بتعطيلها المؤتمر المخصص لتسليط الضوء على دور ألمانيا في الإبادة الجماعية على غزة وسط برلين في 12 أبريل/نيسان الماضي ، وحظرها قدوم المتحدثين الرئيسيين فيه: الوزير اليوناني السابق يانس فاروفاكيس والجراح الفلسطيني غسان أبو ستة، فقد حققت شرطة برلين للرجلين مكانة لم يكونا يسعيان إليها، حيث أصبح الأول رمزا للضمير الأوروبي المتضامن مع فلسطين، والثاني سفير جرح غزة النازف.
وإذا كان أبو ستة قد استمد مكانته من معايشته الشخصية لأهوال الهجوم الإسرائيلي على غزة في 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي كجراح حروق في مستشفى المعمداني أولا، ثم مجمع الشفاء الطبي، فإن الآخر معروف بكونه مفكرا اقتصاديا يساريا ومعارضا عنيدا للسياسات الاستعمارية (الإسرائيلية خصوصا) وللسياسات المالية لمجموعة اليورو التي هدفت -حسب تعبيره- "لإذلال اليونانيين" إبان الأزمة المالية التي عصفت ببلادهم.
في الملف الأول تميزت مواقف فاروفاكيس باعتمادها على البراهين العقلية والمعلومات الدقيقة المستمدة من خلفيته كباحث وأستاذ جامعي ومفكر سياسي. وفي 15 مايو/أيار الماضي مثلا، ألقى خطابا في أثينا أمام مؤتمر لحركة "ديم 25" اليسارية الأوروبية، قال فيه إن "على زعمائنا في الغرب أن يدركوا أنهم لا يمكن أن يكونوا ديمقراطيين وليبراليين إذا أيدوا فكرة الدولة الخاصة باليهود فقط". وتساءل "ماذا يقولون إذا أيدت جعل اليونان خاصة باليونانيين الأرثوذوكس؟. وأجاب "أعتقد أنهم على الفور سيدينونني ويصفونني بأنني معاد لليبرالية والديمقراطية". وقال خلال المؤتمر "أنا لست يهوديا ولا فلسطينيا، لكنني فخور لأن أكون بين اليهود والفلسطينيين لأرفع صوتي لصالح السلام وحقوق الإنسان العالمية".
وعن خلفيات ما يحدث في غزة، قال فاروفاكيس في ذات المؤتمر "قبل 76 عاما طُرد 800 ألف شخص من منازلهم وأخذوا طريقهم إلى المنفى سواء إلى لبنان أو الأردن، أو في معسكر اعتقال مفتوح يسمى قطاع غزة .. بعد 76 عاما ما يجري في هذا السجن المفتوح الذي يسمى غزة أن أولادهم وأحفادهم يجري قتلهم كل يوم، بعبارة أخرى تتكرر منذ عام 1948.. ليس فقط في غزة ولكن في الضفة الغربية".
وفي تصريح لاحق على موقعه في شبكة الإنترنت، عزز فاروفاكيس سرديته بقوله "قبل السابع من أكتوبر بوقت طويل، قال رفيقي ناعوم تشومسكي: أخذت مائي وهدمت منزلي، وجعلتني عاطلا بلا عمل، وسرقت مزرعتي، وسجنت والدي، وقتلت أمي وإخوتي، وتذلني كل يوم.. ثم تلومني لأنني ألقيت عليك حجرا"!
وفي متابعته لتطورات حرب غزة وتوابعها، لم يهمل فاروفاكيس الأبعاد القانونية للحرب منذ بدايتها. ففي خطاب أثينا الأخير استخدم فاروفاكيس حججا قانونية في إثبات حدوث إبادة جماعية في غزة مستندا إلى بنود اتفاقية روما التي كانت أساسا للمحكمة الجنائية الدولية.
وقبل ذلك، وبالتحديد في 16 أكتوبر/تشرين الأول الماضي نشر قائمة بـ"جرائم الحرب والجرائم التي ترقى إلى مرتبة الإبادة الجماعية" التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة منذ بدء التصعيد في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث قال "ليس هناك شك في أنّ إسرائيل تستثمر في جرائم الحرب لتحقيق تطهيرها العرقي في غزة، بينما تمارس في الوقت نفسه تكتيكات مماثلة في الضفة الغربية والقدس المحتلة".
وأشار إلى أنه بحسب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، المتعلق بالإبادة الجماعية، فإنّ المادة 6 (ج) تعرّفها بأنها "إخضاع جماعة عمداً لأحوال معيشية يقصد بها تدميرها المادي كلياً أو جزئياً".
وفي 13 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلن فاروفاكيس -عبر حسابه على منصة إكس- أنه تم حرمانه من إلقاء محاضرة في معهد "آي كيه إيه" (IKA) للفن والعمارة بالعاصمة النمساوية كانت مقررة اليوم التالي. وأوضح أن المعهد منعه من إلقاء المحاضرة بسبب معارضته للفصل العنصري والاحتلال الإسرائيلي، وهو رأيه الذي أفصح عنه بأكثر من بث صوتي ومرئي، وعدد من المقالات المنشورة، رغم أن المعهد لم يقل ذلك صراحة.
وتوثق الفيديوهات المنشورة على الإنترنت مواقف فاروفاكيس تجاه قضية فلسطين وحصار غزة لسنوات سابقة على الحرب الأخيرة. ففي 28 يوليو/تموز 2018 قال في مقطع فيديو نشره على موقعه الخاص في شبكة الإنترنت "إنه لا يمكن لأحد أن يكون حرًا إذا كان هناك شخص ما مقيدا في سلسلة، ناهيك عن شعب بأكمله. ومن مصلحة الجميع، اليهود والعرب والأوروبيين والأميركيين والآسيويين والأفارقة أن ينتهي الآن حصار غزة والإساءة الجماعية لشعبها، والقتل".
بل إن فاروفاكيس ربط بين القضية الفلسطينية وما يجري في أوروبا من تطورات كريهة بالنسبة له، أساسها سيطرة طبقة "الأوليغاركية" الحاكمة المتنفذة على المشهد السياسي والاقتصادي، وهي فكرة مركزية في توجهه السياسي، حيث قال -في تصريحات لموقع "ألترا صوت" عام 2017- إن حربه ضد المؤسسات الرأسمالية في أوروبا أشبه بمقاومة الفلسطينيين لسلطات الاحتلال الإسرائيلي، وأوضح قائلا إن الفلسطينيين "يواجهون كل هذا التغول والعالم ينظر إلى وجهة مغايرة كليًا. وهذا ليس أخلاقيًا ويجب ألا يكون اختيارًا. أن تنظر لما يحصل في فلسطين أمر أساسي، وعدم اختيار الاعتراف بالقضية الفلسطينية مؤشر خطير على أن العالم غير مستقر وفي عمق أزمة خطيرة".
وُلد فاروفاكيس في أثينا سنة 1961، وفي اليونان كانت بداية "تمرّده" بعدما أثّرت به نتائج الانقلاب العسكري الذي شهدته بلاده عام 1967. يقول "أشعروني ماذا يعني ألا أكون حرّاً، وأن أقتنع بأنّ التقدّم لا حدود له". وعام 1978، غادر إلى بريطانيا للدراسة، والتحق بكلية الاقتصاد جامعة إيسيكس بعدما "استنتجتُ أنّ الاقتصاد هو اللغة المشتركة للخطاب السياسي" حسب تعبيره. ولكنّه سرعان ما اعتبره "اختصاصاً كئيباً" فانتقل إلى كلية الرياضيات، ثمّ نال الماجستير في الإحصاء الرياضي من جامعة برمنغهام. ودرّس في جامعات إيسيكس وإيست أنجليا وكامبريدج، لينتقل بين الأعوام 1988 و2000 إلى سيدني (أستراليا). وعام 2000، عاد إلى اليونان حيث بدأ تدريس الاقتصاد السياسي في جامعة أثينا. وقد عمل أستاذا زائرا في كلية ليندون جونسون للدراسات العليا للشؤون العامة بجامعة تكساس في أوستن بالولايات المتحدة، كما عمل مستشاراً لرئيس الوزراء السابق جورج باباندريو، ويصف نفسه في موقعه الإلكتروني بقوله "أستاذ اقتصاد، كتبت بهدوء نصوصاً أكاديمية غير معروفة لسنوات، حتى دخولي المعترك العام بسبب تعامل أوروبي تافه مع أزمة حتمية".
ويشير فاروفاكيس بذلك إلى فترة توليه منصب وزير مالية اليونان بحكومة ألكسس تسيبراس، بعد الانتخابات العامة في يناير/كانون الثاني 2015، حيث أصبح عضوًا بالبرلمان اليوناني، ممثلًا لتحالف "سيريزا" اليساري، لكنه لم يعمر في الوزارة سوى نحو 6 أشهر، فقد استقال في 6 يوليو/تموز، بعد يوم من الاستفتاء على مقترحات التقشف التي قدمها الدائنون للحكومة اليونانية. وعن كيفية وصوله للوزارة، قال في مذكراته التي نشرها تحت عنوان "بالغون في الغرفة" يشير إلى واقعة سينتاغما التي حدثت في 11 يونيو/حزيران 2011 عندما اقتحم 5 آلاف عنصر أمن مدججين بالسلاح الميدان المسمى بهذا الاسم بقلب العاصمة لينهوا بالقوة اعتصاماً عاماً استمر عدة أشهر تحت شعار "احتلوا أثينا" شارك فيه 35% من المواطنين فعليّاً بالنزول إلى الشوارع والميادين العامة منادين بـ"ثورة" على النظام الفاسد من النخب التي حكمت اليونان خلال عقود ماضية عبر تحالف ممنهج بين مافيات التهريب والأوليغاركية التي استنزفت موارد الدولة والمجتمع، فأثرت وأفقرت بذات الوقت البلاد والعباد حسب ما وصفها فاروفاكيس. ويشرح ذلك بقوله "روح سينتاغما تلك "تحولت إلى حراك سياسي أصبح لا يمكن إيقافه".
وبالفعل، فإن تلك الأشهر القليلة أعادت تشكيل توجهات اليونانيين السياسيّة على نحو جذري رفع نسبة الناخبين الذين صوتوا لصالح حزب سيريزا اليساري إلى أغلبيّة 36% في انتخابات 2015 العامة، مقارنة بأقل من 5% في الانتخابات السابقة. وكان الحزب قد طرح برنامجاً طموحاً لإعادة تنظيم اقتصاديات البلاد في وقت كانت الميزانيّة العامة تتدحرج إلى هوة الإفلاس نتيجة لتوقف اليونانيين عن دفع الضرائب وامتناع البنك المركزي الأوروبي والشركاء الأوروبيين الكبار -على رأسهم ألمانيا- عن إقراض اليونان.
وخلال فترة توليه الوزارة، شكل فاروفاكيس إزعاجاً لبعض أعضاء مجموعة اليورو الذين فضلوا عدم مشاركته الاجتماعات التي استهدفت حل أزمة اليونان الاقتصادية، وطوال تلك الفترة لم يتخل أبداً عن دراجته النارية السوداء للتنقل وخاصة للوصول إلى اجتماعات الحكومة، مما أثار سخرية البعض منه. ومع وصول الأزمة إلى طريق مسدود مع الشركاء الأوروبيين، قررت الحكومة إجراء استفتاء على خطة إنقاذ تقشفية أوروبية أبدت رفضها لها في الخامس من يوليو/تموز 2015، و قبيل إجراء الاستفتاء، صرح فاروفاكيس لصحيفة "إلموندو الإسبانية" بأن ترويكا الدائنين (المفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي) تريد دفع المواطنين إلى التصويت بنعم حتى يمكنها "إذلال اليونانيين".
ورأى أن المقرضين يريدون زرع الخوف في الشعب اليوناني. وصرح بأنه سيقدم استقالته إذا صوت اليونانيون بنعم لشروط المقرضين. ومع أن نتيجة الاستفتاء جاءت رافضة لشروط الدائنين بنسبة 61%، أعلن فاروفاكيس استقالته، كاتبًا في مدونته "بعيد إعلان نتيجة الاستفتاء أبلغت بأن بعض أعضاء مجموعة اليورو والشركاء.. يفضلون غيابي عن الاجتماعات، وهي فكرة رأى رئيس الوزراء أنها قد تكون مفيدة من أجل التوصل إلى اتفاق. ولهذا السبب أترك وزارة المالية».
وفاروفاكيس صاحب نظريات سياسية واقتصادية عدة منها ما يتصل بالدولة العميقة التي يصفها بأنها أكبر عدو للديمقراطية. وفي هذا السياق يقول "تتسم الدولة العميقة بالضبابية حيث تسير شؤونها في غرف مظلمة، بحيث لا يمكن لأحد رؤية منْ يتخذ القرارات ويتحدث في إطار النظرية عن أن الدولة العميقة تتجلى بشكل واضح في احتكار السلطة، والقوة لممارسة العنف، بفعالية، وصلاحية توظيف العدالة" ويحدد في النظرية الطبقات الأربع التي تشكل الدولة العميقة هي: صانعة الأسعار التي تمثلها، الشركات الكبرى مثل كوكا كولا وإكسون موبيل وفيسبوك وغوغل ، وصانعة الرغبة ممثلة في شركات العلاقات العامة وخبراء التسويق، وصانعة الأموال التي تسيطر به على السوق، وأخيرا صانعة الإجماع حسب تعبير تشومسكي، وحسب تعبيره".
عام 2019 أخرج المخرج اليساري اليوناني المعروف كوستا غافراس فيلما سينمائيا عن تجربة فاروفاكيس خلال توليه منصب وزارة المالية. وتضمن الفيلم نقدا شديدا لـ"أوروبا الأخرى المستغلة، غير الديمقراطية" حسب رؤية النقاد.
وبمواقفه ونظرياته أصر فاروفاكيس على السباحة ضد التيار السائد سياسيا واقتصاديا في أوروبا والغرب، ودعمه لغزة ليست إلا مسافة ما من هذه السباحة. وهو ما فعله بعد استبعاده عن مؤتمر فلسطين في برلين حيث قال في فيديو نشر ذات اليوم على مواقع التواصل "سؤالي لأصدقائي في ألمانيا الذين أعرضوا على وصف ما يحدث في غزة بالإبادة الجماعية، حتى متى ستسمحون لذنب الهولوكوست أن يكون مبررا شرعيا لتسليح مرتكبي هذه الإبادة ضد الفلسطينيين.. كم نهرا من دماء الفلسطينيين تحتاجونها قبل أن تشعروا بأنكم غسلتم أيديكم من الهولوكوست؟".
إعداد: علي حافظ