البلغاري إيفان غاريلوف.. جرأة سياسية ومأثرة إنسانية

إيفان غاريلوف
إيفان غاريلوف: صحفيو فلسطين إخوتي (الجزيرة)
إيفان غاريلوف: صحفيو فلسطين إخوتي (الجزيرة)

في بلغاريا، الدولة الأوروبية الشرقية الصغيرة، اتخذ شكل التضامن مع إسرائيل بعد هجوم المقاومة الفلسطينية على مستوطناتها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ذات الوجهة التي سادت في الغرب. ففي عشية اليوم التالي للهجوم، اتَّشح مقر البرلمان وسط العاصمة صوفيا بألوان العلم الإسرائيلي في إطار ما أسمته المؤسسة التشريعية "إشارة تضامن مع الشعب الإسرائيلي"، مما دفع وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى إعادة نشر الصورة الشهيرة بموقعها على منصة إكس، مذيلة بعبارة" شكرا بلغاريا" (Thank you Bulgaria).

العلم الإسرائيلي يغطي مقر البرلمان البلغاري بعد هجوم 7 أكتوبر 2023 - المصدر : وزارة الخارجية الاسرائيلية
العلم الإسرائيلي يغطي مقر البرلمان البلغاري بعد هجوم  السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 (موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية على منصة إكس)

وطوال الشهور اللاحقة هيمنت الرواية الإسرائيلية لأحداث الحرب ، على القصص الصحفية والتغطيات الإخبارية التي ظهرت في وسائل الإعلام البلغارية المرئية والمكتوبة. ويقول مراقب فلسطيني مقيم في صوفيا للجزيرة نت إن هذه الرواية "استحوذت على 95% من تغطية الحدث عبر استضافة شخصيات إسرائيلية وسفير تل ابيب في صوفيا ومراسلين على الهواء أو داخل الاستديو في حين لم تحز الرواية الفلسطينية سوى على 5 % من الحيز المخصص للبث وتكون عادة مسجلة حيث يتم حذف ما لا يراد بثه ، وفي حالات قليلة جدا كانت تتم عبر اتصال هاتفي مع شخص في غزة".

ويضيف المصدر المذكور أن تبني الرأي الإسرائيلي قائم في كل القنوات التلفزيونية وخصوصا القناة الرسمية الأولى ( بي أن تي) و"نوفا تلفزيا" و"بي تي في" مع استثناء بسيط في قناة" إفرو كوم" مشيرا إلى أن هذا الانحياز استفز شخصيات عامة كالأكاديمية إسكرا باييفا التي تساءلت عن مغزى تجاهل الرأي الفلسطيني المقابل، في ظل وجود سفارة لفلسطين في صوفيا.

الاختراق الأول لهذا الانحياز الإعلامي السافر سجله اتحاد الصحفيين البُلغار في 25 مارس/آذار 2024 عندما نظم وقفة ذات بعدين إنساني وسياسي قبالة قصر الثقافة في العاصمة. وخلال الوقفة التضامنية التي شارك فيها نحو 100 شخص، عبرت رئيسة الاتحاد سنيجانا تودوروفا عن تعاطفها  مع الصحفيين الفلسطينيين من ضحايا الحرب، وطالبت "بالتوقف عن قتل رواة الحقيقة، ووقف الحرب".

رئيسة اتحاد الصحفيين البلغار تشارك في وقفة تضامن مع صحفيي فلسطين في وسط صوفيا في 25 فبراير 2023 المصدر:صحافة بلغارية
رئيسة اتحاد الصحفيين البلغار سنيغانا تودوروفا تشارك في وقفة تضامن مع صحفيي فلسطين (موقع اتحاد الصحفيين)

وخلال هذه الوقفة الاحتجاجية النادرة ، كان للصحفي البلغاري الأشهر إيفان غاريلوف كلمة تضامنية مكتوبة تليت أمام الجمع، ما لبث أن عززها بمقابلة صحفية نشرت في السابع من مارس/آذار، تناول فيها أسباب استنكاف الإعلام البلغاري عن تقديم تغطية متوازنة لوقائع الحرب. حول هذه النقطة بدأ غاريلوف حديثه لزميلته كادرينكا كادرينوفا (التي وصفته بالأكثر معرفة بالموضوع الفلسطيني والشرق الأوسط عموما) في سرد واقعة تعود إلى بدايات التحول الديمقراطي ببلغاريا مطلع التسعينيات. تتحدث الواقعة عن سذاجة وارتباك صحفي بلغاري مبتدئ من صحيفة محلية، كان قد سأل نائب وزير دفاع إسرائيلي خلال مؤتمر صحفي، عن رأيه في التسمية الأنسب حاليا لجيشه، بعدما كانت الصحافة البلغارية درجت لسنوات على تسميته "بالجيش المعتدي".

حيرة الإعلام البلغاري

وقال غاريلوف "هذا المرض (الارتباك)  غطى جزءًا كبيرًا من الصحافة البلغارية. فمن المعروف أن هدفنا هو أن نكون أوروبيين- أطلسيين. ومن المعروف أيضًا أن الولايات المتحدة دعمت إسرائيل دائمًا بشكل نشط على مر السنين. ولذلك فإن السياسة تجاه إسرائيل تعتبر بمثابة السياسة تجاه الولايات المتحدة. لكن العلاقات الأميركية الإسرائيلية الحالية تظهر أن الولايات المتحدة لديها بالفعل رأي مختلف جذريا حول مستقبل غزة وحول مستقبل الحكم في فلسطين بشكل عام. وقد تكرر ذلك مرات عديدة، في كل زيارة يقوم بها وزير الخارجية الأميركي إلى إسرائيل. وقد صرح بذلك الرئيس بايدن نفسه أيضًا. ووسائل إعلامنا في حيرة من أمرها، فلا تعرف ما الموقف الذي يجب أن تتخذه، ولذلك تفضل التغاضي عن الأخبار المتعلقة بهذا الموضوع".

كانت صراحة غاريلوف وجرأته في انتقاد انعدام حياد إعلام بلاده تجاه معاناة الفلسطينيين، امتدادًا لمسيرة مهنية متوازنة ما زالت آثارها المكتوبة والمرئية قيد التداول. فالرجل الذي أعد لـ21 عاما برنامج "بانوراما" الحواري التلفزيوني الأشهر في التلفزيون الوطني والوحيد لغاية العام 1991. مما جعل مصطلح "الأسطورة" كثير التداول في الإعلام المكتوب عند الإشارة إلى اسمه؛ حتى عندما تتخذ أخباره طابعا شخصيا كانتقاله للعمل في محطة تلفزيونية جديدة أو تفرغه لإعداد كتاب جديد.

في هذا الحقل تحديدا وظف غاريلوف الكثير مما شاهده وعايشه في أسفاره ولقاءاته، دون أن يجد طريقه إلى الشاشة. ففي كتابه المعنون "همنغواي لم يكن هنا قطّ" مثلا والصادر عام 2024 في 197 صفحة، خصص فصلين للعالم العربي. أحدهما عنوانه "في ضيافة صدام حسين" والثاني "غداء مع ياسر عرفات في بيروت المدمرة". في الموضوع الأول تحدث عن زيارته بغداد عام 1976 بدعوة من صدام حسين دون أن تتاح له فرصة لقائه بسبب التأجيل المتكرر للقاء، وإصرار رؤسائه في العمل في صوفيا على عودته سريعا، بسبب شكوكهم بأنه فر من بلغاريا، على غرار ما كان قد فعله  في ذات التوقيت، صحفي بلغاري آخر يدعى فلاديمير كوستوف، انشق عن النظام وفر إلى فرنسا.

غلاف كتاب إيفان غاريلوف
غلاف كتاب إيفان غاريلوف "همنغواي لم يكن هنا قطّ" (الجزيرة)

أما في النص المخصص لعرفات فتحدث فيه غاريلوف في الواقع عن لقاءين جرى أحدهما في بيروت أواخر السبعينات خلال الحرب الأهلية اللبنانية، كان عرفات أيامها يلتقي ضيوفه من الصحفيين الأجانب بعد منتصف الليل.أما في لقاء غزة فوصف الغداء البسيط الذي قدمه عرفات لضيوفه وأوصاهم بالسفر سريعا بعد الانتهاء من التصوير كي يظهروا للعالم الصور التي التقطوها " لأن أوقاتا صعبة تنتظرنا". ويقول غاريلوف في كتابه إنه سأل عرفات خلال الغداء لماذا يسمح بوجود شخص محسوب على سوريا وثاني عل العراق وثالث على السعودية ورابع على موسكو في قيادة فتح . ويجيب غاريلوف : هذا الوضع يناسبه أكثر، حيث يقوم بإيفاد الشخص المحسوب على العراق، عندما يتعرض للضغط من سوريا.

غاريلبوف وأحمد المليجي - الصحافة البلغارية
غاريلوف وأحمد المليجي في السنة الأولى لقدومه إلى بلغاريا (الصحافة البلغارية)

وفي السنوات الأخيرة ارتفعت غَلّة غاريلوف من الإصدارات القريبة من أدب الرحلات والتوثيق . فصدر له "عش الكراهية " حول الصراع العربي الإسرائيلي وكتاب آخر بعنوان "روك آند رول وتجسّس.. والفالس الأخير". وقبله كتاب بعنوان "رسائل لم تبعث إلى مرغريتا". وكتاب آخر بعنوان "هنا والآن". وكان قد أصدر في عام 1986 كتابا عن القضية القبرصية بعنوان "أتيلا في مواجهة أفروديتا" وثق فيه متابعاته لمجرياتها، علما بأنه كان أول صحفي بلغاري يجري مقابلة متلفزة مع الأسقف مكاريوس عام 1974 قبل إطاحته من رئاسة قبرص.

مأثرة إنسانية

بموازاة المهنية المشهودة سجل غاريلوف مأثرة إنسانية لم يسبقه لها أي من نظرائه أو مواطنيه. ففي العام 1982 تبنى طفلا فلسطينيا لاجئا كان قد التقاه قبل ذلك بـ3 سنوات في رحلة عمل إلى بيروت أثناء الحرب اللبنانية لإعداد فيلم عن الأطفال الفلسطينيين، وكيفية تدريبهم ليصبحوا محاربين.

إيفان غاريلوف وطفله الفلسطيني المتبنى وعائلته عام 2007 المصدر صحافة بلغارية
إيفان غاريلوف مع الفلسطيني المتبنى أحمد المليجي وعائلته عام 2007 (صحافة بلغارية)

عن ملابسات لقائه بالفتى أحمد المليجي يقول غاريلوف لصحيفة "168 تشاسا"  في تقرير نشر في 14 يناير/كانون الثاني 2024، إن أحمد يتيم الوالدين لفت نظره بذكائه. ويقول أيضا، إنه رأى أحمد مجددا في صورة نشرتها مجلة تايم الأميركية له أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 وهو يحمل بندقية كلاشينكوف.

ويضيف أنه عندما عاد لإكمال الفيلم بحث مجددا عن أحمد الذي تعامل معه هذه المرة ببرود، لأن الناس كانوا وقتها  ينظرون بتحفظ إلى كل من يحمل كاميرا، لكن ما لبث أن اطمئن وبدأ يبتسم. وبعد مداولات قصيرة مع أسرته قررنا اصطحابه إلى بلغاريا. ولم يكن ذلك بالأمر السهل بسبب التعقيدات القائمة وقتها وبينها ضرورة المرور بمناطق تخضع لسيطرة الكتائب الذين كانوا سيقتلونه لو ألقوا القبض عليه، ثم  المرور عبر سوريا والسفر برا عبر تركيا، وقبل ذلك الحصول على فيزا لطفل في الـ13 من عمره.

الطبيب أحمد المليجي

ويوجز غاريلوف للصحيفة رحلة أحمد في بلغاريا بعد شروعه بتعلم اللغة ثم التحاقه بمدارسها وصولا إلى الجامعة التي درس فيها الطب ثم زواجه وولادة طفله الأول الذي أسماه إيفان تيمنا براعيه ووالده بالتبني. وهو ما كرره المليجي عام 2005 عندما ولدت له طفلة أسماها إيفا.

مع إخفاق محاولة أحمد العودة مجددا إلى لبنان جراء إحدى جولات الحرب فيه، واستحالة ممارسته لمهنة الطب غير المتاحة للفلسطينيين، ساعده غاريلوف  مجددا على الاستقرار في قرية ستارسيفو على الحدود مع اليونان، حيث عاد إلى ستارسيفو مع أسرته وعمل فيها.  لكن وضعه الصحي ما لبث أن تدهور بسبب مرض في الدم.

ظلت قصة أحمد المليجي محط اهتمام الإعلام البلغاري عندما يتعلق الأمر بغاريلوف لغاية 12 مارس/آذار عام 2018، عندما كتب الأخير على صفحته على فيسبوك ما نصه "هذا الصباح توفي أحمد؛ الفتى الفلسطيني الذي استقدمته من لبنان. وبناء على رغبة زوجته رجاء سيدفن الدكتور أحمد المليجي في لبنان".

ظلت مأثرة غاريلوف حاضرة في أذهان مشاهديه الذين اعتادوا متابعته على الشاشات البلغارية، وترديد اللوازم التي يفتتح بها برامجه السياسية.

وهو كإعلامي مخضرم ما زال حاضرا عبر المناصب الاستشارية التي أسندت له تباعا، إلى جانب تخصيص جزء من وقته  لإعداد الكتب. وما زال محافظا على موضوعيته في قراءة الأحداث الجارية في فلسطين ومحيطها.

Иван Гарелов إيفان غاريلوف
إيفان غاريلوف في إحدى مقابلاته التلفزيونية (مواقع التواصل الاجتماعي)

فهو يقول في مقابلته مع كادرينكا كادرينوفا بشأن مآلات حرب غزة "أعتقد أنه فيما يتعلق بوقف إطلاق النار وتبادل الرهائن، لا بد أن يحدث شيء ما، لكن هذا سيكون أمرا مؤقتا.. لا يوجد حديث عن إنهاء الحرب على الإطلاق، وإسرائيل لم تعلن أنها حققت أهدافها، ولا أحد يعرف إلى أي مدى سيصل الأمر. 30 ألف قتيل حتى الآن.. والتوقف رهن بمشيئة إسرائيل. بإمكانها أن تعلن القضاء على قائد مهم جدا في "حماس" أو حتى قيادتها بأكملها؛ مما يتيح لها الزعم بأن هدف الحرب قد تحقق".
أما عن صحفيي فلسطين الذين يجاهر بتضامنه اللامحدود معهم، فيقول في ذات المقابلة "صحفيو فلسطيني إخوتي في المهنة ودعمي لهم بلا حدود".

فريق العمل:

إعداد وتحرير: محمد العلي، خيري حمدان.

التصميم: قسم الوسائط.

المصدر : الجزيرة