بين الذهب واللهب.. قصة مالي من قبعة رينيه كاييه إلى أحضان بوتين

نصب الاستقلال في باماكو_
نصب الاستقلال في العاصمة المالية باماكو (الجزيرة)
نصب الاستقلال في العاصمة المالية باماكو (الجزيرة)

باماكو - مالي
لم تكن عودة الرحالة الفرنسي الشاب رينيه كاييه إلى العاصمة الفرنسية باريس من رحلة شاقة قادته إلى تمبكتو في القرن التاسع عشر حدثا عاديا في تاريخ العلاقات الفرنسية والأوروبية عموما مع منطقة الساحل، فقد كان أول مستكشف أوروبي يزور المدينة ويعود منها سالما، رغم ما واجهه من مخاطر وما عاناه من ويلات في رحلته تلك.

كانت سيوف الطوارق قد رسمت صورة دموية للعبور إلى أرض الرجال الزرق، وحولت الوصول إلى تمبكتو إلى مجازفة تامة. ولأن كاييه أو "ولد كيجه النصراني" -كما يسميه الموريتانيون الذي أقام معهم مدة تعلم فيها اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي- نجح في المهمة فقد نال جائزة الجمعية الجغرافية الفرنسية، بعد رحلة استمرت أكثر من سنة من بينها 8 أشهر في موريتانيا وأسبوعان في مدينة تمبكتو التي وصل إليها في أبريل/نيسان سنة 1828، ليعود بعد ذلك بصورة مقزمة لما كان مرسوما في الوجدان الأوروبي عن تمبكتو ومالي بلاد سلطان الذهب منسا موسى.

وقبل أن يتوجه كاييه إلى تمبكتو، أقام بمنطقة لبراكنة في موريتانيا نحو 8 أشهر، لتعلم اللغة العربية ومبادئ الدين الإسلامي، بعد أن نسج قصة مكذوبة حول شخصيته مدّعيا اعتناق الإسلام، وزاعما أنه مصري يريد العودة إلى وطنه بعد أن أسره جيش بونابرت وهو طفل.

وعند وصوله إلى تمبكتو، كاد يطير من الفرح، وشعر برضا هائل لم يختبر مثله من قبل، كما ورد في مقال بمجلة "لوبوان" الفرنسية للكاتبين فريديريك لوينو وجويندولين دوس سانتوس، ولكنه بعد بضع دقائق من الإثارة عاد إلى واقع الأشياء، فلم يجد أمامه سوى بلدة بائسة، ومشهد لا يرقى إلى مستوى توقعاته وتطلعاته، و"بيوتات طينية سيئة البناء وسهول هائلة من الرمال المتحركة وجفاف شديد" وهو ما مثل خيبة أمل رهيبة بعد كل المعاناة التي كابدها من أجل الوصول إلى تلك المدينة النائية.

وفي ضيافة تاجر عربي -كما ورد في الصحيفة- قضى رينيه كاييه 13 يوما هناك، جاب خلالها المدينة من أقصاها إلى أقصاها مسجلا ملاحظاته، وغادرها دون أن يلاحظ أي شخص سلوكه الغريب مع قافلة تستعد لعبور الصحراء للوصول إلى المغرب، في محنة جديدة امتدت 78 يوما، تعذب فيها وعانى العطش والجوع الشديد، وسقط ذات مرة من فوق جمل، وتعرض لسخرية أهل القافلة الذين كانوا يضحكون من هذا "المصري" الهش، ولكنه وصل في النهاية إلى مدينة طنجة بالمغرب، ليستقل من هناك مركبا شراعيا متجها إلى فرنسا.

واليوم، وبعد نحو قرنين من تلك الرحلة؛ تجد فرنسا نفسها مضطرة إلى تجديد خطوات رينيه كاييه بعد أن أرغمتها تقلبات الزمان ومتغيرات الأحداث على أن تخرج مجبرة من البلد الذي احتلته سنة 1903، وتحكمت على مدى 120 عاما في سياسته وأمنه واقتصاده، وعزلت رؤساءه وأقامت حكوماته، وصبغت هويته الثقافية بملامح فرنسية وبلغتها التي أصبحت اللغة الرسمية الوحيدة في بلد كان للإسلام والعربية فيه سبح طويل.

من الاحتلال إلى الاستقلال.. السودان الفرنسي

مدخل مدينة باماكو
مدخل مدينة باماكو (الجزيرة)
مدخل مدينة باماكو (الجزيرة)

منح الضباط الباريسيون مالي اسم "السودان الفرنسي" تمييزا لها عن السودان الآخر الذي كان تحت الإيالة البريطانية، لتموت بذلك تلك التسمية التاريخية التي تختصر كثيرا من عظمة مملكة مالي التي كانت تمتد على رقعة واسعة من انعطافة نهر النيجر إلى ضفاف المحيط الأطلسي، وكانت تلك أولى الضربات الفرنسية لهوية البلاد وتاريخها ومكانتها.

وخلافا للفتوحات الإسلامية التي دخلت البلاد سلما عبر قوافل التجار والدعاة، فقد كان الغزو الاستعماري الفرنسي للبلاد عبر حملات عسكرية هوجاء، ومع ما بين الاثنين من فوارق فالثابت أن الفتح الإسلامي والاستعمار الفرنسي كانا الأكثر تأثيرا في حاضر البلاد ومستقبلها.

ويمكن تقسيم مراحل الاستعمار الفرنسي في مالي إلى 4 محطات أساسية:

- مرحلة التهيئة والاستكشاف: بدأت منذ عام 1855 واستمرت حتى 1893، إذ بدأ الفرنسيون في بناء الحصون والمعسكرات في الجنوب المالي وعلى ضفتي نهر النيجر، استعدادا للسيطرة على البلاد التي كانت تملك سمعة "ذهبية" لدى الأوروبيين.

وقبل حملات الفرنسيين الاستكشافية، كان البريطاني مونغو بارك أول من وصل من الأوروبيين سنة 1795 إلى المنطقة، إذ حاول الوصول إلى تمبكتو لكنه لقي حتفه غرقا في نهر النيجر قبل تحقيق هدفه.

بيد أن تجربة الرحالة الفرنسي رينيه كاييه مثلت أول نجاح أوروبي في الوصول إلى المدينة "المقدسة" تمبكتو سنة 1828 والعودة منها إلى الديار، رغم أن المستكشف البريطاني ألكسندر غوردون لينغ كان بالفعل قد وصل إلى تمبكتو قبل ذلك بعامين (1826)، ولكنه فشل في تحقيق أمنيته بعد أن اخترمه سهم المنون وهو عائد إلى بلاده بعيد خروجه من تمبكتو.

ثم تسارعت بعد ذلك رحلات المستكشفين، فقد قام الرحالة الألماني هنري بارث في الفترة ما بين 1850م-1856م برحلة إلى تمبكتو ومناطق الهوسا والبورنو في النيجر، وعاد بمعلومات واسعة عن المنطقة ومساربها، قبل أن يأخذ الاستكشاف بعد ذلك في التسارع عبر البعثات الموسعة ذات الأهداف العسكرية المعلنة.

وقد وضع الفرنسيون اليد أول مرة على 4 هكتارات فقط اشتراها القائد الفرنسي لغرب أفريقيا الجنرال فيدرب من الملك سامبالا جالو سنة 1855 ليقيم عليها "قلعة مدينة" التي تعرضت لحصار من القائد المسلم الحاج عمر تال الفوتي سنة 1857، لكنه لم يستطع السيطرة عليها بسبب النجدة الفرنسية القادمة من السنغال.

كان البحث عن "الكنز" أحد أبرز الدوافع التي سوّغت للفرنسيين صرف نفقات هائلة للاستكشاف والحملات، وكانت "كنوز أحمدو" في مدينة سيغو العاصمة التاريخية لمملكة البمبارا هي الهدف من وراء الحملة العسكرية التي شنّها القائد الفرنسي أرشنار سنة 1890 على سيغو، وكلفت الخزينة الفرنسية حينئذ أكثر من مليون و400 ألف فرنك فرنسي وهو مبلغ ملياري في تلك الأيام.

بيد أن أرشنار فوجئ عندما استولى على سيغو بأن الكنز الموعود لم يزد على 100 كلغ من الذهب، وهو ما مثل خيبة أمل لجيش ونظام استعماري كان يتوقع جبالا من الذهب، وتلالا من المجوهرات في خزائن الملوك، لكنها لم تكن الخيبة الأخيرة التي ابتلعتها فرنسا في مالي، رغم أن الطريق إليها كلف كثيرا من الدماء والدمار والتشريد في المملكة الفولانية ذات التاريخ الراسخ.

وبالتوازي مع الحملة التي شنها أرشنار على سيغو، كانت فرنسا تعمل في الوقت ذاته على مسار آخر يضمن لها مزيدا من التوسع في المنطقة؛ فقد أبرمت في العام نفسه (1890) معاهدة مع بريطانيا توسّع بموجبها النفوذ الفرنسي في أفريقيا ليشمل منطقة حوض تشاد وما سمي الأراضي الأفريقية-الفرنسية.

- مرحلة الغزو وإدالة الممالك التقليدية: وقد بدأت مع عام 1893، وانتهت بالسيطرة التامة على البلاد سنة 1912، وكان من أبرز المؤشرات التي سبقت هذه المرحلة بناء قلعة ميدين (Médine) على ضفاف نهر السنغال، قبل الانتقال إلى مرحلة الغزو المباشر، وإطاحة الممالك السودانية، ومن بينها مملكة الفولان، وقد ارتكب الفرنسيون مجازر عديدة خلال حملاتهم العسكرية في تلك الفترة، وهي الحملات التي أسهم في إنجاحها الصراع بين الزعيمين أحمدو شيخو بن الحاج عمر تال والساموري توري، فبدلا من تحالفهما لمواجهة المستعمر، كان التخاذل يمهد طريقهما إلى نهاية مؤلمة.

وقد مكّن القضاء على الرجلين ووضع حد لمقاومتهما من فتح الطريق سريعا نحو المدن المالية الكبيرة واحدة بعد الأخرى، ومن ثم بدأ مسلسل سقوط المدن الكبرى بسيغو عام 1890، ونيورو 1891، وتمبكتو 1893، لترسم الدماء بذلك الصفحات الأولى من كتاب العلاقة بين باريس وبلاد الإمبراطور مانسا موسى.

ورغم سقوط كبريات المدن المالية خلال تلك المرحلة بأيدي الغزاة الفرنسيين، فإن سلاح المقاومة لم يتوقف، لكنه كان أقل عنادا في مواجهة المدفعية الفرنسية القاتلة، ومن أشهر أعلام المقاومة المالية الشيخ الحاج عمر الفوتي ونجله الشيخ أحمد بن الحاج عمر تال، والشيخ محمد الأمين درامي، وكذلك السلطان ساموري توري.

وفي منطقة أزواد كان للطوارق دور كبير في مقاومة المد الاستعماري على مرّ عقود، فقد أبادوا كتائب فرنسية عديدة منها على سبيل المثال كتيبة القائد أوب خلال معركة تيكابراتير في عام 1893، كما قاوموا الدخول الفرنسي إلى تمبكتو سنة 1893، وقتلوا القائد الفرنسي الكولونيل بوانييه مع عدد من ضباطه وجنوده في السنة نفسها، ولكن المقدم الفرنسي جوفر تمكن في العام ذاته من هزيمة الطوارق وبسط سيطرته على تمبكتو، وواصل تعقب فلول مقاتليهم حتى انتهت مقاومتهم بالكامل سنة 1916 بعد مقتل زعيمهم فهرون آغ الأنصار.

وجاء مقتل آغ الأنصار ليضع حدا للثورة التي كان يقودها في المنطقة ضد الفرنسيين، والتي كانت أبرز محطاتها معركة "فالينغي" في مايو/أيار 1916، وهي الواقعة التي قتل الرجل بعدها بنحو شهر تقريبا في إحدى المعارك مع القوات الفرنسية.

كما كانت ثورة قبائل بيليدوغو التي استمرت شهرين من سنة 1915 إحدى محطات المواجهة مع الاستعمار الفرنسي، وانتهت بمقتل قائدها موسى تراوري الذي أحرق على نفسه وزوجته وعدد من أنصاره مخزن البارود الذي أقامته ثورته.

ولم تغب قبائل الدوغون ذات التراث التنجيمي العريق عن المقاومة المسلحة ضد الفرنسيين، واستمرت مناوشاتهم مع القوة الفرنسية إلى حدود 1930.

الاحتلال الفرنسي.. 60 سنة من الحكم المباشر

شارع الاستقلال في باماكو
شارع الاستقلال في باماكو (الجزيرة)
شارع الاستقلال في باماكو (الجزيرة)

وضعت فرنسا يدها بالكامل على مالي في نهاية القرن التاسع عشر (1893)، وأعادت بناء الهوية المالية وفق رؤيتها الخاصة القائمة على النموذج الفرنسي، واستمر الأمر على تلك الحال حتى استقلال البلاد في عام 1960، وخلال ذلك منحت أوراقها الثبوتية للماليين الذين قاتلوا في جيشها إبان الحرب العالمية الأولى، وذلك ضمن التزامات من بينها الخضوع لنظام الأحوال الشخصية الفرنسية والتنكّر للقانون الإسلامي المنظم للأسرة ومن ذلك التخلّي عن تعدد الزوجات، ولم يكن الأمر إلا نتيجة للتجنيد القسري الذي نفذه الفرنسيون بحق البالغين والقادرين على حمل السلاح في منطقة الساحل بشكل عام، وخصوصا في مالي والسنغال والنيجر لمساندة الجيوش الفرنسية في الحرب العالمية الأولى.

ولاحقا اشترطت فرنسا لمنح جنسيتها للأفارقة بمن فيهم الماليون الحصول على مستوى معرفي باللغة الفرنسية قراءة وكتابة، وأن يكون الساعي إلى الجنسية متزوجا بامرأة واحدة أو عازبا.

ومع منتصف العشرينيات من القرن المنصرم، كان الوجود الفرنسي قد اتخذ وضعا مؤسسيا أكثر عمقا وصرامة، وقسمت البلاد إلى مناطق إدارية متعددة، كما أقيمت في هذه الفترة وتحديدا سنة 1923 سكة الحديد الرابطة بين مدينتي باماكو (عاصمة مالي) ودكار (عاصمة السنغال).

وفي مارس/آذار 1925 أصبح للسكان المحليين حق اختيار ممثلين في المجالس الانتخابية المحدودة الصلاحيات.

ومع بداية الأربعينيات كانت فرنسا قد أقامت نظامها السياسي والأمني والاقتصادي في مالي، وبدأت تحصد ثمار نهب الثروات المالية، وبناء النخبة السياسية التي سيؤول إليها حكم البلاد، ونقلها من عناق الثقافات العربية الإسلامية الأفريقية إلى وجه فرنكفوني وحيد اللسان والوجهة والحضارة.

ولاحقا ستجد فرنسا نفسها في مواجهة حرب أهلية طاحنة بين أتباع الشيخ الموريتاني حماه الله بن محمد بن سيدنا عمر التيشيتي وخصومه من أتباع الطريقة القادرية. ولإخضاع المجموعات المتصارعة، مارس الفرنسيون أقسى درجات العنف والإرهاب ضد الفريقين، واعتقلوا نحو 30 من أتباع الشيخ حماه الله واثنين من أبنائه، قبل اعتقاله هو نفسه لاحقا، ونفيه إلى الجزائر ومنها إلى فرنسا.

وفي منتصف الأربعينيات تخلّت فرنسا عن ضم منطقة الحوضين الموريتانية حاليا إلى السودان الفرنسي (مالي)، لتنتهي بذلك العلاقة الإدارية بين مالي وعدد كبير من القبائل العربية ذات التاريخ والتأثير الأصيل في المنطقة.

ورغم أن تلك الخطوة كانت لمصلحة موريتانيا، فإنها تسببت في اختلال كبير في التوازن العرقي في مالي، وتحويل العرب إلى أقلية قليلة جدا في شمال البلاد.

الطريق إلى الاستقلال.. مقاومة مدنية لمستعمر راسخ

في منتصف عام 1945 بدأ تشكيل القوى السياسية المدنية، وبوجه خاص حينما أسس السياسيان موديبو كيتا ومامادو كوناتي الكتلة السودانية (المالية)، وليتولى لاحقا كوناتي منصب نائب رئيس الجمعية الوطنية الفرنسية ليكون أول أفريقي ينال هذه الرتبة.

وقد عزز المعلم موديبو كيتا حضوره ومكانته السياسية طوال عقد الخمسينيات، إذ حصد حزبه عددا كبيرا من مقاعد البرلمان المحلي لمالي كما انتخب عمدة لباماكو سنة 1956، قبل أن ينال عضوية الحكومة الفرنسية المحلية التي يرأسها وزير فرنسي.

ومع مؤشرات الاستقلال والاستفتاء الديغولي سنة 1958، كانت مالي والسنغال قد التأمتا في الاتحاد السوداني كدولة واحدة، وهو الكيان الذي لم يعمر طويلا لينتهي باستقلال البلاد سنة 1960، إذ أعلنت السنغال من طرف واحد الخروج من الاتحاد، في واحدة من أعنف المحطات التي واجهتها الدولة المالية الجديدة، والتي أصبحت -وفق الخرائط التي تركها المستعمر الفرنسي- أكبر دول غرب أفريقيا من حيث المساحة (مليون و241 ألف كيلومتر مربع).

ولم يتأخر الرئيس المالي موديبو كيتا في اتهام فرنسا بالوقوف وراء انهيار الاتحاد الأفريقي الناشئ.

فرنسا ومالي موديبو.. 8 سنوات من الصراع

النصب التذكاري لموديبو كيتا في باماكو أول رئيس لمالي
النصب التذكاري لموديبو كيتا في باماكو أول رئيس لمالي (الجزيرة)
النصب التذكاري لموديبو كيتا في باماكو أول رئيس لمالي (الجزيرة)

بدأ موديبو كيتا تأسيس نظامه القوي في مالي، كانت قبضته حديدية جدا، وجمع كثيرا من السلطات بيده؛ كان المسؤول الأول عن الداخلية والخارجية زيادة على رئاسة الدولة، ولم يكن حبل الود قويا بينه وبين باريس في مراحل عديدة من رئاسته، رغم إبرامه في أشهر الاستقلال الأولى اتفاقا مع فرنسا يضمن بقاء قواتها العسكرية في عدد كبير من المدن المالية، إلا أنه عاد مجددا سنة 1961 إلى طرد تلك القوات الفرنسية لتغادر آخر وحدة منها في سبتمبر/أيلول من السنة نفسها.

قبل أن يدير دفة العلاقات مع الشرق المناوئ لفرنسا، فقد التقى في تلك السنة المارشال تيتو رئيس يوغسلافيا الاشتراكية، وأسس مع الثائريْن رئيس غانا كوامي نكروما (1957-1966) ورئيس غينيا أحمد سيكو توري (1958-1984) اتحاد الدول الأفريقية التقدمية، كما بدأ مسارا آخر من التقارب مع الملك المغربي محمد الخامس والرئيس المصري جمال عبد الناصر المعروف بتوجهاته الاشتراكية وخطاباته المعادية "للإمبريالية".

في تلك الأثناء بدأ كيتا مفاوضات ذات اتجاهات متعددة مع فرنسا المستعمر السابق، وانتهى باتفاقيات سياسية وأمنية وثقافية سنة 1962، وفي المقابل واصل سيره الحثيث نحو المعسكر الشرقي، ليزور موسكو في منتصف العام نفسه.

وفي تطور لاحق سينسحب كيتا من المنظمة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا منشئا عملة مالية خاصة، لم تعمر طويلا، بسبب ضعف الاقتصاد المالي وعمق الحصار الفرنسي للثائر كيتا.

ولم يكن تحرير الاقتصاد من هيمنة فرنسا الشغل الوحيد لكيتا بل سعى إلى إقامة نظام تعليمي يحرر بلاده من هيمنة الاستعمار، ولأن حجم الطموح كان أكبر من الإمكانات، فقد كانت تصرفات كيتا "مغامرات جنونية" في نظر كثير من معاونيه وخصومه على حد سواء.

ومع ذلك واصل الرجل انفتاحه على العالم، ليقيم علاقات نوعية مع الصين، وليقطع أخرى مع بريطانيا احتجاجا على عمليات قمع وإرهاب مارسها الاحتلال الإنجليزي في روديسيا (زيمبابوي حاليا) سنة 1965.

وبينما كانت الأزمات تحيط بعنق الرجل الطويل موديبو، كان يعمل جاهدا على تصفية نظامه من العناصر المعارضة أو التي يعدّها رجعية، وأنشأ تحت قيادة الجيش وحدة لتصفية أعداء الثورة.

ورغم أنه حاول طوال بقائه في الحكم إقامة نوع من التوازن الصعب بين الشرق والغرب، مقتربا أكثر من المعسكر الشرقي، ومنتهجا في الوقت ذاته سياسة أفريقية تقدمية حازمة، فإن كيتا لم يجد في النهاية بدًّا من التقارب مع فرنسا التي قدمت مساعدات مالية متعددة للبلد الناشئ، وذلك بعد أن فقدت العملة المالية 50% من قيمتها، وبدأت الاضطرابات تعبث بالبلاد، ليضطر الرئيس إلى حل الجمعية الوطنية في 22 يناير/كانون الثاني 1968.

في تلك الأثناء، كانت فرنسا تصنع الأحداث وتستفيد منها، وفي نهاية المطاف وصلت رحلة الانقلابات إلى القصر الرئاسي في باماكو في اليوم التاسع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني 1968، فقد أطاح 14 ضابطا بالرئيس موديبو الذي قبع سنوات عديدة في سجن مرير في كيدال بأقصى شمالي البلاد، ثم نقل لاحقا إلى سجن آخر في باماكو، ليموت في زنزانته ضريرا مريضا سنة 1977.

تولى الملازم موسى تراوري قيادة المجلس العسكري الجديد، وطويت صفحة الطموحات الاشتراكية لموديبو، وكانت فرنسا المستفيد الأول والأساسي من الانقلاب، فقد بدأت تستعيد نفوذها وسيطرتها، وأبرمت خلال السنوات الأولى لحكم موسى تراوري 5 اتفاقيات مع مالي في مجالات متعددة، وبدأ ربيع العلاقات يزهر من جديد بين البلدين، ليتوّج الأمر سنة 1977 بزيارة رسمية للرئيس الفرنسي فاليري جيسكار ديستان إلى باماكو، وليستعيد البلدان تنشيط الاتفاقيات العسكرية التي جمّدها نظام الرئيس الثوري موديبو كيتا.

ومع بداية عام 1981، استعادت فرنسا بقوة سيطرتها على القرار الاقتصادي المالي من خلال ضمان مالي، وضمن هذا الاحتواء الجديد أصبحت فرنسا الوجهة الأساسية لأزيد من 30% من الصادرات المالية إلى العالم.

وكالعادة لم تمنع كل تلك الصورة الوردية التي أقامها موسى تراوري في الإطار الفرنسي من إطاحته في انقلاب عسكري يوم 16 مارس/آذار 1991، عقب سقوط قتلى من الطلاب المتظاهرين على نظامه الدكتاتوري وفق ما يرون، لتبدأ مرحلة أخرى مع العقيد الهادئ آمادو توماني توري الذي قاد إحدى أكثر المراحل الانتقالية اختصارًا ونجاحًا وألقًا في القارة الأفريقية، حيث لم تزد على 14 شهرا، وانتهت بانتخاب الأستاذ الجامعي ألفا عمر كوناري رئيسا للبلاد لمأموريتين رئاسيتين انتهتا في عام 2002.

في الفترة الأولى من مأموريتيه الرئاسيتين، واجه كوناري قرارا فرنسيا بتخفيض قيمة الفرنك الأفريقي المستخدم في منطقة أفريقيا الفرانكوفونية -ومن ضمنها مالي- إلى 50%، وسط تزايد لقوة صندوق النقد الدولي وسيطرته، لتغرق مالي جراء ذلك في أزمات اقتصادية شديدة، زادت من حدتها وقسوتها أزمة جفاف ماحقة ضربت البلاد وجعلتها تستند مجددا إلى المنكب الفرنسي، لتستفيد من برنامج دولي للدعم، بمبادرة فرنسية مكنت البلاد من محو 675 مليون دولار من ديونها وهو ما مكنها جزئيا من تجاوز أزمة الجوع التي عصفت ببلاد الذهب.

في مواجهة الرجل الأبيض

الطريق المؤدي للقصر الرئاسي في باماكو
الطريق المؤدي إلى القصر الرئاسي في باماكو (الجزيرة)
الطريق المؤدي إلى القصر الرئاسي في باماكو (الجزيرة)

مع مطلع القرن الحادي والعشرين بدأت مالي تدخل حقبة جديدة من تاريخها من شأنها أن تضع علاقاتها مع فرنسا على محك الاختبار؛ فقد استولت الجماعات الإسلامية المسلحة على أجزاء من صحرائها الشمالية، وأخذ النظام المالي في الاهتزاز، كما نشطت خلال سنوات 2000-2007 حركة التهريب بشكل غير مسبوق في المنطقة، وتحولت الصحراء إلى منصة لجماعات العنف وتهديد مصالح دول الجوار، وبالتوازي مع ذلك بدأ نظام توماني توري في التأرجح.

كانت فرنسا وعدد من دول الجوار تتهم العقيد توماني توري "بإقامة علاقات مع الجماعات الإرهابية"، وبالاستفادة من الوضع السائد، وكانت النيجر الصوت الأكثر تطرفا في مواجهة النظام المالي، ولم تكن في النهاية إلا صدى للموقف الفرنسي.

ومع تسارع الأحداث وانهيار نظام العقيد الليبي الراحل معمر القذافي جراء الثورة الشعبية، بدأ مسار آخر من تاريخ فرنسا، إذ تدفق على البلاد آلاف المسلحين الطوارق القادمين من ليبيا يحملون معهم مطامحهم القديمة في إقامة دولتهم المستقلة، ويملكون من العتاد الليبي ما يمكن أن يسير بهم مسافات إلى الهدف المنشود.

ومع نهاية عام 2012 كانت المدن الرئيسة في الشمال المالي قد أصبحت إما بيد الجماعات الإسلامية المسلحة، أو الحركات الوطنية الأزوادية المناوئة لحكومة باماكو.

من القط المتوحش إلى الطرد

في الشهور الأولى من عام 2012 كانت الأوضاع الداخلية في الجنوب المالي تزداد تأزما، فقد كان التذمر يعتمل داخل المؤسسة العسكرية بسبب سوء أوضاعها المادية والمعنوية، وما يواجهه زملاؤهم في الشمال، حيث كانت الجماعات المسلحة الأزوادية والإسلامية تسطّر فصلا داميا من فصول المواجهة مع نظام باماكو، وكانت توسّع يوما بعد يوم من نطاق سيطرتها على الأقاليم الشمالية.

وفي تطور بدا لافتا، خرج النقيب أمادو سانوغو وعدد من الجنود من أصحاب الرتبتين الوسطى والصغيرة في 21 مارس/آذار 2012 احتجاجا على تلك الأوضاع، ولكنهم فوجئوا بهشاشة نظام الجنرال توري، ووجدوا الطريق سالكا نحو قصر كلوبا المطل على العاصمة باماكو.

وبسقوط نظام توري واستيلاء سانوغو ورفاقه على السلطة، تسارعت وتيرة الانهيارات الأمنية في البلاد، فقد انهارت الأوضاع الأمنية في البلاد، واتسعت دائرة الاضطرابات، وازدادت مساحة سيطرة الجماعات المسلحة.

ومع اقتراب أزيز رصاص تلك الحركات المسلحة من العاصمة المالية (باماكو) في أواخر عام 2012، أطلقت فرنسا في يناير/كانون الثاني 2013 عملية عسكرية باسم "سيرفال" (القط المتوحش) لإنقاذ الدولة المالية من الانهيار أمام زحف الجماعات الإسلامية، وقد مكنت تلك الحملة من عرقلة تقدم المسلحين، بعد أن صبّ عليهم الطيران الفرنسي اللهب من السماء، منقذا بذلك "أرض الذهب" من خطر كاد يقضي على نظامها ومصالح فرنسا فيها على حد سواء.

وقد مكّن الحضور الفرنسي على الأرض وحجم الاضطراب السياسي من تهيئة الأجواء لتغيير جديد في هرم السلطة في مالي، حيث أرغمت فرنسا النقيب أمادو سانوغو على الخروج من السلطة، وتنظيم انتخابات أتاحت للمعارض إبراهيما بوبكر كيتا الوصول إلى الحكم في صيف 2013.

ومع بداية عام 2014 بدأت فرنسا "عملية برخان" الموسعة التي ضمت مسارات متعددة في تشاد والنيجر، ومكنت أكثر من 5 آلاف جندي فرنسي من الإقامة والتحكم في مسارات السياسة ومسارب الأرض في منطقة الساحل، ضمن شراكة مع مجموعة دول الساحل التي تضم موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد، وهي المجموعة التي تفككت خلال الشهور الماضية بعد انسحاب مالي وبوركينا فاسو والنيجر منها.

إن كثيرا من الماليين كانوا ينظرون إلى فرنسا في تلك المرحلة -مثل مراحل أخرى من تاريخهم- أنها الحاكم الفعلي في البلاد، حيث لم يعد إبراهيما كيتا إلا ظلا للسلطان الباريسي، يجد يده مغلولة عن التدخل في الجوانب العسكرية والمالية، ليعوض ذلك بإطلاق أيدي أسرته ومقربيه في المال العام، ولتتهيأ بذلك الأجواء المناسبة لاضطرابات سياسية عنيفة، ولمزيد من القلاقل في الشمال.

ورغم الحشد العسكري الطاغي، فإن الوجود الفرنسي في مالي لم يحل دون حضور الحركات المسلحة في الشمال واستمرار تصاعدها حيث ازدادت مع الوقت قوة وتمددا، وتوفرت الأسباب ليتخذ العنف لبوسا عرقيا.

وخلال هذه الفترة تعزز الصدام بين المجموعات السكانية، وتعدد خصوم فرنسا أيضا، لتوزع بعدالة لهب طائراتها على التجمعات السكانية في شمال البلاد ووسطها، ولتكون في مرمى اتهامات كثيرة بارتكاب مجازر متعددة بحق المدنيين.

وبعكس ما ترى فرنسا من أفضالها على مالي بإنقاذ حكوماتها من الانهيار، فإن الرأي العام المالي ورأي فصائل قوية في المؤسسة العسكرية كان يجد في الخروج الفرنسي من مالي الحل الأوحد لالتئام الجراح المفتوحة منذ أكثر من 60 سنة.

فرنسا.. الشيطان الأكبر في نظر الماليين

في منتصف عام 2020 كانت الأرض تهتز من تحت أقدام حكام باماكو وحلفائهم الفرنسيين، وأخذ الأمر بعدا آخر مع إعلان تأسيس حركة 5 يونيو/حزيران المناوئة لنظام إبراهيم أبوبكر كيتا وأسرته، بدأت فرنسا تسمع ربما بوضوح ولأول مرة وبلسان مالي مبين عبارات الطرد الشعبي، ليأخذ الأمر مسارا تصاعديا مع سقوط نظام كيتا في انقلاب عسكري في 18 أغسطس/آب 2020 بقيادة عسكريين شباب يقودهم العقيد قاسيمي غويتا (أسيمي كويتا أو هاشيمي غويتا) الذي يحتفظ بثأر قديم مع فرنسا التي منعته وعددا من ضباطه من دخول كيدال في سنة 2013.

في البداية، انحنى غويتا للضغوط الخارجية والداخلية، فسلّم السلطة للضابط العسكري المتقاعد باه نداو، ولكنه بقي ممسكا بمقاليد السلطة من خلال موقعه نائبا للرئيس، وبعض مقربيه الذين تولوا حقائب الدفاع والأمن في الحكومة التي كان يقودها باه نداو، ويتولى رئاسة الوزراء فيها مختار وان.

وبعد أقل من سنة، وتحديدا في 24 مايو/أيار 2021، أعاد غويتا مجددا سيرة الانقلاب العسكري فأطاح الرئيس الانتقالي باه نداو الذي سعى إلى إعادة حبال الود مع فرنسا المطرودة، وأمسك العقيد الأربعيني بمفاصل الحكم، وأعلن تحدي فرنسا بوضوح، طالبا منها مغادرة بلاده في أسرع وقت ممكن، ومن دون تأخير.

نهاية الوجود الفرنسي

متظاهرون ماليون يحرقون صور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باماكو (رويترز)
متظاهرون ماليون يحرقون صور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في باماكو (رويترز)

لم تغب الأصابع الروسية عن الانقلاب العسكري الأخير في مالي، وسرعان ما بدأت قوات فاغنر الروسية تحتل الفراغ الفرنسي، وتفاقمت أيضا الأزمات بين باريس وباماكو التي تتهم محتلها السابق بالتخلي عنها في منتصف الطريق، وترك المدن والمعسكرات فارغة دون تنسيق مع العسكريين الماليين.

ومع تصاعد الخلافات وجهت باماكو أصابع الطرد بسرعة إلى سفير باريس، في واحدة من أولى الصفعات الأفريقية على الخد الفرنسي الذي ظل مُصعَّرًا طوال قرون في وجوه الأفارقة.

ولم يطل الانتظار حتى أصبح البديل الروسي حاضرا وبقوة ومؤثرا في صناعة القرار الأمني في مالي، بل مسيطرا على مختلف الأجواء المالية.

ومع خروج آخر جندي فرنسي من مالي في 15 أغسطس/آب 2022 بات هذا البلد "محررا" من "الاحتلال" الباريسي كما يرى أنصار المجلس العسكري، لكنه بات أيضا في قبضة رجال بيض آخرين، كما ترى فرنسا وعدد من أنصارها في المنطقة.

أخطاء المستعمرين

ويشير رئيس الوزراء المالي السابق موسى مارا إلى أن هناك مصادر عديدة لخلاف بلاده مع فرنسا، "فقد ارتكبت هذه القوة الاستعمارية السابقة أخطاء أثرت سلبا على صورتها خلال السنوات العشر الماضية، وهذا أمر مؤسف".

وخلص -في مقابلة مع الجزيرة نت- إلى أن الطلاق كان حتميا بعد التأثر الشديد للسلطة، التي يديرها الجيش، بالنكسات الأمنية في الفترة من 2012 إلى 2016. ويقترح أن يركز الطرفان على التطلع نحو المستقبل لمعرفة "إلى أي مدى يمكننا إقامة علاقات مربحة للجانبين مع هذا البلد في السنوات المقبلة، على أساس الاحترام الدقيق لسيادة مالي".

العبد الذي يتغير سادته لا يتحرر

يرى السياسي المالي منتقى تال أنه لا توجد في مالي مشاعر معادية للفرنسيين، والدليل على ذلك واضح للعيان، وهو أنه لم يتعرض فرنسي واحد ولا مرة واحدة لبادرة غير ودية أو عدوان، كما لم تتعرض أي شركة أو مؤسسة فرنسية في مالي للمضايقة، بينما حدث ذلك في بلدان لديها علاقات أفضل من التي لدى مالي مع فرنسا.

السياسي المالي منتقى تال_
السياسي المالي منتقى تال (الجزيرة)

ويتساءل: أين تكمن المشكلة إذن؟ ليجيب أن "فرنسا، في وقت ما، نسيت أنها استعمرت مالي وأن مالي تعرف تاريخهم، وأننا في كثير من الأحيان نشاهد ما يفعلونه (...) نريد أيضا أن نُحترم، وأن تؤخذ مصالحنا في الاعتبار، وألا تكون سيادتنا كلمة جوفاء، وهذا هو لبّ المشكلة".

ويشير إلى أن فرنسا غادرت لأن مالي لم تعد تقبل أن تدار مصالحها في مكان آخر غير أرضها، ولا أن تكون العلاقات مع البلدان غير ندّية، فذلك يتعارض مع جميع قواعد القانون الدولي.

ويبدو أن منتقى تال مقتنع بأن التعاون بين البلدين سيستأنف عاجلا أم آجلا، "ولكن على أسس مختلفة، ولا سيما على الأسس الثلاثة التي توجّه السياسة الدولية لمالي اليوم: احترام سيادتنا، واحترام خياراتنا، ومراعاة مصالحنا".

وفي ما يتعلق بالبديل عن فرنسا، وإمكانية قيام فاغنر بملء الفراغ الذي تركته باريس بعد مغادرة جيشها وخبرائها وحتى شركاتها؛ قال منتقى تال إن مالي ليست بحاجة إلى البحث عمن سيحل محل فرنسا، "لأن العبد الذي يتغير سادته لا يتحرر، نريد أن نتعاون على أساس سليم مع جميع دول العالم. ولكن هناك شراكات إستراتيجية. لقد ذكرتم روسيا، وهي واحدة من هذه الدول، والصين واحدة منها. نحن نتعاون مع دول الخليج، ونتعاون مع المملكة العربية السعودية، ونتعاون مع تركيا، ومع البرازيل. وجميع من يريدون اليوم احترام خياراتنا السيادية هم شركاؤنا الفعليون أو المحتملون".

تقلبات متوقعة

على الضفة الأخرى من مالي، يرى القيادي الأزوادي موسى آغ آشراتومان، مؤسس حركة إنقاذ أزواد (تجمع لحركات أزوادية موقعة على اتفاق مع حكومة باماكو)، أن الأزمة لم تكن فقط بين مالي وفرنسا، فقد لاحظنا الموقف ذاته أيضا بين فرنسا وبوركينا فاسو والنيجر، وهو في اعتقاده أمر طبيعي في العلاقات بين الدول حيث تتخللها في بعض الأحيان مثل هذه التقلبات.

ويرى أنه "بعيدا عن أي قوة أجنبية، يجب على الماليين أن يمارسوا سيادتهم في استقلال تام، لأنه لن يقوم أحد بتأمين بلادنا أو تنميتها بدلا منا، فوجود أي شريك سينتهي عاجلا أم آجلًا. وحينئذ، وبطريقة أو بأخرى، ستبقى مالي في أيدي الماليين وحدهم".

ويعتقد القائد الطارقي الموالي للحكومة المالية أن منطقة الساحل "تعيش اليوم أزمة أمنية غير مسبوقة، وكل تدخلات المجتمع الدولي لم تعط النتائج المرجوة، ويجب علينا -في ضوء ذلك- أن ندعم هؤلاء السكان وهذه البلدان لجعلهم يختارون نهجهم الخاص في حل أزمتهم؛ فالحلول المستوردة ليست ناجعة ولن تكون كذلك أبدا".

فاغنر.. يد على الذهب وأزمة مع الجوار

FILE - This undated photograph handed out by French military shows three Russian mercenaries, right, in northern Mali. Russia's Wagner Group, a private military company led by Yevgeny Prigozhin, a rogue millionaire with longtime links to Russia's President Vladimir Putin, has played a key role in the fighting in Ukraine and also deployed its personnel to Syria, Central African Republic, Libya and Mali. (French Army via AP, File)
علاقة مالي بفاغنر بدأت منذ عام 2021 حسب مصادر غربية (أسوشيتد برس)
علاقة مالي بفاغنر بدأت منذ عام 2021 حسب مصادر غربية (أسوشيتد برس)

لم تعد فاغنر مجرد مليشيات تستعين بها مالي في مواجهة الجماعات المسلحة، بل أصبحت جزءا أساسيا من الأزمة العميقة في هذا البلد الذي ينشد السلام منذ عقود، رغم أنه يسلك إليه دائما طرق الحرب.

بدأت علاقات مالي مع فاغنر -وفقا للمصادر الغربية- في منتصف عام 2021، عندما بدأ أولئك الرجال البيض الضخام الذين لا يتحدثون الفرنسية ولا اللغات المحلية يتوافدون زرافات على مطار باماكو، قبل أن يقيموا لهم قاعدة في باماكو، ومنها بدأ التمدد الروسي في أنحاء مالي.

ومع الزمن أصبح وجود فاغنر عامل قوة أساسية للنظام المالي الذي أصبحت من بين كتائبه قوة بيضاء مدججة بالسلاح، وذات سمعة فتاكة، نشرت الرعب والهلع بشكل خاص بين السكان المحليين في الشمال.

وتتهم فاغنر على نطاق واسع بارتكاب مجازر دامية بحق المدنيين في مناطق الشمال، فضلا عن التورط في جرائم أخرى بحق مدنيين موريتانيين، وهو ما أفاض بعد تكرره كأس الصبر الموريتاني، لتدخل العلاقات بين البلدين أخيرا حالة من التوتر الصامت.

ولا تمثل فاغنر حالة استفزاز لموريتانيا فحسب، بل تضفي حالة من الترقب الذي آل إلى خلاف شديد بين سلطات باماكو وحكام الجزائر، فقد عدّ الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في مقابلة مع لوفيغارو الفرنسية قبل أزيد من عام، أن الأموال التي تدفعها دولة مالي لمرتزقة فاغنر الروسية ستفيد أكثر إذا استثمرت في التنمية. وعبر عن قلقه من حقيقة أن منطقة الساحل تغرق في البؤس، مشيرا إلى أن الحل هناك اقتصادي أكثر من كونه أمنيًّا.

ووفق ما نقلت صحف غربية، فإن فاغنر وقعت في البداية عقدا مع السلطات المالية يضمن حصولها على 10 ملايين دولار شهريا، مقابل إرسالها ألفا من عناصرها إلى هناك وتقديم خدماتها التي تتوسع بها سيطرة حكام باماكو وأزماتهم.

وبدا واضحا أن الوجود العسكري المتصاعد لفاغنر يعني إثارة مزيد من التأزم مع الجارين الكبيرين موريتانيا والجزائر، لكن فاغنر تعني في النهاية الحصن الأخير لعقداء باماكو، في ظل أزمتهم المتصاعدة مع فرنسا وحلفائها الغربيين.

سيطرة متصاعدة على مناجم الذهب

ووفق مصادر إعلامية متعددة، فإن فاغنر باتت مستثمرا أساسيا في الذهب، وأصبحت حاميا لعدد من مناجم الذهب، من بينها منجم إنتاهاكا للذهب، وهو موقع ضخم للتنقيب عن الذهب يقع في شمال البلاد، على بعد حوالي 80 كيلومترا من مدينة غاو.

وتعدّ مالي رابع أكبر مصدّر للذهب في أفريقيا، كما أنها تمتلك احتياطيات كبيرة من النفط والمنغنيز واليورانيوم والليثيوم.

وقد عرف إنتاجها من الذهب صعودا لافتا خلال العقد الماضي، إذ بلغ حجم إنتاجها -وفقا لموقع "CEIC Data"- نحو 41 طنا في عام 2012، قبل أن يرتفع إلى 46 طنا في عام 2017، ثم إلى 55 طنا في عام 2018، ثم قفز مرة أخرى إلى حوالي 61 طنا في عام 2019، وبلغ ذروة الإنتاج عند قرابة 65 طنا في 2020، قبل أن يتراجع الإنتاج إلى نحو 63 طنا في عام 2021، ثم عاود الصعود إلى قرابة 64 طنا في العام التالي 2022، وعاود التراجع مرة أخرى إلى نحو 60 طنا في 2023.

وتطمح مالي إلى تحقيق قفزة كبيرة في إنتاجها من الذهب، خصوصا بعد أن وقعت في أواخر العام الماضي اتفاقا مع روسيا لبناء مصفاة للذهب بطاقة 200 طن سنويا في العاصمة باماكو، كما أقرّت في الوقت ذاته قانونا جديدا للتعدين، يتيح للحكومة -من بين أمور أخرى- زيادة ملكيتها في شركات التعدين إلى 35% ارتفاعا من 20%.

وتقع أغلب مناجم الذهب في مالي في الجزء الجنوبي من البلاد، أما ذهب الشمال فيستخرج من مناجم تقليدية وقد ظل مدة طويلة دُولة بين السكان والجماعات المسلحة، ويبدو أنه سيكون عنوان معارك دامية بين هذه الجماعات ومرتزقة فاغنر.

وبين اللهب والذهب، تعيش فاغنر وسكان شمال مالي قصة مضطربة، فقد تصاعد حضور "الرجال البيض" والجيش المالي في هذه المنطقة، وسط إعلان مالي توجهها للسيطرة على ذهبها الخالص، وعلى ما كان من أراضيها واقعا تحت سيطرة الجماعات المسلحة في الشمال.

فرنسا ومالي.. تراث قرن ونصف

A general view of the city of Bamako pictured from the point G in Bamako
منظر عام من العاصمة المالية باماكو (رويترز)
منظر عام من العاصمة المالية باماكو (رويترز)

ورغم خروج حكام باماكو العسكريين عن الطوق الفرنسي، وما حدث من تطورات بالغة السوء في العلاقة بين الطرفين، وسط مساع حثيثة من غويتا ورفاقه لمحو آثار المستعمر الفرنسي؛ فإنه لا يمكن لفرنسا أن تغادر الوجدان المالي والأفريقي بشكل عام بهذه السهولة، حتى إن بدت الآن عجوزا تطاردها لعنات الضباط الشباب في باماكو، فبلاد الغال تملك أكثر من ورقة قوة وضغط في بلاد السلطان منسا موسى، ومن أهم أوراقها الثابتة:

  • ورقة اللغة الفرنسية: فإذا تعامل معها الفرنسيون باعتبارها غنيمة حرب، فإن حضورها ورسوخها في البلاد قادر على أن يمنح فرنسا آمادا طويلة من الحضور والتأثير الثقافي في وجدان الإنسان المالي، رغم ادّعاء السلطات العسكرية في مالي توجّهها إلى اللغات المحلية ومن بينها اللغة الحسانية (لهجة محلية عربية).
  • استمرار المشكلة الأمنية: فرغم أن الجيش المالي تمكن خلال الأسابيع الماضية من دخول عدد من بلدات ومدن الشمال وفي مقدمتها مدينة كيدال -المعقل التاريخي للطوارق- لأول مرة منذ أزيد من 10 أعوام، فإن الأزمة الأمنية في البلد وفي المنطقة عموما ما زالت قوية وتأخذ أشكالا وأبعادا متعددة من حين لآخر، وسط تصاعد الأزمة الإنسانية في مناطق اللاجئين.
  • إمكانية التأثير في قطاعات عسكرية: أو إقامة جيوب ثقة نائمة في الجيش المالي في انتظار دورة أخرى من الانقلابات العسكرية التي تتناوب على هذا البلد تناوب فترات الخصب والجفاف.
  • العلاقات القوية مع أجيال من النخبة وصناع القرار المجتمعي والاقتصادي في مالي، فقد كانت فرنسا ولا تزال دار الهجرة الأولى للماليين.

إلا أن فرنسا -رغم ذلك- تفقد بشكل متسارع أوراق قوتها الأخرى، ويبعدها حظها المنكوب من الأرض المالية، فقد طردت من النيجر ومن بوركينا فاسو ولم يبق لها من منفذ على الأراضي المالية يمكّنها من التدخل المباشر في شؤون البلاد التي كانت أول من هشّ بعصا الطرد في منطقة الساحل على من كان يعرف بالمستعمر الأقوى والأرسخ في الغرب الأفريقي.

وبين مسارات الزمن ومسارب الأحداث، يطوي الرجل الباريسي إيمانويل ماكرون حقائبه من جديد، لاعنا المقام في تمبكتو، كما فعل رينيه كاييه (ولد كيجه النصراني) قبل قرابة 200 عام.

المصدر : الجزيرة + وكالات + مواقع إلكترونية