جمارك لكندا وحائط للمكسيك
ترامب "الجيوسياسي" والهيمنة الخشنة
"اعتبارا من 4 فبراير 2025، تُطبِّق الحكومة جمارك بنسبة 25 بالمئة على ما قيمته 30 مليار دولار من السِلع المستوردة من الولايات المتحدة.. وتدخل تلك الإجراءات حيِّز التنفيذ فورا ويستمر العمل بها حتى تُعلِّق الولايات المتحدة الجمارك التي فرضتها على كندا".
بتلك العبارات أعلنت الحكومة الكندية رسميا بيانها ردا على الجمارك التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في تصعيد سريع إبَّان دخوله البيت الأبيض، وصدام حاد وفريد من نوعه مع البلد الأقرب كما يُفترض إلى واشنطن.
وبعد مشاورات بين إدارة ترامب وحكومتي ترودو في كندا وشينباوم في المكسيك، التي طالتها قرارات ترامب الجمركية أيضا، قرر البيت الأبيض تأجيل تطبيق الجمارك شهرا واحدا مُرشَّحا للتمديد، ومن ثمَّ تصدَّرت عبارة جديدة أعلى بيان الحكومة الكندية تقول إن الحكومتيْن قررتا تأجيل تطبيق الجمارك المُتبادلة على السلع الواردة من كل منهما.
ولكن السيف كان قد سبق العذل، إذ انتشرت دعاوى مقاطعة المنتجات الأميركية سريعا في شتى أنحاء كندا، وأذكت نزعة وطنية لم تعرفها البلاد الهادئة والباردة منذ عقود.
في ولايات مانيتوبا وكيبيك ونيوفاوندلاند ولابرادور، أخلت المتاجر أرففها من الخمور الأميركية. وفي تصريح لصحيفة تورونتو ستار، صرَّح مدير أحد المتاجر الكبرى في كندا بأنه اتخذ خطوات لتقليص أثر الجمارك الأميركية على الزبائن، منها مضاعفة الجهود لبيع السلع المصنوعة والمزروعة في كندا، والبحث عن بدائل للسلع الأميركية من دول متضررة أيضا مثل المكسيك؛ مما يعني إمكانية تشكيل تحالف تجاري كندي مكسيكي يتجاوز الإجراءات الأميركية.
على موقع إكس (تويتر سابقا) غرَّد رئيس الوزراء ترودو بنفسه داعيا الشعب الكندي إلى شراء السلع الكندية: "لقد حان الوقت لاختيار المنتجات التي صُنعت هنا في كندا. تحققوا من مُلصقات المنتجات. لنقُم بدورنا. لنختر كندا حيثما استطعنا".
We will always stand up for Canada. pic.twitter.com/Eg9vkh4bS0
— Justin Trudeau (@JustinTrudeau) February 2, 2025
بينما تركز معظم التحليلات على مستقبل الاقتصاد العالمي في ظل سياسات حمائية عنيفة من هذا النوع، ومن طرف الدولة التي يُفترض أنها الراعي الرسمي للرأسمالية العالمية بنفسها، هناك جوانب أخرى لم يتطرَّق إليها كثيرون في النظر إلى سلوك إدارة ترامب اتجاه كندا والمكسيك، وتهديداته بضم غرينلاند وقناة بنما، التي لا يظهر في الأفق مدى جديَّتها، لكنها تطرح أسئلة جادة حول استخدام الولايات المتحدة لفائض القوة العسكرية لديها بشكل خشن في جوارها الجغرافي المباشر؛ مما يعيد إلى الأذهان تصوُّرات جيوسياسية كانت شائعة قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، روَّجها رُوَّاد علم الجغرافيا السياسية الذي أفل نجمه طوال الحرب الباردة قبل أن يطل برأسه من جديد في السنوات الأخيرة.
الجغرافيا السياسية
في عهد ترامب تحول الحديث من مجرد "نفوذ" أميركي إلى "سيطرة" أميركية.
يشيع استخدام مصطلح الجغرافيا السياسية أو الجيوسياسة أو الجيوبولتيك في شرح الكثير من الصراعات الدولية والإقليمية، حيث يُعتبر المنظور الجيوسياسي منظورا يأخذ في الاعتبار مركزية العوامل الجغرافية والحيوية في حسم الصراعات وإستراتيجيات الدول المتصارعة.
وقد صَكَّ المصطلح لأول مرة الأستاذ السويدي رودولف كيلين (أو شيلين) (Rudolf Kjellén)، الذي عرَّف علم الجغرافيا السياسية على أنه "دراسة البيئة الطبيعية للدولة"، فإذا كان أهم ما تُعنى به الدولة هو القوة، فإن الغرض الأسمى لهذا العلم هو جعل الجغرافيا في خدمة الدولة، وتمكين صانع القرار من جعل الموقع الجغرافي مصدر قوة لها.
لاقت أفكار كيلين رواجا كبيرا في ألمانيا، وتأثر به المفكر والضابط الألماني كارل هاوسهوفر (Karl Haushofer)، الذي نظر إلى علم الجغرافيا السياسية على أنه "العلم القومي الجديد للدولة"، وعقيدة تقوم على حتمية المجال الحيوي بالنسبة لكل أوجه السياسة.
وقد جاءت أفكار هاوسهوفر أيضًا امتدادا لأفكار الجغرافي الألماني فردريك راتزل (Friedrich Ratzel) في كتابه "الجغرافيا السياسية"، حيث قال إن الدولة لا ينبغي أن تُثبِّت حدودها السياسية، فهي أشبه بإنسان ينمو "وتضيق عليه ملابسه عاما بعد عام فيضطر إلى توسيعها، وبالمثل تضطر الدولة إلى زحزحة حدودها السياسية كلما زاد عدد سكانها وتعاظمت مطامحها"، وهو ما دفعه لصكِّ مصطلح المجال الحيوي أو "Lebensraum"، الذي ارتبط فيما بعد بسياسات النظام النازي.
رغم الوصمة التي طالت علم الجغرافيا السياسية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، نتيجة استخدام بعض جوانبه في تسويغ سياسات النظام النازي التوسُّعية، فإن نهاية الحرب الباردة فتحت الباب أمام إعادة اكتشافه بالتدريج، وإعادة الاعتبار لدوره في فهم السياسة الدولية.
وقد ازداد الاهتمام بالمفهوم طوال العقد الماضي على ضوء ما اعتبره محللون عودة الجغرافيا السياسية وتصدُّع القواعد النيوليبرالية للنظام العالمي نتيجة الأزمة المالية عام 2008، وما تبعها من تحوُّلات في السياسة الأميركية والدولية أدت إلى صعود دونالد ترامب، واندلاع حرب أوكرانيا الأشد في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية، وكذلك صعود تصوُّرات عن الهيمنة الجغرافية والديمغرافية بين الدول الفاعلة في الشرق الأوسط، مثل إسرائيل وإيران وتركيا.
ترامب وراتزل ومبدأ مونرو
وضع راتزل سبعة قوانين لتطور الدول، ذكر فيها أن مساحة الدولة تنمو بنمو الحضارة أو الثقافة الخاصة بها، ويستمر النمو حتى تصل إلى مرحلة الضمِّ بإضافة دول وأقاليم أخرى، وأن نمو الدولة يرتبط في جزء منه بنمو سكانها. وتتوقف حدود الدولة على ما تستطيع حمايته والحفاظ عليه، وينتقل الميل العام للتوسع من دولة إلى أخرى ثم يتزايد ويشتد، ومن ثمَّ تنشب الصراعات من أجل الهيمنة على مجالات حيوية أو أقاليم بعينها تُهِم أكثر من دولة.
ومن القوانين المهمة التي ذكرها راتزل أن الدافع للتوسع يمكن أن يأتي من الخارج، ويقصد بذلك أنه أحيانا ما تكون حالة الضعف والهشاشة في بعض الدول والأقاليم دافعا ومحفزا لقوى إقليمية أو دولية أخرى كي تتوسع على حساب تلك الدول والأقاليم.
وهذا القانون تحديدا، قد يتفق في جوهره وما يقوم به الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخرا من ممارسات اتجاه كل من كندا والمكسيك ومقاطعة غرينلاند، حيث يرى فيها كيانات هشة، تمتلك الكثير من الإمكانيات لكنها تعاني من ضعف أمني أو سياسي أو بشري، ومن هنا جاءت فكرة السعي نحو ضمها أو على الأقل الضغط عليها للانصياع للمصالح الأميركية التي يمثلها ترامب وأنصاره في الداخل.

في الجغرافيا السياسية، ثمَّة إشكالية تواجه الدول على مستوى أمنها البري، من بينها قضية تعدد دول الجوار الجغرافي إذا كانت محاطة بامتدادات برية شاسعة. وتُشير التجارب التاريخية إلى أنه كلما قلت الحدود المشتركة مع الدول المحيطة كان ذلك عاملا للاستقرار السياسي، وبالعكس، كلما تعددت دول الجوار تظهر المشاكل الحدودية بوضوح.
فمثلا، عانت ألمانيا وإيران من مشاكل الجوار نظرا إلى تعدد الدول التي تشاركهما الحدود، إضافة إلى تعدد الصراعات الدينية والعرقية والقومية مع دول الجوار، في حين أن الولايات المتحدة لا تعاني من مشاكل حدودية مُعقَّدة لأن لها جارتين فقط، وهما تتسمان بالضعف من حيث الإمكانيات مقارنة بالولايات المتحدة، التي يعزلها عن بقية العالم المحيطان الهادي والأطلسي.
ولكن وفقا لقوانين راتزل، فإن تلك الهشاشة قد تكون سببا للتفكير في التمدد، وهو ما حدث مع ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، ومع إيران بعد ثورتها عام 1979، ويحدث الآن مع الولايات المتحدة في مواجهة كندا، التي قال الرئيس ترامب إنه يسعى لضمها كي تصبح الولاية رقم 51 ضمن الولايات الأميركية، وكذلك المكسيك، التي شددت إدارة ترامب الضغوط عليها في ملف الهجرة والتجارة، كما غيَّرت الإدارة الأميركية الجديدة اسم الخليج المشترك بينها وبين المكسيك من "خليج المكسيك" إلى "خليج أميركا".
إن ما أعلن عنه ترامب من توجهات، لا يتفق فقط مع بعض ما ذهب إليه راتزل، بل يتفق كذلك في جانب منه مع ما ذهب إليه الرئيس الأميركي الأسبق جيمس مونرو، الذي حكم الولايات المتحدة بين عامي 1817 و1825، ويُعَد أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة.
كان مونرو صاحب أحد أهم المبادئ الإستراتيجية في تاريخ بلاده، وهو المبدأ المعروف باسم "مبدأ مونرو"، وكثيرا ما يُشار إليه مع كل تحول في توجهات السياسة الخارجية الأميركية، وخاصة اتجاه جوارها الجغرافي المباشر.
ويستند مبدأ مونرو على عدم تدخل الولايات المتحدة في الشؤون الداخلية للقوى الأوروبية أو في أي حروب تنشب بينها، والاعتراف بالمستعمرات الأوروبية في نصف الكرة الأرضية الشرقي، مقابل ألَّا يحق للقوى الأوروبية استعمار أي مناطق جديدة في نصف الكرة الأرضية الغربي، بحيث تعتبر واشنطن أي محاولة أوروبية للسيطرة في نصف الكرة الأرضية الغربي عملا عدائيا ضد الولايات المتحدة.
في ولاية ترامب الأولى، شاع الحديث عن مبدأ مونرو باعتباره مدخلا لترسيخ "نفوذ" الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي من جديد، لكن مع بداية الولاية الثانية لترامب في يناير/كانون الثاني 2025، تغيرت لغة الخطاب وتحول الحديث من مجرد "نفوذ" إلى "سيطرة"، وكأنها عودة إلى أشكال الاستعمار التقليدي وفق ما وضعه راتزل في قوانينه السبعة، وانتقال إلى نمط خشن من بسط الهيمنة أعاد إلى الأذهان الأفكار الجيوسياسية التي شاعت قبل حوالي مئة عام.
هندسة الخرائط من نتنياهو إلى ترامب
في إطار سعيه إلى إعادة هندسة الخرائط، لا يختلف ترامب عن بنيامين نتنياهو كثيرا.
في إطار سعيه إلى إعادة هندسة الخرائط، لا يختلف ترامب عن رئيس وزراء حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو كثيرا، حيث ينطلق الأخير في خرائطه من قوانين راتزل، ويرى أن إسرائيل دولة تعاني من أزمة التعدُّد الحدودي، فعلى حدودها التي تم ترسيمها بقرار من الأمم المتحدة، توجد 5 دول هي لبنان وسوريا والأردن وفلسطين ومصر.
ويرى نتنياهو أن هذه الدول تعاني هشاشة سياسية وأمنية، كما يعاني بعضها هشاشة بشرية، وهي هشاشة تدفع "إسرائيل" إلى التمدد على حساب هذه الدول.
وفي حال عدم القدرة على التوسع الرسمي وضم المزيد من الأراضي، يكون البديل في هندسة الخرائط عند نتنياهو هو إقامة مناطق محايدة أو عازلة للحيلولة دون نشوب صراع مسلح بين الكيان الإسرائيلي ودول جواره، فإذا ما وقعت الحرب أو نشبت الصراعات المسلحة تكون هذه المناطق المحايدة أو العازلة مسرحا للمعارك الحربية.
برز مبدأ المناطق العازلة فعليا في الإستراتيجية الصهيونية منذ تأسيس دولة الكيان عام 1948، فقد نُظِر إلى الأردن على أنه دولة عازلة بين العراق وإسرائيل، وترسَّخت سياسة تُحقق هذا الهدف.
وعندما خاضت إسرائيل عدة حروب مع دول الجوار الجغرافي مثل مصر وسوريا أعوام 1956 و1967 و1973، كان أحد الأهداف الإستراتيجية هو التوسع والضم، وبناء مناطق عازلة في حال أُجبِرَت إسرائيل على الانسحاب، وهو ما تم مع مصر، حيث أصبحت شبه جزيرة سيناء منطقة عازلة فعليا بعد اتفاقية كامب ديفيد.
وتكرر الأمر مع هضبة الجولان السورية، حيث فُرِضَت منطقة عازلة بموجب اتفاق فض الاشتباك عام 1974.
وقد تكرر الأمر مع لبنان بموجب القرار 1701، الصادر في أغسطس/آب 2006، الذي نص على احترام ما سماه "الخط الأزرق" الفاصل بين لبنان وإسرائيل. وكان أحد أهداف هذا الخط هو التهدئة المؤقتة دون الترسيم النهائي للحدود بين البلدين، حيث سعى نتنياهو إلى تجاوز الخط والتمدُّد خلفه في المستقبل وصولا إلى نهر الليطاني، كي تصبح المساحة بين الخط والنهر منطقة عازلة، بل وربما يمكن ضمُّها نهائيا إذا سنحت الفرصة، على غرار الجولان.
ولذلك، عندما جاءت حرب نتنياهو على لبنان بعد طوفان الأقصى، وبدأ الغزو البري للأراضي اللبنانية في الأول من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بدت نية إسرائيل واضحة للوصول إلى الليطاني، لولا أن فُرض على تل أبيب توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في 27 نوفمبر/تشرين الثاني من جانب الولايات المتحدة، حتى تتفرغ لتسوية الوضع في غزة.
وبرغم أن اتفاق وقف إطلاق النار نصَّ على مهلة مدتها 60 يوما للخروج من لبنان، وإعادة الانتشار العسكري في الجنوب، فإن نتنياهو لم يلتزم بذلك، وخرق جيش الاحتلال الاتفاق مرات عديدة، وارتقى مئات الشهداء من اللبنانيين وأصيب آلاف آخرون.

من البر إلى البحر: هندسة خرائط الهيمنة
ثمَّة مستويان لفهم المآلات الإستراتيجية للجغرافيا السياسية: الأول يتمثل في المفاتيح الإستراتيجية البرية، ويشمل الممرات القارية والبرازخ. فالممرات القارية البرية الضيقة توازي في أهميتها الممرات البحرية، إذ إن بعضها قد يقطع قارة بأكملها عبر سلاسل جبلية ضيقة مثلا، ومن ثَمَّ تصعب السيطرة عليه من مواقع بعيدة؛ مما يتطلب إقامة قواعد عسكرية لحماية امتداده.
وأشهر أمثلته هُنا هو ممر خيبر الذي يربط تخوم باكستان الشمالية بأفغانستان، وطريق الحرير الذي كان حلقة الوصل الأساسية بين دول آسيا الوسطى وغرب آسيا ومنها إلى أوروبا، وكذلك طريق الذهب في قلب الصحراء الكبرى الأفريقية، الذي يربط شرق القارة وغربها.
أما البرازخ فهي مناطق ضيقة من اليابسة تربط قارتين أو كتلتين كبيرتين، مثل برزخ بنما الذي يربط أميركا الشمالية والجنوبية، وبرزخ السويس الذي يربط قارتي آسيا وأفريقيا، ونظرا إلى كون البرازخ ممرات أرضية ضيقة، فقد دفعت إلى نشوء فكرة القنوات المائية، فشُقَّت قناة السويس في برزخ السويس، وقناة بنما في برزخ بنما.
أما المستوى الثاني فهو المفاتيح الإستراتيجية البحرية، التي تشمل المضايق والقنوات المائية. والمضيق منطقة بحرية ضيقة بين إقليمين بريين كبيرين، مثل مضيق هرمز بين الساحلين العربي والإيراني للخليج، ومضيق باب المندب بين اليمن والقرن الأفريقي، ومضيق جبل طارق بين أوروبا وأفريقيا.
ويُعتبر المضيق مصدرا من مصادر القوة الإستراتيجية للدولة، على غرار تركيا التي تحوي بين جنباتها مضيقي البوسفور والدردنيل، وهما الطريق البحري الوحيد للأسطول الروسي من البحر الأسود إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط.
ولكن إذا كانت الدول التي تطل على المضايق ضعيفة، فإن ذلك يدفع القوى الدولية نحو السعي للسيطرة على المضايق كي تكتسب القوة على الساحة العالمية، مثل الإمبراطورية البريطانية التي استمدت قوتها جزئيا من سيطرتها على مضايق هرمز وباب المندب وجبل طارق ومَلَكا.

هناك أيضا الأهمية الإستراتيجية للقنوات التي تربط البحار والمحيطات، وغالبا ما تُشَق عبر البرازخ مثل السويس وبنما. ففي إطار رؤية جيوسياسية للمفاتيح الإستراتيجية البرية والبحرية، يصعب فهم توجهات ترامب فيما يتعلق بقناة بنما دون مراعاة البعد الجيوسياسي للقناة وأهميتها في التجارة العالمية، والمخاوف من أن تسيطر عليها التجارة الصينية على حساب المصالح الأميركية.
كما يصعب فهم توجهات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في السعي نحو السيطرة على قناة السويس المصرية أو شق قناة موازية لها عبر برزخ العقبة مرورا بالأراضي الفلسطينية المحتلة، دون مراعاة الأهمية الجيوسياسية للقناة منذ شقها عام 1869.
وتكشف الخبرة التاريخية أن القوى البحرية فرضت سيطرتها على مناطق قارية كبرى في مرات عديدة، إذ كانت تسيطر على الشريط الساحلي لدولة قارية، ثم تتوسع داخلها على حساب الشعوب الأضعف أو الشعوب الأصلية التي كانت تُدفع نحو المناطق الداخلية أكثر.
ولذلك نجد أن عددا كبيرا من الحواضر الاستعمارية التاريخية تأسست على سواحل البحار، وإن لم يكن فعلى خطوط التجارة البرية. وقد برزت مواقع بحرية اتخذتها القوى الاستعمارية نقاط توسُّع نحو الداخل القاري، وأصبحت نقاطا للتجارة العالمية من جهة، وأداة لترسيخ الهيمنة الاستعمارية من جهة أخرى، وأشهرها مدن مثل شانغهاي وهونغ كونغ في الصين، ومومباي وكولكاتا في الهند، وكانت كلها قواعد لتمدُّد النفوذ البريطاني في البلدَين الأكبرَين في آسيا.
بجانب أهمية السيطرة على السواحل، برزت كذلك أهمية السيطرة على أشباه الجزر لكونها نقاط مرور وغزوات وهجرات، مثل شبه الجزيرة العربية وشبه جزيرة القرم وشبه جزيرة سيناء، إلى جانب السيطرة على الجزر وسلاسل الجزر مثل الفلبين وإندونيسيا ونيوزيلندا وتايوان.
ولذلك من الصعب فهم توجهات ترامب في السعي نحو ضم جزيرة غرينلاند، وحرص الولايات المتحدة على ضمان سيطرتها على تايوان، واتجاه الصين لإنشاء قواعد عسكرية في جزر سليمان شرق أستراليا، دون فهم الأهمية الإستراتيجية للجزر وأشباه الجزر، بوصفها مفاتيح لبناء الإمبراطوريات في الماضي والحاضر.

عودة الجغرافيا السياسية
مُنِيت ألمانيا بهزيمة مذلّة في الحرب العالمية الأولى، ترتب عليها اقتطاع أجزاء من أراضيها، وتسريح جيشها، وفرض حصار مالي وعسكري عليها، وإلزامها بتعويضات ضخمة للدول المنتصرة في الحرب، وتقسيم مستعمراتها في العالم بين بريطانيا وفرنسا.
وفي سنوات الانكسار الألماني، شاع الحديث عن راتزل الذي عاش فترة الوحدة والتوسع الجيوسياسي لألمانيا حتى وفاته عام 1904، وكانت القوة الألمانية حينها تتمدد برا وبحرا، وتؤثر في هندسة الخرائط الدولية، كما حدث في مؤتمرات التقسيم التي احتضنتها برلين. وقد جاء من بعده هاوسهوفر، الذي عاش مرحلتَي الطفرة والانهيار، وشهد الانتصار والانكسار، حتى وفاته عام 1946 بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة.
حشد هاوسهوفر فريقا من الجغرافيين والسياسيين الألمان، وأصدروا لأول مرة دورية علمية باسم "المجلة الجيوسياسية"، وحاولوا عن طريقها إعادة تشكيل الفكر القومي، وقد ارتبطت ببدايات المد النازي في ألمانيا.
وتحت رعاية الجمعية الجغرافية الألمانية، أُنشئت المدرسة الجيوسياسية عام 1924 برئاسة هاوسهوفر، الذي نُظِر إليه بوصفه أحد العقول التي ألهمت الزعيم النازي أدولف هتلر، حيث تبنَّى الأخير الكثير من أفكار هاوسهوفر ومدرسته، كما استعان بأفكار المفكر الإنجليزي هالفورد ماكيندر، المعاصر للحقبة نفسها، وهو أحد روَّاد الجغرافيا السياسية آنذاك.
اعتمد هتلر مفهوم المجال الحيوي لألمانيا، أي تلك المساحة الجغرافية التي تليق ببلاده كما رآها، وتليق بالجنس الآري، وقد شكَّلت تلك أهم مقومات الأيديولوجيا القومية النازية التي سعت لتحقيق ثلاثة أهداف إستراتيجية، أولها وحدة ألمانيا (استعادة الأراضي التي اقتُطِعَت منها بعد الحرب العالمية الأولى)، وثانيها وحدة الألمان (ضم كل الشعوب الألمانية في أوروبا في دولة واحدة)، وثالثها وحدة أوروبا تحت قيادة ألمانيا، وهو ما يعني الانتقال التدريجي من فكرة "النفوذ" إلى فكرة "السيطرة" و"الهيمنة".
بعد الانهيار الألماني إثر الحرب العالمية الثانية، اعتقد البعض أن الجغرافيا السياسية انتهت، لكن مفكرين إستراتيجيين مثل بيتر تيلور طوَّروا مفاهيم جديدة للجغرافيا السياسية لتفسير القوة الصاعدة آنذاك للولايات المتحدة التي خرجت من الحرب العالمية الثانية وهي أكبر قوة عالمية.
ومن تلك المفاهيم مفهوم "الحدود الشفافة"، أي فرض الهيمنة الاقتصادية والعسكرية دون سيطرة مباشرة على الأرض، وهو ما أسماه تايلور "جغرافيا السيطرة دون إمبراطورية"، التي جعلت من العالم بقاراته المختلفة مجالا حيويا لبعض الدول العظمى، وهو أمر ترسَّخ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وتحوُّل النظام الدولي إلى نظام أحادي القطبية تهيمن عليه الولايات المتحدة.
لم تدُم نشوة القطب الواحد طويلا، وسرعان ما اهتزت القيم النيوليبرالية بعد الأزمة المالية العالمية، وكذلك بعد أن ظهر بجلاء فشل الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها من احتلال أفغانستان والعراق، ومن ثمَّ ظهرت نزعات نحو مراجعة أفكار التسعينيات، وبداية تطوير أفكار جيوسياسية جديدة منفصلة عن المفاهيم الأميركية.
اللافت هُنا أن الرئيس الأميركي يسعى اليوم للانتقال من النفوذ إلى السيطرة، ومن الحدود الشفافة إلى الهيمنة الخشنة، ومن ثمَّ تصبح في نظره كندا الولاية 51 لا مجرد شريك تجاري مجاور فحسب، وكذلك غرينلاند وقناة بنما، في عملية فرض هيمنة خشنة لم يعهدها حلفاء واشنطن.
في المجمل، تظل قراءة العلاقات الدولية من منظور تفاعلات الصراع والتعاون بين القوى الدولية في حاجة حقيقية إلى المنظور الجيوسياسي، حتى تكتمل الرؤية الإستراتيجية لما يشهده العالم من تحوُّلات، سواء كانت هذه التحولات انتقالية أو جذرية، وسواء انقشعت سريعا أم بقيت معنا لعقود طويلة، وينطبق ذلك على ما يفعله ترامب اتجاه كندا والمكسيك وغرينلاند، وما ينفذه نتنياهو اتجاه الأراضي الفلسطينية واللبنانية والسورية.