لكونه عصيًا على خصومها في ظل ظروفه القاسية.
غير أن ذوبان الجليد، إذا بلغ مستوى يتيح حركة تجارية دائمة في المحيط المتجمد الشمالي على مدار العام، فإن ذلك سيمنح القوات البحرية المعادية المحتملة مساحة أوسع للمناورة، وقدرة أكبر على استهداف قلب الجغرافيا الروسية من الشمال.
الناتو.. منطقة اختبار الردع
القطب الشمالي بات اليوم مساحة استعراض النفوذ و"جسّ النبض".
أمام هذا التمدُّد الروسي، أعادت الولايات المتحدة وحلفاؤها اهتمامهم العسكري بالمنطقة، بعد عقود من الخمول النسبي. وقد تُرجم هذا الاهتمام إلى سلسلة من الأنشطة والتحديثات العسكرية البارزة، من بينها تمرين "التحدي القطبي" الذي نظمته النرويج عام 2023، بمشاركة مئات الطائرات من الولايات المتحدة وكندا ودول الشمال الأوروبي.
وفي سابقة من نوعها منذ الحرب الباردة، دخلت حاملات طائرات أميركية وبريطانية مياه الدائرة القطبية، في إشارة واضحة إلى عودة التنافس العسكري هناك. كما أعادت الولايات المتحدة تفعيل الأسطول الثاني للبحرية عام 2018، وأسندت إليه مهام شمال الأطلسي والقطب الشمالي، وأعلنت لاحقا عن إنشاء أول ميناء عسكري مدني عميق في مدينة "نوم" بألاسكا.
وفي مجال الرصد والإنذار المبكر، تستثمر واشنطن وأوتاوا مليارات الدولارات في تحديث شبكة رادارات "نوراد" (NORAD)، ويشمل ذلك تقنيات بعيدة المدى وتغطية متعددة الطبقات، علاوة على الاتصالات الفضائية.
أما على مستوى التأقلم الميداني، فقد بدأت دول حلف الناتو، مثل النرويج وكندا، تجهيز وحدات خاصة للقتال في البيئات المتجمدة، مستفيدة أحيانا من خبرات موسكو نفسها في هذا المجال.
ويترافق ذلك مع تصاعد الحضور العسكري الغربي قرب حدود روسيا القطبية، من دوريات سفن حربية بريطانية وفرنسية في بحر بارنتس، إلى طلعات متكررة لقاذفات "بي-52" و"بي-1" الأميركية على مشارف الأجواء الروسية.
يُذكر أن موسكو أعلنت في يوليو/تموز 2024 اعتراض قاذفتين أميركيتين فوق بحر بارنتس، وهو ما يُبرز هشاشة التوازن وإمكانية الانزلاق نحو صدام مباشر، نتيجة خطأ حسابي أو احتكاك عرضي. وإلى جانب التحركات الأميركية، يسعى حلفاء واشنطن الأوروبيون إلى ترسيخ حضورهم العسكري في الدائرة القطبية لاحتواء النفوذ الروسي المتصاعد.
مثلا، صنفت بريطانيا المنطقة على أنها ذات أولوية متزايدة في استراتيجيتها الدفاعية لعام 2022، علاوة على نشرها وحدة من مشاة البحرية الملكية للتمركز الدائم في النرويج، بهدف التدريب على عمليات القتال في البيئات شديدة البرودة. ومع انضمام فنلندا إلى الناتو، أضيف أكثر من 1300 كلم من الحدود القطبية مع روسيا، مما يفرض تحديات لوجستية واستخباراتية تتطلب التنسيق في مجالات الاستطلاع والمراقبة وتأمين الحدود في ظل ظروف مناخية قاسية.
أمام تسارع التحولات في القطب الشمالي، تتزايد المؤشرات على انزلاق المنطقة نحو نمط جديد من "الحرب الباردة"، لا يعلو فيه صوت المدافع حتى اللحظة، لكن تتكثف فيه الاستعدادات والتموضعات الاستراتيجية، في ظل صراع منخفض الحدة ولكنه ممتد وعميق.
هذا الصراع، وإن بدا مضبوطًا بتوازنات ردع دقيقة، لكنه يظل هشًا أمام احتمالات التصعيد غير المقصود أو الخطأ في الحسابات، خاصة مع دخول أدوات عسكرية فائقة الحساسية إلى الميدان، مثل المسيّرات البحرية، والصواريخ الفرط صوتية، والأسلحة النووية التكتيكية.
وبينما تحرص القوى الكبرى على تجنّب الانفجار المباشر، فإن التوتر المتصاعد يضعف جسور التعاون العلمي ويقوّض فرص التنمية المشتركة، ليتحوّل القطب الشمالي إلى مسرح دائم لاختبار الإرادات واستعراض النفوذ.