بعد "ثلاثية إنستالينغو"..هل يخشى قضاء تونس سلطتها؟

قضية إنستالينغو
قضية إنستالينغو
قضية إنستالينغو وزعت على 3 ملفات قضائية(الجزيرة)
قضية إنستالينغو وزعت على 3 ملفات قضائية(الجزيرة)

"انتكاسة خطيرة لالتزامات تونس الإقليمية والدولية، ومحاولة للانسحاب من آلية قضائية مستقلة من شأنها الحد من الإفلات من العقاب وضمان سبل الإنصاف للضحايا". بهذه العبارات الموجزة، علقت الرابطة التونسية لحقوق الإنسان على نبأ انتشر سريعا في العاصمة التونسية يوم 21 مارس/آذار الحالي، يفيد بسحب الحكومة "اعترافها باختصاص المحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان في قبول العرائض الصادرة عن الأفراد والمنظمات غير الحكومية".

النبأ الصادم للمنظمات الحقوقية أكدته وكالة الصحافة الفرنسية، التي طلبت بدورها تعقيبا من وزارة الخارجية التونسية على القرار الذي يحرم المواطنين ومنظمات حقوق الإنسان من إمكانية رفع دعاوى مباشرة أمام المحكمة الأفريقية للطعن في انتهاكات الدولة، لكن الوزارة امتنعت عن التعليق.

غير مسبوقة

بالذهنية ذاتها غير المكترثة بالالتزامات الحقوقية، أصدرت الدائرة الجنائية الثانية في المحكمة الابتدائية بتونس في 5 فبراير/شباط 2025 أحكاما على 38 شخصا في واحد من الملفات المعروفة اختصارا بقضية "إنستالينغو" (Instalingo).

وتراوحت الأحكام في القضية المثيرة للجدل وغير المسبوقة بالسجن لمدد تتراوح بين 5 سنوات و54 سنة مع غرامات مالية لبعضها. وقد طالت طيفا من السياسيين والإعلاميين، بينهم زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي ورئيس الحكومة الأسبق هشام المشيشي، إضافة إلى وزراء ومسؤولين حكوميين سابقين.

راشد الغنوشي 2 سالم الكحيلي 3 عادل الدعداع 4 لطفي زيتون 5 رفيق عبد السلام 6 هشام المشيشي 7 معاذ الغنوشي 8 هيثم الكحيلي
راشد الغنوشي، سالم الكحيلي ، عادل الدعداع ، لطفي زيتون، رفيق عبد السلام، هشام المشيشي، معاذ الغنوشي، هيثم الكحيلي (مواقع التواصل الإجتماعي)

تعود قضية "إنستالينغو" إلى تحقيق في عمل الشركة المتخصصة بالترجمة وصناعة المحتوى الرقمي، والتي تتخذ من القلعة الكبرى بولاية سوسة مقرًا، بدأته السلطات القضائية التونسية قبل أربعة أعوام وبالتحديد في سبتمبر/أيلول 2021.

واستندت التحقيقات إلى شبهات بتورط "إنستالينغو" في أنشطة تمس بأمن الدولة وغسيل الأموال والتشهير عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقاد التحقيق في بداياته إلى مداهمة مقرات ومصادرة مقتنيات، مما أسفر عن موجة اعتقالات أولى.

وسرعان ما أخذت القضية أبعادًا سياسية بعد الإعلان عن تورط شخصيات عامة، بينها سياسيون معارضون وصحفيون ومدونون ومسؤولون سابقون في وزارة الداخلية.

ويقول موقع "بزنس نيوز" (Business News) التونسي إن قضية إنستالغينو قسمت في الواقع إلى ثلاثة ملفات منفصلة:

  • القضية الأولى "إنستالينغو 1" (التي صدرت الأحكام بشأنها الشهر الماضي) تتعلق باتهامات بالتآمر على أمن الدولة، والتحريض على العنف، والتمويل السري. وقد أدت إلى اعتقال عدة شخصيات مؤثرة وإصدار مذكرات توقيف دولية.
  • التحقيق الثاني "إنستالينغو 2" يركز على جرائم غسيل الأموال والصلات بين شخصيات سياسية وشبكات تمويل غامضة. وتشمل الملاحقات صحفيين ومدونين ومسؤولين في وزارة الداخلية.
  • القضية الثالثة "إنستالينغو 3"، التي لا تزال جارية، تستهدف شخصيات أخرى تواجه عقوبات مشابهة لتلك التي صدرت في 5 فبراير/شباط الماضي. علما بأن أجهزة التحقيق تواصل النظر في ملفات عدد من المتهمين لتحديد مسؤولياتهم.

ماذا عن شركة إنستالينغو ذاتها؟

يقول مسؤول شركة "إنستالينغو" هيثم الكحيلي للجزيرة نت إن التهم التي وجهتها السلطات التونسية إلى الشركة وموظفيها تفتقر إلى أي أدلة قانونية، معتبرًا أن القضية بنيت على دوافع سياسية لا علاقة لها بالوقائع.

وأوضح أن السلطات لم تتهم الشركة رسميًا بالتلاعب بالرأي العام أو تلقي تمويلات خفية، بل جاءت التهم، وفق القانون التونسي، تحت تصنيف التآمر على أمن الدولة، وتشكيل وفاق إجرامي، والتحريض على العنف، إضافة إلى مزاعم تتعلق بتبييض الأموال والإرهاب.

وأكد أن التقارير الفنية التي أعدتها مؤسسات الدولة نفسها أثبتت عدم صلة إنستالينغو بالصفحات التي استند إليها الاتهام، مشددًا على أن سياسات المؤسسة التحريرية كانت واضحة في التزامها بالمهنية وعدم المساس بمؤسسات الدولة.

كما نفى أي علاقة للشركة بتبييض الأموال، موضحًا أن جميع حساباتها كانت شفافة وخاضعة لرقابة الجهات الرسمية، ولم يتم العثور على أي تحويلات مالية مشبوهة أو ممتلكات يمكن أن تدعم هذه الادعاءات.

ليس موظفا

وبشأن الأحكام الصادرة، أشار الكحيلي إلى أن العقوبة الأشد، البالغة 54 سنة سجنًا، استهدفت شقيقه سالم، رغم أنه لا تربطه أي علاقة بإنستالينغو ولم يسبق له زيارة مقرها أو التعامل معها ماليًا. واعتبر أن الحكم جاء في سياق "التشفي والانتقام من العائلة".

هيثم الكحيلي
هيثم الكحيلي: شقيقي ليس موظفا (مواقع التواصل الإجتماعي)

أما عن الخطوات القادمة، فأكد الكحيلي أن اللجوء إلى الهيئات القضائية الدولية بات الخيار الوحيد، مشيرًا إلى أن هناك جهودا للتوجه إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان لمقاضاة السلطات التونسية.

في حين رأى الحقوقي عادل الماجري أن "هناك الكثير من الوسائل لكف يد الحكومة التونسية عن استخدام القضاء، أولها الضغط الإعلامي وفضح ممارسات سلطة قيس سعيد وإبراز الخروقات القانونية التي يقوم بها قضاء التعليمات". وتابع أن "من بين الوسائل الأخرى تقديم الشكاوى والقضايا لدى الأمم المتحدة، وخاصة المقررة الخاصة لاستقلال القضاة والمحامين".

وكشف الماجري أن تقديم قضايا للمحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب كان له تأثير عميق في كف يد الحكومة التونسية، حيث أصدرت المحكمة الأفريقية قرارًا ألغى كل الأوامر التي أصدرها قيس سعيد بعد 25 يوليو/تموز 2021.

عادل الماجري ناشط حقوقي دولي فيسبوك - الصفحة الشخصية
عادل الماجري: قرار سحب الاعتراف بالمحكمة الإفريقية يقدم دليلا (مواقع التواصل)

وأضاف أن "الدليل على أن هذه القضايا أزعجت نظام قيس سعيد هو قرار وزير الخارجية التونسي بسحب اعتراف الدولة التونسية باختصاص المحكمة الأفريقية في قبول العرائض والشكاوى من الأفراد والمنظمات".

وبالنظر إلى أن غالبية الأحكام الصادرة بحق المتهمين في "إنستاليغنو 1" طالت شخصيات بارزة في حزب حركة النهضة الإسلامي المعارض، فقد غذت الشبهات في أن العدالة خلال حكم قيس سعيد -الموصوف في تقرير لمجموعة الأزمات الدولية بـ"الاستبدادي الشعبوي"- تستخدم لأغراض سياسية.

افتعال وتلفيق

في هذا الصدد، يقول وزير الخارجية الأسبق (المقيم بالمنفى) رفيق عبد السلام إنها "قضية مفتعلة من أساسها". وعلق في تصريح للجزيرة نت على ما أسماه بـ"إقحامه" في القضية وصدور حكم بسجنه 22 عاما بالقول "من الواضح أن السلطة القضائية في عهد قيس سعيد تلبس لبوسًا قضائيا لمن تشاء، وتكيّف القضايا بما يخدم أهدافها في التخلص من الخصوم والمعارضين السياسيين".

رفيق عبدالسلام
رفيق عبدالسلام: نظام سعيد قائم على التلفيق (الجزيرة)

ورأى عبد السلام في قضية إنستالينغو دليلا على أن نظام الرئيس سعيد "قائم على تلفيق القضايا للمعارضين السياسيين، وبات استعمال القضاء من أجل تصفية الخصوم السياسيين هو الشغل الشاغل لهذا النظام".

من جهته، أثنى عادل الماجري، الناشط الحقوقي الدولي ونائب رئيس جمعية ضحايا التعذيب (مقرّها جنيف)، على ما ذهب عبد السلام إليه. وقال للجزيرة نت "نعم، القضاء في تونس أصبح مسخّرًا لخدمة السلطة، وتجدر الإشارة إلى أن قيس سعيد يعتبر القضاء وظيفة وليس سلطة، وبالتالي يراه أداة في خدمة السلطة السياسية".

 

يذكر أن الرئيس سعيد عزل القضاة المذكورين في يونيو/حزيران 2022، ورفضت السلطة بعدها الانصياع لقرار المحكمة الإدارية بإعادتهم، مما أشاع "أجواء الخوف والرعب والترهيب في الوسط القضائي" حسب بيان أصدرته في أبريل/نيسان الماضي جمعية القضاة التونسيين.

هذا الأمر دفع المعارضة التونسية للقول إن القضاء الذي تصفه بـ"قضاء التعليمات" يتحرك دائما بسرعة لملاحقة النشطاء المعارضين والصحافيين والمدوّنين، لكنه لا يحرك ساكنا حين ترتكب تجاوزات رهيبة من أنصار الرئيس على مواقع التواصل ووسائل الإعلام بلا أية محاسبة.

المصدر: الجزيرة