كان الرئيس الصيني شي جين بينغ أقل تحفظا أمام زعماء نحو 50 دولة أفريقية خلال منتدى التعاون الصيني الأفريقي في بكين، حين قال في خطابه: "إن عملية التحديث التي يقودها الغرب في أفريقيا تسببت في معاناة كبيرة لشعوب المنطقة". يأتي ذلك في وقت تزداد فيه المخاوف الأميركية والغربية أيضا من هذا "الغزو الصيني الناعم" للقارة الأفريقية التي كانت معقلا تقليديا لنفوذه.
يضيف الرئيس الصيني، في المنتدى، الذي اختتم يوم السادس من سبتمبر/أيلول 2024، متطرقا إلى أحد أبرز أسباب التقارب الصيني الأفريقي: "بدءا من منتصف القرن العشرين، حاربت الصين والدول الأفريقية معا ضد الإمبريالية والاستعمار ويجب علينا أن نواصل طريق التحديث والنمو معا".
جاء خطاب شي جين بينغ مختلفا، فقد دأبت الصين غالبا إلى التأكيد أن شراكاتها لا تستهدف "أي طرف ثالث"، في إشارة إلى الغرب نفسه -المستعمر أو الحليف التقليدي السابق لمعظم البلدان الأفريقية- لكن اطمئنان شي إلى رسوخ علاقات الصين الأفريقية وإلى تنامي قوة بلاده، وخصوصا تغير نظرة أفريقيا للغرب جعلته يصرح بما كان سابقا يخفيه بمنطق الصبر الإستراتيجي وطول النفس الصيني المعهود.
طموح الصين وهواجس أفريقيا
حتى سنوات قليلة ماضية، كانت الصين في قائمة بلدان العالم الثالث -وفق المعايير والتصنيفات الجيوسياسية القديمة- جنبا إلى جنب مع الدول الأفريقية نفسها ومعظم الدول الآسيوية، لكنها صعدت إلى مركز الريادة العالمية اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وتكنولوجيا، بما يشبه المعجزة، لتطرح نفسها "بديلا موثوقا" لأفريقيا.
عمليا بات بإمكان الصين أن تقدم كل شيء لأفريقيا، من لعب الأطفال إلى مشاريع البنية التحتية الضخمة والقروض والتكنولوجيا فائقة الدقة، وهذا ما يؤرق الغرب الذي كان يحتكر كل ذلك.
يشير محللون إلى أن أفريقيا تغيرت أيضا بما يخدم مصلحة الصين كقوة كبرى ومعززة بكل عوامل التفوق تلك. ففي السنوات الأخيرة ازدادت هواجس الدول الأفريقية وإحباطها من "عملية التحديث التي يقودها الغرب في أفريقيا" -وفق تعبير الرئيس الصيني- فلا الديمقراطية تحققت، ولا التنمية الحقيقية على النمط الغربي حصلت. وبقيت البلدان الأفريقية في معظمها تراوح مكانها في مربعات الفقر والجهل والمرض والفساد والانقلابات العسكرية والديون التي تجاوزت تريليون دولار عام 2023 حسب تقرير البنك الأفريقي للتنمية.
بدا أن تحويل الكثير من الدول الأفريقية البوصلة نحو الصين -بدرجة أقل روسيا وتركيا- يمثل بشكل ما استيعابا لدرس عقود من "الإهمال الغربي لأفريقيا"، ونتيجة لذلك "الإحباط في العالم النامي وتطلعاته" وفق توصيف صحيفة نيويورك تايمز الأميركية.
قبل 4 سنوات، جاءت أزمة لقاحات كورونا، التي أهملت فيها أفريقيا بشكل جعلها الأكثر تضررا، كجزء من هذا الدرس، ثم أتت مفارقة منح الدول الغربية نحو 500 مليار دولار من المساعدات المختلفة لأوكرانيا في ظرف سنتين، بما يفوق ما منح لأفريقيا خلال عقود، منها نحو 50 مليار دولار كقروض ومساعدات من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، تأكيدا لهذا الدرس.
بشكل عام، يمكن فهم متلازمة الانقلابات التي شهدتها بعض دول الساحل والصحراء وإنهاء النفوذ الفرنسي والأميركي فيها (النيجر ومالي وبوركينا فاسو وبدرجة أقل تشاد) وكذلك أفريقيا الوسطى وغيرها، والاتجاه نحو روسيا والصين في سياق إحباطات أفريقية، ومراجعات وجرد لمكاسب الارتباط لعقود بالغرب، جاءت نتائجه سلبية لتعزز فك الارتباط والبحث عن خيارات أخرى.
يشير محللون إلى أن الغرب لا يتحمل وزر كل أزمات القارة الأفريقية المعقدة، لكنه بالمحصلة جزء مهم رئيسي منها، ويعكس ذلك التحول الفارق في مقاربة معظم الدول الأفريقية لعلاقاتها السياسية والاقتصادية تبعات إرث استعماري وعقودا من الفشل الاقتصادي والتنموي وفق المقاربات الغربية، وانتشار الفقر والفساد رغم الثروات الضخمة التي تمتلكها في ظل أحادية العلاقة مع الدول الغربية.
في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول 2023، انتقد الرئيس الغاني نانا أكوفو آدو بشكل حاد -وهو مقرب من الغرب- تلك العلاقة غير المتوازنة وغير المثمرة، حين قال: "الكثير من ثروات الغرب تم بناؤها من دماء ودموع ورعب تجارة العبيد وقرون من الاستعمار والاستغلال".
من جهته، قال القائد العسكري لغينيا (المستعمرة الفرنسية السابقة) مامادو دومبويا أيضا على المنبر نفسه: "لقد حان الوقت للكف عن إلقاء المحاضرات علينا ومعاملتنا مثل الأطفال"، وفي كل ذلك إشارة إلى نهاية حقبة من "الوصاية".
وفي سياق تلك التحولات، تنقل صحيفة نيويورك تايمز عن إريك أولاندر، رئيس تحرير موقع "مشروع الجنوب العالمي للصين" (China Global South Project) قوله: "إن الصين تحاول الاستفادة من الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة وأوروبا، اللتان تنفصلان بشكل متزايد عن أفريقيا". ويبدو أن هذا الانفصال يتم بزخم سريع مقابل تمدد الأواصر الأفريقية مع الصين.
بناء الجسور وملء الفراغات
منذ سنة 2000، حين أنشئ منتدى التعاون الصيني الأفريقي (FOCAC) بدأ التوجه الصيني نحو أفريقيا بمنطلقات جديدة، وباتت بعد نحو عقدين أكبر شريك تجاري للقارة، والمستثمر الأكبر فيها، وهي أكبر دائن لها أيضا، وما زال هذا المنتدى الذي يعقد كل 3 سنوات يمثل حجر الرحى في العلاقات الأفريقية الصينية، وانبثقت عنه عمليا 36 وكالة تنفيذية.
ويعد المنتدى أحد البرامج والمبادرات والتجمعات التي أطلقتها بكين، لتحفيز العلاقات السياسية والاقتصادية مع دول الجنوب العالمي، بما فيها أفريقيا، ومنها "مبادرة الحزام والطريق" (عام 2013) التي تضم 52 دولة أفريقية، و"مبادرة التنمية العالمية" (عام 2021)، التي تهدف إلى تضييق الفجوة بين الشمال والجنوب، إضافة إلى "مبادرة الحضارة العالمية" و"مبادرة الأمن العالمي" التي يندرج ضمنها "منتدى السلام والأمن الصيني الأفريقي".
ودأبت الصين في سياق التحولات العالمية والصراعات الجيو إستراتيجية للترويج لنفسها باعتبارها نموذجا ومرجعية "أكثر فائدة لأفريقيا من الغرب"، نظرا إلى أنها تتشارك مع دولها "الخلفيات التاريخية المتشابهة، ونقاط انطلاق متماثلة، ومهمة مشتركة تتمثل في ضرورة التحول السريع، وفق شي جين بينغ، الذي بات يعتبر بلاده "المدافعة عن العالم النامي".
ومقابل "إهمال" الغرب لأفريقيا، تتسم سياسة الصين في القارة بطابع مؤسسي شديد التنظيم، لا تركز على الاقتصاد فقط، بل أيضا على الجوانب السياسية والبرلمانية والتعليمية والإعلامية والأمنية والعسكرية ويتم تحت إشراف مباشر من كبار مسؤوليها وقادتها.
فبين عامي 2008 و2018، زار كبار المسؤولين الصينيين أفريقيا 79 مرة، وقام الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني والرئيس شي جين بينغ بين عامي 2014 و2020 بـ10 زيارات إلى أفريقيا مقابل 48 زيارة لوزير الخارجية وانغ يي.
وعلى الصعيد السياسي يعمل المؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني (التابع للحزب الشيوعي الصيني) مع 59 منظمة سياسية في 39 دولة أفريقية، ويرتبط بعلاقات مع 35 برلمانا أفريقيا.
كما تدير إدارة الاتصال الدولي للحزب الشيوعي الصيني -وهي جهاز تابع للجنة المركزية ووكيل تنفيذي لمنتدى التعاون الصيني الأفريقي- بعلاقات مع 110 أحزاب سياسية في 51 دولة أفريقية، وتشرف إدارة الجبهة المتحدة باللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني على أكثر من 30 "جمعية واجهة" في 20 دولة أفريقية، وفق بيانات مركز الدراسات الإستراتيجية لأفريقيا.
ومنذ عام 2018، تستضيف الصين سنويا مسؤولين حكوميين أفارقة وملحقين عسكريين وأمنيين من 50 دولة أفريقية لمدة أسبوعين، لحضور ندوات وزيارة مواقع جيش التحرير الشعبي والبحرية، تتولى تدريب قوات أمنية وعسكرية. وتتولى أيضا تدريب آلاف الطلاب والمهنيين الأفارقة، بنسبة أكثر من أي دولة صناعية أخرى، وفق تقرير لمجلة فورين أفيرز الأميركية.
وحسب بيانات وزارة التعليم الصينية، يبلغ عدد الطلاب الأفارقة المسجلين في المؤسسات الصينية أكثر من 81 ألف طالب عام 2018، مقارنة بأقل من 2000 في عام 2003، وهو ما يمثل 16.5% من إجمالي الطلاب الأجانب في البلاد. وتشير منظمة اليونسكو إلى أن 16% من جميع المنح الدراسية للطلاب الأفارقة تتم عبر الحكومة الصينية.
وتخطط الصين أيضا لتدريب 500 مدير ومعلم من ذوي الكفاءة العالية في الكليات المهنية كل عام، و10 آلاف موظف فني لتدريبهم على اللغة الصينية والمهارات المهنية.
وحسب آخر الإحصاءات (عام 2019) قدمت الصين نحو 50 ألف منحة جامعية للطلاب الأفارقة سنويا، و50 ألف حصة تدريبية لموظفي الخدمة المدنية، وكبار المسؤولين التنفيذيين والقادة الطموحين، و2000 حصة تدريبية للشباب بينها حوالي 10% مخصص لقطاع الأمن في أفريقيا. وتنتشر أيضا معاهد كونفوشيوس لتعليم اللغة الصينية في 46 دولة أفريقية، إضافة إلى مدارس الحزب الشيوعي الصيني في بعض البلدان.
وتمثل هذه الأنشطة المتنوعة، التي "تستثمر في بناء رأس المال الاجتماعي والبشري إضافة إلى مشاريع البنية الأساسية العملاقة" -حسب تقرير لفورين أفيرز- توسعا هائلا لنفوذ الصين في مختلف أنحاء القارة، يستند إلى تصور واضح للأهمية الجيوسياسية لأفريقيا حاضرا ومستقبلا. وتشير الصحيفة إلى أن جهود بكين تؤتي ثمارها مبدئيا، حيث يقيّم 63% من الأفارقة نفوذ الصين في القارة بشكل "إيجابي".
وتحصد الصين ثمار هذه الإستراتيجية سياسيا المحافل الدولية، في سياق صراع دولي على النفوذ، وتجتذب البلدان الأفريقية أكثر إلى رؤيتها للعالم، فقد أقنعت من 50 دولة أفريقية في الأمم المتحدة بعدم الاعتراف بتايوان كدولة أو إلغاء الاعتراف بها كدولة، باستثناء دولة إسواتيني (سوازيلاند سابقا)، وهي واحدة من بين 13 دولة في العالم ما زالت تعترف بتايوان.
وعود شي.. مشاريع "صغيرة وجميلة"
رغم التطور الكبير في التعاون بين أفريقيا والصين في مختلف المجالات، تواجه بكين انتقادات كثيرة تتعلق أساسا بإغراق الدول الأفريقية بالديون جراء مشاريع البنية التحتية الضخمة والباهظة الثمن وغير المكتملة أحيانا، على حساب خلق الوظائف المحلية والمشاريع المنتجة. كما تواجه انتقادات تتعلق بفجوة العجز التجاري الكبير بينها وبين الدول الأفريقية وسياسات الإغراق بالسلع واستغلال الموارد الأفريقية، وعدم مراعاة الجوانب البيئية.
ولكن الصين ظلت على استعداد لمنح الدول الأفريقية -التي تعاني أصلا من مشكلات تمويل مزمنة- قروضا كبيرة، ومنذ سنة 2000، مولت الصين عمليا واحدا من كل 5 مشاريع للبنية الأساسية في أفريقيا، التي غالبا لا تمولها الدول الغربية ومؤسساتها المالية، باعتبارها لا تحقق غاياتها التجارية.
بشكل عام، تصل ديون الدول الأفريقية المستحقة للصين إلى نحو 134 مليار دولار، وتبلغ ديون كينيا -التي تشهد احتجاجات شعبية- للصين نحو 8 مليارات دولار (من بين ديون إجمالية تبلغ 82 مليار دولار)، في حين تقفز ديون أنغولا إلى 17 مليار دولار (من بين ديون إجمالية تبلغ نحو 50 مليار دولار) حسب موقع تقرير أفريقيا، وترد بكين على الاتهامات بأن "ما يسمى فخ الديون هو فخ سردي فُرض على الصين وأفريقيا".
وفي سياق مراجعة مشاكل التمويل والمديونية والعجز التجاري الذي تركز عليه الدعاية الغربية في النيل من دور الصين في أفريقيا، والتي كانت أيضا مثار مناقشات مع الزعماء الأفارقة في منتدى بكين الأخير، وعد الرئيس الصيني بتخفيف ديون الدول الأفريقية وأعلن تقديم قروض ومساعدات واستثمارات بقيمة 51 مليار دولار، من بينها 11 مليار دولار "مساعدات متنوعة".
وضمن سياسة مختلفة للتنمية، وعد شي بخلق مليون فرصة عمل في القارة على مدى السنوات الثلاث المقبلة، وتكثيف ما سماه "المشاريع الصغيرة والجميلة" من بينها 30 مشروع بنية تحتية، وألف مشروع أصغر، تركز على تحسين سبل العيش، وفق تعبيره.
كما أكد الرئيس الصيني أن بلاده ستلغي الرسوم الجمركية على منتجات 33 دولة أفريقية، ومنح 140 مليون دولار من المساعدات العسكرية، وتدريب 6 آلاف عسكري وألف ضابط شرطة، ودعوة ألف سياسي أفريقي إلى الصين لمناقشة أساليب الحكم في إطار ما سمّاها "إجراءات الشراكة العشرة".
وحاولت الصين من خلال المنتدى استيعاب الانتقادات التي تصاحب حضورها في أفريقيا وبث الاطمئنان لدى زعمائها وقادتها بمواصلة دعمها للقارة، وتطوير نقل التكنولوجيا وإنشاء شراكات إستراتيجية ثنائية تعزز دورها الأفريقي في مواجهة استفاقة أميركية تتلافى الأخطاء التي جعلتها تفقد مكانتها أفريقيا.
تصدير النموذج
تشير جميع المؤشرات إلى أن الرسائل "الأيديولوجية الصينية" في أفريقيا تتوسع جنبا إلى جنب مع المشاريع الاقتصادية المكثفة كجزء من السياسة الخارجية للرئيس شي جين بينغ، الذي يريد بناء نموذج سياسي وتنموي وثقافي في أفريقيا يملأ تدريجيا الفراغ الغربي.
وتركز السياسة الخارجية في عهد تشي جين بينغ بشكل أكبر على غرس ما يسميها "القيم ومعايير الحكم الصينية كبدائل للغرب، وليس فقط زيادة قوته المادية من الناحية العسكرية والاقتصادية".
ورغم صعوبة إحلال النموذج الصيني أفريقيا على المدى القصير بحكم التجربة الاستعمارية أو التبعية الثقافية للغرب طوال عقود، وضعف "أدوات الخطاب" الفعالة حتى الآن، تسعى الإستراتيجية الصينية بالحد الأدنى إلى أن يتبنى المزيد من الشركاء في أفريقيا وجهات النظر والسياسات والمعايير والنماذج الصينية، وهو ما يكفل لها الاعتماد على دعمهم المستمر لتحقيق طموحاتها العالمية.
وترى الصين أن الدول الأفريقية -خصوصا جنوب الصحراء- المثقلة بتعددها الإثني والديني ومشاكلها الاقتصادية، قد تكون مبدئيا أقرب إلى تبني نموذجها في الحكم، الذي يرتكز على حكم الحزب الواحد ويربط الديمقراطية وحقوق الإنسان بالإنجازات الاقتصادية والتنمية والأمن من نموذج الديمقراطية الليبرالية الغربي الكلاسيكي.
ضمن مقاربتها الجديدة للعالم، تسخّر الصين، التي تتمتع بالنفوذ الاقتصادي الأقوى حتى الآن في أفريقيا، جميع أدواتها وإمكانياتها لكسب الصراع على أفريقيا وإحلال نموذجها السياسي والتنموي، معززة قدراتها المالية بمشاريع "ناعمة" وجذابة تركز على تنمية رأس المال البشري و"كسب القلوب والعقول"، وهي تحرز حتى الآن قصب السبق، لكن تحديات كثيرة مازالت قائمة في قارة يرتبط ثراؤها بحالة الاضطراب والهشاشة المزمنة.