هل يوجد ترحيل انتقائي من غزة برعاية فرنسية؟
في تسجيل مصور مدته 3 دقائق، لقي انتشارا واسعا على وسائل التواصل الاجتماعي، تحدثت فلسطينية شابة تدعى ضحى الكحلوت عن تفاصيل انتقالها من مسكنها في حي الشيخ رضوان شمال غزة يوم 23 أبريل/نيسان 2025، ووصولها في اليوم التالي سالمة إلى العاصمة الأردنية عمان، ثم حلولها في أحد فنادقها، تمهيدا لسفرها خلال الأيام القليلة التالية إلى فرنسا.
لم تكن ضحى مصنفة ضمن فئة المرضى والجرحى، التي تتيح لها سلطة الاحتلال الإسرائيلي -في حالات نادرة خلال وقائع الحرب المتواصلة منذ عام ونصف العام- المرور عبر معابرها بعد تنسيق مع الهيئات الإنسانية.
هي معلمة لغة عربية وشاعرة حصلت منذ نحو عام على منحة "كاتب" في إحدى جامعات باريس، وتعثر سفرها بمساعدة السفارة الفرنسية عبر معبر رفح بسبب إغلاقه من قبل جيش الاحتلال، ليتحقق حلمها خلال الأسبوع الماضي، في توقيت وملابسات أثارت شكوكا كبيرة داخل غزة وخارجها.

في واقعة مشابهة وثقتها الجزيرة نت، اتصل متحدث من القنصلية الفرنسية في القدس قبل 3 أسابيع بأسرة شابين فرنسيين من أصول فلسطينية يعيش والداهما حاليا في خان يونس.
وخاطب الوالدة أولا ليبلغها أن عليها تجهيز نفسها يوم الأربعاء المقبل للسفر إلى فرنسا بالنظر إلى أن ولديْها تقدما بطلب بهذا المعنى إلى الحكومة الفرنسية.
سألت الوالدة هل خروجها من غزة يضمن عودتها إليها. فرد المتحدث أن "هذا شأن يتعلق بالإسرائيليين" وهم لا يستطيعون تقديم أي ضمانات. قالت إذن لا أريد الخروج. وعندما كرر المتحدث باسم القنصلية سؤاله، كررت السيدة إجابتها، وهو ما حصل مع الوالد الذي أصر المتحدث باسم القنصلية على سماع صوته، فأفهمه أنه أيضا لا يريد الخروج.
وعندما سؤلت الشابة ضحى الكحلوت هل شاهدت عسكريين إسرائيليين عند خروجها من غزة عبر معبر كرم أبو سالم؟ وهل طلب منها التعهد بعدم العودة إليها؟ أجابت على السؤال الأول بالإيجاب، لكنها نفت أن يكون أحد قد طلب منها عدم العودة، وقالت "أبدا.. هويتي ما زالت معي في الشنتة (الحقيبة)". كما نفت أن تكون مغادرتها تمت عبر مطار رامون الذي أنشأته إسرائيل قبل أعوام في صحراء النقب المحاذية للقطاع الفلسطيني المحتل.
ترحيل أم تهجير؟
لكن سفر ضحى ومجموعة تضم أكثر من 100 أكاديمي وباحث عن طريق كرم أبو سالم خلال الأسبوع الماضي إلى معبر جسر اللنبي، ومن هناك إلى فرنسا عبر عمان بتسهيلات فرنسية، أثار ردودا وتحذيرات شديدة اللهجة. أول تلك الردود باشرها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان الذي ذهب إلى تصنيف ما يجري بأنه يندرج ضمن "مخطط تهجير".

يقول المرصد الذي يتخذ من جنيف مقرا، في بيان صدر يوم 22 أبريل/نيسان الجاري "حصلنا على معلومات خطِرة ومؤكدة تُثبت تورط السفارة الفرنسية في القدس بالتنسيق مع جيش الاحتلال لتنفيذ مخطط لتهجير كفاءات فلسطينية من غزة"، مؤكدا "أن عمليات الإجلاء تستهدف حملة الدكتوراه والأطباء والمهندسين والمؤرخين ومختصي الثقافة والآثار".
وأكد المرصد أنه رصد "عملية ترحيل جديدة مُخططا لها غدًا الأربعاء تُجرى بسرية تامة وبحماية مباشرة من الجيش الإسرائيلي"، مضيفا أنه "يتم تجميع المُرحّلين فجرًا وسط القطاع ونقلهم إلى مطار رامون تحت حماية الطيران الحربي مع حديث عن نقلهم لاحقًا إلى الأردن عبر جسر الملك حسين". وحذر من أن هذه العمليات تمثل خرقًا للقانون الدولي وتضع فرنسا في مواجهة مسؤولية أخلاقية وقانونية.
صاحب الفكرة
لم تكن مخاوف المرصد تستند إلى فراغ. ففي الرابع من فبراير/شباط الماضي كشف الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال مؤتمر صحفي بحضور رئيس الوزراء الإسرائيلي عن خطته لنقل جميع سكان غزة من القطاع إلى الأردن ومصر وربما إلى دول أخرى، والسيطرة الأميركية على غزة لإعادة تأهيلها وإقامة ما وصفه بـ"ريفييرا الشرق الأوسط". وقال حينها "سنسويها بالأرض، 1.8 مليون يجب أن يغادروا".

لم تتأخر حكومة نتنياهو عن استغلال اللحظة. فأعلن وزير دفاعه يسرائيل كاتس عن نيته إنشاء إدارة للتنسيق من أجل خروج طوعي للفلسطينيين لمن أبدوا اهتماما بالمخطط، على الرغم من أنه ليس واضحًا عدد هؤلاء. وقالت الصحافة العبرية إن إسرائيل بدأت بالفعل استعداداتها لتسهيل خروج طوعي للفلسطينيين من غزة إلى دولة ثالثة عبر ميناء أشدود ومطار رامون.
وقد أوردت المصادر الإخبارية الإسرائيلية على مدى الشهرين الماضيين ما يؤشر على وجود خطط عملية دخل بعضها حيز التنفيذ. ففي 26 مارس/آذار الماضي، قال موقع واي نت إنه "في الأشهر الأخيرة غادر مئات من سكان غزة القطاع بشكل دائم كل أسبوع بناء على طلبهم. وبحسب تقديرات مصادر إسرائيلية، غادر أكثر من 35 ألف شخص من سكان غزة القطاع إلى دولة ثالثة منذ اندلاع الحرب. ومن المتوقع أن يغادر غدا (الخميس) أيضا أكثر من 200 مريض غزة ومرافقيهم إلى الإمارات عبر مطار رامون، كما سيغادر مئات آخرون إلى هناك خلال الأسابيع المقبلة".
وقال "بحسب البيانات فإن فئات معينة فقط هي التي يحق لها مغادرة غزة بشكل قانوني: المرضى الذين يحتاجون إلى علاج طبي خارج القطاع، والمواطنون الذين يحملون جوازات سفر أجنبية، والمقيمون الذين حصلوا على تأشيرات لدول ثالثة وافقت على قبولهم رسميا".

الدول المستقبلة
وحدد "واي نت" هوية الدول المستقبلة، فقال "تشارك العديد من البلدان في جهود الاستيعاب، بعضها كهدف مؤقت وبعضها الآخر كحل دائم. ومن أبرز هذه الدول مصر والأردن والإمارات العربية المتحدة ودول أوروبا الغربية ورومانيا، التي برزت بشكل خاص في عدد الاستيعابات".
ويواصل قادة الجيش الإسرائيلي وضباط الأمن الداخلي (الشاباك) حملتهم لإغراء سكان شمال القطاع تحديدا بالخروج عبر نداءات يوجهونها لهم عبر شبكات التواصل. وقد حصلت الجزيرة نت على صورة من إحداها. يقول النداء الذي يحمل توقيع "كابتن جلال مسؤول شمال النصيرات" و"كابتن أبو المجد مسؤول البريج" وأرقام هواتفهما، "نعم قد حان الأوان واقتربت اللحظات التي كنتم تنتظرونها بفارغ الصبر".
ويقول نص النداء "لتقديم الطلبات الخاصة بكم والتسهيلات لمن يريد الخروج من قطاع غزة وذلك عبر مقابلات مع ضباط جهاز الشاباك"، ويحدد يوم الثلاثاء (2025/4/22) موعدا لاستقبال الراغبين، مضيفا "كل من لديه الرغبة في الخروج من قطاع غزة يمكنه التوجه لنا في شارع صلاح الدين على جسر وادي غزة".

ودفعت حملة الإغراءات الإسرائيلية، وعمليات الترحيل الانتقائي برعاية فرنسية، الحكومة في غزة للتدخل. ففي 22 أبريل/نيسان الحالي، حذر المكتب الإعلامي الحكومي بقطاع غزة من تداول ما وصفها بشائعات مضللة تتعلق بترتيبات مزعومة لهجرة جماعية من القطاع، "في حملة تقف خلفها إسرائيل بهدف ضرب الوعي الوطني وزعزعة صمود الفلسطينيين".
وشدد البيان على أن الاحتلال الإسرائيلي هو من يقف خلف هذه المنشورات، وتروج لها حسابات وهمية أو مغرضة أو تعرضت للتضليل، أو أشخاص لا يمتلكون معلومات صحيحة، فيستخدمون وثائق مزيفة ونماذج توكيل قانوني لا قيمة لها. وأوضح أن الحالات القليلة التي غادرت القطاع مؤخرا معلومة تماما، وهي من فئة المرضى والجرحى الذين أتموا إجراءات السفر لتلقي العلاج في الخارج عبر معبر كرم أبو سالم، وليسوا مُهاجرين، وما يُشاع خلاف ذلك هو كذب متعمد وتحريف للوقائع.
115 مرحلا
بدورها خرجت وزارة الخارجية الفرنسية عن صمتها بعد 4 أيام من التجاذب حول مسألة ترحيل نخب غزة، وقالت -في بيان صدر يوم 25 أبريل/نيسان الجاري ونشر على موقعها- إنها ساعدت في إجلاء 115 شخصا من غزة هذا الأسبوع، وإنهم وصلوا بالفعل إلى فرنسا. وأشار البيان إلى أن فرنسا تستنفر جهودها منذ 18 شهرًا بغية تأمين "مواطنينا وذويهم والموظفين في المعهد الفرنسي في غزة وأسرهم وشخصيات فلسطينية مرتبطة ببلدنا".

وشددت الوزارة في الوقت نفسه على أن فرنسا تظل تعارض التهجير القسري لسكان غزة "الذي سيمثل انتهاكًا خطيرا للقانون الدولي، وعاملًا جسيمًا يزعزع استقرار شريكينا المقربين مصر والأردن، واستقرار المنطقة برمتها".
وقالت وكالة الصحافة الفرنسية إن الأشخاص الـ115 وصلوا بالفعل إلى مطار أورلي، ونقلت عن أنيك سوزور واينر، الأستاذة الفخرية في جامعة باريس ساكلاي ونائبة رئيس "شبكة المهاجرين في التعليم العالي"، قولها إن بين الوافدين الجدد "طلابا حظوا بمنح دراسية من الحكومة الفرنسية، حصلوا على منحهم منذ نحو 15 أو 18 شهرا، لكنهم لم يتمكنوا من المجيء للدراسة في فرنسا"، فضلا عن "باحثين وفنانين" جاؤوا "معظمهم مع عائلاتهم".
الصليب الأحمر الدولي لم يتأخر من جهته عن تحديد حجم الدور الذي قام به في عملية الترحيل الأخيرة. إذ قال المتحدث باسمه في غزة هشام مهنى إن اللجنة الدولية للصليب الأحمر (اللجنة الدولية) "يسرت (الخروج) لحالات محدودة وبناءً على طلب الخدمات القنصلية لعدة بلدان"، وأضاف "عند الوصول إلى معبر كرم أبو سالم، استقبلهم موظفو القنصليات لمواصلة سفرهم إلى بلدانهم، حيث تمّ لمّ شملهم مع عائلاتهم". وشدد مهنى في تصريحات نشرتها يومية "القدس العربي"، على أنه "عند تنفيذ مثل هذه الأنشطة، ينحصر دور اللجنة الدولية في التيسير فقط، ولا يتجاوز ضمان السفر الآمن داخل حدود القطاع".

حتى ساعة نشر هذا التقرير، ما زال الغموض يلف حجم ومدى الدور الفرنسي في عملية الترحيل، وما إذا كان مرتبطا بملف التهجير. لكن هذا الدور مؤكد عبر تنظيمه عملية الترحيل باعتراف الخارجية الفرنسية، وتصريحات إحدى المستفيدات منه الكاتبة والصحفية الفلسطينية دنيا الأمل إسماعيل.
فقد دونت دنيا على صفحتها على فيسبوك بعد وصولها إلى باريس قائلة "خرجنا من غزة برًا عبر معبر كرم أبو سالم إلى الأردن، ومنها إلى فرنسا. لا صحة لما يُشاع عن نقل سري عبر معبر رامون. كل شيء تم بطريقة رسمية وعبر قنوات معلنة".