"فيلق أفريقيا" وريث فاغنر الذي يستحضر الزمن السوفياتي الضائع

لم تكن شركة فاغنر الأمنية الروسية قبل سنوات سوى مجموعة مقاتلين أشباح في أفريقيا، بدت المعلومات عن وجودهم وانتشارهم وأدوارهم غامضة ومتضاربة. لكن المتغيرات الجيوسياسية خلال السنتين الأخيرين، ألقت الضوء على توسع كبير لنفوذ هذه المجموعة التي تمثل رأس جسر لإعادة تمكين روسيا من نفوذ مهم في القارة الأفريقية.

وكشف مقتل العشرات من عناصر المجموعة أواخر يوليو/تموز 2024،  أثناء معارك مع مسلحي الطوارق قرب حدود مالي مع الجزائر، وقبل ذلك في موزمبيق، عن مدى انتشار هذه المجموعة ودورها المتزايد، الذي يستفيد من تحولات سياسية تشهدها القارة، ويثير ريبة وشكوكا غربية.

وأكدت المجموعة مقتل العديد من عناصرها خلال قتالها إلى جانب الجيش المالي في الفترة من 22 إلى 27 يوليو/تموز، في حين تنفي الحكومة المالية وجود عناصر من فاغنر على أراضيها، وتقول إنهم فقط خبراء ومدربون روس يساعدون القوات المحلية.

وفي أحدث انتشار معلوم للمجموعة الأمنية في القارة الأفريقية، تؤكد بوركينا فاسو والنيجر أيضا وجود مدربين وخبراء روس بشكل رسمي للمساعدة في تدريب قواتها، خصوصا في مواجهة الجماعات المسلحة المنتشرة على الحدود المشتركة، دون الاعتراف بوجود مقاتلين من مجموعة فاغنر.

وما يلفت الانتباه في هذه البلدان، أن الوجود المكثف لمجموعة فاغنر، الذي تبعه إعلان عن تعاون عسكري رسمي مع روسيا، جاء بُعيد الانقلابات العسكرية التي عصفت بالوجود الفرنسي والأميركي (النيجر)، وشمل قبل ذلك جمهورية أفريقيا الوسطى وموزمبيق وبلدانا أخرى، وبدا أن روسيا تملأ الفراغ الغربي -الذي تشير بعض التحليلات إلى أن موسكو خططت له بشكل ما- وترث مواقع النفوذ التقليدي للبلدين.

إرث بريغوجين.. من مليشيا إلى فيلق

FILE PHOTO: The late Yevgeny Prigozhin, chief of Russian private mercenary group Wagner, then giving an address in camouflage and with a weapon in his hands in a desert area at an unknown location, in this still image taken from video possibly shot in Africa and published August 21, 2023. Courtesy PMC Wagner via Telegram via REUTERS/File Photo
FILE PHOTO: The late Yevgeny Prigozhin, chief of Russian private mercenary group Wagner, then giving an address in camouflage and with a weapon in his hands in a desert area at an unknown location, in this still image taken from video possibly shot in Africa and published August 21, 2023. Courtesy PMC Wagner via Telegram via REUTERS/File Photo
رئيس فاغنر الروسية يفغيني بريغوجين في منطقة غير معلومة بإحدى الدول الأفريقية (رويترز)
رئيس فاغنر الروسية يفغيني بريغوجين في منطقة غير معلومة بإحدى الدول الأفريقية (رويترز)

لا يُعد نشر الشركات الأمنية الخاصة واستخدامها من قبل الحكومات حكرا على روسيا، وليست فاغنر الشركة الوحيدة التي تعمل في أفريقيا. غالبا ما تستخدم هذه الشركات -التي تتعاقد مع وزارات الدفاع أو الحكومات- في مهام عسكرية غير رسمية أو سرية، وعملياتٍ تريدها الدول والحكومات أن تبقى مستترة، أو في مناطق لا تحتمل تدخلا عسكريا مباشرا ومكشوفا.

وتُعد شركة "بلاك ووتر" الأميركية، التي أسسها عام 1997 رجل الأعمال وضابط البحرية الأميركية السابق إيريك برنس، من أشهر تلك الشركات، وقد قامت بمهام عديدة لحساب وزارة الدفاع الأميركية في العراق وأفغانستان وغيرها منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي.

أما بالنسبة لمجموعة فاغنر الروسية، التي تصنف كوحدة عسكرية لها استقلاليتها وتتبع وزارة الدفاع الروسية، فهي تُعد أكثر من شركة أمنية، إذ لعبت -وفق المتابعين- دورا هاما في فتح مساحات للنفوذ الروسي وتوسيعه، تتجاوز الجانب الأمني والعسكري إلى السياسي والاقتصادي، خصوصا في القارة الأفريقية.

Founder of Wagner private mercenary group Yevgeny Prigozhin poses with mercenaries
بريغوجين يتوسط عنصرين من فاغنر في باخموت بأوكرانيا (رويترز)

تشير التقارير إلى أن مجموعة فاغنر الأمنية تأسست في عام 2014، من قبل الضابط بالجيش الروسي ديمتري أوتكين، وحملت اسم المؤلف الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر الذي كان أوتكين شغوفا  به، وكان يديرها عمليا رجل الأعمال وطباخ بوتين السابق يفغيني بريغوجين.

وتشير صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" الأميركية إلى أن الشركة مسجلة في الأرجنتين، لأن الشركات العسكرية الخاصة غير قانونية في روسيا. ولها مقر ضخم في سانت بطرسبورغ.

وكان بدايات نشاط المجموعة في سوريا أثناء الحرب ثم السودان وليبيا ثم أوكرانيا، لتظهر لاحقا في بعض البلدان الأفريقية. وأفادت التقارير أن المجموعة بدأت بنحو 1000 منتسب عام 2014، ليرتفع العدد إلى 6000 عام 2017، ونحو 20 ألفا عام 2023، وفق تقديرات مؤسسات بحثية، في غياب معطيات رسمية من الجانب الروسي، ونظرا لطبيعة عمل المجموعة التي تكتنفها الكثير من السرية.

باتت المجموعة أكثر شهرة بعد حركة التمرد التي قادها زعيمها يفغيني بريغوجين ضد الجيش الروسي في يونيو/حزيران 2023، وسيطرت خلالها على مقار للجيش الروسي جنوبي البلاد، إلا أن وساطةً قادتها بيلاروسيا أنهت التمرد وأعطت المجموعة ضمانات أمنية.

في 23 أغسطس/آب 2023، قُتل بريغوجين ومساعده أوتكين، ومعظمُ قادة المجموعة الآخرين في حادث تحطم طائرة غامض، لكن المجموعة واصلت نشاطها بعد إعادة هيكلتها، وتولى مدير المخابرات العسكرية الروسية السابق الجنرال أندريه أفيريانوف، إدارة الجزء الأكبر من المهام الخارجية للمجموعة، وفق تقارير أميركية.

وحسب المعلومات المتاحة، يُعد انتشار المجموعة في القارة الأفريقية حاليا هو الأكبر منذ بداية تدخلها في بعض ساحات النزاع عام 2017، لدعم النفوذ الروسي في أفريقيا بشكل غير رسمي.

ومع تزايد نفوذ فاغنر وتشعب مهامها وتمرد قادتها، موسكو بدأت تنتهج إستراتيجية جديدة عبر الوجود العسكري المباشر والمعلن في القارة، حيث يلقى الحضور الروسي قبولا وأحيانا ترحيبا من قبل أنظمة تبدو مناوئة للغرب، وحتى على المستوى الشعبي، وتم تبعا لذلك تشكيل ما يعرف باسم "فيلق أفريقيا".

في ديسمبر/كانون الأول 2023، أكدت وزارة الدفاع الروسية أن "الخطوات بدأت فعليا في تشكيل فيلق أفريقيا، وأن الانتهاء من تشكيل الفيلق سيكون خلال عام 2024 في خمس دول أفريقية، هي: ليبيا، وبوركينا فاسو، ومالي، وأفريقيا الوسطى، والنيجر".

ولا توجد معطيات ثابتة عن مصير مجموعة فاغنر بعد تشكيل هذا الفيلق الذي يستهدف ضم 20 ألف عنصر، والمرجح أنه سيستوعب عناصر المجموعة، وسيرث تدريجيا مهامها ونشاطاتها في القارة على الصعيد العسكري والاقتصادي.

وحسب وزارة الدفاع الروسية، يتبع "فيلق أفريقيا" سلطةَ الإدارة العسكرية الروسية مباشرة، ويشرف عليه الجنرال يونس بك إيفكوروف، نائبُ وزير الدفاع الروسي.

blogs حفتر
اللواء الليبي المتقاعد حفتر يستقبل وزير الخارجية الروسي لافروف (الأوروبية)

ليبيا قاعدة الانطلاق

يرجح خبراء أن ليبيا كانت البوابة الأولى لمجموعة فاغنر للدخول إلى أفريقيا أواخر عام 2017 لدعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر في بنغازي.

وحسب مراكز بحثية غربية، لعبت المجموعة دورا بارزا في دعم حفتر وقواته في "معركة الكرامة" (معارك بنغازي ودرنة 2014-2017)، ثم محاولته الهجوم على طرابلس للاستيلاء على السلطة من حكومة الوفاق الوطني آنذاك بين عامي 2019 و2020.

ووفقا للتقارير فإن مجموعة فاغنر لديها نحو 2000 عنصر في ليبيا، ويتمركز نشاطها في مدينة سرت (450 كلم شرق العاصمة طرابلس) بقاعدة "القرضابية" الجوية وميناء سرت البحري، وكذلك في قاعدة الجفرة الجوية (300 كلم جنوب سرت)، وقاعدة براك الشاطئ الجوية (60 كلم من مدينة سبها جنوبي البلاد).

وذكر تقرير حديث لمنصة "ميليتري أفريكا"، المعنية بالشؤون الأمنية والعسكرية في أفريقيا، نُشر في 24 أبريل/نيسان 2024، أن طائرات شحن روسية وصلت إلى قاعدة براك الشاطئ في ليبيا تحمل عشرات الجنود الروس، بينما وصل عتاد وأسلحة إلى ميناء طبرق عن طريق سفينتي الإنزال "إيفان غرين" و"ألكسندر أوتراكوفسكي".

ورجحت تقارير أن تكون ليبيا (بنغازي) قد اختيرت لتكون مقرا أو نقطة ارتكاز لفيلق أفريقيا نظرا لارتباطها بساحل البحر المتوسط، ولموقعها  الإستراتيجي الذي يضمن خطوط الإمدادات العسكرية وتحركات العناصر التابعة للفيلق إلى الدول الأفريقية الأخرى عبر الحدود الجنوبية.

ولطالما كانت الولايات المتحدة تنظر بعين الريبة إلى دور فاغنر وروسيا بشكل عام في ليبيا. واعتبرت وزارة الخارجية الأميركية أن المجموعة "تدخلت في ليبيا لتحقيق مكاسب سياسية ومالية، وارتكبت انتهاكات لحقوق الإنسان ضد الشعب الليبي، وكثفت من حالة عدم الاستقرار المستمرة"، ولهذا فرضت عقوبات على أفراد وكيانات مرتبطة بالمجموعة.

دول الساحل.. هبة الانقلابات لروسيا

متظاهرون يرفعون الأعلام الروسية على نصب تذكاري بعاصمة النيجر (أسوشيتد برس)
متظاهرون يرفعون الأعلام الروسية على نصب تذكاري بعاصمة النيجر (أسوشيتد برس)

منذ عام 2020، بدأت سلسلة انقلابات عسكرية في بعض دول الساحل والصحراء غيرت المشهدَ الجيوسياسي في المنطقة. ومكنت هذه الانقلابات العسكرية روسيا ومجموعة فاغنر من إيجاد أرضية عمل جديدة، تحظى باعتراف ودعم رسمي من هذه البلدان، التي وقّعت اتفاقات عسكرية وسياسية مع روسيا للتدريب والدعم التقني اللوجستي.

وتفيد التقديرات أن فاغنر باتت تلعب دورا أمنيا وعسكريا مكثفا هناك، وتمارس مهامها ضمن ما بات يعرف باسم "فيلق أفريقيا"، في إطار تعاون وثيق مع روسيا شمل أيضا اتفاقيات اقتصادية .

في أغسطس/آب 2020، قاد العقيد أسيمي غويتا انقلابا عززه بآخر في 24 مايو/أيار2021، وبات رئيسا لمجلس العسكري الحاكم أظهر معاداة غير مسبوقة لفرنسا المستعمرة السابقة لبلاده مقابل انفتاح لافت على روسيا.

وأجبر المجلس العسكري الذي يتولى السلطة في مالي، القوات الفرنسية على الرحيل في أغسطس/آب 2022، ثم بعثةَ الأمم المتحدة لحفظ السلام في مالي (مينوسما) في ديسمبر/كانون الأول 2023.

وبدأ المجلس العسكري تعاونا عسكريا وثيقا مع روسيا، تُرجم بإرسال شحنات أسلحة ومدربين ومئات من عناصر فاغنر للمشاركة في القتال إلى جانب الجيش المالي، الذي حقق مكاسب مهمة في مواجهة الانفصاليين الطوارق، بالسيطرة على معقلهم الرئيسي في مدينة كيدال، لكن المجموعة تكبدت خسائر فادحة بالمقابل، واتُهمت بارتكاب "مجازر مروعة" بحق المدنيين.

عناصر من فاغنر شمالي مالي (أسوشيتد برس)

في 26 يوليو/تموز 2023، قاد الجنرال عبد الرحمن تياني، انقلابا في النيجر ضد الرئيس محمد بازوم، وبات قائدا للمجلس العسكري، وخرج بدوره عن سطوة فرنسا المستعمِر السابق والولايات المتحدة، فخرجت القوات الفرنسية من النيجر يوم 22 ديسمبر/كانون الأول 2023، ثم غادرت القوات الأميركية نهائيا قاعدة أغاديز الجوية في 5 يوليو/تموز 2024.

وعلى شاكلة مالي، أبرمت النيجر اتفاقية تعاون عسكري مع روسيا، ووصل في أبريل/نيسان 2024 مدربون عسكريون روس وأنظمة دفاع جوي إلى العاصمة نيامي، وأكد "فيلق أفريقيا" بدوره وصوله إلى النيجر، وذكر عبر تطبيق تلغرام: "وصلت الرحلة الأولى لفيلق أفريقيا ومتطوعيه إلى النيجر". ويوجد مئات من عناصر الفيلق في النيجر، حيث يشاركون في القتال ضد الجماعات المسلحة.

في 23 سبتمبر/أيلول 2022، أطاح النقيب إبراهيم تراوري  بالرئيس المؤقت بول هنري سانداوغو داميبا في بوركينا فاسو، ونصبَ نفسه رئيسا لمجلس عسكري، وأنهت البلاد بدورها التعاون العسكري مع فرنسا وأجلت القوات الفرنسية من أراضيها.

Russia's President Vladimir Putin shakes hands with Burkina Faso's interim President Ibrahim Traore during a meeting following the Russia-Africa summit in Saint Petersburg, Russia, July 29, 2023. Mikhail Metzel/TASS Host Photo Agency via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS IMAGE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY. MANDATORY CREDIT.
النقيب البوركينابي تراوري مع الرئيس بوتين بالقمة الروسية الأفريقية عام 2023 (رويترز)

وطورت بوركينا فاسو تعاونا عسكريا واقتصاديا وثيقا مع روسيا، حيث أرسلت موسكو أسلحة ومعدات ومنظومات دفاع جوي ومدربين إلى العاصمة واغادوغو، كما تتواجد قوات من مجموعة فاغنر تقاتل إلى جانب الجيش البوركينابي في منطقة الحدود بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، التي تعتبر ملاذا ومركز نشاط للجماعات المسلحة.

ورغم بقاء القوات الفرنسية في تشاد، أعلن مجلسها العسكري الحاكم، برئاسة الجنرال محمد إدريس ديبي (الذي انتخب لاحقا رئيسا للبلاد) في 19 أبريل/نيسان 2024، التعليق الفوري للأنشطة العسكرية الأميركية في قاعدة "أدجي كوسي".

وطورت تشاد أيضا علاقتها مع روسيا، حيث زار ديبي موسكو في يناير/كانون الثاني 2024، كما قام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بجولة في أفريقيا بدأها بزيارة إلى نجامينا في يونيو/حزيران 2024، وشملت أيضا كلا من غينيا والكونغو الديمقراطية وبوركينا فاسو.

الرئيس بوتين يستقبل نظيره التشادي محمد ديبي أوائل 2024 (أسوشيتد برس)

وتشير بعض المعلومات إلى أن مدربين عسكريين من روسيا وصلوا إلى العاصمة التشادية نجامينا، ويُرجح أن يكونوا عناصر من "فيلق أفريقيا". ولا تعادي تشاد النفوذ الغربي بشكل صريح مثل جيرانها، لكنها بدأت أيضا في الاتجاه إلى تنويع شراكاتها الأمنية والاقتصادية والعسكرية.

وانسحبت مالي وبوركينا فاسو والنيجر من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) في بداية العام الجاري، لتشكيل منظمة خاصّة بها سُمّيت تحالف دول الساحل، كما أعلنت في مارس/آذار الماضي تشكيل قوة عسكرية مشتركة لمكافحة الجماعات المسلحة، وهو ما أتاح لروسيا أيضا مجال التعاون مع كتلة سياسية وعسكرية ناشئة ومتقاربة في خياراتها السياسية.

متظاهرون في نيامي يحملون الأعلام الروسية (أسوشيتد برس)

وفي هذا السياق، يشير الباحث والخبير بمؤسسة "بروكينغز" الأميركية كونستانز ستيلزنمولر، في مقال بمجلة "فورين بوليسي" (عدد يوليو/تموز 2024)، أن "روسيا فتحت جبهة أخرى في أفريقيا، مما ساعد في دفع قوات حفظ السلام الأوروبية والأميركية إلى الخروج من منطقة الساحل، واستقرار الأنظمة الاستبدادية، وإعطاء الكرملين مجالا آخر للضغط على أوروبا".

ومع أن التحليلات الغربية تحصر الوجودَ الروسي العسكري والسياسي في دعم الأنظمة الاستبدادية والعسكرية وحماية الانقلابيين، فإن الحضور الروسي بدا وكأنه يحظى أيضا بدعم شعبي، إذ إن الوجود الغربي في تلك البلدان لم يفِ بوعوده على الصعيد العسكري، وفشل في مواجهة حركات التمرد والعناصر المسلحة، كما فشلت الأنظمة التابعة له في تحقيق الاستقرار الأمني والتنمية. لكن روسيا والأنظمة المتحالفة معها تواجه أيضا هذا التحدي الصعب مستقبلا.

أفريقيا الوسطى.. ملعب فاغنر

Russian officers from the wagner group are seen around Central African president Faustin-Archange Touadera as they are part of the presidential security system during the referendum campaign to change the constitution and remove term limits, in Bangui, Central African Republic July 17, 2023. REUTERS/Leger Kokpakpa
Russian officers from the wagner group are seen around Central African president Faustin-Archange Touadera as they are part of the presidential security system during the referendum campaign to change the constitution and remove term limits, in Bangui, Central African Republic July 17, 2023. REUTERS/Leger Kokpakpa
عناصر من فاغنر يحرسون موكب الرئيس تواديرا بالعاصمة بانغي (رويترز)
عناصر من فاغنر يحرسون موكب رئيس أفريقيا الوسطى تواديرا بالعاصمة بانغي (رويترز)

تُعد جمهورية أفريقيا الوسطى -المستعمرة الفرنسية السابقة والغنية بالمعادن- من أوائل الدول الأفريقية التي دخلتها فاغنر، حيث كانت تشهد توترات داخلية منذ عام 2013، لم يحسمها نظام الرئيس فوستين آرشانج تواديرا، نظرا لضعف قواته المسلحة وحظر السلاح المفروض من الأمم المتحدة.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2017، التقى تواديرا بوزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في سوتشي، وبدأ تدفق السلاح الروسي ومقاتلي فاغنر على العاصمة بانغي منذ يناير/كانون الثاني 2018 بمقتضى شراكة  طويلة الأمد، تتضمن تسليم الأسلحة والتعاون العسكري وعمليات التعدين، ورأى فيها رئيس أفريقيا الوسطى إنقاذا لسلطته الهشة.

ورغم وجود قوات فرنسية في جمهورية أفريقيا الوسطى، تدخلت قوات فاغنر لإخماد محاولة تمرد في عام 2020. وبذلك يدين الرئيس تواديرا ببقائه على قيد الحياة وفي السلطة للمجموعة الأمنية الروسية.

ومنذ يوليو/تموز 2023 أكدت أفريقيا الوسطى رسميا وجود مجموعات من قوات فاغنر "لتدريب قواتها، وتعزيز الأمن في أراضيها"، بمقتضى اتفاق دفاع تم توقيعه مع موسكو، بعدما انسحبت القوات الفرنسية أواخر عام 2022.

وتعتبر شركة فاغنر بمثابة مزود أمني رئيسي في البلاد، ولها دور أساسي في تدريب الحرس الرئاسي والجيش وحماية الرئيس. وتقوم المجموعة أيضًا بحماية مناجم الذهب والماس، وتشير التقديرات إلى وجود أكثر من 1000 عنصر من شركة فاغنر في البلاد يعملون كمدربين عسكريين منذ عام 2018، وفقا لموقع "تقرير أفريقيا".

كما تُعد جمهورية أفريقيا الوسطى مركزا رئيسيا لفاغنر وفيلق أفريقيا حاليا، وقال فيديل غوانجيكا، وهو أحد كبار مستشاري الرئيس تواديرا، إن "مدربي فاغنر جاؤوا بمباركة روسيا، وإذا قررت موسكو سحبهم وإرسال مقطوعات بيتهوفن أو موزارت إلينا بدلا من مقطوعات فاغنر، فسوف نحصل عليها"، في إشارة إلى تجذر الوجود الروسي هناك.

Russian officers from the wagner group are seen around Central African president Faustin-Archange Touadera as they are part of the presidential security system during the referendum campaign to change the constitution and remove term limits, in Bangui, Central African Republic July 17, 2023. REUTERS/Leger Kokpakpa
فاغنر تتولى تأمين وحراسة القصر الرئاسي في جمهورية أفريقيا الوسطى وحماية تواديرا (رويترز)

وساهمت المجموعة الأمنية في تحقيق استقرار نسبي داخل البلاد، وطردِ المتمردين من المدن الرئيسية، لكن منظماتٍ حقوقية وتقارير غربية تشير إلى أن ذلك تم بارتكاب مجازر وحشية.

وفي عام 2023، صنفت واشنطن مجموعة فاغنر على أنها "منظمة إجرامية عابرة للحدود الوطنية"، وفي عام 2022 اتهمت هيومن رايتس ووتش أيضاعناصر فاغنر "بالإعدام الميداني وتعذيب وضرب المدنيين" في جمهورية أفريقيا الوسطى بين عامي 2019 و2021.

وفي مقابل الخدمات الأمنية، التي تشمل تأمين القصر الرئاسي، حصلت شركة "لوباي إنفست " الروسية، في صيف 2018، على التراخيص اللازمة للتنقيب عن الذهب والماس، بعد أشهر من إرسال موسكو شحنات أسلحة إلى بانغي، تضمنت أسلحة رشاشة وقاذفات صواريخ وأيضا مدرعات ثقيلة.

كما تتولى شركة "ديامفيل"، وهي شركة أخرى تابعة لفاغنر، نقلَ الذهب والماس من أفريقيا الوسطى إلى دول أخرى -بينها الكاميرون- لتصل غالبا إلى روسيا.

وسلطت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على الشركتين وعلى شركة ""ميداس للتعدين" التي تمتلك امتيازات التعدين التفضيلية وتراخيص التنقيب عن المعادن واستخراجها، بما فيها الأحجار الكريمة التي يتمتع بها منجم "نداسيما" للذهب.

السودان.. إغراء الذهب والموقع

قائد الدعم السريع حميدتي يستقبل وزير الخارجية الروسي لافروف (أسوشيتد برس)
قائد الدعم السريع حميدتي يستقبل وزير الخارجية الروسي لافروف (أسوشيتد برس)

تشير مراكز بحثية ومعلومات إلى أن مجموعة فاغنر بدأت عملها في السودان منذ أواخر عام 2017 بعدما أعرب الرئيس السوداني السابق عمر البشير خلال زيارته لروسيا في نوفمبر/تشرين الأول 2017 للرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن حاجته إلى الحماية من "الإجراءات العدوانية" للولايات المتحدة. وتوجت تلك الزيارة بعدة اتفاقات عسكرية واقتصادية.

ويقول الكاتب صامويل رماني في كتابه "روسيا في أفريقيا"، إن "مجموعة فاغنر في السودان كانت تهدف في المقام الأول إلى حماية الموارد المعدنية وخصوصا موارد تعدين الذهب، والعمل كقوة داعمة لحكومة عمر البشير من حيث حمايتها من المعارضة الدولية".

رئيس مجلس السيادة السوداني البرهان يلتقي بوتين على هامش القمة الأفريقية الروسية عام 2019 (أسوشيتد برس)

ويضيف رماني، أن مجموعة فاغنر تحولت إلى لاعب مباشر في قمع المظاهرات خلال احتجاجات عام 2019، وأنه بعد الإطاحة بالبشير حاول يفغيني بريغوجين نسج علاقة جيدة مع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، لكن العلاقة تدهورت بعد مذبحة الخرطوم (القيادة العامة) في 3 يونيو/حزيران 2019.

وتشير التقارير إلى أن مجموعة فاغنر تتعاون بشكل وثيق مع قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو أجرت عمليات بحث عن مواقع التعدين عبر الشركتين التابعتين لها "ميروي غولد" و"إم إنفست" في عام 2017، كما قدمت المجموعة تدريبا عسكريا للجيش السوداني، وفق تقارير أميركية وغربية،

وذكرت التقارير أن فاغنر كانت تنقل الأسلحة والأفراد من السودان إلى جمهورية أفريقيا الوسطى بانتظام، ويُعتقد أن هذا من الأسباب التي دفعت وزارة الخزانة الأميركية إلى فرض عقوبات على شركة "إم إنفست" في يوليو/تموز 2020، معتبرة إياها غطاء لمجموعة فاغنر وأحد أذرعها المالية.

كما أفادت تقارير استخباراتية وتحقيقات إلى أن طائرة شحن روسية مخصصة لتهريب الذهب، أجرت 16 رحلة جوية في يوليو/تموز 2019 من السودان إلى مدينة اللاذقية السورية، حيث مقر قاعدة حميميم الروسية.

وفي مايو/أيار 2023، اتهمت الولايات المتحدة مجموعة فاغنر بتزويد قوات الدعم السريع في السودان بطائرات مسيّرة وصواريخ أرض-جو، لاستخدامها في القتال الذي تخوضه ضد الجيش السوداني.

ووفقا لمراقبين، تحاول روسيا اللعب في كلا الاتجاهين، وتحتفظ أيضا بعلاقات جيدة مع قادة الجيش السوداني، أملا في إحياء الاتفاق مع السودان، الذي يسمح -من بين بنود أخرى- بإنشاء مركز بحري للدعم اللوجستي في بورتسودان، على ساحل البحر الأحمر، الذي تم تجميده خلال فترة رئيس الوزراء السوداني السابق، عبد الله حمدوك.

الرئيس الموزمبيقي نيوسي استقبل وزير الخارجية الروسي لافروف عام 2023 (أسوشيتد برس)

موزمبيق.. تحدي فاغنر

يشير موقع "تقرير أفريقيا" إلى أن عناصر مجموعة فاغنر يعملون في موزمبيق منذ عام 2018، تحت ذريعة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وعلى عكس البلدان الأخرى، شكّلت موزمبيق تحديا كبيرا وفقدت عددا من عناصرها في معارك الغالبات المطيرة التي لم تتعود عليها.

وأفادت نشرة أكسفورد السياسية (مارس/آذار 2023) أن حكومة الرئيس فيليبي نيوسي، لجأت إلى مجموعة فاغنر، لكن الأخيرة فشلت في احتواء هجمات المتمردين الذين تمكنوا من الاستيلاء على مدينتي "بالما" و"موكيمبوا دا برايا"، وتكبدت خسائر فادحة، وانسحبت في نهاية المطاف من المنطقة.

وأشارت النشرة إلى أنه في البداية، استعانت الحكومة الموزمبيقية بمجموعة فاغنر لتوفير الأمن للانتخابات، وربما التأثير في نتائجها، على اعتبار أن المجموعة تمتلك شركات عاملة في المجال السيبراني وفي "حملات الدعابة والتضليل"، وفق النشرة.

وخلال زيارة الرئيس فيليب نيوسي لموسكو في أغسطس/آب 2019، وقع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتفاقياتٍ في مجالات الطاقة والدفاع والأمن، تلاها إرسال معدات عسكرية إلى العاصمة مابوتو، بينها مروحية هجومية من نوع "مي17".

كما تم تكليف مجموعة فاغنر بتدريب وقيادة القوات العسكرية المحلية الموزمبيقية، مقابل منح بعض الشركات الروسية حقوقا حصرية على أقسام من حقول الغاز الطبيعي في البلاد.

وبعد فشل القوات المحلية في وقف الهجمات التي يشنها المتمردون، تم في  سبتمبر/أيلول 2019 نشرُ 200 عنصر من فاغنر ومروحية هجومية وطائرات مسيّرة، في مقاطعة "كابو ديلغادو".

ولكن في غضون أسابيع، قُتل ما لا يقل عن سبعة مرتزقة، وارتفع عدد القتلى إلى 12 على مدار الشهرين التاليين، وفي نوفمبر/تشرين الثاني، انسحبت مجموعة فاغنر من العملية وإعادتها إلى "ناكالا" جنوب مقاطعة "كابو ديلغادو".

بشكل عام، فشلت قوات فاغنر في موزمبيق نظرا لصعوبات الميدان والقتال في الغابات، واتساع رقعة التمرد وسوء التعاون مع الجيش المحلي، ومع ذلك يوجد ما بين 160 و300 عنصر من المجموعة، كما تتواصل استثماراتها ونشاطاتها الاقتصادية.

نفوذ فاغنر الروسية في أفريقيا

المسرح الأفريقي المفتوح

من بين الدول الأفريقية التي رصدت مؤسساتٌ بحثية أميركية وبريطانية ومشروع "بيانات مواقع الأحداث والصراعات المسلحة" (ACLED)، وجودَ شركة فاغنر فيها بشكل أو بآخر: أنغولا، ومدغشقر، وغينيا كوناكري، وغينيا بيساو، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وزيمبابوي.

ففي الكونغو الديمقراطية، تشير تقارير إلى أن قوات فاغنر كانت تقدم الدعم العسكري في قتال متمردي حركة "23 مارس" في المقاطعات الشرقية للبلاد، وفي أعقاب استيلاء متمردي التوتسي على أراض متاخمة للحدود مع رواندا وأوغندا.

وأشارت التقارير إلى أن حكومة الكونغو الديمقراطية أضافت مجموعة فاغنر إلى قائمة رواتبها للمساعدة في قتال المسلحين في المقاطعات الشرقية للبلاد.

من جهته، أشار تقرير لمنظمة الأمم المتحدة في 22 ديسمبر/كانون الأول 2022 إلى أن مرتزقة أجانب من رومانيا وبلغاريا وجورجيا وبيلاروسيا، كانوا يقاتلون بالفعل في جمهورية الكونغو الديمقراطية، وتم ربط وجودهم بنشاط مجموعة فاغنر.

وبحسب المحللين في مشروع "بيانات مواقع الأحداث والصراعات المسلحة"، فقد شاركت مجموعة فاغنر بأذرعها التجارية والاقتصادية في عدد من مشاريع التعدين في زيمبابوي، بما في ذلك استخراج الماس من حقل مارانغ.

ويضيف مركز أفريقيا للدراسات الاستراتيجية في تقرير بعنوان "تتبع التدخل الروسي لعرقلة الديمقراطية في أفريقيا"، أن مجموعة فاغنر، عبر أذرعها السيبرانية وحملات الدعاية، ساعدت حزب "زانو بي إف" بزعامة الرئيس إيمرسون منانغاوا في ترسيخ قبضته على السلطة.

وفي مدغشقر، يشير المركز إلى أن مجموعة فاغنر ليس لها وجود عسكري على الأرض، لكنّ عملاء مرتبطين بروسيا وبالمجموعة تدخلوا في الانتخابات الرئاسية لعام 2018.

كما تنشط شركة التعدين الروسية "ألروسا" في تصدير الماس من أنغولا، وتستغل شركة "روسال" مناجم البوكسيت من غينيا، وغالبا ما تحتاج تلك النشاطات ومراكز التعدين إلى شركات أمنية للحماية.

رمال أفريقيا المتحركة وصراع النفوذ

الرئيس الروسي بوتين مع زعماء أفارقة خلال القمة الأفريقية الروسية عام 2023 (أسوشيتد برس)
الرئيس الروسي بوتين مع زعماء أفارقة خلال القمة الأفريقية الروسية عام 2023 (أسوشيتد برس)

أفريقيا التي تتغير

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، اضطرت موسكو إلى تقليص طموحاتها في أفريقيا، فخفت حضورها بشكل كبير مقارنة بالقوى الكبرى، ولم تكن لها الإمكانات الاقتصادية مثل الصين لإعادة التمركز، وفقدت تقريبا نفوذها في أفريقيا جنوب الصحراء، بينما حافظت على التعاون العسكري والسياسي مع دول شمال القارة، مثل الجزائر وليبيا.

وتدريجيا بدأت روسيا في استعادة حضورها الأفريقي، فحسب تقرير البرلمان الأوروبي (فبراير/شباط 2024)، وقّعت اتفاقيات تعاون عسكري مع 43 دولة أفريقية منذ عام 2015. وتشمل هذه الاتفاقيات توريد الأسلحة والمعدات، مع بعض التدريب العسكري، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وغير ذلك من أشكال التعاون.

ووفق التقرير، كانت روسيا أيضا أكبر مصدر للأسلحة إلى أفريقيا بين عامي 2018 و2022، حيث استحوذت على 40% من واردات القارة من الأسلحة، لكنها بدأت تلقى منافسة من بلدان مثل الصين وتركيا في هذا المجال.

ولا تشارك روسيا إلا بنسبة 1% من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في أفريقيا، لكن المبادلات التجارية تطورت بنسبة 45% لتصل إلى 22.8 مليار دولار خلال الأشهر 11 الأولى من عام 2023، لكنها مع ذلك تبقى ضعيفة مقارنة بالاتحاد الأوروبي (295 مليار دولار) والصين (254 مليار دولار) والولايات المتحدة (65 مليار دولار)، وفق تقرير مركز الدراسات الإستراتيجية لأفريقيا.

بالإضافة إلى الجانب العسكري والسلاح، تمتلك روسيا أيضا دعائم قوة جاذبة للدول الأفريقية، فهي مصدر رئيسي للقمح والذرة ولمشاريع الطاقة النووية، كما أن شراكاتها ونشاطاتها لا ترتبط بقيود سياسية أو حقوقية، ما يجعلها عنصر جذب لدول ملّت الاشتراطات الغربية أو لأنظمة لم تستفد من الغرب.

ومكّنت التحولاتُ الجيوسياسية وتصدعُ النفوذ الغربي في القارة وانتشار حركات التمرد -التي لم تنجح فرنسا في إخمادها- والانقلاباتُ العسكرية المناهضة للوجود الغربي  روسيا من تحقيق اختراق سياسي ثم ميداني على الأرض جاء عبر مجموعة فاغنر.

ومن الواضح أن أفريقيا لم تعد مجالا جيوسياسيا غربيا وبتبعية مطلقة لفرنسا والولايات المتحدة، فقد كان لافتا قبل ذلك أن معظم الدول الأفريقية امتنعت عن إدانة غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022 أثناء التصويت في الأمم المتحدة رغم الضغوط الأميركية، وإن لم تدعمه أيضا.

وتلقى الطروحات الروسية بالدفاع عن نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب اهتماما وقبولا لدى عدة دول أفريقية، ترى أن الوجود الروسي -وكذلك الصيني أو التركي- يعزز سيادتها، بينما يعتقد العديد من القادة الأفارقة أن الغرب "أهمل أفريقيا في الأوقات الصعبة".

وفي عام 2020، أثارت مشاكل توزيع لقاح كوفيد-19 "غير العادلة" وتضرر الدول الأفريقية بشكل كبير من الوباء، ثم تدفق المساعدات الغربية غير المسبوق إلى أوكرانيا بمستويات لم تمنح للدول الأفريقية نفسها مجتمعة خلال عقود، أثارت تذمرا واسعا في أفريقيا ومراجعات رسمية وشعبية، جعلت البوصلة تتجه -بشكل أو بآخر- نحو الرؤية الروسية والصينية للعالم.

وتحركت موسكو بفعالية لإحياء علاقاتها الأفريقية، وأطلقت قمة روسيا وأفريقيا في عام 2019، وعُقدت القمة مرة أخرى في عام 2023 وشهدت حضورا وازنا من القادة الأفارقة، وهي بذلك تراوح بين الدبلوماسية الكلاسيكية والعمل الموازي -عبر شركة فاغنر بأذرعها العسكرية والاقتصادية والإعلامية- الذي أثبت فعاليته في السنوات السابقة.

صورة مفترضة لعناصر من فاغنر  حول جثث شمالي مالي (أسوشيتد برس)

تحديات ما بعد فاغنر

استثمرت روسيا في مجموعة فاغنر لإعادة تشكيل نفوذها في أفريقيا دون صخب، ونجحت في ضبطها بعد تمرد زعيمها بريغوجين، ثم إعادة هيكلتها دون خسائر تذكر في مواقعها ونشاطاتها وتوزعها الجغرافي في القارة.

ومع ذلك، تواجه روسيا تحديا رئيسيا يتمثل في صعوبة بناء "فيلق أفريقيا" بعدد هائل من المتطوعين نظرا لصعوبة نشر جيش نظامي ونشره على مساحة واسعة، والقدرةِ على تحقيق وعودها للدول الأفريقية -أو أنظمتها الموالية- بالقضاء على حركات التمرد والجماعات المسلحة التي فشلت فرنسا والولايات المتحدة في القضاء عليها.

وتمثل الصراعات في أفريقيا -التي كانت بوابة دخول فاغنر- بيئة أمنية معقدة للغاية ومتشابكة. وتواجه القوات الروسية الموجودة في مالي والنيجر وبوركينا فاسو وغيرها اتهامات غربية بارتكاب "مجازر بشعة".

وبات الوجود الروسي في أفريقيا يتعرض لبروباغاندا معاكسة، مما قد يعرضها لغضب شعبي ورسمي وحملات إعلامية مضادة، خصوصا إذا فشلت مهمة محاربة الجماعات المسلحة المرتبطة بدورها بشبكات تهريب وتنقيب عن الذهب والسيطرة على المناجم والثروات ومصالح دولية وإقليمية.

وتركز التقارير الغربية على أن الوجود الروسي يقوض التطلعات الديمقراطية في أفريقيا، ويؤدي إلى تأجيج الصراعات، وينتهك حقوق الإنسان، ويحفز عسكرة الحكم على نحو متزايد، كما أنه يستهدف بالأساس نهب الثروات.

وبالإضافة إلى ذلك، تواجه المساعي الروسية بالتمركز على الحدود بين مالي والنيجر، وكذلك على الحدود بين ليبيا والجزائر، عبر عناصر فاغنر أو فيلق أفريقيا شكوكا وهواجس من الجزائر، مما أدى إلى برود سياسي بين الدولتين الحليفتين، لا سيما بعدما قرر المجلس العسكري في مالي إنهاء اتفاق الجزائر للسلام لعام 2015 بين حكومة مالي والجماعات المسلحة، الذي توسطت فيه الجزائر.

وفي السنوات السابقة، كفل عمل مجموعة فاغنر غير الرسمي لروسيا تحركا في الظل وتحقيق مكاسب بحد أدنى من إنكار المسؤولية أحيانا، لكن فيلق أفريقيا يُعد كشفا لأوراق روسيا بشكل علني، وهو ما سيطرح مخاطر وإشكالات في ضبط آليات عمله وعلاقاته وتدخلاته وموازنته التي كانت توفرها فاغنر بشكل مستقل.

وحتى في صورة ما إذا تمكّن الفيلق الأفريقي من تحقيق اختراق مرحلي عبر الوجود في العديد من دول الساحل، فإن ذلك لا يعني بالضرورة كسب معركة البقاء والاستقرار، فالمنطقة بمشاكلها وازماتها تبقى مقبلة على تحولات وتقلبات، ومن الصعب أن تستسلم واشنطن أو باريس وتتخلى عن مناطق نفوذ تقليدية ومركز للثروات.

كما سيؤدي النفوذ الروسي المتزايد، خصوصا العسكري منه، إلى حالة من القلق والريبة ثم الشكوك ورد الفعل من قوى أخرى باتت تتنافس بقوة  في أفريقيا مثل الصين وتركيا، ويمكن ملاحظة المحاولات الأوكرانية لزعزعة النفوذ الروسي في بعض البلدان الأفريقية.

ويرتبط استقرار الوجود الروسي في أفريقيا -العسكري خصوصا- وتمدده بقوةِ روسيا نفسها، التي تعاني مؤخرا في حربها مع أوكرانيا. وإذ كان من المرجح أن يشهد نموا بطيئا على المدى القصير، لكنه سيبقى محكوما بعدم الاستقرار، نظرا لظروف روسيا نفسها عسكريا واقتصاديا، وضعف قدرتها على إمداد الدول الأفريقية الحليفة بالسلاح والمقاتلين والمساعدات، الاقتصادية والأهم من ذلك تحسين ظروف تلك البلدان الأمنية والمعيشية والاجتماعية.

كما أن الضغوط الغربية ستتكثف على دول القارة خصوصا عبر المساعدات الاقتصادية وسلاح العقوبات، الذي تعاني منه روسيا نفسها، ومنع المساعدات الإنمائية لإضعاف الوجود الروسي وتقويضه تدريجيا.

ومع حالة الاضطراب الهشاشة المزمنة التي تعاني منها هذه الدول، يصعب عليها إقامة تحالفات طويلة الأجل وغير مثمرة، وبالمحصلة قد تأتي حالات من السخط الشعبي وانقلابات عسكرية أخرى تطيح حلفاء روسيا كما أطاحت حلفاء فرنسا سابقا، وبذلك تكون روسيا قد تسرعت  وجازفت بمشروع "الفيلق الأفريقي".

المصدر : الجزيرة