تصف صحيفة هآرتس في مقال افتتاحي لها ابتزاز إسرائيل للمهاجرين وطالبي اللجوء الأفارقة للقتال في غزة مقابل منحهم الإقامة بالعمل "المشين"، لكن تجنيد المرتزقة (المتطوعون) كان تاريخيا جزءا لا يتجزأ من عقيدة بناء الكيان الإسرائيلي منذ عام 1948، وزادت حدته مع تآكل الجيش الإسرائيلي وتفاقم خسائره في الحرب على غزة ولبنان.
وفي الأغلب تستعمل إسرائيل مصطلح "المتطوعين" للإشارة إلى المرتزقة على أساس أنهم ينحدرون من أصول يهودية أو هم من مزدوجي الجنسية، لكن الوقائع تثبت أن الكثيرين الذين جاؤوا خصوصا من الولايات المتحدة وأوروبا كانوا لا يمتّون بصلة إلى اليهودية أو إسرائيل، في حين تكشف محاولات تجنيد اللاجئين والمهاجرين الأفارقة بوضوح عن سقوط "الشرط الديني" .
وحسب الملحق الأول الإضافي إلى اتفاقيات جنيف الموقعة عام 1949 والمتعلق بحماية ضحايا المنازعات الدولية المسلحة، يعد المرتزق أي شخص يجرى تجنيده خصيصا -محليا أو في الخارج- ليقاتل في نزاع مسلح أو يشارك فعلا ومباشرة في الأعمال العدائية، ويحفزه أساسا مصلحة أو مغنم شخصي للاشتراك في الأعمال العدائية.
ووفقا لهذا التعريف ينطبق على هؤلاء المتطوعين للقتال في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي وصف "المرتزقة"، ولكن وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية لا تراهم في الأغلب على هذا النحو، ولا تعترف رسميا بمشاركتهم في حرب الإبادة الجماعية الحالية في غزة.
أزمة جيش وكيان
لجأت إسرائيل إلى المهاجرين وطالبي اللجوء فيها بهذا الشكل "القبيح" -حسب هآرتس- جراء أزمة التجنيد التي تضرب جيشها والخسائر الكبيرة التي تكبدها، إضافة إلى رفض الكثيرين الخدمة العسكرية وهروب البعض واعتبار آخرين أن استمرار الحرب على غزة هو "حرب نتنياهو الخاصة".
وتشير التقديرات إلى أن خسائر الجيش الإسرائيلي منذ عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 بلغت نحو 700 قتيل وأكثر من 10 آلاف جريح، في حين قُتل جندي وجرح المئات على الجبهة الشمالية في مواجهة حزب الله.
وفي يونيو/حزيران الماضي ذكرت القناة الـ12 الإسرائيلية في تقرير لها أن نحو 900 ضابط برتب مختلفة طلبوا إلغاء عقود الخدمة العسكرية خلال العام الأخير، في حين لم تتجاوز مثل هذه الطلبات 150 ضابطا في أوقات سابقة.
كما رفض المئات من جنود الاحتياط العودة إلى الخدمة العسكرية في غزة حتى لو تعرضوا للعقاب، وأشارت وسائل إعلام إسرائيلية إلى أن المئات من هؤلاء يغادرون شهريا إلى الخارج بدون إبلاغ قادتهم ولا يعودون.
ورغم المحاذير الاجتماعية والسياسية فإن النقص في عدد الجنود دفع السلطات الإسرائيلية إلى العودة لمحاولة تجنيد المتدينين اليهود المتطرفين (الحريديم) الذين يشكلون نحو 13% من السكان، وكانوا معفيين من الخدمة العسكرية، وهو ما أدى إلى أزمة سياسية حادة.
وحسب صحيفة هآرتس، رأى قادة الجيش الإسرائيلي أن طالبي اللجوء الأفارقة الذين يقدر عددهم بنحو 30 ألفا يشكلون موردا بشريا مناسبا يمكن استغلاله في عملية التجنيد وسد النقص مقابل تسوية أوضاعهم القانونية ومنحهم إقامات دائمة، وهو ما أقدم عليه بعضهم فعلا، لكن دون أن يحصل أي منهم على الإقامة الدائمة بعد.
وتشير الصحيفة إلى أن ما كشفته بخصوص استغلال طالبي اللجوء الأفارقة للقتال في غزة -دون تدريب في الأغلب- ومقابل مساعدتهم في الحصول على إقامة دائمة هو "غيض من فيض، وما سمح بنشره، ليس إلا".
وتشي المعطيات الكثيرة بشأن تجنيد المرتزقة أو "المتطوعين" وفق السرديات الإسرائيلية إلى مدى الأزمة التي يمر بها الجيش الإسرائيلي باعتباره "جيش الشعب" وعدم قدرته على حسم أي من الجبهات في ظل الحرب الطويلة التي يخوضها، بالإضافة إلى أزمة اجتماعية بدت فيها الشكوك عميقة بشأن قدرات هذا الجيش.
جيش من الأجانب
وفقا لمقال نشرته صحيفة واشنطن بوست الأميركية في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، تقدم نحو 10 آلاف شخص يقيمون في الولايات المتحدة للخدمة العسكرية الإسرائيلية، معظمهم من اليهود غير الإسرائيليين، بالإضافة إلى الكثيرين ممن ليس لديهم أي صلة بإسرائيل والمجهود الحربي الإسرائيلي.
وفي تقرير آخر للصحيفة نُشر في 22 فبراير/شباط 2024 قدر جيش الدفاع الإسرائيلي أن أكثر من 23 ألف مواطن أميركي يخدمون حاليا في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأشارت إلى أن 21 أميركيا قتلوا أثناء القتال في غزة وقتل آخر على الحدود مع لبنان.
وتشير التقارير أيضا إلى أن 3500 أجنبي خدموا في صفوف الجيش الإسرائيلي كل عام على مدى العقدين الماضيين، معظمهم من اليهود.
وفي عام 2016 أعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية أن أكبر عدد من المتطوعين في ذلك العام كانوا فرنسيين بنسبة 45% يليهم الأميركيون بنسبة 29% ثم البريطانيون بنسبة 5%، وبعد هجوم المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 يُعتقد أن عدد المرتزقة (المتطوعون) الأجانب قد زاد بشكل كبير.
ومنذ "طوفان الأقصى" أشارت تقارير إيطالية إلى أن المئات من المواطنين الإيطاليين سافروا إلى إسرائيل للانخراط في جيشها، وفي أكتوبر/تشرين الأول 2023 قال وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاجاني على قناة "راي 3" إن نحو 18 ألف مواطن إيطالي كانوا يعيشون ويعملون في إسرائيل عندما بدأت حرب غزة، وقد انخرط ألف منهم في الجيش الإسرائيلي ويؤدون مهام مختلفة، بما في ذلك القتال.
من جهتها، كشفت الحكومة البريطانية (في عهد ريشي سوناك) أن نحو 100 مواطن بريطاني مجندون في الجيش الإسرائيلي، وفي مارس/آذار 2024 أشارت التقارير إلى أن بريطانيين اثنين قتلا في غزة.
وانتشرت معلومات عن "مرتزقة" فرنسيين يقاتلون مع الجيش الإسرائيلي، وفي ديسمبر/كانون الأول 2023 طلب عضو البرلمان الفرنسي توماس بورتس (يسار) من وزير العدل التحقيق في معلومات عن 4185 مواطنا فرنسيا (معظمهم من مزدوجي الجنسية) بأنهم ارتكبوا جرائم حرب في غزة.
واعتمد بورتس على الرقم الذي أوردته صحيفة ليبراسيون عام 2018 نقلا عن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، ويرجح أن الأعداد قد تكون أعلى، لكن وزارة العدل في النهاية رفضت التحقيق في الأمر على اعتبار أن "الجنسية المزدوجة تعني الولاء المزدوج"، وفقا للمتحدث باسمها.
من جهتها، نشرت وسائل إعلام في جنوب أفريقيا أيضا معلومات عن مواطنين من جنوب أفريقيا انضموا إلى الجيش الإسرائيلي، وهو ما دفع وزيرة الخارجية ناليدي باندور إلى تهديدهم بالملاحقة القضائية عند عودتهم، خصوصا أن جنوب أفريقيا رفعت دعوى ضد إسرائيل بتهمة ارتكاب إبادة جماعية أمام محكمة العدل الدولية.
عقيدة التأسيس
لم يكن تجنيد المرتزقة من حول العالم للقتال إلى جانب الجيش الإسرائيلي في الحروب والعمليات العسكرية ضد الفلسطينيين فكرة جديدة، إذ سبق أن أطلقت الحركة الصهيونية وعصاباتها مشروع تجنيد المرتزقة واليهود من حول العالم للقتال في فلسطين بداية أربعينيات القرن الماضي من خلال مشروع "ماحال" (متطوعون من الخارج إلى إسرائيل).
ينظم الجيش الإسرائيلي برامج "تدريبية" عدة للأجانب الراغبين في الانضمام إلى صفوفه، سواء بشكل دائم أو مؤقت، ويعد مشروع "ماحال" أحد هذه المشاريع.
ويقدم على موقعه الإلكتروني تفاصيل لليهود (غير الإسرائيليين) في مختلف أنحاء العالم الذين قد يرغبون في التطوع في الجيش الإسرائيلي لفترة وجيزة ولكنهم لا يريدون الهجرة إلى إسرائيل.
ويشير مشروع "لونغ ماحال" إلى أنه موجه أيضا إلى "غير الإسرائيليين ذوي الارتباط الوثيق بإسرائيل"، وتحدد مدة الخدمة العسكرية وفقا لهذا التصنيف "اعتمادا على العوامل الشخصية".
ويعد مشروع "ماحال" -الذي ظهر منذ أربعينيات القرن الماضي- نموذجا عن استقطاب المرتزقة بتعريفهم الشامل (مقاتلون لا يحملون جنسية البلد ويحصلون على امتيازات)، وقد استطاع جلب آلاف اليهود من جميع أنحاء العالم للمساعدة في إنشاء الكيان الإسرائيلي جنبا إلى جنب مع الوكالة اليهودية التي كانت تحشد اليهود للهجرة إلى أرض فلسطين والاستيلاء عليها.
واعتمدت عصابات الهاغاناه وأرغون وشتيرن وناحال -والتي كانت نواة الجيش الإسرائيلي لاحقا- على المرتزقة لارتكاب أبشع المجازر ضد الفلسطينيين، وواصل الجيش الإسرائيلي منذ حرب 1948 الاعتماد على المرتزقة مقابل أجور عالية ومزايا ومخصصات نهاية خدمة مجزية.
وبعد إعلان الكيان الإسرائيلي انخرط معظم المرتزقة ممن جندتهم الحركة الصهيونية في الجيش الإسرائيلي، وكانوا الحجر الأساس لسلاح الجو والبحرية والاستخبارات (الموساد)، وبعد تأسيس الجيش وانتهاء الحرب غادر الكثير منهم فلسطين، لكن جيش الاحتلال واصل استقطاب مواطنين من بلدان أخرى للانضمام إلى صفوفه، ولم يعد مهما أن يكون المجند "يهوديا خالصا"، بل أصبح من المهاجرين وطالبي اللجوء.
ويرى مؤرخون ومحللون أن عملية تشكيل الكيان الإسرائيلي واستمراره بنيت على فكرة استيطانية استعمارية إحلالية كان هدفها إلغاء حضارة وثقافة الشعب الفلسطيني وتصفية وجوده بشتى الأساليب، بما فيها الاعتماد على المرتزقة وعصابات منفلتة لا تتورع عن ارتكاب أبشع المجازر.
عن المساءلة والحساب
لم تتخذ الدول الغربية أي إجراءات ضد مواطنيها الذين يحاربون في صفوف الجيش الإسرائيلي، ويرجح أن بعضهم ارتكبوا جرائم حرب في غزة.
في المقابل، تسعى منظمات أوروبية مناهضة للحرب ونشطاء وحقوقيين لفضح ومحاسبة هؤلاء المرتزقة، ومن بين هذه المنظمات "حركة 30 مارس" -نسبة إلى يوم الأرض الفلسطيني- والتي تأسست في كل من بلجيكا وهولندا.
ورفعت الحركة عشرات القضايا ضد هولنديين وفرنسيين وغيرهم بعد تحديد هوياتهم باعتبارهم شاركوا مع الجيش الإسرائيلي في الإبادة الجماعية في غزة عبر منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تظهر أفعالا تصنف ضمن جرائم الحرب.
وأكد المحامي الفرنسي جيل ديفيرز لصحيفة "واشنطن روبورت" أنه رفع 6 دعاوى جنائية ضد متطوعين فرنسيين في الجيش الإسرائيلي، متهما إياهم بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وتأتي هذه الدعوى ضمن تحركات محكمة العدل الدولية المتعلقة بتهم ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في غزة، وإمكانية صدور أوامر اعتقال وشيكة ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت من المحكمة الجنائية الدولية.
ويمكن أن تطال التحقيقات والحساب من ساهموا في تلك المجازر، بمن فيهم المرتزقة والمتطوعون، في ظل تغير تحول المزاج الدولي الشعبي والرسمي بشكل كبير ضد إسرائيل.
ارتبط نشوء الكيان الإسرائيلي بعقيدة سياسية وأمنية تعتمد على العصابات المنفلتة والمرتزقة من مختلف أنحاء العالم، لكن اللجوء لابتزاز المهاجرين وطالبي اللجوء الأفارقة فيها بقصد تجنيدهم يشي بأزمة كبرى تتجاوز العسكري إلى السياسي والاجتماعي.