خلال دقيقة واحدة تقريبا، استعرضت إسرائيل قدراتها الاستخباراتية والتكنولوجية في عملية أمنية غير مسبوقة، كانت في الأصل موجه إلى حزب الله، لكنها شملت معظم لبنان، حاملة رسائل ترويع وتصعيد مغلفة بوسائل اعتادت عليها إسرائيل منذ سبعينيات القرن الماضي مع تغير الظروف.
مارست إسرائيل ما تبرع فيه، معتمدة على أهم عنصر تفوق لديها في المجال التكنولوجي والاستخباراتي، فهزت انفجارات أجهزة "البيجر" المتزامنة معظم أنحاء لبنان أول أمس الثلاثاء، وأدّت إلى مقتل 12 بينهم طفلان، وإصابة أكثر من 3 آلاف، وحالة طوارئ وهلع في الشارع اللبناني استمرت مع موجة تفجيرات أخرى أمس الأربعاء، قتلت 25 وجرحت أكثر من 600 آخرين.
بالمعنى الأمني، تعد العملية "نوعية ومثيرة"، سعت من خلالها إسرائيل إلى تأكيد تفوّقها الأمني، لكنها تعد أيضا إحدى الجرائم الإسرائيلية التي تضاف إلى تلك التي ترتكب في غزة والضفة، فالأجهزة التي جرى تفخيخها بغرامات قليلة من مادة "آر دي إكس" (هكسوجين) انفجرت في محلات البقالة والمكاتب والسيارات وأماكن عامة كثيرة في لبنان وأدت إلى مقتل وجرح مدنيين من جميع الطوائف، أي أنها استهدفت كل لبنان.
فخاخ وألغام
قد يصبح تفجير أجهزة النداء واللاسلكي على دمويته"إنجازا" مسجلا باسم إسرائيل وجهاز استخباراتها الموساد، ويرجح أن تكون الرسائل المفخخة اختراعا إسرائيليا قبل عقود، واستعملت كلها ضد حركات المقاومة الفلسطينية والوطنية في لبنان وضد "الأعداء" المفترضين في كل مكان.
ففي سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كانت لبنان ساحة مفتوحة للموساد، الذي أتقن استخدام سلاح الرسائل والطرود الملغومة، وتلقت القيادات في المنظمات الفلسطينية في بيروت آنذاك العشرات من تلك الرسائل والطرود البريدية بهدف تصفيتهم.
وفي 19 يوليو/تموز 1972 وصلت رسالة عبر البريد اللبناني إلى المفكر الفلسطيني الراحل أنيس صايغ في مكتبه بمركز الأبحاث الفلسطيني في شارع كولمباني في بيروت والذي كان مديرا له.
يقول الصايغ في مذكراته "أنيس صايغ عن أنيس صايغ": "كنت في صباح 19 يوليو/تموز 1972 قد عدت من القاهرة. ووجدت على مكتبي حينما دخلته في الثامنة صباحا قبل أي موظف آخر رزمة من الرسائل وصلت في غيابي القصير. وجاء دور رسالة أثخن من زميلاتها فاعتقدت أنها تضم مقالة للمجلة. وبدأت بفض الرسالة وإذ بها تنفجر في وجهي. فأدركت أن الإرهاب الصهيوني قد أوقع بي". أدى الانفجار إلى تضرر حاسة السمع لديه، ودخول شظايا في عينيه أثرت على نظره.
ورد اسم أنيس صايغ ضمن لائحة اغتيالات وضعها الموساد ضمت السياسيين والنشطاء والمثقفين الفلسطينيين، من بينهم علي حسن سلامة (اغتيل بسيارة مفخخة عام 1979) وأيضا الأديب والصحفي غسان كنفاني رئيس تحرير مجلة الهدف (الناطقة باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) وبسام أبو شريف، الذي خلفه في رئاسة تحريرها، وغيرهم.
كان الموساد قد استقر على الانتقام من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عقب عملية مطار اللد (مطار بن غوريون حاليا) في تل أبيب في 30 مايو/أيار 1972، والتي قُتل خلالها 26 إسرائيليا وجرح 80 آخرون ونفذتها الجبهة بالتعاون مع الجيش الأحمر الياباني. كما ضمت اللائحة لاحقا قادة وناشطين من منظمة أيلول الأسود الفلسطينية.
لم يتلق الراحل غسان كنفاني رسالة ملغومة بهدف اغتياله، لكن في الثامن من يوليو/تموز عام 1972، انفجرت قنبلة تزن 3 كيلوغرامات زرعت في سيارته من نوع "أوستن 1100" عندما كان يهم بتشغيلها بمنطقة الحازمية قرب بيروت، واستشهدت معه ابنة شقيقته "لميس نجم" ذات 17 ربيعا.
وهكذا اغتيل صاحب "عائد إلى حيفا" و"رجال تحت الشمس"، والذي وصفته رئيسة الوزراء الإسرائيلية وقتها غولدا مائير بكونه "أخطر على إسرائيل من كتيبة فدائيين".
عادت الموساد إلى أسلوب الرسائل المفخخة بعد أسبوعين من اغتيال كنفاني، عندما وصل طرد مفخخ إلى مكتب مدير التحرير الجديد لمجلة الهدف بسام أبو شريف، وانفجر في وجهه بعد فتحه، فبَتر عددا من أصابع يديه وتسبب له في ضرر بالغ بسمعه وبصره، واحتاج بعدها إلى 6 عمليات جراحية.
كانت عشرات عمليات الاغتيال الأخرى بالرسائل الملغومة موجهة إلى قيادات فلسطينية قد أحبطت، وكشف لاحقا عن اختراق إسرائيلي لهيئة البريد والاتصالات اللبنانية عبر أحد عملاء الموساد.
ومنذ ستينيات القرن الماضي بدأ جهاز الموساد في استعمال الرسائل الملغومة -كسلاح اغتيال وتهديد على الأقل-، عندما انفجرت بعض هذه الرسائل بوجه عدد من العلماء الألمان الذي كانوا يتعاونون مع مصر في مشروع الصواريخ والتصنيع العسكري في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
انتقلت إسرائيل وأجهزتها الاستخباراتية لاحقا إلى وسائل وتقنيات أكثر تقدما، في ما تسميه الحرب الوقائية، لكن هذه العمليات، ومنها الأخيرة في لبنان كانت دموية ولا تأبه بسقوط المدنيين، بل يكون استهدافهم جزءا من أهدافها العسكرية والسياسية المخطط لها.
جبهة ساخنة
كان لبنان بحكم الواقع الجغرافي والسياسي والأمني وبحكم وجود منظمة التحرير الفلسطينية والمقاومة الفلسطينية واللبنانية فيها ساحة عمل أساسية لإسرائيل منذ عقود، لذلك سعت إلى "تفخيخه" سياسيا واجتماعيا وأمنيا عبر الرسائل والسيارات الملغومة والاغتيالات الموجهة والمؤامرات، وصولا إلى الحرب المباشرة والغزو في يونيو/حزيران 1982، وكان الهدف إخراج منظمة التحرير الفلسطينية بشكل أساسي، ثم ضم لبنان إلى المعادلات الأمنية والسياسية الإسرائيلية.
ويرى محللون أن ما أطلق عليه "مجزرة البيجرات"، التي تأتي في سياق حرب إسرائيلية على جبهات متعددة تستهدف إحراج حزب الله وجره إلى حرب شاملة بهدف إخراجه من جزء من الشريط الحدودي وإعادة احتلاله، في محاولة لتكرار غزو لبنان عام 1982، الذي أخرج المقاومة الفلسطينية من لبنان.
وتأتي هذه التحليلات في ضوء إشارات كثيرة عن تصعيد إسرائيلي محتمل من بينها مصادقة المجلس الوزاري المصغر "الكابينت" على توسيع أهداف الحرب، لتشمل "إعادة النازحين الإسرائيليين إلى بيوتهم في الشمال، والقيام بما يلزم لتحقيق ذلك على المستوى العملي"، وإعلان وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت عن انتقال مركز الحرب من الجنوب (غزة) إلى الشمال.
ويتوافق هذا التحليل مع دعوات إسرائيلية لاستثمار حالة الارتباك في صفوف حزب الله والهجوم على معاقله في الجنوب، حيث اعتبرت صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية أنه "إذا لم تبدأ الحرب على حزب الله في غضون 4-6 أسابيع، فإنه من المستحيل شنها حتى ربيع 2025".
وفي المقابل يرى خبراء أن "تفجيرات البيجر" أظهرت التفوّق الأمني والتقني الإسرائيلي المعروف، لكنها لم تلغ أوراق القوة لدى حزب الله وقدرته على تشكيل تهديد حقيقي لإسرائيل في حال اندلاع حرب شاملة.
ولا تعرف مآلات اليوم التالي للتفجيرات، في ظل حرب الجبهات المتعددة وغير المحسومة التي تخوضها إسرائيل وإصرار رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو على التصعيد المستمر، لكن لبنان يبقى ساحة للفخاخ والألغام الإسرائيلية.