العراق: البلد الذي تنهشه مخالب القوى

العراق: البلد الذي تنهشه مخالب القوى

مقدمة

يحاول ملف "العراق.. البلد الذي تنهشه مخالب القوى" رصد التحولات التي جرت على العراق من بعد الغزو الأميركي له عام 2003 وإلى اليوم، وقراءة المسارات المختلفة لهذا البلد الذي نهشت منه البلدان الأخرى، والذي أخذت القوى تصفّي حساباتها عليه، وذلك بتقديم 6 مقالات معمّقة ترسم صورة عامة لمختلف التحدّيات في العراق.

نبدأ من "المستقبل الصعب.. ماذا ينتظر الواقع الأمني في العراق؟" لـ فراس إلياس، لمحاولة تقديم إجابة حول المستقبل الأمني الصعب للعراق، والذي يستدعي بشكل كبير النظر في الاستراتيجية الأميركية، وأداء المؤسسة العسكرية العراقية، والتنافس الاستراتيجي بين إيران وأميركا.

أما المقالة الثانية: "سنة العراق.. كيف تعمّق الانقسام" لـ أحمد مولانا، فقد تتبعت مسيرة أهل السنة في العراق، والتقلّبات التي طالت هذا المكون الديمغرافي، وصولاً إلى الكيفية التي طردوا بها من المشهد السياسي.

وتناولت المقالة الثالثة: "الاقتصاد العراقي.. رحلة التعافي في زمن التحديات" لـ زياد الهاشمي، الضربات التي تعرّض لها الاقتصاد العراقي، وأبرز التحديات التي تعصف به، قبل أن يشرح القطاعات التي يرتكز عليها الاقتصاد العراقي.

ورسمت المقالة الرابعة: "بالسياسة والسلاح.. رحلة أكراد العراق الوعرة" لـ علي بكر، رحلة الأكراد الطويلة والوعرة في العراق، والعلاقة مع مختلف المكونات والكيانات السياسية، في محاولة للإجابة على تساؤل مركزي: ماذا حقق أكراد العراق على المستوى السياسي والاقتصادي؟

أما المقالة الخامسة: "إيران في العراق: كيف تغيّرت ألوان الخريطة" لـ عمار مرعي الحسن، فقد رصدت التغيّرات الديموغرافية على التركيبة الاجتماعية في العراق، والاستراتيجية الإيرانية في عملية التغيير هذه، إذ تحاول تتبع الصدع المذهبي الشيعي - السني في العراق: كيف بدأ؟ كيف تطور واتسع نطاقه؟ وما هي مخاطره وامتداداته المستقبلية؟  هذه المواد الخمس تقودنا للعراق اليوم و"صناعة الدولة الهشّة.." لـ يونس الدباغ، الذي يشرح باستفاضة موقع العراق وسط التجاذب القوى الإقليمية والدولية.

المستقبل الصعب.. ماذا ينتظر الواقع الأمني في العراق؟

سنّة العراق.. كيف تعمّق الانقسام؟

الاقتصاد العراقي.. رحلة التعافي في زمن التحديات

بالسياسة-والسلاح..-رحلة-أكراد-العراق-الوعرة

إيران في العراق.. كيف تغيّرت ألوان الخريطة؟

صناعة الدولة الهشة.. العراق واللاعبون الدوليون

المستقبل الصعب.. ماذا ينتظر الواقع الأمني في العراق؟

ملف العراق
ملف العراق

المستقبل الصعب.. ماذا ينتظر الواقع الأمني في العراق؟

فراس إلياس

قديمًا قال رئيس سلطة الاحتلال المؤقتة في العراق بول بريمر: "إن الإستراتيجية العسكرية الأميركية في العراق، تؤكد تسريع تجنيد القوات الأمنية العراقية..."  السؤال ما هي هذه الإستراتيجية؟ ولماذا؟ والأهم ما المستقبل الذي ينتظر الواقع الأمني في العراق؟

السجال على الوجود

مثّل الوجود العسكري الأميركي في العراق، أحد أبرز السجالات العراقية الأميركية منذ عام 2003 وحتى الوقت الراهن؛ وذلك بسبب طبيعة التعقيد الأمني الذي أنتجه واقع الاحتلال الأميركي، من ظهور "التنظيمات المسلحة المتطرفة"، وفصائل مسلحة موالية لإيران، والأهم الدور الإيراني في العراق، لتشكل هذه التحولات الأمنية متغيرًا مهمًّا في حالة عدم الاستقرار السياسي في البلاد.

مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة تنظر إلى وجودها العسكري في العراق على أنه مصلحة قومية، نظرًا إلى ارتباط هذا الوجود بمعادلات القوة المصلحية في منطقة الشرق الأوسط، ونظرًا إلى أن إيران وحلفاءها هم الذين يسيطرون على المشهد السياسي في البلاد. لذا، فمن المفهوم أن تشهد البلاد تصعيدًا أمنيًّا، يأتي نتيجة رغبتين: رغبة إيران وحلفائها في إنهاء الوجود الأميركي، ورغبة أميركا في تأمين وجودها باتفاقيات عسكرية وترتيبات أمنية.

وعلى الرغم من أن أميركا نجحت في تحقيق طموحها هذا، عبر توقيع اتفاقية أمنية مع العراق عام 2008، فإنها تبحث في الوقت الحاضر عن شراكة إستراتيجية شاملة مع العراق، تنهي من خلالها المطالبات المستمرة من حلفاء إيران، وتحديدًا الفصائل المسلحة، بإنهاء كل أشكال الوجود الأميركي في العراق.

وبنظرة بسيطة إلى طبيعة الواقع الأمني في العراق اليوم، نعرف بما لا يقبل الشك، أن الخلاف حول الوجود العسكري الأميركي في العراق، والملفات والتحديات المرتبطة به، سيكون محور اهتمام الإدارة الأميركية والحكومة العراقية في المرحلة المقبلة، خصوصًا في ظل التحديات الأمنية التي بدأت تفرضها الحرب الحالية على قطاع غزة، ومحاولة الدول الفاعلة في المنطقة إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية وفق المعادلات التي ستفرزها هذه الحرب.

وبما أن العراق تأثر بسياقات هذه الحرب بشكل أو بآخر، فمن المنطقي أن تضغط إيران وحلفاؤها لإعادة تشكيل وضع القوات الأميركية في العراق، بالإطار الذي ينهي أي تهديد تواجهه إيران وحلفاؤها في سياق معادلة النفوذ في الشرق الأوسط.

إن نقاش الواقع الأمني في العراق، مرتبط بشكل وثيق بوضع القوات الأميركية في البلاد. ولعل الحوارات الحالية بين حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، توضح اهتمام الطرفين بوضع نهايات حقيقية للتعقيد الأمني الحاصل في العراق.

ملف العراق

البيئة الأمنية الجديدة في العراق

ضِمن رغبتها في إعادة تشكيل الواقع الأمني في العراق بعد عام 2003، عملت الإدارة الأميركية على إعادة بناء وتشكيل الجيش العراقي وفق الرؤية الأميركية، فضلًا عن سعيها لإعادة بناء جهاز الاستخبارات العراقي، ضمن هيئة عليا سُمِّيت "دائرة جمع المعلومات وتحليلها". وجرى في وقت لاحق، تقسيم هذه الدائرة إلى شعبتين توزعتا على وزارتي الداخلية والدفاع، ومن خلال هاتين الدائرتين انبثقت "دائرة المخابرات الوطنية"، وكذلك إنشاء وحدة موازية لها هي "الهيئة الوطنية لتنسيق المخابرات".

فيما يخص الجيش العراقي الجديد، فقد تركز دوره على الاهتمام باستقرار البلاد وحماية الحكومة المدنية والدستور. لذا، فسيكون من الضروري معالجة الكثير من القضايا المتعلقة بالجيش الجديد، ومنها مهمة العسكريين في العراق بعد الاحتلال، وهيكلة القوات والعلاقة بين المؤسستين المدنية والعسكرية، والعقيدة العسكرية، والتجنيد الإجباري والتطوع، والقيادة العسكرية والمدنية، والسياسة الدفاعية الإقليمية للبلاد.

وقد نوقشت هذه الأمور في إطار "مشروع مستقبل العراق"، وإمكانية أن يؤدي العسكريون بعد تدريبهم دورًا كبيرًا في عمليات حفظ السلام، ومحاربة الإرهاب وتهريب المخدرات.

لاحقًا، وفي عام 2015، تأسست قوات الحرس الوطني العراقي، بهدف حماية القوات الأميركية من عمليات المقاومة المسلحة التي انطلقت بعد احتلال العراق. ولأجل بناء جيش بمعايير أميركية، وضعت سلطة الاحتلال خصائص محدّدة لمن سيتعاون معها في تشكيل القوات المسلحة العراقية الجديدة. ومع ذلك، فلم تأت الرغبة الأميركية في إشراك عناصر عراقية ذات مواصفات خاصة في عملية إعادة بناء الجيش العراقي، حاجةً آنية فرضها الواقع العراقي، بل كانت ضمن توجه ثابت لها.

واستمرارًا لذلك، نشأت ظواهر أخرى تميّزت بها الإستراتيجية الأمنية الأميركية، وهي بروز عناصر شركات الأمن والحماية، أو من يطلق عليهم "المرتزقة الجدد".  إذ جرى تحويل العراق إلى ساحة عمل لآلاف العناصر الأجنبية العاطلة عن العمل، والباحثة عن الكسب الحرام، وهذا ما أكده صاحب كتاب "مقاتلو الشركات: ظهور الجيوش الخاصة"، الباحث في معهد بروكينغز والخبير بشؤون المرتزقة بيتر سنجر بقوله: "في العراق اليوم أكبر جيش مرتزقة في التاريخ"، يصل إلى نحو 20 ألف مرتزق، يتبعون لـ25 شركة أجنبية.

هدفت هذه الإستراتيجية الأميركية على الصعيد الأمني، إلى تعزيز وإقامة وجود عسكري دائم في العراق، وتشكيل أجهزة أمنية عراقية داعمة لأجنداتها، فضلًا عن الاعتماد بشكل رئيس على المرتزقة لتنفيذ مخططاتها، وصولًا إلى الهدف الأكبر، وهو جعل منظومة الأمن الوطني العراقي مرتبطة بتفاعلات الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.

جاءت الاتفاقية الأمنية التي عقدت بين العراق والولايات المتحدة عام 2008، لتضفي بعدًا جديدًا على الوجود العسكري الأميركي في العراق، وذلك بالتحول من الاحتلال غير المشروع إلى قوات دولية فاعلة على الأرض العراقية. وقد أسست هذه الاتفاقية لاتفاقية الإطار الإستراتيجي، التي شملت مختلف جوانب العلاقة الإستراتيجية بين البلدين، وهيّأت الأرضية المناسبة لسحب القوات الأميركية من العراق عام 2011، وهو توجه عملت على تحقيقه الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما.

وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها الإدارة الأميركية في إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية العراقية وفق صيغ أمنية جديدة، فإن الانسحاب الأميركي ترك الباب مفتوحًا لإيران، التي استغلت الفراغ الأمني الناتج عن الانسحاب. وأدى ذلك إلى إعادة أدلجة المؤسسة الأمنية العراقية بالشكل الذي يخدم الإستراتيجية الإيرانية في العراق؛ مما أدخل البلاد في مزيد من الفوضى.

أنتجت هذه الفوضى الأمنية على مستوى هيكلية المؤسسة العسكرية العراقية، الكثير من التخبط في عمليات تزويد القوات المسلحة العراقية بالأسلحة والمعدات المتطورة، وذلك نتيجة حالة الفساد التي شابت عقود التسليح، فضلًا عن ظاهرة "الجنود الفضائيون"، التي أصبحت آفة ضربت عمق المؤسسة العسكرية.

هذا إلى جانب ظاهرة "الضباط الدمج"، وهي سياسة اعتمدتها الأطراف السياسية المقربة من إيران، من خلال الدفع بالعديد من الأشخاص إلى داخل هيكل وزارتي الداخلية والدفاع، لإيجاد حالة توازن داخل المؤسسات الأمنية، وهو ما جعل الولايات المتحدة تفقد الكثير من عناصر القوى داخل هذه الأجهزة.

انعكست هذه الممارسات الأمنية، سواء الأميركية أو الإيرانية، بصورة سلبية على الأمن الوطني العراقي. وكانت أبرز هذه السلبيات، بروز "تنظيم الدولة الإسلامية"، الذي كشف بعد سيطرته على مساحات شاسعة من العراق؛ الكثير من العيوب في القوات الأمنية العراقية.

ملف العراق

ورغم عودة الولايات المتحدة إلى العراق مرة أخرى عام 2016، عبر بوابة "التحالف الدولي" ضد تنظيم الدولة الإسلامية، من خلال تبنيها إستراتيجية إعادة تأهيل المؤسسة العسكرية العراقية على مستوى القيادة والسيطرة، والدعم الاستخباري واللوجستي، والاستشارة والتدريب، فإن جهودها ظلت محدودة، في ظل كيان موازٍ بدأ يفرض نفسه بقوة في معادلة الأمن الوطني العراقي، ألا وهو "الحشد الشعبي".

بعد انتهاء الحرب على تنظيم الدولة، أصبح الحشد الشعبي يمتلك العديد من القدرات الأمنية والعسكرية، بينها ترسانة عسكرية كبيرة، وجهاز أمن استخباري، ومنطقة عمليات، ومنظومات قيادة وسيطرة، وفي الوقت نفسه صادر الكثير من الأدوار الأمنية من المؤسسة الرسمية العراقية.

وعلى الرغم من التماهي الكبير داخل مؤسسة الحشد الشعبي، بين جناحين؛ أحدهما إيراني والآخر عراقي، فإن التيار المقرب من إيران، وهو "فصائل المقاومة الإسلامية" أو "فصائل محور المقاومة" أو "الفصائل الولائية"، بدأ يفرض سطوته الأمنية على هيكل الحشد الشعبي، وهو ما جعل منظومة الأمن الوطني العراقي تعاني من تعقيدات فنية عديدة، أهمها عقود السلاح والتجهيز وغيرها. وقد ارتبط ذلك بخشية أميركية من وقوع الأسلحة التي تتعاقد عليها وزارة الدفاع العراقية، في أيدي الفصائل المتنفذة داخل الحشد الشعبي.

كذلك، فإن الدعم الأميركي لجهاز مكافحة الإرهاب، وهو من أكثر الأجهزة الأمنية العراقية المدعومة أميركيًّا، لم يعن عدم معاناته من دوامة الصراع الأميركي الإيراني. فقد ساهمت ظروف الحرب على تنظيم الدولة، في استنزاف هذا الجهاز وقدراته العسكرية، كما شهدت فترة ما بعد الحرب على التنظيم، إبعاد العديد من القادة العسكريين في هذا الجهاز إلى وزارة الدفاع العراقية، وقد تبين فيما بعد أن جهودًا إيرانية كبيرة بُذلت في هذا المجال.

في المحصّلة، فإن الواقع المعقد الذي يعيشه الأمن الوطني العراقي اليوم، يجعله أمام تحديات أمنية كبيرة؛ تحدّي عودة الهجمات المسلحة لتنظيم الدولة على أطراف المدن، وتحدي دور الفصائل الولائية التي أصبحت قوة كبيرة داخل العراق، وتحدي الصراع الأميركي الإيراني الذي انعكس بصورة مباشرة على الأمن العراقي.

أميركا وقضاياها الأمنية

أنتجت الإستراتيجية الأمنية الأميركية في العراق بعد عام 2003، حالة من التشابك الإستراتيجي بين الأمنين العراقي والأميركي. لكن هذا لم يمنع من أن تكون هناك خلافات جوهرية حول بعض القضايا الإستراتيجية، وأهمها تلك التي برزت بعد الانسحاب الأميركي من العراق عام 2011. وبصورة عامة، تتمحور الإستراتيجية الأميركية في العراق، حول التعاطي مع العديد من القضايا الأمنية، المرتبطة بصورة مباشرة بمنظومة الأمن الوطني العراقي.

تبرز أولى هذه القضايا الأمنية في التعاطي الإستراتيجي الأميركي مع متغير التنظيمات السنية المسلحة، التي قاومت القوات الأميركية، وصولًا إلى بروز تنظيم الدولة. وعلى الرغم من تحجيم هذا التنظيم عسكريًّا، واستعادة السيطرة على أغلب المناطق التي كان يسيطر عليها في شمال وغرب العراق، الذي أدت فيه الولايات المتحدة دورًا فاعلًا عبر التحالف الدولي، وبالتنسيق مع القوات الأمنية العراقية، فإن الهجمات المتكررة التي يقوم بها التنظيم في الوقت الحالي، تشي بأن هناك المزيد مما ستفعله الولايات المتحدة في العراق.

وتتمثل القضية الثانية بالفاعل الإيراني، وهو متغير وجدت الولايات المتحدة نفسها مجبرةً على التعاطي معه في العراق. إذ أبدت إيران حرصًا في المرحلة الأولى من الاحتلال الأميركي، على عدم الخروج المباشر والواضح والحاد على الإستراتيجية والأهداف الأميركية. بيد أنها لعبت فيما بعد لعبة السيطرة، عبر الفصائل الولائية المرتبطة بها، التي كانت قد دربتها ومولتها قبل احتلال العراق بزمن طويل، واستفادت من أعمال الفوضى التي صنعها الاحتلال الأميركي.

وبمراجعة طبيعة العلاقات بين الطرفين، نجد أنهما تمكنا خلال المنعطفات الحادة منذ بداية الاحتلال وحتى وقت قريب، من الوصول دومًا إلى تفاهمات، سواء عبر وكلائهما في العملية السياسية أو عبر التواصل المباشر وتقاطعات المصالح. وهذا التوافق الأيديولوجي والإستراتيجي، ساهم في استمرار تلك اللعبة، وصناعة نفوذ مزدوج داخل العراق.

لقد أصبح العراق محورًا رئيسًا في المنافسة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة وإيران، وهي منافسة تشكّلت خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، وحرب الخليج الثانية (1991)، والغزو الأميركي للعراق (2003). ومنذ عام 2003، تنافست الولايات المتحدة وإيران على تشكيل هيكلية العراق لمرحلة "ما بعد صدام حسين" من ناحية السياسة والحكم والاقتصاد والأمن.

وبذلت الولايات المتحدة جهودًا كبيرة لمواجهة النفوذ الإيراني في العراق، بما في ذلك استخدام مكانتها بوصفها قوة محتلة ومصدرًا رئيسًا للمساعدات في العراق، وكذلك عبر العمليات المعلوماتية، إضافة إلى تسليط الضوء -من خلال التصريحات الصحفية التقليدية- على التدخل الإيراني.

مع ذلك، فإن احتواء النفوذ الإيراني على أهميته بالنسبة لأميركا، لم يكن الهدف الرئيس لها في العراق، وإنما كان إيجاد حكومة مستقرة، والدفاع عن نفسها ضد التهديدات الخارجية، وإبراز الصداقة القوية المستقرة للولايات المتحدة وحلفائها في الخليج.

وتتمثل التأثيرات الإيرانية الأخرى في الإستراتيجية الأميركية في العراق، عبر نجاحها في تمرير الكثير من القرارات أو المشاريع عن طريق حلفائها هناك، إذ إنها ضغطت على حكومة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي (2006-2014)، لإفراغ الاتفاقية الأمنية التي عقدت مع الولايات المتحدة، من أي مادة تتيح استخدام القوات الأميركية الموجودة في العراق ضد أهداف أو مصالح إيرانية.

كما أنها ضغطت على حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي (2014-2018)، للموافقة على إدخال عشرات المستشارين والجنود الإيرانيين إلى العراق، خلال الحرب على تنظيم الدولة. وأخيرًا ضغطت على حكومة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي (2019-2020)، لتوقيع اتفاقية مع الصين، وتمرير قرار نيابي يطالب الولايات المتحدة بإخراج قواتها من العراق، عقب عملية اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في محيط مطار بغداد الدولي مطلع عام 2020.

وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن إيران نجحت في إفشال حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي (2020-2023)، كما حققت حتى الآن، خلال حكومة السوداني، نجاحًا في الضغط لإخراج الولايات المتحدة من العراق، عبر الدور الذي يقوم به حلفاؤها في العراق.

أما القضية الثالثة، فتتضح في الصعود الكبير للحشد الشعبي منذ عام 2014. وعلى الرغم من التغييرات الهيكلية والتنظيمية التي يمر بها الحشد الشعبي اليوم، إلى درجة أنه بدأ يتميّز شيئًا فشيئًا عن إيران، خاصة الفصائل التابعة لمرجعيات دينية شيعية عراقية، فإننا نجد في المقابل أن تيارًا آخر من الحشد -وهو الفصائل الولائية- قد بدأ يرتبط تنظيميًّا وإداريًّا بفيلق القدس، وهو ما جعل من هذه الفصائل اليد الطولى لإيران، لاستنزاف الولايات المتحدة

الحشد الشعبي.. الخطورة العابرة للحدود
تأسس الوفد الشعبي بعد فتوى علي السيستاني بالجهاد ضد تنظيم الدولة (الجزيرة-أرشيف)

في العراق منذ عام 2018، وبدأت تثبت وجودها الإستراتيجي والعسكري في العديد من المناطق التي توجد فيها القوات الأميركية، وتحديدًا في المدن المحررة من سيطرة تنظيم الدولة.

برزت الفصائل الولائية المنضوية ضمن هيكلية الحشد الشعبي عسكريًّا عام 2014، بعد الفتوى الشهيرة التي أصدرها المرجع الشيعي السيد علي السيستاني. فعلى إثر تلك الفتوى وجدت العديد من الفصائل التي كانت ملاحقة قانونيًّا، الفرصة المناسبة لتشريع وجودها العسكري، عبر الدخول تحت مظلة الحشد الشعبي، بدعم وتأثير من قاسم سليماني.

وفي عام 2016، نُظّم الحشد الشعبي مؤسسيًّا، عبر قانون أصدره مجلس النواب العراقي تحت عنوان "هيئة الحشد الشعبي"، وأصبحت هذه الفصائل تمتلك قوة عسكرية موازية للجيش العراقي، وتنتشر في العديد من مناطق شمال وغرب العراق.

ويبلغ عدد هذه الفصائل الولائية التي تتلقّى الدعم المالي والعسكري من إيران، 64 فصيلًا مسلحًا، أبرزها "كتائب حزب الله العراقي" و"كتائب سيد الشهداء" و"عصائب أهل الحق" و"حركة النجباء"، وهي تهاجم القوات الأميركية في العراق بصورة مستمرة، وأدت دورًا بارزًا في الهجوم على السفارة الأميركية في بغداد في ديسمبر/كانون الأول 2019، ويمتد نشاطها العسكري إلى سوريا واليمن ولبنان والبحرين، عبر إرسال المستشارين العسكريين وتقنيات تصنيع الصواريخ.

تشكل الفصائل الولائية أحد أبرز التحديات الأمنية التي تواجهها القوات الأميركية في العراق؛ ولهذا سعت الولايات المتحدة خلال الفترة الماضية إلى الضغط على حكومات العبادي وعبد المهدي والكاظمي، ومؤخرًا السوداني، لإيجاد طريقة تضبط حركة هذه الفصائل، عن طريق دمجها بالقوات الأمنية العراقية أو حلها أو تنظيم وضعها بصورة مشددة قانونيًّا، وهي ضغوط يتوقع أن تحظى بمناقشات موسعة بين بغداد وواشنطن في المستقبل القريب.

المؤسسة العسكرية العراقية

إن نهاية الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، لم تعنِ انتهاء التهديدات التي يمكن أن يمثلها التنظيم، خصوصًا أنه أعاد تنشيط هجماته المسلحة في الآونة الأخيرة، فضلًا عن أن طول مدة الحرب على التنظيم، جعلت قدرة العراق العسكرية على التعامل مع أي عودة للتنظيمات الإرهابية أو الحرب الطائفية أو الصراع الداخلي أو التهديدات الخارجية، محدودة للغاية.

والإشكالية الأخرى التي تطرح هنا، هي أن أيّ جهود لإعادة بناء القدرات العسكرية العراقية يجب أن تتوافق مع الإشكاليات الأمنية بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، وقبل ذلك مع الانقسامات الأيديولوجية العميقة داخل هيكلية فصائل الحشد الشعبي، فبعضها مرتبط بإيران ويعتبر نفسه جزءًا من محور المقاومة ومصدر الهجمات المتكررة على القوات الأميركية المتمركزة في العراق، والآخر مرتبط بوزارة الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة العراقية وجزء من منظومة الأمن الداخلي.

وفي ظل هذه التحديات والإشكاليات الهيكلية والجوهرية، يمكن القول بأن العراق لا يستطيع إيجاد حلول سريعة لجميع هذه المشاكل، إذ يحتاج إلى شكل من أشكال الاتفاق على خطة عمل للتعامل معها بمرور الوقت، وإستراتيجية لإنشاء قوات عسكرية كبيرة وقوية، بما يكفي لتأمين حدوده.

تعرضت الولايات المتحدة للكثير من المطبات خلال الفترة الماضية، نتيجة للهجمات المتكررة من الفصائل الولائية. ولكي تكون القوات الأمنية العراقية قادرة على القيام بمهامها الأمنية، لا بد لها من إعادة تدريب وتأهيل.

وتقول الرواية العسكرية الأميركية إنه إذا كان العراق على استعداد لتقديم التسهيلات والدعم المطلوب في هذا الإطار، وكانت الولايات المتحدة مستعدة لتقديم التزام إستراتيجي دائم للعراق، فإن هذين المدخلين من الممكن أن يساهما في تفعيل مصالح البلدين عبر الحوار الإستراتيجي في يونيو/حزيران المقبل، وهو الموعد الذي تم الاتفاق عليه على هامش زيارة السوداني الأخيرة لواشنطن.

ونظرًا إلى طبيعة التحديات التي مرت بها المؤسسة العسكرية العراقية في مرحلة ما بعد عام 2003، سواء على مستوى الهيكلية أو العمليات أو الظروف، فإنها جعلت قوات الأمن العراقية متخلفة ولا تشكل قوة فعالة لـ"ضبط الأمن أو حتى ما يشبه الردع والدفاع الفعال ضد قوى إقليمية أخرى، كإيران على سبيل المثال.

هذا إلى جانب تقادم العديد من الدروع والمدفعية وغيرها من الأسلحة البرية، التي لم تتم صيانتها بشكل كاف لقتال حربي حقيقي، وهي أنظمة عسكرية قديمة تعود إلى الحقبة السوفيتية، ويحتاج الكثير منها إلى إعادة بناء وتحديث واستبدال، وليس من الواضح ما إذا كانت هناك دولة أخرى غير روسيا، يمكنها توفير الخدمات والمعدات اللازمة لإعادة تأهيلها وتحديثها.

كما يحتاج العراق إلى المساعدة في عمليات إعادة تشغيل وصيانة العديد من القواعد العسكرية، التي يمكن أن تلبي الاحتياجات الأمنية الوطنية الكاملة.

إضافة إلى ما تقدم، فإن القوات الجوية العراقية لا يزال حجمها صغيرًا وأثرها محدودًا جدًّا. وعلى الرغم من أن لديها طائرات أميركية من نوع "إف 16" (F-16)، فإنها بدأت للتوّ في تطوير قدرات قتالية جوية حديثة.

كما لا يمتلك العراق أسلحة دفاع جوي، ولا منظومات صواريخ متطورة، ولا نظام إنذار ومراقبة جوي، ولا قدرات أرضية للدفاع الجوي، وهي قدرات عسكرية مهمة للتعامل مع تهديدات عسكرية مستقبلية مفترضة من قبل دول الجوار، مثل إيران وتركيا وسوريا.

كما تحتاج المؤسسة العسكرية العراقية إلى تحقيق المزيد من التكامل الوظيفي على مستوى العمل العسكري، فعلى الأرض هناك ثلاث قوات عسكرية رئيسة، هي: الجيش العراقي، والحشد الشعبي، والبيشمركة الكردية. وهي قوات حتى اللحظة، لم تظهر ذلك التكامل الوظيفي في العمل الأمني الرسمي، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بصراعات مسلحة في قضايا داخلية محددة، أو موقف متوتر مع دولة جارة.

وعلى الرغم من ارتباط هذه القوات نظريًّا بوزارة الدفاع العراقية والقيادة العامة للقوات المسلحة، فإنها من الناحية العملية تواجه تعقيدات كبيرة، وهو ما يمكن أن يجعلها مصدر توتر وعنف داخلي خطير قد يفضي أحيانًا إلى حرب أهلية، وطريقة تعاطي هذه الأطراف مع الأحداث التي جرت في مدينة كركوك في أكتوبر/تشرين الأول 2017، والمناطق المتنازع عليها في مراحل لاحقة، خير دليل على ذلك.

ستتعقد عملية تطوير القدرات العسكرية العراقية، إذا قررت الولايات المتحدة الانسحاب في أي وقت من الأوقات، دون أن يكون هناك التزام إستراتيجي يربط علاقاتها بالعراق. فمثلًا أدت عملية الانسحاب الأميركي من العراق عام 2011، إلى تصدعات كبيرة عانى منها الجيش العراقي في مواجهة هجمات تنظيم الدولة عام 2014، وعندما قررت الولايات المتحدة العودة إلى العراق عام 2016، ساهمت في مساعدة العراق على دحر التنظيم، وحققت إنجازات أخرى على الأرض.

وبما أن الحرب على تنظيم الدولة كانت تقنية بامتياز، فإن حاجة العراق إلى دعم قدراته العسكرية في هذا المجال، تبقى ضرورة ملحة في أية ترتيبات مقبلة مع الولايات المتحدة.

المستقبل الصعب

لا بد من القول مقدمًا، إن هناك العديد من التحديات التي تقف في وجه العلاقات الأمنية بين العراق والولايات المتحدة، بعضها نابع من البيئتين الداخليتين للدولتين، وبعضها إقليمي ودولي. لذلك، فإن أي حوار إستراتيجي قريب المدى، ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار التحديات التي يمكن أن تفرضها إيران وحلفاؤها، إلى جانب قوى دولية أخرى كروسيا والصين، إذ إن لكل من هذه القوى الإقليمية والدولية دوافع إلى عرقلة أي جهود تهدف إلى تقويض مصالحها وأهدافها، سواءً في العراق أو في دول الشرق الأوسط الأخرى، فأي اتفاق أو ترتيب أمني سيتمخض عن هذه اللجنة، لن تقتصر تداعياته على العراق فحسب، بل سيشمل أيضًا البيئتين الإقليمية والدولية.

إضافة إلى ما تقدم، ستكون الولايات المتحدة خاضعة لضغوط أخرى إضافية، على اعتبار أنها اليوم تعاني من تداعيات الحرب في أوكرانيا وغزة، إلى جانب الضغوط الأخرى الكامنة في المهددات التي بدأت تعصف بوحدة الاتحاد الأوروبي، والتفاهمات الأمنية عبر الأطلسي، وتصاعد بوادر المواجهة الساخنة مع الصين.

وإذا نجحت الحكومة العراقية في الحصول على التزامات اقتصادية وعسكرية، وحتى سياسية، من قبل الولايات المتحدة، فإن ذلك لن يشكل مخرجًا لحل الأزمة العراقية المعقدة، إذا لم تتوفر إرادة عراقية حقيقية عبر إجراءات حكومية واضحة، لمعالجة المسببات والمشاكل التي عانى منها العراق طوال الفترة الماضية.

فحتى لو تمخضت التفاهمات الأمنية مع الولايات المتحدة عن وضع يؤسس لعلاقات إستراتيجية متوازنة، فإن العراق سيظل مطالبًا بتحمل المسؤولية الأساسية عن إصلاح عمليته السياسية واقتصاده المتأزم وقواته الأمنية المحدودة.

ولا يكفي العراق الاتفاق على حكومة تحظى بإجماع غالبية الكتل السياسية، كما حصل مع حكومة السوداني عبر تحالف "إدارة الدولة"، بل يجب عليه أيضًا أن يدرك أن المساعدات الخارجية (الأميركية والدولية) ستكون محدودة في المرحلة المقبلة، على اعتبار أن أغلب دول العالم ستذهب باتجاه ترميم ما دمرته الحرب في أوكرانيا وغزة، وهو ما سيزيد من عدد كوابح النجاح التي يمكن أن تقف في وجه التفاهمات العراقية الأميركية.

لا ينفي هذا الواقع حقيقة أن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية إنسانية وأخلاقية حيال العراق، فهي المتسبب الرئيس في حالة الإخفاق الأمني والفشل الإداري والاقتصادي، والأزمة الصحية والمجتمعية، في العراق.

وهذا على اعتبار أن مرحلة ما بعد 2003، وإسقاط النظام السياسي في العراق، لم تسفر عن جهود أميركية حقيقية في بناء عراق مزدهر ومستقر، إذ أنتجت سياساتها المرتبكة في العراق، حالة من الانقسام الطائفي والقومي، ومنحت فرصة كبيرة لدول الجوار العراقي لأن تتنافس على الساحة العراقية. كما جعلت من البيئة العراقية حاضنة للعديد من الجماعات والفصائل المسلحة؛ مما أنتج بدوره حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني في العراق.

US-led coalition transfers military airbase to Iraq- - MOSUL, IRAQ - MARCH 26: Soldiers are seen as the U.S.-led coalition against the Daesh/ISIS terror group on Thursday formally handed over to Iraq the Qayyarah airbase in southern Mosul, Iraq on March 26, 2020.
تتحمل الولايات المتحدة حالة الإخفاق الأمني والفشل الإداري والاقتصادي في العراق (الأناضول)

خلاصة إستراتيجية

إن النظرة الإستراتيجية المتعددة المسارات، توحي بأن مسارات العلاقة الأمنية بين العراق والولايات المتحدة لن تخلو من التعقيدات والموانع الإستراتيجية، فتحوُّل العراق من دولة فاعلة في التوازن الإقليمي قبل عام 2003، إلى دولة تتشكل عليها التوازنات الإقليمية والدولية بعد هذا التاريخ، جعل أيّ متغير يحدث في الساحة العراقية، يجد له تداعيات في البيئات الأخرى.

وعلى هذا الأساس، فإن مرحلة حوارات اللجنة العسكرية العليا بين العراق والولايات المتحدة، ستكون حاسمة في تقرير المستقبل الذي ينتظر العلاقات العراقية الأميركية، فالمقاربات السياسية والإستراتيجية المعقدة التي تنتظر مخرجات هذه اللجنة، ستكون واضحة في التحكم في مسارات العلاقة بين البلدين

تدرك الولايات المتحدة حجم التحديات التي تعاني منها الحكومة العراقية الجديدة، خصوصًا في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، لذا ينبغي أن تكون لديها قدرة عالية على فهم الضرورات العراقية، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بملفات حساسة، أهمها الدور الإيراني في العراق، والتفاهم على صيغة معينة للوجود الأميركي في العراق، وتأثر العراق بتداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة. ومن ثَمّ فلا بد أن تكون هناك تفاهمات تستند بالأساس إلى القدرة والإمكانية العراقية في الوفاء بها، فضلًا عن ضرورة أن تكون هناك رؤية واضحة لطبيعة المشاكل والحلول.

البداية
المقدمة

سنّة العراق.. كيف تعمّق الانقسام؟

سنة العراق
سنة العراق

سنّة العراق.. كيف تعمّق الانقسام؟

أحمد مولانا

بعد تولي إدارة بوش الابن للحكم عام 2000، وسيطرة المحافظين الجدد على سياستها الخارجية، وجّه وزير الدفاع الأميركي رامسفيلد في 27 يوليو/تموز 2001 مذكرة إلى مستشارة الأمن القومي كوندليزا رايس، يشير فيها إلى أن الإطاحة بنظام صدام حسين ستحسن من وضع الولايات المتحدة في المنطقة.

وبحسب ريتشارد كلارك، منسق الإدارة الأميركية لمكافحة الإرهاب في كتابه "ضد كل الأعداء"، فقد دارت مناقشات في واشنطن حول عدة مبررات لغزو العراق، من أبرزها: تحسين موقف إسرائيل الإستراتيجي من خلال القضاء على جيش كبير معاد لها، وإيجاد مصدر آخر للنفط صديق للسوق الأميركي، وتقليل الاعتماد على النفط السعودي.

وعقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، روجت إدارة بوش لأكذوبة حيازة العراق أسلحة دمار شامل، ووجود علاقة بين نظام صدام حسين وتنظيم القاعدة، فغزت العراق مروجة رؤية مفادها أن "الغالبية الشيعية في العراق تتطلع إلى نهاية سيطرة السنة على الحكم"، وفق نص إفادة جورج تينيت مدير وكالة المخابرات المركزية أمام لجنة الاستخبارات التابعة لمجلس الشيوخ.

لهذا، لم يشهد العراق استقرارا طوال القرن الأخير، بل مرّ بتقلبات عدّة طالت مكوناته الديموغرافية، وفي القلب منهم العرب السنة.

"اختراع العراق"

يعود العراق في صورته الحديثة إلى إعلان لندن عام 1921، بعد أن خاضت القوات البريطانية في الحرب العالمية الأولى قتالا ضاريا ضد العثمانيين على أراضي العراق، انتهى بتغلغلها وضم ثلاث ولايات عثمانية عام 1918 هي الموصل وبغداد والبصرة، وجعلِها مقاطعة تابعة للهند البريطانية.

بحسب توبي دودج في كتابه "اختراع العراق"، فإنّ البلد الوليد قد اقتصر -وفق اتفاق سايكس بيكو- على ولايتي بغداد والبصرة، لكن الدبلوماسية البريطانية جيرترود بيل أصرت على ضم الموصل إليه بهدف تحقيق توازن طائفي يتيح منح حكم العراق لسياسيين من السنّة العرب، لتجنب أن يصبح دولة دينية بقيادة المراجع الشيعية في النجف. وذلك رغم أن ولاية الموصل، كانت أكثر ارتباطا بحلب في شمال سوريا وجنوب غرب تركيا من ارتباطها ببغداد، التي ظلت لقرون حاضرة الخلافة العباسية، ثم بؤرة تنافس صفوي عثماني، أما البصرة فارتبطت تجاريا بالخليج والهند.

سنة العراق

وقد حكم البريطانيون العراق حتى عام 1932 عبر انتداب من عصبة الأمم، وشبكة من المستشارين في المؤسسات الحكومية، وسعوا لتأمين خطوط مواصلاتهم مع الهند، وتأمين إمدادات البحرية البريطانية من نفط فارس وجنوب العراق. وأسسوا أثناء الانتداب حكما ملكيا، اعتمد على العديد من الضباط السنة، ممن حاربوا العثمانيين في الثورة العربية في الحجاز، وقاتلوا رفقة فيصل بن الحسين، مثل نوري السعيد وجعفر العسكري وياسين الهاشمي، فضلا عن النخب السياسية التقليدية التي غلب عليها وصف الإقطاعيين واتسمت بنيل حظ وافر من التعليم في العهد العثماني.

استمر الحكم الملكي الهاشمي بين عامي 1921 و1958، ثم سقط بانقلاب عبد الكريم قاسم، لتدخل البلاد في دورة من الانقلابات المتكررة انتهت بسيطرة حزب البعث على السلطة.

وتخللت حقبة حكم البعث حرب دامية مع إيران (1980-1988)، وغزو الكويت وما تلاه من حرب التحالف الدولي عام 1991، ثم حقبة الحصار التي انتهت بغزو أميركي ضمن تحالف من عدة دول اجتاح بغداد عام 2003، وأطاح بحكم صدام حسين، ليعيد تشكيل كافة مؤسسات الدولة وفق نظام محاصّة طائفية اعتمد بدرجة كبيرة على معارضة المنفى التي عادت رفقة الدبابات الأميركية.

انعكست تلك التطورات على بنية المجتمع العراقي وهويته، فبعد أن كان السنّة والشيعة يتزوج بعضهم بعضًا، أدى توزيع السلطة في حقبة ما بعد الاحتلال الأميركي عبر خطوط عرقية طائفية إلى تعميق الانقسام المجتمعي، وأدى إلى حدوث موجات من الاقتتال السني الشيعي، تخللها ظهور تنظيم الدولة الإسلامية وسيطرته على مساحة شاسعة من البلاد عام 2014؛ مما أدى إلى حرب دامية أخذت بعدا طائفيا لطرده من مناطق نفوذه.

حقبة حزب البعث

اتسم حكم حزب البعث بالدكتاتورية، لكنه اعتبر الولاء معيارا لمنح المناصب والامتيازات دون النظر إلى الهوية الطائفية. ولذا وُجدت ضمن قيادات الحزب والوزراء كوادر شيعية، وعندما احتلت القوات الأميركية العراق ونشرت قائمة مطلوبين تضم 55 من قيادات نظام صدام حسين، كان من بينهم أكثر من ثلاثين شيعيا.

ولكن في ظل قلق صدام حسين من ظاهرة الانقلابات، عمل على بناء شبكة من الأجهزة الأمنية والوحدات العسكرية لضمان أمن النظام، مثل: الحرس الجمهوري والأمن الخاص، واعتمد في قيادتها على ضباط من مدينته تكريت، ومن عشيرته البيكات.

لاحقًا، اندلعت الحرب مع إيران، وقد واكبها قتال عناصر "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق" في صفوف القوات الإيرانية، وتجنيدهم للأسرى العراقيين الشيعة للقتال في صفوفهم تحت اسم "التوابين"، ليزيد ذلك مخاوف النظام من توظيف طهران للعامل الشيعي في إحداث قلاقل داخل العراق.

وعلى إثر الانتفاضة التي شهدها جنوب العراق عام 1991 خلال انسحاب الجيش العراقي من الكويت، تزايدت هذه الهواجس لدى صدام. ورغم أن محمد حمزة الزبيدي، القائد العسكري لمنطقة الفرات الأوسط الذي قمع الاحتجاجات، كان شيعيا، فإن القمع صُوّر على أنّه ضد انتفاضة شيعية من قبل نظام يقوده رئيس سني.

وقد تزامنت انتفاضة الجنوب مع انتفاضة الأكراد في شمال العراق، مما رسخ تصوير الغرب للنظام العراقي على أنه نظام يعتمد على قاعدة سنية عربية في مواجهة الشيعة والأكراد، رغم أن قمع النظام طال السنة العرب المعارضين له، مثلما طال غيرهم من معارضيه.

بريمر وتفكيك الدولة العراقية

بدأت الولايات المتحدة حربها على العراق في مارس/آذار 2003، ودخلت قواتها بغداد في الشهر التالي، ولم يلبث الرئيس بوش أن عين في مايو/أيار بول بريمر رئيسا لسلطة الائتلاف المؤقت، وخوّله مسؤولية الأعمال التنفيذية والتشريعية والقضائية في العراق، والإشراف على 170 ألف جندي من قوات التحالف منتشرين في بلاد الرافدين.

جاء بريمر إلى بغداد بتصوّر مفاده أن العراق يتكون من ثلاث مكونات بشرية رئيسة تشمل: الشيعة بنسبة 60%، والأكراد بنسبة 20%، والعرب السنة بنسبة 19%، وفقا لما أورده في مذكراته "عامٌ قضيته في العراق"، فقد اعتبر أنه إذا كسب الشيعة والأكراد إلى صفه فسيضمن النجاح.

بول بريمر - الحاكم المدني الامريكي السابق في العراق (رويترز)

أصدر بريمر عدة قرارات سعت إلى تفكيك مؤسسات الدولة العراقية، بهدف إعادة بنائها وفق نمط الإحلال، بحيث يشغل أنصار واشنطن المناصب الرئيسة في المؤسسات الجديدة، ومن أبرز هذه القرارات: اجتثاث البعث، وحل الجيش العراقي، وتعيين مجلس حكم مؤقت وفق محاصّة طائفية وعرقية تمهيدا لتشكيل لجنة تحضيرية للدستور، ومجلس وزراء مؤقت، ثم اعتماد دستور جديد، وكانت تفاصيل ذلك على النحو التالي:

1-   اجتثاث البعث:

أصدر بريمر في 15 مايو/أيار 2003 قراره الأول بحل حزب البعث، ومنع أعضائه في المستويات الأربعة التنظيمية القيادية من تولي مناصب حكومية، وهو ما أطاح عمليا بكبار الموظفين من كافة مؤسسات الدولة. وتولت لجنة اجتثاث البعث بقيادة أحمد الجلبي، المعارض الشيعي، فحص شاغلي المناصب في المستويات الإدارية العليا الثلاثة في أي وزارة أو مؤسسة حكومية بما فيها الجامعات والمستشفيات. وقد اتُّهمت اللجنة بغض الطرف عن الموظفين الشيعة، وإقصاء الموظفين السنة، ليصبح مصطلح اجتثاث البعث مرادفا لإقصاء السنة وفق طارق الهاشمي نائب رئيس العراق سابقا.

2-    حل الجيش وأجهزة الأمن:

على الرغم من أن الجيش يمثل مؤسسة لصهر المكونات الوطنية، فإن بريمر أورد في مذكراته أن القادة الشيعة والأكراد المعارضين لصدام اعترضوا على بقاء الجيش العراقي، فاتفق معهم على حل الجيش تمهيدا لإعادة بنائه عبر دمج عناصر مليشيات المعارضة في الجيش الجديد، بهدف التخلص من "هيمنة السنة" حسب تعبيره، وبنائه بشكل يعكس التركيبة الدينية والعِرقية للبلاد، أي بما يكفل هيمنة الشيعة والأكراد على الجيش الجديد، وكذلك على الأجهزة الأمنية.

وبجرة قلم من بريمر، صدر قرار بحل الجيش العراقي في 23 مايو/أيار 2003، وأصبح نحو 350 ألف ضابط وجندي دون راتب أو معاش، وفقد العرب السنة المؤسسة التي اعتبروها بمثابة الحامي للبلاد منذ عقود، وتعرض العديد من الضباط السنة، وخاصة الطيارين خلال حقبة الحرب العراقية الإيرانية، لعمليات انتقام واغتيال على يد "فيلق بدر" الذي قاتل أثناء الحرب إلى جانب إيران.

3-   تشكيل مجلس الحكم المؤقت:

مع تصاعد المقاومة ضد الوجود الأميركي، وبالأخص في المناطق السنية، شكل بريمر في يوليو/تموز 2003 مجلس الحكم الانتقالي وفق نظام محاصّة طائفية وعرقية، ليعمل كذراع لسلطة الائتلاف المؤقتة، وليشرف على إعادة بناء مؤسسات الدولة، بما فيها الجيش والشرطة، وبناء دستور مؤقت يتضمن الجدول الزمني للمرحلة الانتقالية، ضمن رؤية تعتبر أن العرب السنّة يشكلون معضلة ويجب تهميشهم عن مقاعد القيادة.

شكّل بريمر المجلس من 25 شخصا دون استفتاء أو نقاش مجتمعي، واعتمد على تكتلات المعارضة المنفية بالخارج في عهد صدام ممن ليست لهم شعبية داخل البلاد، بواقع 13 عضوا شيعيا، و6 أكراد، و4 من السنة العرب، وعضو أشوري، وآخر تركماني. ولم يكن للسنة يد في اختيار ممثليهم بالمجلس.وسرعان ما شكل مجلس الحكم حكومة مؤقتة في 1 سبتمبر 2003، وحصل فيها العرب السنة على 5 وزارات تشمل العدل والمالية والتعليم العالي وحقوق الإنسان والكهرباء. وعززت تلك الخطوات الانقسامات الطائفية والعرقية، وإحساس السنّة بالعزلة، وبأنهم يدفعون ثمن سياسات حزب البعث رغم أنه كان حزبا علمانيا وليس سنيا.

سنة العراق

ماذا عنى غياب المرجعية السنية؟

وممّا فاقم من أزمة العرب السنة في حقبة الاحتلال الأميركي، افتقادهم لمرجعية جامعة تماثل المرجعية الشيعية في النجف، وافتقادهم لبنية هرمية مستقلة عن الدولة؛ مما جعل تفكيك مؤسسات الدولة بمثابة إضعاف للسنة، في حين أن الجماعات والأحزاب الشيعية والكردية المعارضة حازت كيانات منفصلة عن الدولة أتاحت لها أداء دور في عراق ما بعد صدام.

وقد أدى غياب مرجعية سنية عربية جامعة إلى تنامي التوترات والخلافات البينية، وبالأخص تجاه ملفات مصيرية، من قبيل الموقف من الاحتلال الأميركي، إذ تشكلت فصائل مقاومة تتبنى رؤية أن قتال المحتل فرض عين، بينما اختار الحزب الإسلامي الانخراط في العملية السياسية تحت إشراف الاحتلال، ورغم أن رئيسه آنذاك الدكتور محسن عبد الحميد كردي، فإن أغلب أعضاء الحزب كانوا من العرب السنة.

كذلك برزت خلافات بين الجماعات التي اختارت نهج المقاومة المسلحة، بناء على اختلاف أيديولوجياتها، فبعض الجماعات تشكلت من عناصر عشائرية وضباط من بقايا جيش صدام وأفراد ذوي خلفيات إخوانية وسلفية، واتسم نهجهم بصبغة دينية وطنية، مثل: "الجيش الإسلامي" و"كتائب ثورة العشرين"، في حين وفدت جماعات أخرى من خارج العراق محملة بأدبيات السلفية الجهادية، مثل: "جماعة التوحيد والجهاد" بقيادة الأردني أبو مصعب الزرقاوي، وتحولت عام 2004 إلى "تنظيم القاعدة" في بلاد الرافدين. ومن أبرز القضايا الخلافية بين الجماعات المذكورة:

  • الموقف من هدف المقاومة في العراق، هل هو طرد المحتل فقط، أم النظر إلى القتال على أنه جزء من صراع أوسع لإقامة خلافة إسلامية؟
  • الموقف من الانضمام إلى الجيش والأجهزة الأمنية الجديدة والمشاركة في العملية السياسية، ففي حين تبنت الجماعات ذات الصبغة الدينية الوطنية خيار عدم الانضمام إلى الأجهزة الأمنية أو المشاركة في العملية السياسية مع دعوة أبناء السنة العرب إلى تجنب الانخراط في تلك المؤسسات، تبنت الجماعات ذات التوجه السلفي الجهادي خيار مهاجمة مراكز التجنيد، وقتل المنضمين إلى المؤسسات الأمنية الجديدة، فضلا عن مهاجمة مراكز الاقتراع، واغتيال المرشحين.
  • الموقف من الطائفة الشيعية، إذ رفضت الجماعات ذات الصبغة الدينية الوطنية نهج القتل على الهوية، في حين تبنت الجماعات ذات التوجه السلفي الجهادي استهداف الشيعة على الهوية عبر تفجير السيارات المفخخة وتنفيذ الهجمات في أسواق الأحياء والمدن الشيعية، واستهداف الحسينيات ردا على المجازر التي استهدفت المناطق والمساجد السنية على يد "فرق الموت" و"جيش المهدي".

وأدى تزايد الخلافات في نهاية المطاف إلى حدوث قتال بين جماعات المقاومة، وبالأخص بعد إعلان تنظيم القاعدة في العراق تأسيس مجلس شورى المجاهدين، ثم الدولة الإسلامية في العراق عام 2007، وطلبه البيعة بالإجبار من الجماعات الأخرى. الأمر الذي استثمرته الولايات المتحدة في تأسيس مليشيات "أبناء العراق" العشائرية المعروفة باسم "الصحوات"، التي بدأت في محافظة الأنبار ثم امتدت إلى ديالى وغيرها من المناطق السنية، تحت لافتة حماية المناطق السنية من تنظيم الدولة الإسلامية الذي نافس قادة العشائر في السيطرة على الأراضي وطرق التهريب، وقتل أبناء العشائر المنخرطين في أجهزة الأمن الجديدة، مقابل حصول الصحوات على تمويل وأسلحة من الجيش الأميركي.

انتخابات 2005

بحلول يناير/كانون الثاني 2005، شهد العراق أول انتخابات نيابية، لكن العرب السنة قاطعوها في ظل أغلبيتهم المشاركة في عملية سياسية ينظمها المحتل، فشارك 1% فقط من الناخبين في محافظة الأنبار، بينما شارك 14% من ناخبي الموصل، وفاز تحالف من الأحزاب الشيعية الكردية بأغلبية كاسحة، وتولى إبراهيم الجعفري منصب رئيس الوزراء، وأصبح الحزب الإسلامي هو الممثل السياسي للسنة في ظل مشاركته منفردا في الانتخابات.

تكرر الأمر في الاستفتاء على الدستور، الذي رفضته محافظتا الأنبار وصلاح الدين بنسبة تتجاوز ثلثي الناخبين، في حين رفضته محافظة نينوى بنسبة 55% من أصوات الناخبين، لتكون المحصلة هي تمرير الدستور، الذي يُشترط لعرقلته رفض ثلاث محافظات بنسبة تتجاوز الثلثين في كل منها، وذلك إثر خرق الحزب الإسلامي للإجماع السني وموافقته على تمرير الدستور مقابل وعود أميركية لم تتحقق، بتشكيل لجنة لمراجعة الدستور مستقبلا لتعديله بما يوافق مطالب العرب السنة، وبالأخص ما يتعلق برفضهم مبدأ الفيدرالية، في ظل خشيتهم من تقسيم العراق إلى أقاليم؛ مما قد يجعل أقاليم وسط وغرب البلاد لا تملك موانئ ولا نفطًا.

أسفرت الانتخابات النيابية، ثم اعتماد الدستور الجديد في أكتوبر/تشرين الأول 2005 عن تقنين تهميش العرب السنة في بناء الدولة الجديدة، فحاولوا استدراك ذلك عبر زيادة رقعة مشاركتهم في الانتخابات النيابية الثانية نهاية عام 2005، وحصلت القائمتان الرئيستان للعرب السنّة على مزيد من المقاعد، إذ نالت "جبهة التوافق الوطني" بقيادة عدنان الدليمي وطارق الهاشمي من قادة الإخوان المسلمين 44 مقعدًا، و"الجبهة العراقية للحوار الوطني" بقيادة صالح المطلك 11 مقعدا، وهو ما يعادل 20% من المقاعد، لكن ذلك بدا عددا محدودا مقارنة بالتقييمات التي رجحت أن نسبة العرب السنة تتراوح بين 35% و45% من إجمالي سكان العراق.

سنة العراق

الحرب الأهلية 2006-2008

استثمرت الأحزاب الشيعية والكردية الامتيازات الحكومية لترسيخ نفوذها في الدولة الجديدة، فطلبت أغلب الوزارات من المتقدمين للعمل إحضار تزكية من الحزب الذي ينتمي إليه الوزير المختص، وهو ما أدى إلى امتداد المحاصّة الطائفية والعرقية في المناصب السياسية إلى توزيع الوظائف وموارد الدولة، وتحولت المؤسسات الحكومية إلى إقطاعيات للأحزاب المشكلة للحكومة، فترسخت الطائفية اجتماعيًّا وسياسيًّا، وأصبح الانتماء الطائفي هو معيار تعريف المواطن لهويته.

وساهم تولي بيان جبر صولاغ، وهو شيعي تركماني عمل ممثلًا للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق في سوريا، منصب وزير الداخلية عام 2005، في تشكيل فرق الموت التي أوغلت في المداهمات والتصفيات بالمناطق السنية بحجة التصدي للبعثيين والتكفيريين، كما أسس سجونا سرية تعرض فيها العرب السنة لتعذيب شديد.

كذلك، ساهمت الهجمات المتبادلة في تأجيج الانقسامات الطائفية، وقد بدأت في أغسطس/آب 2003 مع اغتيال محمد باقر الحكيم رفقة العشرات من أنصاره بتفجير نفذه صهر الزرقاوي في النجف.

في المقابل صعدت القوات الأميركية المدعومة من قوات الأمن العراقية الجديدة من عمليات القصف والمداهمة في المناطق السنية، وبالأخص في المثلث السني المؤلف من مدن الفلوجة وبلد واليوسفية، فضلا عن الموصل والأحياء السنية في بغداد باعتبارها معاقل للمقاومة، وأدى الاستخدام المفرط للقوة والاعتماد على المليشيات الطائفية إلى تأجيج الصراع السني الشيعي.

تصاعدت الأحداث إثر تنفيذ القوات الأميركية والعراقية لهجوم على تلعفر، فأعلن الزرقاوي في سبتمبر/أيلول 2005 ما سماه "الحرب الشاملة على الشيعة" في جميع أنحاء العراق. بهذا، تصاعدت التفجيرات في المدن والمناطق الشيعية، ووصلت ذروتها بتفجير استهدف مرقد الإمام الحسن العسكري في فبراير/شباط 2006 بسامراء، أعقبته هجمات انتقامية وحرق للمساجد السنية، واختطاف وقتل للأفراد خارج نطاق القانون، وبدأ نزوح السكان من الأحياء المختلطة في بغداد، وهاجر السنة العرب من البصرة والمدن ذات الأغلبية الشيعية إلى مدن سنية، كما هاجر آخرون إلى سوريا والأردن وتركيا ومصر، وبدأ اقتناع يسود لدى العرب السنة بوجود مخطط مدعوم من إيران، تنفذه الأحزاب الشيعية العائدة إلى العراق من إيران، لطردهم إلى خارج العراق بحسب طارق الهاشمي.

إضراب عام بالعراق تضامنا مع مطالب المتظاهرين
دعوات لإضراب عام بالعراق تنديداً بإثارة الفتنة الطائفية (الجزيرة)

إخفاق الرهان على المشاركة السياسية

تراجعت حدة الاقتتال الأهلي، إثر زيادة عدد القوات الأميركية في العراق، في حين راهن من اختاروا المشاركة السياسية من العرب السنة على التحالف مع إياد علاوي، الشيعي والقيادي البعثي السابق المقرب من الولايات المتحدة.

قدّم علاوي خطابا وطنيا متجاوزا للطائفية، وفاز تحالفه "القائمة العراقية" بالأغلبية في انتخابات عام 2010، إذ حصل على 91 مقعدا مقابل 89 مقعدا حصلت عليها قائمة رئيس الوزراء نوري المالكي. وقد تضمنت مقاعد "القائمة العراقية" 12 مقعدا في المناطق ذات الأغلبية الشيعية، و79 مقعدا في المناطق السنية، مما عكس حجم الدعم السني لها.

غير أن المالكي تمكن من اجتذاب نواب شيعة من قائمة علاوي إلى صفه، فضلا عن اجتذاب نواب آخرين في ظل المخاوف من فقدان السيطرة على الحكومة لصالح تحالف يدعمه السنة. وقد منح المالكي رموز السنة في القائمة العراقية عددا من المناصب، مثل تعيين طارق الهاشمي نائبا لرئيس الجمهورية، وصالح المطلك نائبا لرئيس الوزراء، وأسامة النجيفي رئيسا للبرلمان، ورافع العيساوي وزيرا للمالية.

لكن في العام التالي مباشرة، وقبيل انسحاب القوات الأميركية من العراق، استخدم المالكي سلطة الحكومة في مطاردة قادة القائمة العراقية من العرب السنة، فأصدر القضاء قرارا باعتقال طارق الهاشمي لاتهامه بالتورط في اغتيالات، وحُكم عليه بالإعدام، فهرب إلى خارج العراق، كما أقيل صالح المطلك وحُرم من المشاركة السياسية بحجة ارتباطه سابقا بحزب البعث. واتُّهم الساسة العرب السنة من قِبَل جمهورهم، بأنهم قدموا مصالحهم الشخصية، وبأن المالكي تلاعب بهم ثم تخلص منهم.

حقبة تنظيم الدولة وما بعدها

عقب تراجع أنشطة جماعات المقاومة إثر تنامي الخلافات البينية، ونجاح تجربة الصحوات في مطاردة المقاومين بمختلف انتماءاتهم التنظيمية، سلمت واشنطن مسؤولية دفع رواتب عناصر الصحوات إلى حكومة المالكي بنهاية عام 2008، التي خشيت من تحول الصحوات إلى كيان سياسي منافس للحكومة، ففتحت قضايا إرهاب بحق قادتها، وسجنت وطاردت العديد منهم، واكتفت بدمج 20% منهم في وظائف حكومية، وسرحت الباقين، وانتهت التجربة باستخدام الصحوات في دحر المقاومة السنية، ثم التخلص منها.

نشر ذلك أجواء من الإحباط بين أبناء العشائر السنية، إذ تزامن تفكيك الصحوات مع الانسداد السياسي والتنكيل بالهاشمي ورفاقه. وواكب ذلك اندلاع الثورة في سوريا المجاورة، التي تمثل امتدادا جيوسياسيا للعراق، حيث تحولت إلى بؤرة صراع طائفي جديد عبر انخراط طهران والمليشيات العراقية الشيعية في القتال إلى جانب نظام بشار الأسد، في حين انضم مقاتلون سنة عراقيون إلى الثوار.

جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير، إثر اعتقال قوات الأمن العراقية لحراس النائب ووزير المالية رافع العيساوي في نهاية عام 2012، فاندلعت احتجاجات واسعة في محافظته الأنبار، ثم توسعت إلى بقية المناطق السنية في البلاد، للمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، وتعديل قانون المساءلة والعدالة الذي حل محل لجنة اجتثاث البعث، ومحاسبة المتورطين في قتل واختطاف المواطنين على الهوية.

واجهت حكومة المالكي الاحتجاجات بالقمع، وقتلت قوات الأمن خمسين محتجا في مدينة الحويجة بمحافظة كركوك عام 2013. في هذه اللحظة، تحولت الاحتجاجات السلمية إلى أنشطة مسلحة، واجتمع أغلب المتضررين من حقبة ما بعد الاحتلال في جبهة واحدة ضمت قادة العشائر، وبقايا النظام السابق، وبقايا مجموعات المقاومة، واليائسين من جدوى المشاركة السياسية. ودخل تنظيم الدولة الإسلامية على الخط ليوظف تلك الحالة في شن عمليات عسكرية للسيطرة على المدن السنية، ثم أعلن إقامة الخلافة عقب سيطرته على مدينة الموصل ونحو ثلث العراق عام 2014.

ضغطت الولايات المتحدة على نوري المالكي للاستقالة، وشكلت تحالفا دوليا انخرط في قتال تنظيم الدولة في العراق وسوريا، وقدمت طهران الخطط والدعم للقوات العراقية، التي استعادت السيطرة على الموصل ومناطق سيطرة تنظيم الدولة تباعا، ولكن بثمن باهظ تضمن نزوح السكان مجددا من مدنهم وقراهم، وتدمير العديد من المناطق السنية. وقد ساهم خطاب وممارسات تنظيم الدولة في حشد أبناء الطائفة الشيعية خلف قياداتهم السياسية ومراجعهم الدينية، خوفا من التهديد الوجودي الذي شعروا به.

A handout picture made available by Iranian supreme leader Ayatollah Ali Khamenei's official website on April 23, 2012 shows him during a meeting Iraqi Prime Minister Nuri al-Maliki (L) in Tehran on April 23, 2012. AFP PHOTO/HO -- RESTRICTED TO EDITORIAL USE - MANDATORY CREDIT
نوري المالكي في زيارة المرشد الإيراني علي خامنئي (الفرنسية)

الحاجة إلى التقاط الأنفاس

لقد ساهمت سياسة تفكيك واستبدال مؤسسات الدولة العراقية في إعادة هيكلة المجتمع، وأخرجت السنة العرب من دوائر الحكم إلى الهامش، وأدى غياب مرجعية سنية أو قيادات مجمع عليها إلى التشظي وكثرة الخلافات البينية، بين من يرى الإصلاح من داخل المنظومة السياسية الجديدة، بيد أنه تعرض عمليا للتوظيف ضد منافسيه ضمن لعبة "فرق تسد" ثم أُقصِي لاحقا، ومن تبنى خيار المقاومة المسلحة ضد الاحتلال لكنه فتح النار ضد الجميع بمن فيهم مخالفوه من نفس طائفته، فاتفقوا عليه، وكرّس بيئة عدائية نفرت المؤيدين قبل الخصوم.

لقد ثبت عدم فاعلية خيار المراهنة على الولايات المتحدة في مواجهة النفوذ الإيراني في العراق مثلما فعلت الصحوات، فضلا عن صعوبة مواجهة واشنطن وطهران في وقت واحد.

إضافة إلى ذلك، أدى الجمود في الملف السوري إلى إحباط الرهان على حلحلة الوضع العراقي عبر النافذة السورية. وفي المجمل أدت الصراعات المتتالية إلى استنزاف البيئة العربية السنية العراقية، وأوصلتها إلى مسارات مسدودة.

في النهاية، يحتاج السنة العرب في العراق إلى استراحة لالتقاط الأنفاس، يعيدون فيها بناء نخبهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويتبنون خلالها مشاريع جامعة قدر الإمكان، ويترقبون الفرص المتاحة في ظل التقلبات الإقليمية والدولية، مع تجنب الخيارات الصفرية في الأوقات غير المواتية، وفتح مسارات تواصل مع المكونات الأخرى العراقية للبناء على المشتركات معهم، وتحييد ما أمكن منهم، إذ إن الانخراط في المسارات الطائفية يعمق أزمتهم وأزمة العراق كله، ويفيد الأطراف الخارجية التي تستثمر في الأزمات.

البداية
المقدمة

الاقتصاد العراقي.. رحلة التعافي في زمن التحديات

الاقتصاد العراقي
الاقتصاد العراقي

الاقتصاد العراقي.. رحلة التعافي في زمن التحديات

زياد الهاشمي

كان اجتماع الحاكم المدني لسلطة الائتلاف الأميركية في العراق، بول بريمر، مع مجموعة من خبراء المال والاقتصاد العراقيين في صيف عام 2003، عاصفًا ومتوترًا؛ بسبب رفض فريق الخبراء العراقي لمقترحات أميركية تسمح لسلطة الائتلاف الأميركي بالتصرف في أموال النفط العراقي، وتولي مسؤولية تسديد متطلبات مؤسسات الدولة العراقية مباشرة دون الرجوع إلى الأطراف الرسمية العراقية، بحجة أن البلد تحت سلطة الأميركان، وليس هناك مؤسسات وكوادر عراقية جاهزة لإدارة أموال النفط.

وبعد شد وجذب بين الفريقين، جرى الاتفاق على أن يستحدث البنك المركزي العراقي مزادًا لبيع الدولار للقطاعات التجارية والصناعية العراقية، لإدامة حركة الاقتصاد وتغذية مالية الدولة. من هنا، كانت البداية التي غيرت وجه الاقتصاد العراقي إلى الأبد.

وبالرغم من مرور أكثر من عقدين على التغيير في العراق، فإن شكل الاقتصاد العراقي لم يستقر حتى الآن على هوية واضحة ومستقلة، فالسمات الغالبة على هذا الاقتصاد لا تزال تمزج بين اشتراكية الماضي ورأسمالية الحاضر، في توليفة غريبة قد تستمر لعقود قادمة، بسبب وجود الكثير من المعوقات والتحديات المالية والسياسية والأمنية والإدارية والتشريعية، التي أخرت كثيرًا عملية إصلاح الاقتصاد الوطني والنهوض به مرة أخرى.

كيف ضُرب الاقتصاد العراقي؟

عبر عقود من الزمن، شهد العراق مسيرة اقتصادية مليئة بالتحديات والتقلبات، بدءًا من حقبة الثمانينيات التي اختبرت صلابة البلاد في حرب طاحنة مع إيران، استنزفت خزائنها وألقت بظلالها على الأداء الاقتصادي، مرورًا بحرب تحرير الكويت التي خلفت خسائر فادحة تقدر بمئات المليارات، ثم تلا ذلك حصار وتحكم خارجي في موارد النفط العراقي.

هذه الظروف القاسية أثرت بعمق في جسد الاقتصاد العراقي، مخلفة تحديات ومشاكل كبيرة لا تزال ماثلة أمامنا حتى اليوم، تعيق مساعي النهوض والتطور. وأمام هذا الواقع، يبرز التساؤل حول كيفية مواجهة العراق لهذه التحديات الجسام والشروع في مرحلة جديدة من الإصلاح والتنمية الاقتصادية.

الاقتصاد العراقي-

 الفساد، سوء الإدارة، البطالة والفقر

يُعد الفساد المالي والإداري بمثابة الورم الذي استشرى في جسد الاقتصاد وينخر في كيان الدولة، إذ تُقدر الأموال المنهوبة خلال عقدين من الزمن بمئات المليارات من الدولارات، وهو ما يضع العراق في مركز متقدم في سلم الفساد العالمي.

يتجلّى التأثير الواضح للفساد في البيئة الاقتصادية في استنزاف خزينة الدولة وتدهور القطاعات الحيوية، فالصناعات الإنتاجية والخدمية تعاني، والبنية التحتية في وضع بائس، ومؤسسات الدولة شبه مخترقة من قبل شبكات الفساد المنظمة.

وإضافة إلى ذلك، فإن التداعيات الاجتماعية لهذا الفساد المستشري لا تقل خطورة عن الآثار الاقتصادية، إذ لا عدالة في توزيع الثروات وفرص العمل. وقد ارتفعت معدلات البطالة إلى 16.5% مع بداية عام 2024، وارتفعت نسب الفقر بحوالي 22% حسب وزارة التخطيط العراقية (أي ما يعادل 10 ملايين عراقي).

كما لا يمكن إغفال وجود 6 ملايين يتيم ومليوني أرملة، نتيجة للحروب والصراعات السابقة، إضافة إلى أكثر من 4 ملايين شخص يعيشون في مناطق العشوائيات والأحياء الهامشية.

الريعية العالية

بعد مرور عقدين من الزمن على الغزو الأميركي، لا يزال الاقتصاد العراقي يصارع للخروج من دائرة الاعتماد الشديد على النفط، أو ما يسمى "الاقتصاد الريعي" النفطي. إذ تشكل عوائد النفط أكثر من 95% من الناتج المحلي الإجمالي؛ مما يجعل العراق عرضة لتقلبات أسعار النفط العالمية لارتباط الوضع المالي فيه ارتباطًا وثيقًا بحجم صادرات النفط، وهو ما يؤدي إلى اقتصاد هشّ مكشوف أمام الصدمات.

ويدفع هذا الارتباط بالاقتصاد العراقي إلى التأرجح بين الوفرة المالية والعجز، كما حدث عام 2020 عندما انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 11% بسبب انهيار أسعار النفط، ثم عام 2022 حين شهد الاقتصاد نموًّا إيجابيًّا بنسبة 9.3% بفضل ارتفاع أسعار النفط.

هذه الريعية العالية وارتباط الاقتصاد العراقي بسعر برميل النفط، تُعيق بشكل كبير عملية التخطيط الاقتصادي المتوسط والطويل الأمد، وتحول دون إيجاد بيئة اقتصادية مستدامة.

 أموال البترودولار

في قلب السياسة النقدية والمالية العراقية، تكمن قصة مالية وقانونية معقدة، تتشابك فيها السياسة بالسيادة الاقتصادية، فبموجب اتفاقيات ما بعد 2003، فإن عائدات النفط العراقية لا تذهب مباشرةً إلى خزينة الدولة العراقية، بل تحوّل إلى البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي وتودع في حساب خاص باسم “تنمية العراق” أصبح يُعرف لاحقًا بـ"عراق-2".

أما الهدف المعلن من هذا الإجراء، فهو توفير حماية أميركية لأموال العراق من المطالبات الدولية وقضايا التعويضات، وفقًا للأمر التنفيذي الرئاسي الأميركي رقم (13303)، والسماح للعراق بسحب كميات الدولار التي يريد، وتوجيهها نحو الاستثمارات في سندات الخزانة والذهب وغيرها، وتحويل جزء منها إلى مزاد العملة الذي يديره البنك المركزي العراقي.

ويعدّ هذا المزاد الآلية الرئيسة لتمويل العمليات التجارية وتغذية نظام المدفوعات والمالية للحكومة، والمحافظة على استقرار قيمة الدينار العراقي مقابل الدولار الأميركي.

ومع ذلك، يُثير هذا الترتيب قلق العديد من المراقبين والخبراء العراقيين الذين يرون فيه تقييدًا للسيادة الوطنية وتدخلًا في الشؤون المالية والنقدية للعراق، مما يُعد انتقاصًا من سيادة العراق وحقّه في التحكم الكامل في موارده كباقي دول العالم.

مؤخرًا، اتفقت السلطات النقدية العراقية والأميركية على إنهاء عمليات المزاد (أو النافذة) والتحول تدريجيًّا نحو الحوالات الدولية المباشرة، وقد يشكّل ذلك بداية لحصول العراق على حقه السيادي في تسلّم وإدارة أموال نفطه باستقلالية بعيدًا عن سطوة الفيدرالي الأميركي.

 الخلل في النظام المصرفي

واجه النظام المصرفي العراقي الكثير من التقلبات والمنعطفات طوال الأعوام التي شهدت عملية إعادة تشكيله بعد عام 2003، فشهد تسهيلات تنظيمية واسعة ساهمت في افتتاح العشرات من المصارف الخاصة، حتى بلغ العدد الكلي 74 مصرفًا، منها 7 مصارف حكومية، و16 مصرفًا غير عراقي من تركيا وإيران ولبنان والأردن، ومزيج من المصارف التجارية والإسلامية المحلية.

مبنى البنك المركزي العراقي2 (الجزيرة نت)
مبنى البنك المركزي العراقي (الجزيرة)

وتشير بعض التقارير إلى أن الكثير من تلك المصارف أو البنوك، قد أسّست لتحقيق هدف رئيس واحد يتعلق بالاستفادة من مبيعات الدولار الأميركي من خلال مزاد أو نافذة الدولار التي أطلقت من قبل المركزي العراقي، سواء من خلال فروق أسعار الصرف أو الحوالات الخارجية.

تسبب هذا التركيز الكبير على عمليات المزاد، في محدودية الخدمات الائتمانية والمصرفية الأخرى التي من المفترض أن تقدمها تلك البنوك للأفراد والشركات؛ مما ساهم في عزوف الكثير من الشرائح المجتمعية عن التعامل مع المصارف، وهو ما عزّز حالة عدم الثقة في النظام المصرفي العراقي، ووسّع ظاهرة اكتناز الأموال لدى الأفراد بدلا من ادخارها واستثمارها في النظام المصرفي.

إن هذا الاعتماد الواضح للمصارف العراقية على عمليات محدودة مرتبطة بمزاد العملة، وضعف الثقة المجتمعية في النظام المصرفي، إضافة إلى بعض القصور في نظام الرقابة والتطوير لعمل المصارف من قبل البنك المركزي، ساهم إلى حد كبير في استمرار ضعف جودة المصارف العراقية، سواء في هيكليتها الداخلية أو جودة عملياتها وانضباطها بمعايير العمل المصرفي المطلوبة داخليًّا وخارجيًّا؛ الأمر الذي تسبب في تورط نسبة ليست بالقليلة من المصارف بشبهات عمليات تتعلق بغسيل الأموال وتهريب الدولار ودعم الكيانات والدول التي تقع تحت طائلة العقوبات الاقتصادية الأميركية.

ودفع ذلك بالخزانة الأميركية ومن خلال الفيدرالي الأميركي، إلى معاقبة بعض المصارف العراقية ومنعها من الوصول إلى الدولار من خلال النافذة، وزيادة التشديدات والضوابط على عمل كل المنظومة الإلكترونية والتنسيق مع البنك المركزي العراقي لإطلاق منصة إلكترونية نهاية عام 2022، وتفعيل ضوابط نظام "سويفت" العالمي للحوالات الدولية.

وقد أدت هذه الإجراءات الأميركية المشددة ومعاقبة العشرات من المصارف العراقية، إلى انخفاض المعروض من الدولار داخل الاقتصاد العراقي مقابل ارتفاع الطلب عليه؛ مما تسبب في ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار صرف الدولار.

بيد أن البنك المركزي العراقي والحكومة العراقية حاولا التعامل مع هذه الأزمة، وذلك من خلال عدة إجراءات أهمها: رفع قيمة الدينار العراقي أمام الدولار، والتضييق على عمليات تهريب الدولار عبر الحدود والمضاربات عليه في الأسواق الموازية غير الرسمية، وتحديد قنوات رسمية لبيع وتسليم الدولار.

وبعد مرور نحو 18 شهرا على أزمة النظام المصرفي العراقي وتصادمه مع الفيدرالي الأميركي، فإن الاقتصاد العراقي لا يزال تحت تأثير هذه الأزمة، سواء من ناحية وجود فروق في أسعار صرف الدولار بين السعر الرسمي وأسعار الأسواق الموازية، أو استمرار بقاء ما يناهز 30% من المصارف العراقية تحت طائلة العقوبات الفيدرالية.

بالرغم من حدوث تحسن في مستوى أداء المصارف بشكل عام ودرجة امتثالها للضوابط الأميركية، التي تجاوزت نسبة 80% حسب رئيس الوزراء العراقي، إضافة إلى التحول التدريجي من بيع الدولار من خلال المنصة الإلكترونية إلى حوالات خارجية مباشرة عبر المصارف العراقية بواسطة بنوك مراسلة دولية تسهل انسيابية عمليات التحويل.

تستمرّ محاولات الجهات النقدية والمالية العراقية لتطويق ومعالجة هذه المشكلة النقدية، التي يخشى أن يؤدي استمرارها إلى تقييد تدفقات الدينار لتغذية المالية العامة، لتلبية متطلبات بنود وفقرات الموازنة الثلاثية.

ما القطاعات الاقتصادية الرئيسة في العراق؟

قطاع النفط والغاز

يُعد قطاع النفط العراقي عملاقًا يتميز بالتماسك والتوسع، ويُشكل النفط والغاز شريان الحياة للبلاد، مساهمَين بأكثر من 95% من الناتج المحلي الإجمالي.

ومنذ عام 2003، شهد العراق نهضة نفطية واضحة، إذ تمكن من رفع مستوى إنتاجه النفطي بشكل ملحوظ. ساعده في ذلك، الانفتاح على الشركات الدولية المتخصصة في الطاقة، من خلال نظام التعاقد الجديد المسمى "جولات التراخيص". فارتفع الإنتاج من ثلاثة ملايين برميل يوميًّا عام 2003، إلى أكثر من 4.22 ملايين برميل في الربع الأخير من عام 2023.

ولم تتوقف الارتفاعات عند هذا الحد، فالصادرات النفطية قفزت إلى 3.4 ملايين برميل يوميًّا في الربع الأول من عام 2024، محققة عائدات مالية تتراوح بين 8 و11 مليار دولار شهريًّا. ومع وجود خطط توسعية تستهدف الوصول إلى مستوى 5 ملايين برميل بحلول عام 2025، يواجه العراق تحديات اتفاقات "أوبك بلس"، التي قد تحد من طموحاته في زيادة حجم صادراته النفطية.

أما قطاع إنتاج الغاز العراقي، فيمكن اعتباره ركيزة أساسية أخرى في مسار تحقيق الاستقلال الغازي عن المصادر الخارجية مستقبلًا، إذ تهدف الحكومة العراقية إلى الوصول إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي من الغاز خلال نهاية هذا العقد، أو الاستغناء تدريجيًّا عن تدفقات الغاز الخارجية، وخاصة تلك القادمة من إيران، التي دخل العراق بسببها في مشاكل عدة تتعلق بتوقف الإمدادات أو مشاكل في تسديد فاتورة الغاز نتيجة العقوبات الأميركية على إيران.

A worker adjusts the valve of an oil pipe at West Qurna oilfield in Iraq's southern province of Basra in this November 28, 2010 file photo. To match Special Report MIDEAST-CRISIS/KURDISTAN REUTERS/Atef Hassan/Files (IRAQ - Tags: BUSINESS ENERGY)
عامل في أحد حقول النفط العراقية (رويترز)

ولكي يتحقق هذا الهدف الإستراتيجي، بادرت وزارة النفط العراقية، بالتعاون مع شركات عالمية مثل "توتال إنرجي" و"غاز بروم"، إلى تطوير إنتاج الغاز من عدة حقول غازية، منها حقول "أرطاوي" و"المنصورية" في ديالى و"عكاز" في غرب العراق، إضافة إلى الاهتمام بتوجيه الموارد نحو استغلال الغاز المصاحب، الذي يتم هدره خلال عمليات الإنتاج النفطي.

 القطاع الصناعي والتنموي

برز العراق في منتصف القرن العشرين ضمن أبرز الدول الصناعية في منطقة الشرق الأوسط. فقد أطلقت بغداد خلال خمسينيات القرن الماضي حملة تنموية مذهلة، أسست من خلالها منظومة صناعية ضخمة ومتنوعة، بدءًا من قطاع الصناعات الدوائية إلى صناعات الغزل والنسيج، ومن إنتاج الأسمدة إلى إنتاج الأغذية، وصولًا إلى الصناعات الثقيلة كالحديد والصلب ومشاريع التكرير والبتروكيماويات.

مثّلت هذه النهضة الصناعية 23% من الناتج المحلي الإجمالي للعراق، لكن مع تعاقب الأنظمة السياسية واستمرار الصراعات الداخلية والخارجية، بدأت هذه القوة الصناعية التراجع بشكل درامي، فقد شهد القطاع الصناعي العراقي ضربات قاصمة، بين عامي 1991 و2003، فدمّرت وأغلقت العديد من المصانع الوطنية، وتدهور الإنتاج، وانخفضت مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي الإجمالي إلى ما دون 4%، وصنّف أكثر من 1000 معمل ومصنع خارج الخدمة، إضافة إلى توقف أكثر من 18 ألف مشروع صناعي وإنتاجي عن العمل.

وتحول القطاع الصناعي خلال تلك السنوات، من قطاع داعم للاقتصاد العراقي إلى عبء ومصدر ضغط على المالية العامة للدولة، بسبب النفقات العالية التي تتكبدها الحكومة لتغطية الكلف التشغيلية لمصانع ومعامل حكومية لا تنتج أي سلعة، وتساهم بشكل غير مباشر في تعزيز قاعدة الاستيراد وزيادة الاعتماد على المنتجات والسلع المستوردة.

شكل ما سبق، تحديًا كبيرًا أمام الحكومات العراقية المتتابعة بعد عام 2003، التي اتسم عملها بالتلكّؤ والقصور في تبنّي وتطبيق خطط مناسبة للنهوض بالواقع الصناعي العراقي والاتجاه نحو التنمية الصناعية والتنوع الاقتصادي.

وفي السنوات الأخيرة، بادرت الوزارات العراقية المعنية بإعداد خطط تستهدف الاستثمار في تنمية القطاع الصناعي وإعادة تأهيل المصانع المتوقفة وإنشاء مراكز صناعية جديدة تساهم في دعم التنوع الاقتصادي الوطني، لكن رغم هذه الجهود، تظل العراقيل والتحديات قائمة، وتعيق تقدم البرامج التنموية والإصلاحية، فالفساد ينخر في مؤسسات الدولة، والتحديات السياسية والأمنية والتشريعية والبيروقراطية تضع العِصيّ في دواليب أيّ تطوّر.

الاقتصاد العراقي

القطاع الزراعي

على مدى نصف قرن، كان القطاع الزراعي في العراق أحد الروافد المهمة للاقتصاد العراقي. وقد مرّ هذا القطاع بمراحل تطور متعددة طوال عقود، من عمليات استصلاح للأراضي وتحديث أنظمة الري وزيادة المحاصيل الزراعية، حتى أصبحت الزراعة العراقية كطوق نجاة للشعب العراقي خلال سنوات الحصار الاقتصادي بين عامي 1991 و2003.

وكغيره من القطاعات، واجه تحديات جمّة، بدءًا من آثار الحروب والصراعات والتغيرات المناخية وصولًا إلى شحّ المياه وسوء الإدارة؛ مما أدى إلى تراجع الوفرة الزراعية وانحسار الأراضي الصالحة للزراعة وهجرة الفلاحين من القرى إلى المدن.

وعلى إثر ذلك، عملت الحكومة العراقية على اتخاذ خطوات نحو تحسين القطاع الزراعي. وقد أثمرت هذه الجهود عام 2024، عندما ارتفع إنتاج الحنطة ليصل إلى مليوني طن، وتحقق هدف الاكتفاء الذاتي وطنيًّا. ولم يقتصر الأمر على الحنطة فحسب، بل شهد إنتاج التمور ارتفاعًا ملحوظًا، حتى احتلّ العراق المرتبة الرابعة عالميًّا في تصدير التمور.

وبالرغم من هذا التقدم، فإن الطريق أمام الزراعة العراقية لا يزال مليئًا بالتحديات، خاصةً فيما يتعلق بشحّ المياه ومشكلات التصحر وسوء الإدارة وغيرها، وهي تحديات تتطلب حلولًا فعّالة للتعامل مع جذور المشكلة، وتضافرًا للجهود لإحداث النقلة النوعية المطلوبة في هذا القطاع الحيوي والإستراتيجي.

 قطاع النقل ومشاريعه

ومع تحسن الوضع الأمني فيما بعد 2021، والاستقرار السياسي النسبي، وارتفاع احتياطيات العراق المالية إلى مستويات تاريخية بسبب ارتفاع أسعار النفط وزيادة الصادرات النفطية العراقية، اتجهت الحكومة العراقية المشكّلة في نهاية عام 2022 إلى التركيز أكثر على القطاع التنموي، ومنه المشاريع المتعلقة بالنقل، بشقيه الداخلي والدولي.

  • مشروع طريق التنمية

بادرت الحكومة العراقية الحالية بطرح عدة مشاريع تتصف بأنها مشاريع إستراتيجية تنموية، ستساهم في إحداث نقلة نوعية في قطاعات عدة، أهمها قطاعات النقل والصناعات. ففي قطاع النقل الدولي أطلق العراق مشروعًا إستراتيجيًّا للنقل العابر للحدود، يطلق عليه اسم مشروع "طريق التنمية"، يربط العراق بتركيا وشرق أوروبا من خلال خطوط سكك حديدية حديثة وقاطرات نقل تجاري سريعة، على امتداد مسافة 1200 كيلومتر، انطلاقًا من ميناء الفاو (يجري العمل على إنشائه) جنوبًا باتجاه الحدود العراقية التركية شمالًا، ثم يقطع الأراضي التركية غربًا باتجاه إسطنبول.

وبحسب بعض الأطراف الحكومية، فإن هذا المشروع يراد له أن يكون همزة وصل للحركة التجارية بين آسيا وأوروبا ومنافسة قناة السويس على حصص سوقية مهمة، إضافة إلى فسح المجال لجذب رؤوس الأموال للاستثمار في إنشاء المشاريع التنموية داخل العراق على طول الممرات البرية لهذا المشروع، كمشاريع التصنيع والمراكز اللوجستية وخدمات القيمة المضافة والمخازن وصناعات أخرى يفتقر إليها العراق.

وقد جذب مشروع طريق التنمية اهتمام الإعلام الإقليمي والدولي، وسلطت عدة وكالات إخبارية الضوء على هذا المشروع وتفاصيله، لكن بالرغم من هذا الاهتمام الإعلامي وحملة العلاقات العامة الكبيرة التي قامت بها الحكومة العراقية للترويج للمشروع، فإنه من الملاحظ أن هذا المشروع لم يتمكن من جذب المستثمرين لتمويله، وهو ما أثار الكثير من علامات الاستفهام حول جدوى وجاهزية العراق لإنشاء وتشغيل مثل هذه المشاريع.

أما السبب في ذلك، فقد يعود إلى أن حركة النقل التجاري الدولي الرابط بين القارات، تعتمد بشكل أساس على النقل البحري بنسبة تصل إلى 84%، مع وجود مساهمة تكميلية من قطاع النقل البري لإتمام عمليات النقل الكلية حتى المخازن في أسواق الاستهلاك. هذا التقسيم العالمي جاء لأسباب تتعلق بالكلفة وطاقات النقل الاستيعابية، فالنقل البحري يوفر أرخص الوسائل للنقل مع إمكانية نقل كميات هائلة من البضائع عبر سفن الشحن العملاقة، التي تتجاوز قدرتها حمل 20 ألف حاوية نمطية في المتوسط، أما القاطرات فلا تستطيع نقل أكثر من بضع مئات من الحاويات في كل رحلة.

أضف على ذلك، عوامل الانسيابية والأمان والموثوقية التي يمكن للنقل البحري الدولي أن يقدمها للأسواق وقطاعات الأعمال، والتي قد لا يستطيع النقل البري تلبيتها بشكل مستمر، خصوصًا إذا كانت مسارات النقل تتطلب مرورًا بمناطق غير مستقرة أمنيًّا أو سياسيًّا. وقد تأسست منذ عقود سلاسل الإنتاج والإمداد والخدمة بين مراكز التصنيع في آسيا ومراكز الاستهلاك في أوروبا على الاعتماد بشكل رئيس على النقل البحري الدولي، مما وفر تكاملًا واضحًا بين قطاعات التصنيع والنقل واللوجستيات والتجهيز، وأوجد نموذجًا دوليًّا يُعدّ أحد أعمدة الاقتصاد العالمي.

إن هذا التباين بين أهداف مشروع طريق التنمية (على الأقل كما يروجه النظام الرسمي العراقي) ومتطلبات عمل منظمة النقل الدولية، قد يكون السبب الرئيس في تردد دخول الاستثمارات ورؤوس الأموال في تمويل هذا المشروع، والشكوك في جدواه الاقتصادية وارتفاع كلف إنجازه، التي تتراوح بين 17 و34 مليار دولار أميركي.

كما أعلن رسميًّا عن تكليف شركة إيطالية غير معروفة في قطاع النقل الدولي بدراسة جدوى هذا المشروع، وهو ما قد يعني أن المشروع بنموذجه المطروح حاليًّا لم يُدرس بشكل سليم ووافٍ، وأن مسألة نجاحه وتنافسيته واستدامته تحتاج إلى مزيد من الدراسة والمراجعة والتدقيق وأخذ متطلبات منظومة وسوق النقل الدولي بالحسبان، وإعادة صياغة نموذج عمل هذا المشروع بطريقة تجعله أكثر جدوى اقتصاديًّا.

وبالرغم من أهمية مشروع طريق التنمية للدولة العراقية واقتصادها، فإن الأولوية كان من المفترض أن تكون للنهوض بالقطاع الصناعي، بالتزامن مع العمل على التوسع في مشاريع النقل التجاري، لتحقيق أمثل استخدام اقتصادي لممرات النقل هذه، تضمن وصول المنتجات الوطنية سواء إلى الأسواق المحلية أو نحو المنافذ البرية والبحرية لتصديرها شمالًا وجنوبًا.

وقد وقع العراق في منتصف أبريل/نيسان 2024 على مذكرة تفاهم مع تركيا وقطر والإمارات للمضي قدما في هذا المشروع، لرفع مستوى التبادل التجاري الإقليمي بين هذه الدول وغيرها من دول المنطقة، وهو ما يشير إلى أن التوجه الآن فيما يخص طريق التنمية أصبح أكثر واقعية، وينسجم مع المتطلبات الإقليمية برفع مستوى التعاون الاقتصادي بين دول الإقليم.

  •  مشروع مترو بغداد

في مبادرة طموحة لإحداث نقلة نوعية في نظام النقل العام، أعلنت الحكومة العراقية عن إطلاق مشروع "مترو بغداد"، وهو مشروع إستراتيجي يهدف إلى إنشاء شبكة نقل عام شاملة تغطي 84% من مساحة العاصمة بغداد، ويمتد المشروع على مسافة 148 كيلومترًا من خطوط النقل، مرتبطًا بـ64 محطة.

ويقدم المشروع نموذجًا عصريًّا للنقل داخل العاصمة بغداد، إذ يمثِّل حلًّا مبتكرًا لمشكلة الازدحام المروري المزمنة التي تعصف بمدينة بغداد، وتؤثّر سلبًا في الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية فيها. وتقدر التكلفة التقديرية للمشروع بحوالي 17 مليار دولار أميركي، وهو استثمار يُتوقع أن يعود بالنفع على البلاد على المدى الطويل.

مع ذلك، فإن مشروع مترو بغداد ليس جديدًا تمامًا، إذ سبق أن طُرح للدراسة في أواخر السبعينيات، وعاد ليحظى بالاهتمام مرة أخرى بعد عام 2004.

غير أن المحاولات السابقة تعثرت بسبب الظروف الأمنية والاقتصادية والسياسية المعقدة للعراق. والآن، تبدو الظروف مواتية للحكومة العراقية الحالية لتحقيق ما لم تستطع الحكومات السابقة إنجازه، والشروع بشكل فعال في تنفيذ المشروع الذي قد يكون مفتاحًا لحل أزمة النقل الداخلي وتخفيف الاختناقات المرورية في قلب العاصمة بغداد.

كيف السبيل لتحصين الاقتصاد العراقي؟

في رحلة الاقتصاد العراقي، تلتحم التحديات بالأمل، فهو يمثل نموذجًا للقدرة على التحول والتطور والتحرك في ظل ظروف ومتغيرات داخلية وخارجية شديدة الصعوبة، شريطة تبني الإصلاحات الهيكلية المطلوبة والاستفادة الفعّالة من موارد البلد بكافة أنواعها.

هذه الرؤية التفاؤلية، وحصول بعض بوادر التحسن الاقتصادي، رافقت صدور تقارير إيجابية محلية ودولية تتوقع نموًّا للاقتصاد العراقي على المدى المتوسط والطويل. ومع ذلك، يبقى الاقتصاد العراقي غير محصن بما يكفي أمام الانعكاسات والآثار السلبية للتوترات الجيوسياسية والتحديات الأمنية، وآثار الفساد والبيروقراطية، وتغيرات أسعار الطاقة عالميًّا.

غير أن الخروج من ذلك يكون بالعمل بشكل منهجي على خطة تنمية وطنية شاملة تبتعد تدريجيًّا عن الاعتماد الشديد على النفط، من خلال برامج اقتصادية متقنة، تعمل على استثمار الفوائض المالية التي تحققها مبيعات النفط، وتقديم المزيد من التسهيلات والدعم لتوسيع عمل القطاع الخاص في كافة القطاعات الاقتصادية المتاحة، والاستمرار في ضبط وتطوير وعصرنة النظام المصرفي، والهدف هو تحقيق أعلى مستوى من التنويع الاقتصادي المستدام، لحماية الاقتصاد العراقي من الصدمات والأخطار.

البداية
المقدمة

بالسياسة والسلاح.. رحلة أكراد العراق الوعرة

كردستان العراق
كردستان العراق

بالسياسة والسلاح.. رحلة أكراد العراق الوعرة

علي بكر

كان الجبل هو الرفيق الأول للأكراد في قصتهم التاريخية، في الدول التي بُعثروا فيها اجتماعيًّا وسياسيًّا بعد اتفاقية "سايكس بيكو" عام 1916. ولمّا أسست الاتفاقية الحدود السياسية -القائمة حتى الآن- بين تركيا وسوريا والعراق وإيران، تجزّأت معها القصة الكردية بين أربع دول، وكان الجبل هو الجامع بينها، وهو المكان الوحيد الذي لم يخن الأكراد، كما يستقرّ في العقلية الجمعيّة الكردية.

لا يزال الأكراد يعيشون أكبر مأساة في تاريخهم، بسبب فشلهم في تأسيس منطقة حكم ذاتي خاصة بهم في تركيا بعد الحرب العالمية الأولى، إذ أعطاهم مصطفى كمال أتاتورك قبل اتفاقية لوزان عام 1923، وعدًا بمنحهم الحكم الذاتي داخل تركيا الجديدة، بشرط الوقوف معه ضد القوى الاستعمارية، وإكمال ما سمّاه حروب الاستقلال.

لكنه، بعد أن ثبّت أركان سلطته وأصبح أقوى من أي وقت مضى، أخذ يتنصل بعد اتفاقية لوزان من وعوده التي قطعها للأكراد. وهو الأمر الذي تسبب في حدوث ثلاثة تمردات كردية مباشرة داخل تركيا (عام 1925 وعام 1926 و1937)، بيد أنه جرى سحق هذه التمردات كلها، عبر استخدام القوة العسكرية المفرطة.

بعد ذلك، عادت القضية الكردية من جديد إلى الجبل؛ الموطن الأصلي للأكراد. ولقد أدركوا مبكرًا في ضوء تجربتهم التاريخية، أن العالم لن يقف مع أي مجموعة اجتماعية أو سياسية تريد أن تنشئ لنفسها دولة، إلا إذا استطاعت أن توجِد نوعًا من العلاقة المصلحية الذرائعية لقضيتها مع القوى الكبرى.

إن تجربة الأكراد التاريخية وخذلانهم المستمر من قبل مختلف القوى: الدولة العثمانية، وبريطانيا، والاتحاد السوفيتي، والولايات المتحدة؛ أضاف بعدًا واقعيًّا لهذه القضية. إذ كانت عملية توزيع القضية بين الدول الأربع، وإعطاء خصوصية ذاتية لشكل النضال ونوعه وآلياته، هو ما تبناه أكراد العراق في مرحلة متقدمة من صراعهم مع بغداد، بمعزل عما يحدث للأكراد في المناطق الأخرى خارج العراق.

ولّدت هذه الرؤية نوعًا من النجاح المتقدم لدى أكراد العراق، لكونهم أصبحوا يعيشون في دولة تعترف بحقوقهم القومية، وضمن إطار إداري وسياسي يراعي خصوصياتهم، أصبح يعرف بشكل رسمي في دستور الدولة بـ"إقليم كردستان العراق".

بالطبع، لم تأت هذه الاستحقاقات بشكل عفوي أو بمصادفة تاريخية، بل أتت نتيجة صراع مسلح طويل الأمد، امتد منذ عام 1920 ليتوّج عام 2005 بالشكل القانوني القائم في الوقت الحالي. ولعل هذه المرحلة الطويلة والمعقدة، مثلت أكثر الحالات تقدمًا للقضية الكردية، مقارنة بفشل النضال في المناطق الأخرى داخل سوريا وتركيا وإيران.

وانطلاقًا من ذلك، سيركز المقال على تطور القضية الكردية في العراق بعد عام 2003، للإجابة عن تساؤل مركزيّ هو: ماذا حقق الأكراد على المستوى السياسي والاقتصادي العام؟

محطات تاريخيّة سريعة في تطور القضية الكردية

بعد تفكك الدولة العثمانية، وانتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918، مرت القضية الكردية بمراحل مفصلية هامة، بدأت بتخلي بريطانيا عن وعودها وعدم تطبيقها معاهدة سيفر التي وقعت في 10 أغسطس/آب 1919، إذ تضمنت المعاهدة إقامة منطقة حكم ذاتي خاصة بالأكراد ضمن تركيا وإيران وسوريا والعراق. غير أن مصالح بريطانيا مع هذه الدول، كانت أكبر من الوفاء لمجموعة اجتماعية تريد أن تكون لها دولة مستقلة، دون أن تمتلك مقومات تذكر في حينها.

انتكست القضية الكردية بعد ذلك، نتيجة توقيع اتفاقية لوزان عام 1923، التي لم تأتِ بشيء جديد يتعلق بمصير الأكراد في هذه الدول، فدخلت القضية الكردية في منعرجات عديدة، كان أهمها قمع الأكراد في تركيا بين عامي 1923 و1937، وتأسيس دولة مهاباد في إيران عام 1946 التي أسسها القاضي محمد والملا مصطفى البرزاني والد مسعود البرزاني، لكن سرعان ما انهارت هذه الدولة بعد أسابيع قليلة، وأعدم القاضي محمد بأيدي السلطات الإيرانية، وانتقل الملا مصطفى إلى روسيا لاجئًا سياسيًّا.

عاشت القضية الكردية في الجزء العراقي مرحلة أخرى من التعقيدات، وشكّل بيان 11 مارس/آذار 1970 (اتفاقية آذار) انفراجة كبيرة بعد مرحلة عصيبة وطويلة ومعقدة من النضال المسلح، فثبت انتهاء النزاع المسلح بين بغداد والأكراد، وثبت الحق القانوني لأكراد العراق في الحصول على الحكم الذاتي في شمال العراق (في محافظات أربيل ودهوك والسليمانية) ضمن الدولة المركزية العراقية.

بيد أن الأوضاع تدهورت من جديد، نتيجة لحدوث توافقات إقليمية عراقية إيرانية في اتفاقية الجزائر عام 1975، دفعت الدولة العراقية إلى السيطرة عسكريًّا على مناطق شمال العراق، وإنهاء السلطة الإدارية الكردية حينها.

مرّة أخرى، دخلت القضية الكردية مرحلة الصدام المسلح ضمن ما يعرف بـ"الحرب الكردية العراقية الثانية" (1975- . ولاحقًا، استثمر الكرد في تغيرات حصلت في النظام الدولي، لإنشاء إقليم كردي في مناطق شمال العراق، من خلال توفير الدعم والحماية الأميركية المباشرة.

غير أن الصراع هنا لم يعد فقط مع بغداد من أجل الحكم الذاتي، بل تحول إلى صراع كردي داخلي في مناطق شمال العراق، على السلطة السياسية بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني.

إذ استمرت الحرب الأهلية الكردية حتى عام 1998، حينما وقع الحزبان المتصارعان اتفاقية سلام في واشنطن، تعهد فيها الجانب الأميركي بحماية الإقليم من أي اعتداء، لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة من الاستقرار النسبي، استمرّت حتى عام 2003؛ العام الذي احتلت فيه أميركا العراق، فتغير النظام السياسي العراقي السابق، وتأسس الدستور العراقي عام 2005، ليتم تثبيت فقرة النظام الفيدرالي رسميًّا في مرحلة مؤقتة، إلى حين إيفاء أميركا بوعد استقلال كردستان.

العلاقة بين بغداد وإقليم كردستان العراق بعد عام 2003

تأسست العلاقة الجديدة بين بغداد وإقليم كردستان العراق بعد عام 2003، وفق السياقات الدستورية والقانونية الرسمية، التي أقرّت في القانون الأساس لإدارة الدولة العراقية عام 2003.

وقد نصّت المادة الرابعة من هذا القانون بشكل صريح على أن نظام الحكم في العراق "جمهوري اتحادي فيدرالي"، تنقسم السلطة فيه بين بغداد وإقليم كردستان ضمن السياقات القانونية. وهو أمر أكده لاحقًا عام 2005 دستور العراق، المعمول به حاليًّا في مادته الأولى، فنصّ على أن جمهورية العراق "دولة اتحادية مستقلة واحدة"، كما فصل الدستور العراقي في المواد من 116 إلى 120 طبيعة الصلاحيات الممنوحة للإقليم.

وتعد المادة 140، من الدستور العراقي النافذ لعام 2005، من العقد الرئيسة في العلاقة بين بغداد والإقليم. وهي من الثوابت الإستراتيجية التي يفاوض عليها الإقليم منذ عام 2003، إذ يطمح من خلالها إلى إدارة مشتركة في المرحلة الانتقالية، للمناطق المتنازع عليها في محافظات نينوى وكركوك وصلاح الدين وديالى، وهي مناطق غنية بالنفط والموارد.

ويطمح الإقليم بعد ذلك إلى إجراء تعداد سكاني في هذه المناطق، ثم إجراء استفتاء مباشر في المرحلة النهائية لتقرير مصيرها؛ إما بإبقائها مع سلطة بغداد الاتحادية وإما بانضمامها إلى إقليم كردستان.

ولعل هذه المادة أكثر المواد تعقيدًا بين بغداد وأربيل، بسبب وجود مناطق جغرافية عديدة مثل كركوك، التي تحتوي على موارد إستراتيجية مهمة كالنفط، إضافة إلى مناطق حدودية مع دول أخرى عديدة، فديالى مع إيران، ونينوى مع سوريا وتركيا.

وقد استخدم الإقليم هذه المادة باحترافية وبراغماتية متقدمة في مفاوضاته مع بغداد، إذ استطاع أن يساومها بشكل مباشر على الموارد في هذه المناطق، مقابل الحصول على بعض المناصب، أو التصويت لصالح قرارات سيادية مهمة، أو حتى تنصيب رؤساء وزراء ووزراء للعراق، نتيجة لتوافقات عديدة في لحظات الانسدادات السياسية مع بغداد.

لذلك، يعتقد قادة الإقليم أن هذه المناطق مهمة جدًّا في تطوير شكل العلاقة مع بغداد، وتحقيق مكتسبات مهمة في مختلف المراحل، لكون هذه المناطق فيها مقاعد نيابية عديدة تعزّز موقف الأكراد سياسيًّا في بغداد، عدا عمّا تقدمه من بعد إستراتيجي كبير لقوة أربيل داخليًّا وخارجيًّا.

وعلى الرغم من تحديد أطر التعامل والصلاحيات الممنوحة للجانبين، فإن العلاقة لا تزال معقدة جدًّا في شكلها وطبيعتها؛ بسبب التدافع السياسي المستمر بين القوى السياسية المركزية الثلاث في العراق: الشيعية والسنية والكردية.

وبعيدًا عن الأطر القانونية التي نظمت العلاقة بين بغداد والإقليم، فإنّ المزاج السياسي الكردي النخبوي كان ينظر دومًا إلى بغداد على أنها مفتاح حل مهم ورئيس في القضية الكردية، وهذا قائم منذ فترة التسعينيات وربما قبلها، وذلك على الرغم من دخول القضية الكردية في صراع مسلح مع بغداد في أكثر من مرحلة.

غير أنه لا يمكن أن يبقى العمل المسلح هو المعيار الرئيس لتثبيت حقوق الأكراد في العراق، بل إن هناك اقتناعًا رئيسًا يسود العقلية الحاكمة داخل إقليم كردستان العراق، وهو عزل ما يحدث في الإقليم الكردي ضمن حدود العراق عن الأحداث الأخرى التي تقع في المناطق الكردية في سوريا وتركيا وإيران.

لهذا، كانت الأحزاب السياسية الكردية حاضرة في بغداد بعد عام 2003 للمشاركة بقوة في بناء العراق الاتحادي الجديد، حتى إن الأحزاب السياسية الكردية أسست مساحة خاصة لها في بغداد، يجري العمل من خلالها حتى الآن تقريبًا، على مستوى الوزارات والمناصب السيادية العليا والمحاصّة السياسية والمكوناتية.

وبالتالي، تمثل بغداد للأحزاب السياسية الكردية عمقًا إستراتيجيًّا مهمًّا، بالرغم من كل المراحل المعقدة السابقة. ومنذ أول انتخابات جرت في العراق عام 2005، وقبلها مع تشكيل مجلس الحكم (الحكومة الانتقالية المؤقتة بعد عام 2003)، يذهب الأكراد في العراق في كل دورة انتخابية إلى بغداد بمقاعد برلمانية شبه مستقرة العدد، وبحصص ثابتة في الحكومة على مستوى الوزارات والمناصب الأخرى، فلم تترك الأحزاب الكردية أي فراغ في بغداد منذ عام 2003 وحتى الآن.

هذا لأن الأحزاب الكردية تعتقد أن ترك الوجود السياسي في بغداد سيؤدي إلى حدوث خلل جسيم في العلاقة معها، ولا سيما أن لدى الإقليم ارتباطات معقدة على مستوى النفط والموازنة المالية المركزية، ويحتاج دومًا للفعل السياسي في بغداد من أجل تأمين مستحقاته، ومن هنا تتضح أهمية الوجود المستمر للأكراد في بغداد كعمق سياسي واقتصادي وإستراتيجي.

إقليم عراقي كردي، له حكومته وبرلمانه وعلمه ونشيده، لكنه جزء من الدولة العراقية(مواقع التواصل الإجتماعي)
إقليم عراقي كردي، له حكومته وبرلمانه وعلمه ونشيده، لكنه جزء من الدولة العراقية(مواقع التواصل الإجتماعي)

ومع ذلك، فمنذ الأسابيع الأولى لاحتلال العراق، كانت السلطة الفيدرالية الكردية في إقليم كردستان، تتخذ قرارات اقتصادية شبه مستقلة عن بغداد، متعلقّة باستخراج ونقل وتسويق وبيع النفط والغاز. وقد أسست لذلك وزارة خاصة باسم وزارة الموارد الطبيعية، تأخذ على عاتقها توقيع اتفاقيات استثمارية مع شركات النقل والاستخراج والتسويق، دون التنسيق مع الحكومة المركزية.

قاد هذا السلوك إلى حدوث خلافات مستمرة منذ عام 2005، فيما يخصّ إقرار قانون النفط والغاز المركزي، الذي يضع النفط والغاز ضمن الموارد السيادية المركزية التي لا يمكن أن تتصرف فيها حكومة الإقليم بمعزل عن بغداد.

لكن هذا القانون، كان وما زال، محطّ جدل كبير بين الجانبين، وخلافات عديدة أهمها تعقيدات تتعلق بالاستحقاقات المالية السنوية، التي يجب أن تؤديها بغداد للإقليم ضمن الموازنة العامة؛ فبسبب رفض الإقليم وضع الحكومة الاتحادية يدها على إدارة ملف نفط وغاز الإقليم، عرقلت الحكومة إرسال مستحقات الإقليم من الموازنة المركزية.

ليس هذا فحسب، بل إن بغداد تطمح لإدارة المعابر الرئيسة بين الإقليم وتركيا وإيران بشكل مباشر. غير أن الإقليم لا يزال يقابل هذه الرغبات بالرفض. لتبقى هذه القضايا، منذ عام 2005 وحتى الآن، من أبرز الملفات التي تشكل محور خلافات الإقليم مع بغداد؛ مما قاد إلى حدوث أزمات اقتصادية مزمنة داخل الإقليم، نتيجة لامتناع بغداد بين الحين والآخر عن دفع مستحقاته الاقتصادية من الموازنة المركزية للدولة العراقية.

وعلى الرغم من هذه الخلافات فإن بغداد لا تتبنى أيًّا من الأعمال التي تنتهجها بعض فصائل المقاومة، في استهداف المطارات ومواقع شركات النفط وبعض المواقع الأخرى داخل الإقليم، التي يقول "محور المقاومة" إنها تابعة للموساد تارةً أو تابعة لأميركا تارةً أخرى.

وفي المقابل، لا يحمّل الإقليم بغداد مسؤولية هذه الاستهدافات، لكونه يعلم جيدًا أن عمليات إطلاق الصواريخ تحدث في مختلف مناطق العراق تجاه المصالح الغربية والأميركية، ولا تستطيع بغداد الحد منها دائمًا.

ولذا، فإن الحديث عن هذه الاستهدافات فيه الكثير من الإشكاليات، أهمها أنها تكون في الكثير من الأحيان بدفع خارجي مباشر من إيران، لغرض استهداف منشآت نفطية أو غازية، أو تحقيق غايات سياسية من خلال الضغط عبر القصف، فإيران هي المصدّر الرئيس للغاز إلى العراق، الذي يستخدمه في توليد جزء كبير من الطاقة الكهربائية عبر محطاته.

وقد قدم إقليم كردستان، في أكثر من مناسبة، عروضًا لتغذية المحطات الكهربائية بشكل مباشر، وهذا بطبيعة الحال يهدد الغاز الإيراني المستورد. لذلك، دائمًا ما تتعرض المنشآت النفطية والغازية والمحطات الكهربائية الموجودة في الإقليم لعمليات قصف مباشرة، من أجل إجباره على التراجع عن هذا الخيار.

هذا من جانب، ومن جانب آخر يستخدم "محور المقاومة" عمليات القصف المباشرة للحصول على مواقف أكثر ليونة من الأكراد في بغداد، فضلًا عن أن هذا الاستهداف فيه أبعاد إقليمية ودولية تتعلق برغبة إيران في إيصال رسالة إلى الجانب الأميركي، بأنها قادرة على استهداف المصالح الأميركية في أي مكان تريد. ودائمًا ما كانت أربيل الحلقة الأضعف في هذا التوازن الإقليمي والدولي، فكلما اشتدت الخلافات بين إيران والولايات المتحدة، كانت تتعرض لوابل من الرشقات الصاروخية، عبر الفصائل العراقيّة المسلّحة المقرّبة من إيران.

إشكاليات في المشهد السياسي الكردستاني

في ظاهر الأمر، يبدو المشهد السياسي الداخلي في الإقليم الكردي بشمال العراق، في حالة استقرار نسبي، تتضح من خلال حالة التقدم العمراني والاستقرار الأمني الكبير للإقليم. بيد أن النظر في التفاصيل سيقودنا إلى العديد من الإشكاليات المعقدة، التي تستمد تغذيتها من تدافع المصالح تارةً، ومن رؤى تاريخية ثأرية بين الأحزاب الرئيسة الحاكمة تارة أخرى، ويمكن تلخيص أهم هذه الإشكاليات على النحو التالي:

إشكالية قضايا الحوكمة والانتقال السياسي

فلا توجد في إقليم كردستان مساحة للديمقراطية، يمكن الحديث عبرها بشفافية عالية عما يجري في الإقليم فعلًا، ولا توجد انتخابات نزيهة بما يكفي للحديث عن تغيير سياسي خارج فكرة الأحزاب المسيطرة على الحكم، وليس هناك إمكانية للوصول إلى البيانات والأرقام الرسمية لعمليات تصدير النفط ولحجم الأرباح في قطاعات الاستثمار العام والكهرباء والغاز والمقاولات والطرق والجسور. هذا فضلًا عن انتشار المحسوبية والعلاقات الشخصية بشكل كبير.

يدار الإقليم فعليًّا بتوافق عشائري عام، إذ تبرز عائلة البرزاني عبر الحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل ودهوك، بينما تدير عائلة الطالباني مساحة اقتصادية وسياسية وأمنية في السليمانية من خلال حزب الاتحاد الوطني، إضافة إلى وجود عوائل أخرى كعائلة شاسوار عبد الواحد المرتبطة بـ"حركة الجيل الجديد"، فضلًا عن "الجماعة الإسلامية" والحركات السياسية الصغيرة الأخرى، مثل "حركة التغيير" و"الحزب الشيوعي الكردستاني".

أبرز الأحزاب الكردستانية - كردستان العراق

هذه التوليفة العشائرية التي تتصدرها عائلة البرزاني والطالباني بالدرجة الأولى، ولّدت تقاسمًا استراتيجيًّا كبيرًا للمناصب الأمنية والاقتصادية والسياسية العليا في الإقليم، إذ تُدوَّر هذه المناصب وتُحصَرُ المقاولات والأعمال التجارية وتصدير النفط والغاز عبر هذه المنظومة العائلية وشركائها المحليين والأجانب فقط، دون وجود بيئة استثمارية حرة فيها حوكمة أو انتقال سياسي وتداول سلمي للسلطة، سواء في إدارة الإقليم الرئيسة أو في إدارة الأحزاب السياسية داخل الإقليم.

وهذه التوازنات ذاتها داخل الإقليم، تجري مراعاتها عند الذهاب إلى بغداد، فتسيطر كذلك الفكرة العشائرية وتدوير المناصب الداخلي على السلوك السياسي الكردي اتجاه الاستحقاقات في الحكومة المركزية، لدرجة أنه لم يقدم أيٌّ من الأحزاب الكردية لبغداد وزيرًا مستقلًّا من خارج منظومة الأحزاب الحاكمة أو من خارج المنظومة العشائرية المتنفذة.

إشكالية فكّ الارتباط القانوني والإداري للسليمانية مع الإقليم وأربيل

تبرز فكرة العودة إلى بغداد وإنهاء الارتباط القانوني والإداري الموجود بين السليمانية وأربيل في تشكيل إقليم كردستان، نتيجة الانزعاج الشعبي الكبير في السليمانية من سلوكيات أربيل؛ معقل الحزب الديمقراطي الكردستاني، وتركيز الإعمار والاستثمار والعلاقات الخارجية فيها مقابل تهميش المواطنين في السليمانية، وكذلك لأسباب مالية وفساد مسؤولي الإقليم السياسيين وتحويله إلى مزارع سياسية عائلية فقط.

لا تبدو فكرة الانفصال هذه قابلة للتنفيذ بسهولة، خاصة في ظل الأوضاع الحالية، على الرغم من العجز الاقتصادي الكبير الذي يواجه الإقليم،. يقف في وجه هذه الفكرة رئيس الجمهورية السابق برهم صالح، وهو أحد القياديين السابقين لحزب الاتحاد الوطني، فلن يسمح بإضاعة مجهود عمره عشرات السنين من العمل كي يصل الإقليم والسليمانية إلى هذا الحد من العلاقة الإدارية. لهذا، من الصعب الحديث عن إمكانية فك الارتباط بين السليمانية وأربيل بشكل كامل.

بيد أن ما هو مطروح الآن، من محاولة لإعادة إحياء اللامركزية الإدارية داخل الإقليم، التي تم إلغاؤها عام 2012 من قبل مجلس وزراء الإقليم؛ قد يعدّ أكثر منطقية من فكرة فكّ الارتباط. وبالفعل، بدأ الاتحاد الوطني الكردستاني التعاون مع الأحزاب المحلية في كردستان، محاولة صناعة رأي عام ضاغط لتطبيق هذا النظام، الذي من شأنه السماح للسليمانية بالحركة بشكل أوسع في علاقاتها الداخلية والخارجية وتقليل التزاماتها مع أربيل.

شكل الصراع الداخلي

ولعل الوقوف بالتفصيل على شكل الصراع الدائر داخل إقليم كردستان، يحتم علينا النظر في طبيعة التفاعل والعلاقة بين أكبر حزبين حاكمين؛ حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني، وذلك على مراحل تاريخية مختلفة:

المرحلة الأولى (1975 – 1992): مرت العلاقة بين الجانبين بتذبذبات مختلفة صعودًا ونزولًا، بدأت هذه التذبذبات عام 1975 بعد انشقاق مجموعة من الحزب الديمقراطي الكردستاني لتؤسس لنفسها حزبًا سمّته لاحقًا الاتحاد الوطني الكردستاني، نتيجة لخلافات قيادية وفكرية، ولاعتقاد هذه المجموعة المنشقة أن القضية الكردية تعرضت لفشل كبير بسبب الملا مصطفى البرزاني وأبنائه وعشيرته التي سيطرت على الحزب وتعاونت مع مختلف القوى الداخلية والخارجية على حساب القضية نفسها.

وبالتالي كان لا بد، كما اعتقد الجناح المنشق، من نقل القضية الكردية إلى مستويات فكرية ونضالية أوسع من العشيرة البرزانية، والخروج من إطار العائلة التي كانت في حينه تدير كل شيء تقريبًا.

المرحلة الثانية (1992 - 1998): وهي مرحلة معقدة مرت بها القضية الكردية، شهدت صدامًا مسلحًا عنيفًا مباشرًا بين الحزبين الحاكمين، وكان الاتحاد الوطني الكردستاني فيها على وشك السيطرة على أربيل كلّيًّا لولا تدخل الجيش العراقي السابق وحسم المعركة وطرد الاتحاد الوطني الكردستاني من أربيل، وترسيخ سلطة الحزب الديمقراطي الكردستاني، ومن ثم توقيع "اتفاقية واشنطن" التي رسخت السلام بين الجانبين عام 1998.

المرحلة الثالثة (2003 - 2017): وهي مرحلة تغيير النظام العراقي وبداية عهد جديد بين الجانبين، وقد تُوّجت بإعلان الحكومة المشتركة على مستوى الإقليم وكتابة مسودة دستور، وتقاسم السلطات في بغداد ودخول الفاعل الكردي إلى السياسة العراقية بوصفه متغيرًا مهمًّا وحاسمًا.

لم تشهد هذه الفترة أيّ صدامات مسلحة، بل شهدت خلافات سياسية متفاوتة الحدّة، كان آخرها ما حدث عام 2017 نتيجة لفشل استفتاء الإقليم الذي قاده الحزب الديمقراطي الكردستاني، والذي أدى إلى تقدم القوات الاتحادية نحو محافظة كركوك والسيطرة عليها، بعد أن كانت تحت سيطرة البيشمركة التابعة للحزب الديمقراطي الكردستاني.

المرحلة الرابعة (2017 - حتى الآن): وهي مرحلة ما بعد الاستفتاء، التي سيطرت عليها أجواء الخلافات السياسية الحادة بين الجانبين، حتى وصلت إلى حدّ الاتهام بالخيانة واستحضار الصراعات التاريخية بين الجانبين في فترة التسعينيات التي كان فيها كلّ من الطرفين يستعين بالفاعل الخارجي وببغداد من أجل كسر إرادة الطرف الآخر.

مراحل الصراع الداخلي- كردستان العراق

الحاجة إلى الرعاية والاستثمار في الضعف

كانت القضية الكردية في العراق ولا تزال، تعتمد في ديمومتها وتقدم مساراتها على وجود رعاية وعامل خارجي مساند لها، فبعد الخذلان البريطاني للأكراد إثر الحرب العالمية الأولى، ثم دعم روسيا لجهود الملا مصطفى البرزاني، وتعزيز موقفه بعد عام 1958، انتقل الأكراد لتأسيس شبكة علاقات موسعة مع الولايات المتحدة، شملت تعاملًا عسكريًّا وتجاريًّا واستخباريًّا، فضلًا عن التعامل السياسي منذ فترة التسعينيات من القرن المنصرم، إذ يمتلك إقليم كردستان ممثلية خاصة به بمعزل عن وزارة الخارجية العراقية في الولايات المتحدة، كما عمل الإقليم على تشكيل لوبيات سياسية مؤثرة داخل واشنطن، عملت على إعادة تقديم صورة الأكراد من جديد للعقلية الأميركية.

من جهة ثانية، وبالرغم من أن النظرة الأولى إلى واقع وطبيعة العمران في إقليم كردستان العراق تُظهر ما يشهده من تطور في مجالات متعددة، فإن الواقع في ظل اختبارات الأزمات المزمنة يثبت أن الإقليم يعيش حالة من انعدام الشفافية والحوكمة المتقدمة، بسبب السياسات الريعية والعائلية التي يتبعها قادة الإقليم لإدارة إقليمهم المثقل بالأزمات الكردية الداخلية، فضلًا عن محدودية الحلول لدى حكومة الإقليم، وكذلك الديون الخارجية ومستحقات الشركات النفطية وشركات الغاز والكهرباء المتراكمة نتيجة للتمدد في الإنتاج، من أجل زيادة رفاهية الحياة على حساب حجم الموارد وطرائق استثمارها ومستقبلها.

جاءت عملية انهيار أسعار النفط عام 2014، ثم عام 2020، معاكسة تماما لما يطمح إليه الإقليم من تنمية شاملة. إضافة إلى محدودية الحلول التي عقّدت المشهد الكردستاني أكثر فأكثر، إذ لا تستطيع حكومة الإقليم مثلًا المطالبة بحصتها من الاحتياطي النقدي الفيدرالي في البنك المركزي العراقي لحل جزء من أزمتها؛ لكونه يخضع للإدارة السيادية وليس للإقليم صلاحيات بذلك.

كذلك، لا يستطيع الإقليم المطالبة بقروض خارجية من صندوق النقد الدولي أو دول بعينها، لأن ذلك يقع ضمن صلاحيات الحكومة المركزية في بغداد، مما أدى إلى حدوث ليونة أكبر من قبل حكومة الإقليم في تعاملاتها السياسية مع بغداد خلال فترة الأزمات؛ بسبب ارتباط وضع الإقليم الاقتصادي بموازنة العراق المركزية وبما يراه مزاج بغداد العام من تحولات.

ومن الممكن أن يعرّض ذلك الإقليم، لا لابتزازات من بغداد فقط، بل ومن تركيا وأميركا وحتى الصين وروسيا، إذ تستثمر هذه الدول في حالة ضعفه، عبر تقديم بعض المساعدات والمعونات المالية والدعم العام لإنقاذ اقتصاده من الانهيار؛ مما يزيد بُعد الإقليم عن بغداد في حال دعمه من طرف لديه مشاكل مع بغداد أو يرغب في زيادة الضغط عليها.

إستعراض للبيشمركة في كردستان العراق
إستعراض للبيشمركة في كردستان العراق (الجزيرة)

العلاقات الكردية الأميركية: تحالف في إقليم وعر

بشكل صريح، يكاد يكون الطرف الكردي في العراق أكثر الجهات وضوحًا وقربًا من الإدارة الأميركية، مقارنة بالطرف السني والشيعي، فما تبديه القيادة الكردية في العراق من تعاون إستراتيجي كبير مع المصالح والرغبات الأميركية لا تبديه الأطراف الأخرى، إذ نسج إقليم كردستان العراق علاقات مميزة معها منذ فترة التسعينيات مكنته من أداء دور مهم في السياسة العراقية الداخلية.

بيد أن كل ذلك لم يكن كافيًّا لجعل الولايات المتحدة تُغضِب حلفاءها في بغداد وأنقرة، من أجل تحقيق رغبات أربيل، حين طالب إقليم كردستان العراق بإجراء استفتاء نهاية عام 2017. فهم الكرد في العراق بعد الاستفتاء، أنهم حليف إستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية، لكن ليس في كل شيء، غير أن الإشكال يكمن في نظرة الكرد إلى قضية الاستقلال عن العراق على أنها كل شيء، وهو ما قادهم إلى ضرورة مراجعة حقيقية لحجم التعويل والاتكاء الإستراتيجي على الإدارة الأميركية لدعم موقفهم في هذه القضية؛ لذا بدأ الكرد البحث بشكل جديّ عن مناصرين دوليين آخرين لدعم قضيتهم غير الولايات المتحدة الأميركية.

في العموم، تدعم الإدارة الأميركية حكومة الإقليم في مجالات عدة، مقابل مواقف واضحة ومباشرة، إذ ساهمت الولايات المتحدة في دعم جهود قوات البيشمركة الكردية في حربها ضد "تنظيم الدولة الإسلامية" بعد عام 2014، وأمنت لها غطاءً جويًّا حسم الكثير من المعارك ودفع الخطر عن الإقليم، فضلًا عن تدريب القوات الكردية ودعمها المباشر على مستوى التسليح والتعبئة والأموال، التي تراوحت شهريًّا بين 17 و23 مليون دولار بين عامي 2014 و2018.

من جهة أخرى، دائمًا ما يتلقى الإقليم مساعدات ومنح مالية أميركية في مراحل الأزمات المزمنة، تمكنه من إعادة التوازن الداخلي الذي أصبح يعاني من التزعزع نتيجة تذبذب أسعار النفط.

بيد أن كل هذا الدعم يأتي ضمن إطار مشروط، فدائمًا ما كانت رؤية القوى السياسية الكردية تتسق مع ما تريده واشنطن من بغداد، حيث يعمل القادة الكرد في العراق على اختصار الكثير من الخطوات للجانب الأميركي نتيجة سهولة التماهي الكردي مع ما تريده واشنطن من بغداد، سواء على مستوى تشكيل الحكومات المتعاقبة أو فيما يتعلق ببعض القرارات والمواقف، كعدم حضور الكتل السياسية الكردية إلى البرلمان العراقي للتصويت مطلع الربع الأول من عام 2020 على قرار يقضي بإخراج القوات الأميركية من العراق، وبالتالي فشل هذا القرار لكونه اقتصر على بعض الكتل السياسية الشيعية فقط، في ظل مقاطعة سنية كذلك.

وبالرغم من العمق الموجود بين الجانبين في شكل العلاقة وطبيعة التعاون، بدأ الجانب الكردي يبحث عن علاقات دولية وإستراتيجية أخرى خارج الكنف والرؤية الأميركية، إذ إن التقارب الكردي مع الصين وروسيا وفرنسا وألمانيا، بالرغم من أنه محدود وضمن الإطار المقبول أمريكيًّا، فإنه يجب النظر إليه من منطلق تزعزع ثقة الجانب الكردي بواشنطن بعد أحداث استفتاء 2017، الذي لم يفقد قادة الكرد وحدهم الثقة بواشنطن، بل أفقد المجتمع الكردي كذلك هذه الثقة التي كان يراهن عليها طوال السنوات السابقة.

في المحصلة، لا يبدو أن هناك تحولات إستراتيجية في علاقات الجانبين يمكن أن تقود إلى حالة جديدة في الوقت الراهن، فقد فهم الكرد منزلتهم في المدرك الأميركي بعد الاستفتاء، وأن حلم الدولة الكردية غير مفعل حاليًّا في أجندة الإدارة الأميركية؛ لهذا بدأ الكرد التعامل مع هذا الأمر على أنه أمر واقع، مع محاولة الاستفادة قدر الإمكان من الجانب الأميركي على المستوى الإستراتيجي والعسكري والتعبوي، فضلًا عن الاقتصادي.

لا دولة: الثابت في علاقة إيران بكردستان

تشكل العلاقة بين إقليم كردستان العراق وإيران إحدى أعقد الحالات في المنطقة لما فيها من تدافعات تاريخية إيجابًا وسلبًا، فعلى طول الخط، ومنذ عام 1946 حين تأسست أول دولة كردية في مهاباد الإيرانية على يد الملا مصطفى البرزاني والقاضي محمد، وإنهاء إيران هذه الدولة بعد أشهر قليلة بالقوة، يستشعر الأكراد في العراق أخطار الجوار الإيراني الوعر، الذي لا يخفي عداءه المباشر عندما يصرّح الأكراد في العراق برغبتهم في إقامة دولة كردية مستقلة.

وعلى الرغم من ذلك، أتت لغة المصالح التجارية المشتركة بين الجانبين لتلطف الأجواء قليلًا، وتقلل الاحتقان في طبيعة التعاطي مع القضايا المشتركة بين الجانبين، حيث توجد إيران بقوة بصورة غير مباشرة عبر العلاقات السياسية والدبلوماسية داخل السليمانية وحلبجة، معقل حزب الاتحاد الوطني الكردستاني.

كما تتمتع إيران بعلاقات اقتصادية مميزة مع أربيل ودهوك، معقل الحزب الديمقراطي الكردستاني، لكن ضمن إطار الجهود والتعاون الاقتصادي، دون وجود تأثير كبير على مستوى السياسة.

وزير داخلية كردستان العراق يتحدث أمام البرلمان العراقي بشأن القصف الإيراني لأربيل/ وكالة الأنباء العراقية
وزير داخلية كردستان العراق يتحدث أمام البرلمان العراقي بشأن القصف الإيراني لأربيل/ وكالة الأنباء العراقية

ومن الممكن ملاحظة التأثير الإيراني بشكل مميز في سلوكيات حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وتحديدًا في موقف الحزب الرافض لاستفتاء عام 2017، الذي أصرت أربيل ومسعود البرزاني على إجرائه، إذ كان واضحًا أنه موقف ذو جذور وخلفيات إيرانية.

من جهة ثانية، يؤدي حزب العمال الكردستاني أدوارًا مهمة في السليمانية ومحيط كركوك، ومناطق أخرى داخل السليمانية بسبب وجود تحالف بينه وبين قيادة السليمانية، التي تدعم جهود وأعمال الحزب المضادّة لتركيا. ويأتي هذا التعاون بين السليمانية وحزب العمال، في ظل رؤية إيرانية توظف الحزب من أجل مزاحمة تركيا ومزاحمة أربيل كذلك في مختلف المناطق. بمعنى، أن شبكة التخادم الثلاثية التي ضمت الجانب الإيراني والسليمانية وحزب العمال، تعمل ضدّ شبكة المصالح الأخرى التي نسجتها أربيل سواء مع الجانب التركي أو مع الجانب الأميركي إلى حد ما.

في العموم، يمكن الحديث عن الثابت في موقف إيران من الإقليم، وهو عدم الموافقة على المضي في اتجاه ترسيخ دولة جديدة كردية بمعزل عن العراق. إضافة إلى أن إيران، تنظر إلى إقليم كردستان على أنه سوق مهم لبضائعها بشكل كبير.

كما تحصل إيران على موقف شبه ثابت من كردستان العراق، وتحديدًا من الجناح الكردي في السليمانية (حزب الاتحاد الوطني الكردستاني)، متعلّق بتشكيل الحكومات المتعاقبة في العراق وتمرير بعض القضايا التي تطمح إليها إيران. لهذا، كثيرًا ما تحسب سياسات ومواقف السليمانية على أنها تتماهى مع المصالح الإيرانية بشكل كبير.

العلاقات التركية الكردية: التركيز في الاقتصاد وتجنّب ما سوى ذلك

استطاع نيجيرفان بارزاني، رئيس إقليم كردستان الحالي، أن يخلف برهم صالح في قيادة الملف الكردي العراقي مع الجانب التركي، إذ أوصل علاقات كرد العراق وتحديدًا الحزب الديمقراطي الكردستاني، إلى نوع من البراغماتية المتبادلة بين الجانبين، بما يضمن تحقيق المصالح المشتركة.

وتتميز العلاقات الاقتصادية التركية الكردية، بأنها علاقات متينة بحكم الجوار الجغرافي للجانبين. وعلى الرغم من أن علاقات الجانب الكردي مع تركيا لا تندرج ضمن الإطار الدبلوماسي، إذ إن الإطار الدبلوماسي للعلاقات هو شأن اتحادي سيادي تقوم به بغداد، فإن تركيا تتمتع بعلاقات مميزة اقتصاديًّا مع الإقليم الكردي من منطلق التبعية الاقتصادية، إذ تشير بعض الإحصاءات الحديثة الصادرة عام 2024 إلى أن حجم التبادل التجاري العام الماضي تجاوز 19 مليار دولار، بوجود أكثر من 12 ألف شركة تركية في العراق، أكثر من 50% منها في إقليم كردستان العراق.

ميناء جيهان التركي حيث تصله تدفقات النفط العراقي عبر الأنابيب (رويترز) FILE PHOTO: A general view of the Kirkuk-Ceyhan pipeline linking Iraq and Turkey at Turkey's Mediterranean port of Ceyhan. REUTERS/Umit Bektas/File Photo
ميناء جيهان التركي حيث تصله تدفقات النفط العراقي عبر الأنابيب (رويترز)

ولذلك لا توجد خلافات جوهريّة بين الجانبين، خاصة فيما يتعلق بحجم التبادل واتفاقيات بيع ومرور الغاز والنفط والكهرباء. ولعل أبرز خلاف بينهما، هو طموحات إقليم كردستان العراق التي دائما ما كانت تجابه بموقف تركي صارم، بعدم قبول أي تحركات تتعلق بالاستقلال عن العراق، إذ ترفض تركيا هذه القضية رفضًا قاطعا، بالقدر الذي يجعلها قضيّة أمن قومي بالنسبة لها، إلى درجة أنها قد تدخل في حرب مباشرة مع الإقليم في حال ذهابه بهذا الاتجاه دون التنسيق معها.

إضافة إلى ذلك، تعاني الحكومة التركية من توغل حزب العمال الكردستاني في الكثير من مناطق الإقليم، سواء في محافظة السليمانية ودهوك وأربيل أو في المناطق المتنازع عليها مع الإقليم. إذ يزعج الحزب الأمن القومي التركي بشكل مستمر؛ لهذا دائما ما يقوم الجانب التركي بعمليات مباشرة ضد نشاطاته.

ولعل وجود الحزب في فترات سابقة كان نتيجة قبول سياسي كردي، لكن يبدو أن الأمور الآن خرجت عن سيطرة الإقليم، فلا يستطيع الإقليم خاصة جناح أربيل أن يطلب من الحزب مغادرة أراضي الإقليم؛ لأن الحزب لن يمتثل، فهو يتمتع بشعبية عالية بين الأكراد داخل الإقليم، كما لا يستطيع الإقليم الدخول في مواجهة عسكرية داخلية من أجل الرغبات التركية، ولكنه يكتفي بالتنسيق مع الجانب التركي عند ضرب الأتراك عناصر الحزب.

في العموم، يبدو أن الاقتصاد هو الثابت حتى الآن في العلاقات بين الجانبين، أما الأمن والسياسة والقضايا القومية الأخرى فلا تزال محل خلاف كبير مع الجانب التركي؛ لهذا يقع إقليم كردستان العراق في كماشة الجانب التركي بشكل مباشر وصريح؛ مما يزيد من الهوان الإستراتيجي لأي دولة يمكن أن تظهر مستقبلًا للأكراد، حيث ستكون دولة مخنوقة جغرافيًّا من جميع الجهات تقريبا؛ ولهذا لا يستطيع الجانب الكردي في العراق سوى التماهي مع الرغبات التركية، وهذا الحال سيستمر مستقبلًا سنين عديدة.

ما رؤية إقليم كردستان العراق لتطبيع العلاقات مع إسرائيل؟

من الضروري الانتباه إلى أن القضية الفلسطينية في منظورها العربي، تتخذ من الأساس القومي العروبي والأساس الديني العقائدي مصدرًا رئيسًا تستمد منه المواقف العامة اتجاه إسرائيل وفلسطين، في حين يرى المجتمع الكردي من منظور قومي أنه ليس ثمة تدافع تاريخي بين الأكراد وإسرائيل.

ومع ذلك، فإن جلّ الموقف الكردي الإيجابي من القضية الفلسطينية، يستمد محركاته من الأساس الديني فقط، فالمسلمون الأكراد لديهم موقف المسلمين العرب ذاته من قضية فلسطين، ولكن إذا قارنّا بين عرب العراق وأكراد العراق، فلن نجد الموقف الاجتماعي ذاته.

بيد أن الحس القومي في إقليم كردستان أعلى صوتًا بكثير من الحس الديني الإسلامي؛ لهذا لا يمكن الحديث عن موقف عراقي شامل من إسرائيل، يشمل إقليم كردستان.

ورغم ذلك، فإن الإقليم يحدد موقفه من القضية الفلسطينية في إطار ما تتخذه وزارة الخارجية العراقية من موقف رسمي عام، إذ دفع الإقليم هذه الإشكالية عن نفسه، من خلال إعلانه والتزامه بنص الدستور العراقي الذي يشير إلى أن بغداد هي الطرف الرئيس المسؤول عن علاقات العراق الخارجية.

ومع ذلك، فلا يبدو أن الإقليم ملتزم حرفيًّا بهذا البند، حيث أقام علاقات واسعة مع مختلف دول العالم بمعزل عن بغداد ورغباتها. لكنه فيما يخص إسرائيل، لا يبدو أنه يسعى لإقامة علاقات علنية معها، قد تسيء إلى علاقاته المباشرة مع حلفائه وأصدقائه داخل وخارج العراق.

وبالرغم من اختلاف المنطلقات التي ينطلق منها الإقليم في نظرته إلى إسرائيل مقارنة بالقوى السياسية السنية والشيعية في العراق، فإن قادة الإقليم يعتقدون أنه ليس من الضروري أن تكون هناك علاقات علنية مع إسرائيل في الوقت الحالي، قد تضره ولا تنفعه.

ولعل الإقليم لا يرفض إقامة علاقات مع إسرائيل إن سنحت له الفرصة والظروف في وقت لاحق، مع أن ارتدادات هذا الموقف حاليًّا قد تكون كبيرة على الإقليم داخليًّا، ولا سيما أن هناك محورًا مهمًّا ورئيسًا في العراق وهو "محور المقاومة"، الذي يستهدف كل ما يتعلق بالولايات المتحدة وإسرائيل.

لهذا، ورغم وجود تواصل غير مباشر لإقامة علاقات اقتصادية بين إسرائيل والإقليم، من خلال دول أخرى وسيطة مثل الولايات المتحدة الأميركية، فإن قادة الإقليم يعتقدون أنه ليس من الضروري أن يعلن عن ذلك، فلا يرفض الإقليم العمل مع شركات اقتصادية يملكها رجال أعمال إسرائيليين مثلًا، أو جنسيات أخرى مرتبطة بالمصالح الإسرائيلية، لكنه ليس من السهولة ملاحظة ذلك.

وزد على ذلك، أن بعض المحددات الداخلية الكردية التي تنطلق من منطلق ديني قد تمنع إقامة هذا التواصل. ففي داخل الإقليم، هناك تيار ديني واسع يدعم جهود الإقليم السياسية وهو رافض لإسرائيل، وبالتالي يخشى قادة الإقليم خسارة موقف هذه التيارات داخليًّا إذا أعلنوا علاقاتهم مع إسرائيل.

أكراد العراق بين فعلين

وهكذا، فإن القضية الكردية ما زالت عالقة بين تدافعات الإقليم والمجتمع الدولي، وانعكس ذلك على طبيعة هذه القضية بين البلدان الأربعة الرئيسة: العراق، وسوريا، وتركيا، وإيران. الأمر الذي ولد تفاعلات خاصة داخل العراق، تراوحت بين الفعل المسلح والفعل السياسي.

إن العلاقة بين بغداد وإقليم كردستان، علاقة معقدة تخضع لتوازنات متعددة الأبعاد، إذ يعلو صوت الإقليم في وجه بغداد كلما ارتفعت أسعار النفط العالمية وقلّت الحاجة إلى الجلوس مع بغداد من أجل المفاوضات على حصة الإقليم، وينخفض صوته إذا تراجعت تلك الأسعار، لتصبح أربيل أكثر خضوعًا في تعاملاتها.

لقاء رئيس البرلمان العراقي السابق محمد الحلبوسي مع الزعيم الكردي مسعود البرزاني (الجزيرة)
لقاء رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي مع الزعيم الكردي مسعود البرزاني (وكالة الانباء العراقية)

ويؤمن قادة الإقليم بأن إعلان الدولة الكردية لا يمكن أن يكون في أربيل، وإنما يجب أن يكون في بغداد. وقد توصّل قادة الإقليم إلى هذا الاقتناع بعد صراع حافل، سياسي وعسكري، كان آخره استفتاء 2017 لاستقلال الإقليم عن العراق، إذ أُنهي هذا الاستفتاء سياسيًّا وقانونيًّا وعسكريًّا؛ مما أعاد أربيل إلى مرحلة معقدة من الخضوع لبغداد بعد فشل سياسة الأمر الواقع، التي طالما استخدمها قادة الإقليم اتجاه بغداد.

فضلا عن وعورة المحيط الإقليمي مقارنة مع بغداد، فالأخيرة كانت هي المعني الأول بالتفاوض مع الإقليم في الاستفتاء وكانت الأكثر سهولة في التعامل، مقابل تهديدات الاجتياح العسكري وقطع العلاقات التجارية مع الإقليم من قبل إيران وتركيا. على إثر ذلك، أدرك الإقليم أن مفتاح الدولة الكردية الذي أصبح بعيد المنال، موجود في بغداد وليس في أربيل.

وقد صارت حالة التهديد الفصائلية المستمرة اتجاه الإقليم (مطارات، شركات نفط وغاز، مواقع عسكرية وقنصليات)، إحدى الإشكاليات المزمنة داخل العراق، لكون عمليات الاستهداف مرتبطة بشكل مباشر بالتصعيد وخفض التصعيد بين الولايات المتحدة وإيران من جهة، وإيران وإسرائيل من جهة أخرى. هذا فضلا عن ارتباط هذا الاستهداف للإقليم بعوامل اقتصادية تخص الأمن القومي الإيراني، متعلّقة بالحدود مع العراق وما تصدره إيران من غاز لتشغيل المحطات الكهربائية العراقية.

تعيش الأحزاب السياسية الكردية حالة متقدمة من الصراع تقف على بعد خطوة واحدة في بعض الأحيان من الصدام الداخلي المسلح. غير أن رؤية رئيس الإقليم السابق ورئيس الحزب الديمقراطي الحالي مسعود البارزاني، تمنع حدوث أي اقتتال كردي مهما كان الثمن، إضافة إلى البراغماتية العالية التي تبديها الأحزاب السياسية الأخرى بعد تعمقها في عالم المصالح والخوف من فقدان المكتسبات والرفاه.

لكن أغلب الاحتقانات الكردية لا يتم تفكيكها، وهي في حالة تراكم مستمر، وقد تنفجر اجتماعيا في أي لحظة بعد رحيل مسعود البارزاني.

في النهاية، أدرك قادة الإقليم، ولا سيما بعد عام 2017، أن الاعتماد المفرط على الولايات المتحدة لتوفير الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، قد يكون رهانًا خاسرًا على المستوى البعيد، لكون الولايات المتحدة ليس من بين أجنداتها دعم التوجه الكردي لإقامة دولة في الوقت الحالي، وذلك لمعرفة الجانب الأميركي أن هذه الدولة لا يمكن أن تصمد أسابيع قليلة في ظل وعورة المنطقة الإقليمية، بوجود فاعل إيراني وتركي، قد يقود إلى نسف كل مكتسبات أميركا في الإقليم، التي عملت على تأسيسها سنوات طويلة.

البداية
المقدمة

إيران في العراق.. كيف تغيّرت ألوان الخريطة

التقسيم الديموغرافي - عراق
التقسيم الديموغرافي - عراق

إيران في العراق.. كيف تغيّرت ألوان الخريطة

عمار مرعي

يدخل العراق مرحلة تغيرات ديمغرافية جديدة لها أبعاد مستقبلية خطيرة، تُنذر بحصول اختلال في تركيبة المجتمع وتغيّر في ملامح الخريطة الديمغرافية، وبالدخول في أزمة مجتمعية معقدة، ولا سيما أنه من المحتمل اتساع دائرة العنف التي لإيران دور في إدارتها والتحكم فيها.

على إثر هذه الأزمة، أخذت تتزايد يومًا بعد يوم التحليلات السياسية التي تتحدث عن طبيعة الوجود الإيراني في العراق، ثمّ تزايد الحديث أكثر فأكثر عام 2014، بعد احتلال "تنظيم الدولة الإسلامية" لبعض المدن والمحافظات السُّنية في العراق.

أعقبت ذلك تطورات وتغيرات عدّة كانت لها انعكاساتها السلبية على تلك المدن، وكانت لها انعكاسات إيجابية على المشروع الإيراني في العراق، لكونه حقق أبرز ما يطمح إليه خلال مدة قصيرة.

بمعنى آخر، كانت إحدى نتائج التدخل الإيراني في العراق، حصول تغيير في خريطة الديمغرافيا، إذ ارتبط تصاعد النفوذ الإيراني في العراق بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، بتغيير ألوان خريطة التركيبة السياسية والسكانية للشيعة والسنة في العراق. فمن الناحية السياسية، صعدت القوى والأحزاب السياسية الشيعية المقربة من إيران إلى قمة الهرم في العملية السياسية، وفي المقابل تراجع دور وتأثير القوى والأحزاب السنية الداخلة في العملية السياسية.

أما من الناحية السكانية، فقد أدى نشاط المليشيات الشيعية الموالية أو المدعومة من إيران، إلى حدوث خلل في مناطق التمركز، خاصة المختلطة منها، التي يسكنها الشيعة والسنة، فتزايدت أعداد المكون الشيعي في تلك المناطق، في الوقت الذي تناقصت فيه أعداد المكون السني. وهو ما أدى إلى حصول تغيير ديمغرافي على حساب الطرف السني.

وفق ذلك، تتبادر إلى الذهن تساؤلات حول الصدع المذهبي الشيعي السني، في العراق: كيف بدأ؟ وكيف تطور واتسع نطاقه؟ وما أخطاره وامتداداته المستقبلية؟

المنطلقات الفكرية والعقائدية للتغيير الديمغرافي

تهدف الإستراتيجية الإيرانية إلى تغيير الديمغرافيا في العراق، وإيجاد بؤر شيعية خالصة، ذات مهام خاصة، تتعلق بالتدخل في الأمن القومي العراقي، وتكريس النفوذ الإيراني.

لقد ساد داخل منظومة صنع القرار السياسي الإيراني، اتجاهان يتعلقان بالنهج الإستراتيجي الذي ينبغي للخارجية الإيرانية اتباعه في العراق، وهما على النحو الآتي:

الاتجاه الأول: تبناه التيار الإصلاحي برموزه وقياداته المختلفة، وعلى رأسهم السيد محمد خاتمي وهاشمي رفسنجاني. ويدعو هذا الاتجاه إلى أن تتبنى إيران دورًا إيجابيًّا في العراق، يدعم كل مكونات المجتمع العراقي بما يحقق المصلحة الإستراتيجية الإيرانية، التي يجب أن تدعم الجهود الأميركية لبناء عراق مستقر وآمن، ينهض على أسس الديمقراطية والتعددية.

وذلك لأن فشل الولايات المتحدة سيؤدي إلى إثارة نوع من الفوضى والاضطراب داخل العراق، وهو ما سيؤثر بالضرورة في إيران أمنيا وسياسيا، فضلًا عن الحذر من إثارة حفيظة الولايات المتحدة التي تحتفظ بقوات مسلحة بالقرب من إيران.

الاتجاه الثاني: عبر عنه التيار المحافظ في إيران وأجنحته  خاصة في الحرس الثوري الإيراني، ويقوم على ضرورة التحرك في العراق باستخدام كافة الوسائل لبسط النفوذ في العراق

ويستند هذا الاتجاه على احتمالين: الأول؛ في حال نجاح الولايات المتحدة في بناء حكومة عراقية قوية موالية لها، فإن مثل هذه الحكومة ستكون قاعدة ارتكاز لهجوم الولايات المتحدة على إيران، والثاني؛ في حال فشل الولايات المتحدة في الاحتمال السابق، فإن الخطر الأمني على إيران المتمثل في تزايد الفوضى والعنف سيظل قائمًا.

ويجب على إيران أن تبادر إلى منع حدوث الاحتمالين، وذلك بتدخلها في العراق كمرحلة أولى، ثم الانتقال إلى العمل الميداني في المرحلة اللاحقة. أما الدور القوي الذي تؤدّيه الأذرع الإيرانية داخل العراق، فيقوم على تجنيد وتمويل وتدريب عناصر شيعية لديها القدرة على القيام بعمليات ميدانية تساهم في إحداث واقع تسيطر عليه  إيران.

وبهذا، وعلى الرغم من تركيز إيران في إستراتيجيتها على العناصر السياسية الشيعية، فإنها أعطت الفصائل المسلحة والمليشيات الشيعية أيضًا الدور الأكبر في الساحة العراقية، لكونها يقع على عاتقها دور تعديل الديمغرافيا في مناطق  حيوية لمصالح إيران ومخططاتها الإستراتيجية.

العراق التقسيم العرقي-01

عملية تفتيت النسيج

بدأ التنفيذ الفعلي لإستراتيجية تفتيت النسيج المجتمعي العراقي منذ عام 2005، وتحديدًا بعد التفجير الذي ضرب مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، فتزايدت عمليات التطهير التي قامت بها المليشيات الشيعية والجماعات المسلحة من السنة للأحياء التي يختلط فيها الطرفان، وهو ما عرف بإعادة الفرز الطائفي والتهجير السكاني الواسع النطاق.

كذلك، تراجعت حالات الزواج المختلط بين الجانبين، فضلًا عن تفشّي ظاهرة القتل على الهوية، وتصاعد أعداد المهجرين واللاجئين العراقيين الذين فروا من العنف الدائر في العراق إلى دول الجوار، حتى بلغت أعدادهم نحو أربعة ملايين، إضافة إلى التدمير الذي لحق بالمساجد السنية والشيعية والحسينيات ومجالس العزاء، وما أصاب البنية الاقتصادية العراقية من شلل.

يمكن الحديث عن أن عملية التفتيت للديمغرافيا العراقية بدأت من الفراغ الأمني الذي حصل في العراق بعد عام 2003. هذا الفراغ جعل "تنظيم القاعدة" يؤسس لوجوده بشكل كبير، وهو ما منح المليشيات الطائفية مبرّرًا لإطلاق يدها في مناطق وجود التنظيم، التي هي بالأساس مناطق تسكنها أغلبية سنية؛ مما مهد لحملة التغيير الديمغرافي التي شنتها المليشيات.

لاحقًا، تعمّقت الفجوة بين المكونات المجتمعية في العراق بعد تفجير مرقد الإمامين العسكريين في سامراء عام 2006. وقد زار قادة "فيلق القدس" العراق، وبدأت عملية تكوين خلايا وتجمعات مليشياوية تابعة له.

كما عيّنت مجموعة خاصة، كانت مهمتها متابعة الحراك الشعبي في المدن السنية، وبإشراف من سياسيين عراقيين، عملوا على دمج هذه المجموعة بعدد من المليشيات السابقة، بهدف تجنيد عناصر محلية في مدن وقصبات المحافظات السنية، لاحتواء الأوضاع الأمنية فيها، وبسط النفوذ على المدن السنية.

ومع ذلك، أُنشئ معسكر تدريبي في منطقة الإبراهيمية بمحافظة كربلاء، لتدريب عدد من المتطوعين معظمهم من أهالي محافظة ديالى، الذين جُنّدوا وأُعدّوا للالتحاق بالتنظيمات الميليشاوية، ليقوموا بعمليات واستهداف للأهالي والعشائر. كما فُتح معسكر تدريبي آخر في منطقة تل الزبيبة بمحافظة كربلاء، وخصص للتدريب والإسناد في دعم قواطع العمليات في المحافظات السنية.

إضافة إلى ما سبق، استخدمت مكاتب لجهات سياسية عراقية، لتكون مقرًّا لعدد من قادة فيلق القدس، لإدارة وتوجيه التدريب في المعسكرات، وإعداد مناهج التدريب فيها. وقد اشتركت عناصر وقادة من الحرس الثوري، في القتال ضد تنظيم الدولة في المناطق السنية.

وفي هذه المناطق التي كانت تشهد قتالا بين القوات الأمنية العراقية وتنظيم الدولة، كان قائد فيلق القدس قاسم سليماني دائم الظهور الميداني، وهو ما عبّر عن تعاظم دوره في العراق.

استطاعت الميليشيات إحداث فجوات سكانية وتغيير ديمغرافي في مناطق وجود المكون السني. إذ يضمن لها هذا النهج، الهيمنة والسيطرة وبسط النفوذ، وتوسيع قاعدة التمركز الإيراني خارج حدودها.

يوفّر لها ذلك عوامل قوة ترتكز عليها في تحقيق مشروعها، ببناء "مَصَدَّات دفاع مذهبي" خارج حدودها الجغرافية، تنطلق عبر المدخل العراقي، وتمرّ بالدول التي تمثل "سلسلة الصدع المذهبي"؛ وهي الدول التي تشكل حزاما وحدودا مذهبية تمتدّ من إيران إلى لبنان، مرورًا بسوريا والعراق، بحيث تشكّل بمجموعها مَصَدَّات دفاعية جيوبوليتيكية.

تدرك إيران أنها تسطيع بهندستها للديمغرافيا بشكل يرجح كفة المكون الشيعي على بقية المكونات في العراق تأمين حركة أكثر انسيابية ودورًا أكثر فاعلية،  يؤمن لها حدودها، ويحفظ لها وجودًا ونفوذًا في العراق، من خلال توطين من تعتقد أنهم أقرب إلى تطلعاتها.

العراق التقسيم العرقي-02 (1)

ما هي الإستراتيجية في التغيير الديمغرافي؟

ارتكزت الإستراتيجية في إحداث التغيير الديمغرافي في العراق على الركائز التالية: التشجيع على خوض الانتخابات لتنصيب حكم شيعي موال لطهران؛ وإيجاد درجة من الفوضى البناءة بحيث تكون سهلة الانقياد، لإحداث اضطرابات قابلة للسيطرة، من أجل إحداث اختلال في توازن التركيبة المجتمعية لصالح المكون الشيعي على حساب المكونات الأخرى؛ وتجنيد سلسلة واسعة من الفاعلين المتنوعين ممن يوفرون حرية الحركة أمام النفوذ الإيراني.

ومن أجل تحقيق المصالح والأهداف الإستراتيجية، انصبّ جوهر تلك الركائز على تأجيج الصراع الطائفي في العراق، وتوسيع دائرة الصراع المذهبي وإحداث تغييرات ديمغرافية، ويمكن تحديد ملامح هذا الدور على النحو الآتي:

التعامل مع مكونات المجتمع العراقي بمنظور طائفي ضيق الأفق، من خلال دعم طيف واحد من الأطياف العراقية دون غيره، وهو المكون الشيعي. وقد توافق هذا النهج مع نهج المحاصّة الذي اعتمدته الولايات المتحدة لإدارة العراق، وهو ما شكل جوهر أزمة العنف الطائفي والتطهير العرقي في البلد. إيجاد منطقة نفوذ في الجنوب العراقي، ذي الأغلبية الشيعية والغني بمصادر البترول، وذلك ليكون قاعدة نفوذ ثابتة، تنطلق منها إلى مجمل النشاطات في العراق. إيجاد حالة من العنف المحدود المسيطر عليه، وهو عنف تحقق من خلاله أهدافها في إضعاف الحكومة العراقية وتكبيل يدها عن القيام بحفظ الأمن، وعلى إيجاد ثغرات تستطيع من خلالها التغلغل أكثر في العراق، وإحراج الولايات المتحدة بإظهارها بمظهر العاجز عن تحقيق السلم في العراق، وإحراجها دوليًّا بإظهارها على أنّها المتسبب في تفشي العنف.فكّ "حزام بغداد السنّي"

من الواضح أن الممارسات التي تنتهجها الفصائل المسلحة والمليشيات في المناطق السنية في بغداد ومحيطها، تهدف إلى تفكيك الطوق السني حول بغداد بتكثيف وجود الشيعة فيه.

هذه المناطق، تعد "حزام بغداد السني" الذي يحدد "هوية بغداد"؛ مما يعني أن دخولها حتمي في الحسابات الهادفة إلى تغيير هوية العاصمة، وإفراغ المناطق السُّنية في بغداد من مكونها الأصيل. لذلك، اتبعت الميليشيات، الكثير من الوسائل، منها أنها:

شنت عمليات تفريغ منظمة في هذه المناطق؛ مما تسبب في مغادرة سكان مناطق المحمودية والطارمية وغيرها.نقلت تجمعات سكانية من الشيعة داخل المناطق السنية، مثل ناحية النصر والسلام في منطقة "أبو غريب"، واشترت الأراضي الواقعة في المساحات الخالية في منطقة الدورة، وهي مناطق ذات غالبية سنية.كثّفت الاعتقالات في مناطق حزام بغداد بحجة الإرهاب، وكثيرا ما تجري في هذه المناطق عمليات تفجير أو اغتيال؛ مما يفسح المجال لشنّ حملات اعتقالات عشوائية.استولت على أراض وعقارات في مناطق ذات غالبية سنية، كمنطقة الغزالية والعامرية واليرموك، مع التصرف بسندات الأراضي، وتحويل عائدات الأراضي إلى بعض قيادات الفصائل المسلحة.جنّدت أبناء المناطق السنية، فأوكلت إليهم مهام نقل معلومات عن مناطقهم، مقابل أموال وتوظيف في مؤسسات ومنظمات تابعة لهم.

بناء على ذلك، يمكن الاستنباط من عملية التغيير الديمغرافي في مناطق التمركز السني في بغداد، أنها ليست سوى بداية لتغيير ديمغرافي أوسع في محافظات أخرى. وقد سبق أن جرّبت إيران ذلك في سوريا، مما قد يعني أن ما يجري في العراق ليس سوى استنساخ لما حصل في سوريا من تغيير ديمغرافي بعد الثورة.

المستقبل الأكثر خطورة

إن استقراء واقع ما يجري من عمليات تهجير قسري في بعض مناطق العراق، وفي مقدمتها ديالى وبغداد ونينوى وصلاح الدين وكركوك، يُنبِئ بحصول مجموعة من الآثار والنتائج المستقبلية، التي ستكون لها تداعيات مخيفة على المكون السُّني والتعايش السلمي ومستقبل العراق برمته.

من ذلك، استمرار عمليات التهجير القسري لأبناء وعوائل المكون السني من مناطقها الأصلية، وهو ما ينذر بأخطار جمّة، منها ما هو صحيّ نتيجة سكن النازحين في أماكن لا تصلح للعيش البشري، ومنها ما هو نفسيّ نتيجة الرعب والخوف الذي يعيشه النازحون بسبب ما شاهدوه من ممارسات العنف والقتل والتشريد، ومنها ما هو تعليميّ نتيجة ترك أعداد كبيرة من الأطفال مقاعد الدراسة، ومنها ما هو تربويّ متمثّل بممارسة أفعال إجرامية ومخالفات قانونية ناجمة عن العوز وانعدام العدالة مما يعني سهولة الانضمام إلى الجماعات المتبنية للعنف.

كذلك، فإن عمليات القتل والاعتقال والتهجير، ستؤدي إلى تناقص أعداد المكون السني. كما أن تردي الأوضاع في المناطق السنية، سواء من الناحية الأمنية أو المعيشية أو الخدماتية، سيدفع العوائل السنية إلى مغادرة العراق والبحث عن موطن أكثر أمنًا وحرية ورفاهية.

وبالتزامن مع ذلك، يمكن تغيير الملامح الرئيسة لمناطق التمركز السني من الناحية العرقية والقومية، ولا سيما في المناطق القريبة من الحدود الإيرانية كديالى، سواء عن طريق شراء الأراضي والمنازل وإفراغها من سكانها السُّنة، أو عن طريق نقلهم بطرق عدّة، ثم نقل وتوطين عناصر أجنبيّة إلى تلك المناطق بعد تهجير العرب السنة، أو عبر التكاثر المختلط بين الشيعة من العرب والفرس، لخلط أوراق التركيبة السكانية في العراق.

ونتيجة لذلك، وفي حال استمرار وتكرار مشاهد التغيير الديمغرافي في مناطق التمركز السني، فمن الممكن أن يسبب ذلك انهيارًا في منظومة التعايش والسلم الأهلي، فقد تتصاعد وتيرة الحقد والانتقام والكراهية بين مكونات المجتمع، ويؤدي ذلك بمرور الوقت إلى تهشيم النسيج الاجتماعي للدولة.

وربّما يكون الاحتمال الأكثر خطورة لعملية التغيير الديمغرافي هذه، هو الدفع باتجاه إعلان الانفصال، لأنه سيؤدي إلى تقسيم العراق إلى دويلات، سواء على أساس طائفي أو مذهبي أو قومي، ولا سيما أن عمليات التغيير الديمغرافي الجارية في بعض مدن العراق كديالى وبغداد، أخذت تمهد لبدء وانطلاق عملية التقسيم على أساس طائفي، خصوصًا أن هذا الاحتمال له أطره النظرية المتمثلة بمشروع الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي يهدف إلى تقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم طائفية.

ومن نافلة القول أن عمليات التغيير الديمغرافي يرافقها انحسار في فرص العمل وخسارة أصحاب العمل لأعمالهم في مناطقهم؛ مما يؤدي إلى زيادة معدلات الفقر. وسيكون المكون السني - على الأرجح- هو الأكثر تضرّرًا على المستوى الاقتصادي على عكس المكونات الأخرى المستقرة في مناطقها.

أما أكثر المناطق السنية المتوقع ممارسة الضغوط عليها في المستقبل من قبل المليشيات، فهي مناطق مركز وحزام بغداد، فمن المتوقع أن تحكمها المليشيات بقبضة من حديد.

وأسباب ذلك كثيرة، لكن أبرزها هو أهمية ومكانة العاصمة بغداد في المنظور الإستراتيجي الإيراني. ثم تأتي محافظة ديالى لتأخذ نصيبها من الضغوط، ولا سيما أنها تحدّ إيران جغرافيًّا، وتختلف معها ديمغرافيًّا لكون غالبية سكانها من العرب السُّنة.

في المحصّلة، فإن تقليص مساحة انتشار أبناء المكون السني وحصر وجودهم في مناطق محددة، سترافقه صعوبة كبيرة في نطاق الحركة والتنقل بين المناطق. يعني كلّ ذلك، تغييرًا في الخريطة الديمغرافية؛ لأن تهجير مكون ومجيء آخر بدلًا منه، يؤدي إلى إزالة لون من الخريطة الديمغرافية وإحلال لون آخر محله.

الميليشيات العراقية
تشكل الميليشيات قوة ضاربة لمشروع التغيير الديمواغرافي في العراق (الجزيرة)

سيناريوهات ثلاثة للتغير الديمغرافي

يمكن استقراء واستشراف المستقبل المتوقّع لخريطة الديمغرافيا في العراق، وفق السيناريوهات التالية:

سيناريو الاستقرار:

يمكن القول في هذا السيناريو، بأنه قد تنخفض وتيرة مشاهد التغيير الديمغرافي في العراق، بعد أن تصل الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة في الساحة العراقية، إلى تفاهمات أو حل يرضي جميع الأطراف، خصوصًا الطرف الإيراني صاحب النفوذ الأقوى في العراق.

ومما يعزز السير وفق هذا السيناريو، تخلص العراق من عناصر تنظيم الدولة، ومعه زال مبرر حماية المناطق السنية من خطر الإرهاب، مما يعني عدم الحاجة إلى وجود الفصائل المسلحة في المناطق السنية، إذ سيقع على عواتق ساكنيها ملف حمايتها وحفظ أمنها؛ الأمر الذي يفسح المجال لعودة العوائل التي هجّرت لتمارس دورها في الحفاظ على أمن مناطقها.

وفق هذا السيناريو يمكن توقع تراجع النفوذ الإيراني في العراق، وذلك يرجع إلى احتمالين: الأول؛ اضطراب إيران من الداخل، بسبب الوضع الاقتصادي المتردي ولا سيما بعد اتساع نطاق العقوبات الأميركية والأوروبية عليها، والوضع السياسي غير المستقر بسبب الصراع بين الجناحين المحافظ والإصلاحي في النظام السياسي الإيراني، علاوة على الوضع الاجتماعي المتشابك، خاصة توزيع السكان بين العرقيات والإثنيات المختلفة، وبروز بعض التحديات الداخلية للمؤسسة الدينية، وهي كلها عوامل تقيد حركة إيران الخارجية وتجبرها على التراجع والانشغال بمشاكلها الداخلية.

أما الاحتمال الثاني، فيتعلق بزيادة فاعلية الحراك الاجتماعي والسياسي المعارض للوجود الإيراني في العراق، فمن المحتمل أن تتبنى التصعيد العديد من القوى المجتمعية والحركات السياسية العراقية المتضررة من الممارسات الطائفية، وانتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها المليشيات الشيعية، وهو ما يمكن أن يحظى بدعم دولي وإقليمي خلال المرحلة المقبلة، وتحديدًا مع وجود توازنات ومصالح دولية وإقليمية تحول دون انفراد إيران بالعراق، ولا سيما إذا ما تصاعد دور العشائر العربية الشيعية في الجنوب، وأسندتها قوى إقليمية لتكون حائط صدّ أمام الزحف الإيراني؛ مما قد يؤدي مستقبلًا إلى تقليص دور إيران في العراق، ومن ثم فشل مشروعها في تحقيق أهدافه.

إذا وقعت هذه التغيّرات، فإنه من الممكن بعدها أن نشهد إقرار قانون العفو العام، الذي يعني الإفراج عن مئات الآلاف من المعتقلين، ولا سيما من أبناء المكون السني، وستعقب ذلك عودة النازحين والمهجرين الذين يشكلون أعدادًا كبيرة جدًّا، إلى مناطق سكناهم؛ مما سيُحدث تغيير في نسب المكونات، بحيث تظهر الصورة الحقيقية لكل مكون وفق تعداد سكاني يجري بكل شفافية من المنظمات الدولية المعنية، وتصادق على نتائجه مختلف القوى الإقليمية والدولية الراغبة في حسم ملف الفوضى في العراق، وإيجاد حالة استقرار يشمل مختلف الأبعاد، وعلى رأسها البعد الديمغرافي.

سيناريو تصاعد وتيرة التغيير الديمغرافي

من الممكن القول بأن حالات التغيير الديمغرافي الجارية حاليًّا في العراق، قد تتخذ مستقبلًا منحًى متصاعدًا، إذ من الممكن أن تدفع عمليات التغيير الديمغرافي  إلى اندلاع صراع موسع يضم أطرافًا أخرى تسعى كذلك لتعديل كفة الميزان لصالحها، وبهذا يمكن أن تتعدد أطراف الصراع وتتشكل محاور أو تحالفات من أجل حسم الصراع في أسرع وقت.

فقد يشمل الصراع مثلًا تركيا أو دولًا خليجية لتعديل كفة الميزان الديمغرافي بهدف المحافظة على المكون السني ومنع هيمنة المكون الشيعي المدعوم من إيران. ولا سيما إذا ما رافق ذلك تزايد المحاوﻻت الاستفزازية من قبل المليشيات؛ مما يدفع أبناء المكون السني إلى ردّات غير منضبطة، وعمليات انتقامية تدعمها وتغذيها جهات خارجية. وحصول ذلك يعني أن يكون العراق مسرحًا للاقتتال الطائفي، ونشوب حرب أهلية في أغلب مدنه.

وإذا جرى تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات: سنية، وشيعية، وكردية، فستتصاعد حدة عمليات التغيير الديمغرافي، إذ ستتم تغذية ودعم تلك المكونات الثلاثة من قبل جهات خارجية، ولا سيما أن كل دويلة من الدويلات الثلاث ستسعى إلى اقتطاع الأراضي التي يسكنها المكون الذي يشكل الأغلبية في تلك الدويلة.

سيناريو استمرار الحال على ما هو عليه

انطلاقًا من أرض الواقع، يتأكد أن النفوذ الإيراني على الساحة العراقية هو الأقوى والأكثر قدرة على المناورة وكسب الوقت، وأن الطرف الدولي المتمثل بالولايات المتحدة الأميركية أصبح غير قادر على منع أو تقليص النفوذ الإيراني في العراق.

وبهذا فإنه من الصعب في المستقبل القريب أن يتغير الوضع في العراق؛ مما يعزز احتمالية بقاء الوضع الحالي على ما هو عليه، مع إجراء بعض التغييرات في مناطق من المحافظات المحررة؛ إذ إن غياب فرص مزاحمة إقليمية للنفوذ الإيراني في العراق، سيؤدي مستقبلًا إلى إفساح مزيد من المجالات أمام المشروع ليحقق جميع أهدافه في العراق.

البداية
المقدمة

صناعة الدولة الهشة.. العراق واللاعبون الدوليون

العراق ملف العراق
العراق ملف العراق

صناعة الدولة الهشة.. العراق واللاعبون الدوليون

يونس الدباغ

في كتابه "سجناء الجغرافيا"، يذكر الكاتب والصحفي البريطاني تيم مارشال، ما دوّنه قيصر روسيا الخامس بطرس الأكبر في وصيته، من أن عليهم "الاقتراب كلما استطاعوا من القسطنطينية والهند، وأن عليهم إثارة الحروب باستمرار في تركيا وبلاد فارس، وأن عليهم أن يتغلغلوا حتى الخليج العربي، وأن من يحكم هناك سيكون صاحب السيادة الحقيقية على العالم". ويبدو أن العراق هو البلد الذي ينسجم مع الشروط الجغرافية في وصية بطرس الأكبر.

العراق: بيئة السلام الرمادية

لم يكن الشرق الأوسط يومًا بيئة مستقلة عن القوى الكبرى الحاكمة للنظام الدولي، فكل صراع عالمي ينعكس على هذه المنطقة ويعيد تشكيلها مرحليًّا. بهذا، تكون دول الإقليم الضعيفة المسلوبة الإرادة، ساحة اشتباك وصراع لتحقيق مصالح القوى الفاعلة في البيئة الإستراتيجية العالمية، وهو ما ينطبق على العراق، الذي كسر عام 2003 توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط.

ومع أن سكان الشرق الأوسط لا يمثلون سوى 8% من إجمالي سكان العالم، فإن 67% من قتلى الصراعات يسقطون فيه، ونحو 43% من إجمالي النازحين في العالم يخرجون منه، كما تقع في هذا الإقليم المنكوب 50% من إجمالي الهجمات الإرهابية في العالم، ويسقط فيها نحو 60% مـن إجمالي ضحايا الإرهاب في العالم.

ولا تكاد تهدئة تنضج في الشرق الأوسط، حتى يختل توازنه مجددًا على وقع تحول حرج يثير الاضطرابات، فيعيد تشكيل سياسات المنطقة، ويمهّد الطريق أمام نشوب تحوّل حرج آخر، في دورة من إنتاج الأزمات لا تتوقف. إذ أصبحت أوقات الهدوء في المنطقة كفترات كمون تتجمع فيها العاصفة تحت السطح، انتظارًا لشرارة تُخرجها للعلن؛ لتصنع مفاجآت غير متوقعة في مسارات الأحداث، ولا سيما مع الفجوة المعرفية لدى صناع السياسات أو دوائر البحث، فما نعرفه عما يجري في باطن المنطقة من تفاعلات غير مرئية أقل بكثير مما نراه ونعرفه عن ظاهرها.

هذه المؤشرات الفوضوية لبيئة السلام الرمادي الشرق أوسطية، تنعكس بمجملها على العراق، لموقعه المتميز في المعادلة الإقليمية والدولية.

الوجود العسكري في العراق - ملف العراق

القوى الإقليمية والتنافس على الهيمنة

ترتبط العلاقة بين التجاذب والتنافر في الشرق الأوسط بأنماط إدارة الصراع والتفاعل الدولي، والثابت علميًّا أن الصراع يديره من يؤسس له؛ لأنه يدرك مسبباته ومحركات توجيهه نحو الهدف الإستراتيجي. إذ يتأسس الصراع بين الوحدات الإقليمية في الشرق الأوسط، لأغراض التحكم وإعادة توزيع القوى في المنطقة، بما يفضي إلى الاستقرار الرمادي في الإقليم، والهدف في نهاية الأمر هو الحفاظ على الفارق في توزيع القدرات بين دول الإقليم، ثم الانتقال إلى المنافسة مع مركز الصراع. يقول مؤسس النظرية الواقعية البنيوية في حقل العلاقات الدولية، كينيث والتز: "إن الأنظمة الإقليمية المتعددة الأقطاب، التي تتكون من دول متساوية القوة تقريبًا، غير مستقرة؛ لأنها تميل جدًّا إلى العنف".

يعتبر الجوار الجغرافي في البيئة الإقليمية عاملًا تكامليًّا، أو عاملًا تصارعيًّا بين الأطراف المتجاورة، وذلك بحسب طبيعة العلاقات التي تنتهجها الأطراف، وبحسب طبيعة المحددات التي تنطلق منها السياسات وقوة تأثيرها. وبالنسبة للبيئة الإقليمية التي يقع فيها العراق، فإنها لا تخرج عن تلك القاعدة، إذ تحكمه مجموعة من العوامل والمحددات التاريخية والجغرافية والدولية والاقتصادية والثقافية.

وللعراق أهمية إستراتيجية كبرى، لموقعه الإستراتيجي، ومكانه بين دول متنافسة ومتطلعة إلى الهيمنة الإقليمية، ولتعدد الأعراق والمذاهب فيه، وتباين علاقات القوة التي سادت وحكمته منذ التأسيس وحتى اليوم، إضافة إلى امتلاكه ثروات طبيعية وتمثيله عقدة جغرافية تربط الدول العربية بالقوى غير العربية الفاعلة مثلَ إيران وتركيا، وهي الأشد تأثيرًا في إقليم الشرق الأوسط الفوّار.

1- إيران:

من المتفق عليه في أوساط القيادات الإيرانية، أنه على إيران أن تمتلك دورًا في المنطقة، فهم يرون أن تاريخها وموقعها الجغرافي ومواردها ورأسمالها البشري، يجعل منها قوة إقليمية مهمة تجب عليها ممارسة دور في تشكيل البيئة الإقليمية الشرق أوسطية؛ لكون هذه البيئة غير مستقرة نتيجة استقطاب القوى الخارجية، ومن شأن ذلك أن ينعكس على إيران داخليًّا.

لذلك، يتلخّص نموذجها الأمني الإقليمي في أن تقيم نظامًا تكون هي قاعدته المركزية، وتجعل الخليج العربي والدوائر المحيطة به خالية من الوجود العسكري المعادي لها، وتخفّف معدلات التسلح الإقليمية، وذلك مقابل: زيادة قدرتها التسليحية، والإقرار بنفوذها السياسي، والاعتراف بامتلاكها السلاح والتكنولوجيا النووية، وبدورها الحامي لمكوّناتها العقائدية في البيئة الإقليمية أينما حلّت.

وبالتالي، فإن إيران ترى أهمية العراق وتعدّه تحديًا لأمنها القومي، لتداخله معها في السكّان والحدود القابلة للاختراق. ولذا فالعراق، وفق الإستراتيجية الإيرانية، يُعدّ أولًا؛ بوابة هامة لتحقيق حلمها الفارسي بإقامة إمبراطورية شيعية في العالم الإسلامي، وثانيًا؛ هو مخزون نفطي هائل يضاف إلى مخزونها النفطي، إذ يبلغ الخزين العراقي -حتى الآن- 112.5 مليار برميل مُكتشف، وهناك أيضًا حوالي 250 مليار برميل غير مكتشف، وثالثًا؛ تعتبر العراق عمقًا طبيعيًّا لها وخط الدفاع ضد القوى العدوانية التي تحاول تغيير نظامها أو احتواءها، أما أخيرًا؛ فهو ورقة سياسية في المساومات على الساحة الدولية، ولا سيما فيما يخص برنامجها النووي.

لذا، خضع العراق بعد عام 2003 لهيمنة الفاعل الإقليمي الإيراني عبر "التحالف البديل" (الفصائل المسلحة)، الذي تشكل بعد وقتٍ قصيرٍ من وصول القوات الأميركية، لبناء دولة دينية وفق العقيدة الغالبة في العراق. والتحالف البديل هو مجموعة من القوى السياسية المناوئة للقوى الأميركية، ومنذ إنشائها حصلت على الدعم الإيراني، إذ تلاقت مصالح الطرفين، كما تشارك البعض منها علانيةً في السياسة العراقية، فضلًا عن العلاقات الرسمية مع الدولة العراقية في المجالات الإستراتيجية المختلفة.

وقد تأسست علاقة إيران بالفصائل وفق مراتب مختلفة في حساب التفاضل والتكامل الإيراني، فهي إحدى قضايا الأمن القومي التي تعتبر مركزية في إستراتيجية الدولة الإيرانية، إذ تمنحها هذه الفواعل الردع الإضافي ضد خصومها، وتعمل على تطوير وجود نفوذها في بلدان رئيسة على امتداد المنطقة دون إزهاق أرواح مواطنيها إلا نادرًا. لذلك، فمن غير الممكن أن تتخلى عن دعم هذه الفصائل، وهو ما يظهر طوال فترة الصراع الإقليمي مع خصومها.

لا تخضع الفصائل العراقية المسلحة لسيطرة إيرانية مباشرة كما يعتقد البعض، فهذه الفصائل -وإن كانت ضمن نطاق المشروع الإيراني- تتمتع بقدر من الاستقلال النسبي إداريًّا وعملياتيًّا. تستفيد إيران من هذا الأسلوب، الذي يمكن تسميته "القيادة عن بُعد"؛ لأنه باختصار يزيل عنها عبء الانغماس اليومي في شؤون هذه الفصائل، التي تتجاوز 60 فصيلًا في العراق وحده. إضافة إلى أنه يمنحها القدرة على التنصل من أفعال هذه الفصائل حين تضر بمصالحها.

الوجود العسكري في العراق - ملف العراق
الوجود العسكري في العراق - ملف العراق (الجزيرة)

2- تركيا:

يحضر العراق في التفكير الإستراتيجي لتركيا، وفق عدد من العوامل الاقتصادية والأمنية والسياسية، ولكن حضوره لا يقتصر على تأثيره وارتداده على تركيا، بل يرتبط كذلك بالأساس التاريخي الذي تطالب به تركيا في العراق، كقضية الموصل وحقوق التركمان أينما وجدوا. ففي يوم من الأيام، قد يتفجّر التصعيد العسكري الإيراني ضد أكراد العراق؛ مما يدفع بتركيا إلى إعادة ما تعده على لسانها حقوقا تاريخية في الأراضي العراقية.

لذلك يعد تأمين العراق عنصرًا مهمًّا لتركيا؛ لكونها تأثرت بالأزمات التي عاشها العراق محليًّا ودوليًّا منذ ثمانينيات القرن العشرين. بداية من الحرب العراقية الإيرانية، ثم استخدام النظام العراقي للأسلحة الكيماوية ضد الأكراد، ومقتل عشرات الآلاف في الحرب مع إيران في شمال العراق، وقمع النظام دوليًّا، وما أعقبه من أزمة للسلطة داخل البلاد، ثم الاحتلال بقيادة الولايات المتحدة، وما أعقبه من فجوة في السلطة العراقية، جعلت العراق مرتعًا للتنظيمات القتالية؛ لذا فالحديث عن تشكيل ممر للجماعات القتالية في جنوب تركيا يمتد من إيران إلى سوريا، أصبح ممكنًا في ظل الأزمات والصراعات الناجمة عن التطورات الإقليمية والدولية والمحلية التي تشكل ظروف البيئة الإقليمية الشرق أوسطية.

كما تسعى تركيا إلى تنظيم علاقتها مع العراق في ظل القضايا التقليدية والتطورات المعاصرة الرئيسة، بسبب تحول بنية حزب العمال الكردستاني في العراق من الجبال إلى المدن وزيادة هجماته عليها، وبسبب مشروع طريق التنمية الذي يضم تركيا والإمارات والعراق، والذي توليه تركيا أهمية قصوى إذ سيغير مسار التجارة البحرية العالمية.

تقدّر تكلفة المشروع بنحو 17 مليار دولار، ومن المتوقع أن يكتمل مع حلول عام 2028. ويمر الطريق داخل الأراضي العراقية بطول 1200 كيلومتر، ويشمل طريقًا بريًّا وسكة حديدية، ويربط بين طرق التجارة من آسيا ودول الخليج جنوبًا حتى ميناء الفاو في محافظة البصرة بجنوب العراق، ثم ينطلق شمالًا حتى يصل إلى مدينة أوفاكوي التركية الحدودية، ومنها إلى الأسواق الأوروبية. لذلك، تتحرّك تركيا حاليا باتجاه عملية عسكرية برية طويلة الأجل للقضاء على حزب العمال الكردستاني، ولتؤمن أيضًا أعمال الإنشاءات الخاصة بالمشروع العراقي، علمًا بأن عدد القوات التركية الموجودة في العراق يفوق القوات الأميركية، وهو في حدود 7 آلاف جندي.

يأتي هذا الاتفاق على العمليات العسكرية والقضاء على "التنظيم الإرهابي" في مقابل قضية المياه، إذ إن الاحتياطات المتوفرة من المياه في الخزانات العراقية تتراوح بين 7 و7.5 مليارات متر مكعب وفقًا لإحصائيات عراقية رسمية، وذلك من أصل 150 مليار متر مكعب من الطاقة الاستيعابية. وهذه الاحتياطات تقترب من النضوب؛ مما قد يؤدي إلى كارثة غير مسبوقة تجعل مياه الشرب شيئًا نادرًا من ناحية، ومن ناحية أخرى تجعل العراق سوقًا رئيسًا لتركيا في المياه والمشروبات.

بالطبع، لا ترحب الولايات المتحدة بهذا المشروع، بسبب الممر الهندي البديل لمشروع الحزام والطريق الصيني، كما لا تدعم إيران المشروع الذي من شأنه تعزيز الاستقلال الاقتصادي للعراق، وجعل تركيا لاعبًا مهمًّا جدًّا في طريق التجارة البحرية العالمي. أما الأداة التي تستخدمها الولايات المتحدة وإيران لتخريب المشروع، فهي حزب العمال الكردستاني.

ويمكن للنقلة النوعية في العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة بعد ضم السويد إلى الناتو، أن تظهر المنفعة التي يمكن للولايات المتحدة أن تجنيها من الأدوار التي يمكن لتركيا أداءها، لمراعاة المصالح الأميركية في العراق وسوريا إذا رغبت في تقليل التزاماتها تجاه هذين البلدين، كي تصنع في ظل استمرار الحرب الروسية توازنًا للقوى مع إيران في سوريا والعراق ومنقطة القوقاز.

مفترق طرق اللاعبين الدوليين

طرح مفهوم الشرق الأوسط في عصر الأقطاب المتعددة، وفي ظل تعامل دوله بصورة أكثر براغماتية لتحقيق مصالحها، الأمر الذي فسح المجال أمام الصين وروسيا، لتزاحم الوجود التقليدي للولايات المتحدة في المنطقة، تحديدًا في العراق، الذي يمثل بعدًا إستراتيجيًّا لدى مختلف اللاعبين الدوليين.

1-الولايات المتحدة:

تعد البيئات الإقليمية المكونة للبيئة الإستراتيجية العالمية، جزءًا من الأمن القومي الأميركي. وكل بيئة إقليمية تحظى بأهمية معينة لدى أميركا، تجري عليها سنويًّا تقييمًا ومراجعات بما تحتويه من تهديدات وتحديات على النظام العالمي، وبناءً على ذلك تعيد ترتيب أولوياتها، ولا تترك بيئة إقليمية بشكل نهائي، فمن شأن ذلك أن يؤثر في سيطرتها وتحكمها في النظام الدولي، ولكنها ربما تخفض مستوى الالتزام الإستراتيجي تجاه بيئة من البيئات الإقليمية، ثم تعود إليها لاحقًا.

يرهق هذا التصدي للمشهد العالمي الولايات المتحدة، وهو ما يفسر من قبل القوى الدولية المزاحمة لها بأنها في وقت أفولها وانكفائها إلى الداخل، تمهيدًا لأن تعيش عزلتها.

بالنسبة للولايات المتحدة، فإنها تؤدي دورًا يضمن لها الاستقرار في المنطقة. يتمثل ذلك في الاتفاقيات الأمنية بين الولايات المتحدة والدول الصديقة لها، وما يترتب على ذلك من التزامات وظيفية في التدريب والتحكم والعمليات المتعددة الأطراف، وخطوات البحث والتطوير التعاونية، ووضع القوات والوجود العسكري الدائم والمؤقت وغيره من مجالات التعاون وتمظهرات الهيمنة.

وتتنوع دوافع الاهتمام الأميركي بالعراق، بين موقعه الإستراتيجي الجيوبوليتيكي والجيوإستراتيجي الذي يجعله أحد نقاط الارتكاز الأميركي لضبط منطقة الشرق الأوسط، والأطماع الاقتصادية نتيجة تنوع الموارد التي يملكها العراق وما يترتب على ذلك من إمكانات استثمارية، ودوره الهام بالنسبة لأميركا لمكافحة "التنظيمات الإرهابية العالمية" لكونه أصبح مسرحًا بارزًا لها.

يتضح ذلك في ما أشارت إليه مساعدة وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى في الولايات المتحدة باربرا ليف، إذ قالت: "العراق هو حجر الزاوية في قوس المنطقة… ما هو جيد في العراق سيكون جيدا للمنطقة الأوسع"، كما وصفت العلاقة بين أميركا والعراق بأنها "شراكة بزاوية 360 درجة" تقوم على "الأمن والاستقرار والسيادة".

ويرتبط مستقبل العلاقة الأميركية العراقية بمجموعة محددات، مثل تأثير الدور الإقليمي والدولي المنافس للولايات المتحدة، وطبيعة المتغيرات الإستراتيجية في البيئة الإقليمية الشرق أوسطية وتوازناتها، ونتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية.

وقد يبدو في بعض الأحيان أن نهج الولايات المتحدة تجاه العراق غير واضح المعالم، على الرغم من أهميته لها، بسبب تركيزها على إيران ومحاربة تنظيم الدولة الإسلامية الذي كان على رأس أولوياتها، حيث يستمر العراق في كونه ميدان معركة عنيفة بين إيران والولايات المتحدة، وتميل السياسات الأميركية تجاه إيران إلى الامتداد إلى العراق، وحينما فرضت الولايات المتحدة عقوبات على إيران استهدفت العديد من شخصيات الفصائل المسلحة في العراق. على هذه السياسة، علّق مسؤول أميركي في وقت سابق للجزيرة، بأنه يأمل أن تكون لإدارة بايدن سياسة تخص العراق "بدلا من اعتبار العراق ملحقًا لسياستها تجاه إيران".

إن جوهر الإستراتيجية الأميركية تجاه العراق، هو في جعله صندوق بريد للرسائل السياسية والعسكرية لها مع خصومها. وقد جعل ذلك العراق ساحة اشتباك صامتة أحيانًا، ومشتعلة أحيانًا أُخرى، وتحول الوجود الأميركي فيه إلى معادلة توتر وعدم استقرار دائم، حتى أصبح هذا الوجود مشكوكًا في فعاليته في نظر بعض القوى السياسية.

ومع وصول محمد شياع السوداني إلى الحكم في العراق عام 2022، أخذت بعض الدعوات في الداخل تتعالى إلى ضرورة بقاء أميركا في العراق، بحجة الحاجة الاقتصادية والتنموية لها، وكذلك الحاجة الأمنية في ظل مناخ متوتر يسود المنطقة. لذلك، أعلنت أميركا تمديد وجودها العسكري في اليمن وسوريا والعراق مدة عام كامل.

قد يشكل سيناريو انسحاب القوات الأميركية من العراق بشكل مفاجئ في ظل عدم استقرار البلد أمنيًّا، تحديًا للأعضاء الآخرين في التحالف المناهض لتنظيم الدولة الذين ما زالوا موجودين في العراق، وقد يفرض عقوبات على الجهات الحكومية والشركات العراقية، ويلغي الإعفاءات التي تسمح لبغداد بشراء الكهرباء والغاز الطبيعي من إيران، وإيقاف تدفق الأموال الأميركية -وهي خطوة ستؤدي إلى انهيار العملة العراقية، وستبرز الانشقاقات الداخلية بين مكونات العراق، أو ضد كردستان العراق، وستغري الفصائل المسلحة العراقية بالسعي للسيطرة الكاملة على العراق، كما قد يشجّع الانسحاب عودة التنظيمات القتالية.

2-روسيا:

بلغ انخراط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط حد الاستواء، لهذا يُرى في بعض الأحيان برود للانخراط الأميركي ودعوة إلى مغادرة هذه البيئة. تمنح هذه المقاربة روسيا منفذًا لأن تكون البديل المفيد للولايات المتحدة، ولا سيما عندما يفشل القادة الإقليميون في الحصول على النتائج الإستراتيجية المرجوة من الولايات المتحدة، وذلك برغم حذرهم من النيات الروسية، فهم وإن كانوا لا يريدون المجازفة بالعلاقة مع الولايات المتحدة، فإنهم يُظهرون لها أن لديهم خيارات إستراتيجية في أي قضية، وروسيا مدركة لهذا التوازن وهذه العلاقة، لكنها تسعى بكل السبل لتقويض القوة والنفوذ الأميركي

بدأ انخراط روسيا في الشرق الأوسط عام 2005 عبر البوابة السياسية والدبلوماسية، ثم تلاه انخراط عسكري مباشر لها في سوريا عام 2015، وما تبعه من تنسيق استخباري مع العراق. وعدّ العديد من المحللين ذلك جزءًا من إستراتيجية روسيا الجديدة لاستعادة النفوذ الإقليمي، الذي كانت تحظى به في عهد الاتحاد السوفيتي، عبر مقاربة جديدة ترتكز على المكاسب الاقتصادية المعاملاتية والارتباطات الجيوسياسية غير الأيديولوجية، فهي تتعامل مع المنطقة وفق رغبتها في المكانة الدولية، وحجز مقعد في طاولة المفاوضات للقضايا المهمة، وإيجاد فرصة لتقوية اقتصادها عبر التجارة والاستثمار، والحفاظ على الاستقرار الإقليمي عبر الحفاظ على الأنظمة الحاكمة ومنعها من الانهيار، ومنع تمدد الإرهاب إليها.

صحيح أن روسيا انفصلت أيديولوجيًّا عن الاتحاد السوفيتي، لكنها اليوم تعمل على إعادة إحياء شراكاتها الإستراتيجية السابقة التي بناها الاتحاد السوفيتي في حقبة الحرب الباردة، ومنها الشراكة مع العراق. لذا، وبعد أن جربت الاشتباك المباشر مع الغرب في الدوائر الجيوبولتيكية القريبة، تقوم روسيا اليوم بالاشتباك غير المباشر في مناطق التنافس الجيوبوليتيكية العالمية عبر تعزيز نفوذها في الشرق الأوسط.

إن نوافذ التغلغل الروسي في العراق تتم عبر الاقتصاد و"مكافحة الإرهاب" والأمن الإقليمي وتراجع النفوذ الأميركي، وقد بلغت الاستثمارات الروسية في القطاع النفطي (حقلي بدرة النفطي وغرب القرنة، ومشاريع أنابيب النفط في إقليم كردستان العراق) نحو 13 مليار دولار، كما أنشأت روسيا مركزًا للتنسيق المشترك مع بغداد لمكافحة التنظيمات الإرهابية في العراق وسوريا، إضافة إلى إمكانية أن تطرح نفسها وسيطًا تجاه التهديدات الإيرانية في بعض المناطق العراقية، ولا سيما إقليم كردستان العراق الذي يُؤوي عناصر مناوئة لإيران، وبالتالي فإن الوجود الروسي في العراق يبدأ بقوات مراقبة ويصل إلى الوجود العسكري الفعلي.

3-الصين:

استغلّت الصين المرحلة التي دخلت فيها أميركا من عدم الاكتراث بمنطقة الشرق الأوسط وتحولها إلى آسيا، تحديدًا خلال مدة الرئيس الأسبق باراك أوباما، لتعزّز موقفها وتملأ فراغ القوى وتتوسع في نفوذها، من خلال اتباعها سياسة براغماتية تقوم على الشراكات الإستراتيجية مع دول البيئة الإقليمية الشرق أوسطية، وفقًا للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة.

والاتجاه صوب آسيا والمحيط الهادئ، متأتٍّ من الاعتقاد الذي كان في ذهن متخذ القرار الأميركي بأن أوروبا ستنعم بالاستقرار والسلام، وأن الأوضاع في العراق وأفغانستان والشرق الأوسط عامة هادئة بما يكفي لتقليص الالتزامات الأمنية الواسعة النطاق للقوات في مسارح العمليات الجوية والبرية والبحرية، والتحول إلى دعم الجهود بصورة ضيقة النطاق لمكافحة الإرهاب، إلا أن الحرب الروسية على أوكرانيا عام 2014، وما تلاها من سيطرت تنظيم الدولة الإسلامية على بعض الأراضي العراقية، وضعا حدًّا لهذا الاعتقاد الخاطئ.

أما مصالح الصين في الشرق الأوسط، فهي في توفيره موارد الطاقة لها، وبقائه سوقًا للمنتجات الصينية، وتلبيته رغبتها في توسيع نفوذها الجيوسياسي كنوع من المشاغلة الإستراتيجية للولايات المتحدة، وتخفيف الضغط على مجالها الحيوي المباشر في إقيلم الإندوباسيفيكا؛ مما جعلها تبحث بفاعلية عن دول قوية تشاركها مخاوفها من التفوق الأميركي العالمي.

إضافة إلى ذلك، فإن العراق في المدرك الإستراتيجي الصيني، يشكّل مخزونًا احتياطيًّا للطاقة، وموقعًا إستراتيجيًّا على الخليج العربي ومضيق هرمز، وأهمية جيوإستراتيجية لخط المواصلات الصيني إلى أوروبا عبر إيران والعراق وتركيا عبر الطريق البري لإستراتيجية الحزام والطريق الصيني.

بدأت الصين تعزيز وجودها في العراق منذ عام 2007، عبر استثمارات في قطاع الطاقة، إذ تعد الصين من الجهات الرئيسة الفاعلة في الاقتصاد العراقي، فالعراق أصبح ثالث مورد نفطي للصين عام 2020، ولها فيه حصة في توليد الطاقة الكهربائية. ثم إن الصين عملت على توطيد وجودها بصورة أكثر فاعلية في ظل استراتيجية الحزام والطريق لعام 2013، التي سعت فيها لجذب العراق إليها، وما مشروع طريق التنمية إلا فرصة استراتيجية استغلها العراق لتفعيل دوره في هذه الإستراتيجية، عبر إنشاء خط سككي وخط بري سريع ومحطات اقتصادية متكاملة، بمبلغ حوالي 17 مليار دولار.

وأقامت الصين علاقات جيدة مع حكومة إقليم كردستان العراق، الذي تدعمه الولايات المتحدة الأميركية، مما يتيح لها الوصول إلى إنتاج النفط في منطقة أربيل. ومن الممكن استغلال هذه العلاقة من قبل كردستان العراق، في أن تطلب مثلًا من الصين أن تضغط على إيران لمنعها من شنّ هجمات صاروخية على قواعد يعتقد أنها توفر ملاذا للمعارضين المناهضين لطهران والناشطين الكرد.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 2019، وقّع عادل عبد المهدي رئيس وزراء العراق اتفاقية مع الصين، فعّلت برنامج "النفط مقابل إعادة الإعمار"، تعهّدت بموجبها عشرات الشركات الصينية بالعمل في البنى التحتية العراقية مقابل تلقي الصين 100 ألف برميل نفط يوميًّا. وفي عام 2021، قدمت الصين للعراق أكثر من 10 مليارات دولار لتمويل محطات النفط والطاقة. وجاء ذلك، في إطار تعزيز القوة الناعمة الصينية في العراق، في سياق التنافس مع الولايات المتحدة. وقد ضمنت حماية مصالحها واستثماراتها عبر اتصالها الوثيق بالفصائل المسلحة، التي لها علاقة بإيران.

الدولة الهشّة

كان الشرق الأوسط ولا يزال مفترق طرق للقوى الإقليمية والدولية، إذ يشكّل لها فرصًا لتحقيق الهيمنة والسيطرة نتيجة الموارد والممرات الإستراتيجية، وهو بالقدر نفسه يعاني من فوضوية وتبدل في التوازنات والأدوار الإستراتيجية التي تحتاج إلى الضبط والاستقرار.

إن هذه الاضطرابات التي تعصف بالشرق الأوسط، يمكن أن نجد مثالًا واضحًا لملامحها في العراق، بوصفه قلب المنطقة ومحور ارتكازها، وعامل توازن لقوى دولية وإقليمية بعد خروجه من بيئة التوازن الإقليمي عام 2003، إذ أضحى مسلوب الإرادة السياسية، وهو ما سمح للأدوات الخارجية بالمنافسة فيه على حساب مصالح العراق الوطنية العليا، وأدى ذلك في المحصلة إلى دولة هشّة، تندرج ضمن أجندات ومشاريع القوى الدولية والإقليمية الفاعلة ذات العقائد المختلفة والمصالح المتنافسة.

ولكون أمن المنطقة مرتبط بالعراق، تسعى كل من القوى الإقليمية والدولية إلى جعل العراق ضمن محورها لمواجهة المحور الآخر، وكل طرف من هذه الأطراف لديه ملفات ضرورية لربط العراق بمحوره، وليس في مقدرة العراق أن يتحرّر من هذا التعدد في القوى، لأنه بحاجة إليها في هذه البيئة الإقليمية المضطربة ومخاطرها المتزايدة لموازنة تأثيرات الأضداد، وليحقق قدر الإمكان المصلحة الوطنية العليا النسبية.
البداية
المقدمة

المصدر : الجزيرة