تتفنن إسرائيل في قتل الفلسطينيين، بالرصاص تارة، وبالعمارة تارة، إذ اغتالت منذ تأسيسها البيوت والأحياء، ثم تغولت فصممت نظاما من الهندسة المعمارية من أجل قتل الفلسطينيين قتلًا بطيئًا. لا يمكن النظر إلى المباني باعتبارها جدرا صماء، ولا إلى خطط التوسع العمراني الإسرائيلي باعتبارها عملًا بريئًا من الغرض، فثمة أيديولوجيا عدوانية كامنة في كتل الخرسانة وعلى الطرقات.
حيث لا يتحرك الفلسطيني إلا في سياق لا نهاية له من الرقابة والملاحقة، تسابقه الكاميرات المتلصصة لتقتنصه من جميع الجهات، وتعترضه أينما مر هياكل إسمنتية وجدران مرتفعة، كي لا ينعم بصره بالنظر الحر، ثم بعد ذلك يدور بين حواجز تبطئ حركته، فيغوص في مسارات ومتاهات ملتوية مجهدة يخرج منها مكدود النفس منهك الروح، وعند أدنى حركة غير مقصودة تصدر عنه تنطلق الحساسات الإنذارية بدوي مخيف.
أما ما بقي من مدنه وبلداته فمفتت الأوصال تتخلله الكمائن ونقاط التفتيش، وتعلوه المستوطنات الرابضة في المرتفعات لتكون في الوضع الكاشف لمحيطها، فضاؤه كله معسكر، هدفه إثارة الإحباط والقلق. عاش الفلسطيني تحت الاحتلال مستباح الجسد والإرادة، وها هو يحيا مستباح العمران. لكن الأمور لا تمضي على النحو المأمول تماما بالنسبة لإسرائيل، فالعمارة كما تُوظَّف من جانب المحتل لتمعن في السيطرة والمراقبة؛ تبقى حليفة لأصحاب الأرض وتدعوهم في الكثير من الأحيان إلى التمرد والمقاومة.
معماريون يخططون للجريمة
يكشف كتاب "احتلال مدني.. سياسات العمارة الإسرائيلية" للمعماريين رافي سيغال وإيال وايزمان، الذي صدرت نسخته الأولى قبل نحو عشرين عامًا من هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كيف خدمت العمارة المشروع الصهيوني منذ اليوم الأول، فوُظِّفت مفاهيم العمارة والبناء لخدمة المؤسسة السياسية والعسكرية، وكيف أن علم العمارة الذي يعتبر أحد أكثر العلوم جمالا وارتباطا بالتاريخ والحضارات، يخلع ثوب البراءة في لحظات تاريخية بعينها ويتجاوز جمالياته، ليكون طرفا في الصراع فيخدم قادة الحرب وصناع السياسة ويصبح سلاحا في أيديهم.
في فلسطين مختبر لتطبيق أكثر الوسائل المعماريّة تطرّفا، فحيثما نظرت تجد نماذج لسياسات المراقبة والفصل والتحكم والقمع، فقد بُنيت المستوطنات فوق التلال لتطلّ على القرى الفلسطينيّة وتكشفها، فتحاصر وتراقب وتُحكم السيطرة عليها، ووفق قوانين تخطيط المستعمرات فإن أسطح المباني في المستوطنات تصنع من القرميد الأحمر لتساعد جنود الاحتلال والقوات الجوية على تمييزها.
وتُرسم المقاطعات مع أسوار عالية لا يستطيع المار أمامها أن يرى شيئا من داخلها؛ أما من الداخل فصورة الخارج مكشوفة تماما تتيح مراقبة متكاملة ومفصلة للأفراد وتسيطر على سلوكهم، ويصل كل ذلك أولا بأول إلى السلطة، فالمناطق الفلسطينية صغيرة ومقسمة إلى مراكز للسكان الفلسطينيين تظل الخيوط الحقيقة فيها خاضعة لسيطرة الاستعمار وهو الذي يمكنه تحريكها من خلفية المشهد، وتوزع أبراج الحراسة والمعسكرات الإسرائيلية في تصميم مخططات السجون بحيث تسمح بالمراقبة والحراسة حتى لو لم يكن هناك من يراقب، المقصود هنا هو التأثير في سلوك الأفراد.
يمكن للمتخصصين رصد تلك الانتهاكات التي يرتكبها الاحتلال من خلال العمارة. في عام 2001 أصدرت منظمة بتسيلم الإسرائيلية تقريرا حول الانتهاكات التي يرتكبها الاحتلال في الحياة اليومية للفلسطينيين من خلال عمارة المستوطنات، عبر البيئة المبنية وحدها وكيف تتأثر سلبا حياة الفلسطيني ومصادر رزقه، بشطر طريقه الحيوي فيما يبدو من أبسط تصميمات العمارة متمثلة في المستوطنات.
من خلال الخرائط وصور الأقمار الصناعية، رصد التقرير كيف تواطأ المعماريون الاستعماريون لخدمة أهداف الاحتلال، وكيف فرض جيش الاحتلال قيودا صعبة لتأمين المستوطنين تحدّ من حرية تنقل الفلسطينيين وتعرقل سير حياتهم الطبيعية، فضلا عن أن وجود المستوطنات يمنع التطور المديني للمدن الفلسطينية الكبيرة كتلك الموجودة على طول قطاع الجبل في الخليل ورام الله ونابلس وجنين.
معمار جديد يمحو الماضي
انتهاك آخر يحدث في التصميم المعماري الفلسطيني، يتعلق بالهدم المستمر وإعادة البناء، يحتاج كل مجتمع إلى أن يشعر بالاستمرارية مع الماضي، إذ هو الذي يمنح أفراده هويتهم؛ لذا فإن هدم المكان يترك آثارا هدامة أيضا في التاريخ والذاكرة والهوية الفردية والجماعية على حد سواء، ومع إعادة الإعمار التي تلي هجمات الاحتلال، تنكشف أهداف أخرى في إخفاء معالم الحرب مع المستعمِر، بحيث تصبح إعادة الإعمار، بعد الحرب شكلا آخر من أشكال فرض الهيمنة، و"مواراة الموت"، لتتأسس مبانٍ تتناسى العنف الماضي، وترسخ -أو تحاول على الأقل- لمجتمع "بلا عنف"، ليس هو المجتمع ذاته الذي فجر الانتفاضة الثانية.
كما تشير ياسمين قعدان في كتاب "مواراة الموت في المعمارية - الفضاء الاجتماعي الفلسطيني" فإن ذلك يبدو جليا في مخيم جنين، فالعمارة المقاومة التي كانت جزءا أساسيا من المقاومة في الانتفاضة الثانية، لم تعد هي سمة العمران في المدينة، والأجزاء المعمارية التي وصمتها الحرب، فتركت آثارها المدمرة عليها، تتوارى الآن، في سعي لأن تمحو ما تستدعيه تلك الأجزاء من مشاهد في الذاكرة، وتمحو معها التاريخ والرمز والوعي بالتاريخ الاستعماري وقصة النضال، تتضاءل الأحداث لتجسدها فقط قبور إسمنتية تحمل اسم الشهيد وتاريخ استشهاده، دون مزيد من سرد قصة الصراع الطويلة مع الاستعمار، أملا في أن تنمحي من الوعي الفلسطيني.
وفق إيال وايزمان المهندس المعماري والأكاديمي الإسرائيلي، فهناك صمت أو إنكار للأبعاد السياسيّة للعمارة، وكيف يتلاعب بها السياسيون لتحقيق أهدافهم، في حين يرى المعماري الإسرائيلي نفسه بعيدا عن قضية القمع أو سرقة الأرض، ولا يريد أن يصدّق أنه عندما يخطط لبناء المستوطنات يعمل في الحقيقة لخدمة السيطرة العسكريّة، ويُقنع نفسه بأنه إنما يخدم العائلات ويبني لأجلها.
بالنسبة لمهندس معماري، تخضع رؤية تخطيط أي مدينة لمعايير تتعلق بجمال المكان، ومدى قدرته على توفير الراحة لقاطنيه، ومرونة تصميماته والحس المجتمعي الذي تكونه الشوارع والساحات، لكن المخطِّط العسكري ستكون له نظرة أخرى إلى تلك المباني، وسيكون الأهم هو كيف يمكن التحكم فيها وكيف يمكن تفكيكها؟
ما يؤكده سيغال ووايزمان أيضا أن المتأمل في تصميم المستوطنات يستنتج على الفور ذلك الاعتراف الضمني بأن البناء يقام على أرض غير آمنة، لا يملك القاطنون فيه الحق فيها، وبالتالي يشيد مثل هذا النمط من العمارة "البشعة والعدائية"، والفكرة التي أثارها الكاتبان هي الدعوة إلى محاكمة كل معماري إسرائيلي شارك في تصميم وبناء المستوطنات الإسرائيلية، على أراض محتلة بحسب القانون الدولي، يعد الانخراط في مشروع معاد لأصحابها جريمة يعاقب عليها القانون.
التفتيش والمراقبة
في اجتماعات أوسلو صيف عام 1993 كانت هناك نقطة معقدة يتفاوض عليها الفلسطينيون والإسرائيليون، هي النقاط الحدودية بين المناطق التي وضعت تحت السيطرة الفلسطينية من ناحية، والعالم الخارجي من ناحية أخرى، إذ كانت السيطرة عليها وعلى إجراءات عبورها، دلالة مهمة للمفاوضين الفلسطينيين على قيام حكم وطني ذاتي مستقل، ولم تكن لتفلت من أيدي الطرف الإسرائيلي، فقد كانت صيغة لمفهوم أمني جديد تكون فيه السلطة الفلسطينية الوليدة موكلة بالحكم الفعلي المستتر لها.
كانت الوسيلة لذلك هي تصميم معماري يجسد هذه التسوية، فجرى التوصل إلى تصميم يحفظ للفلسطينيين سلطة إدارة المبنى ورفع الأعلام عليه، ويضمن للإسرائيليين ضبط الحالات والسماح لها بالمرور من خلال المعبر، وهكذا قسمت حركة المرور عبر مسارات ملونة تفصل بين العابرين وفق وجهاتهم الجغرافية، وكما اشترطت الاتفاقية جرى الفصل بين رجال الأمن الإسرائيليين والعابرين الفلسطينيين، لكنهم كانوا يراقبون عبر المرآة ذات البعد الواحد (المجهزة لكي تخفي من يراقب خلفها)، فيفحصون الوثائق ويتولى رجال السلطة الفلسطينيين القيام ببعض التحريات الأمنية، وإذا لزم الأمر يخرج رجل الأمن الإسرائيلي إلى البهو.
التصميم المعماري الذي يكفل لهؤلاء القيام بمهامهم على هذا النحو، يشي بطبيعة العلاقة، فقد صُمِّم بشكل يُخفي عن أعين العابرين حقيقة من يسمح بالمرور أو يمنعه، في حين يُخضع رجال الأمن الفلسطينيين لسلطة الاحتلال بشكل واضح.
يؤكد إيال وايزمان أن معبر رفح يعد أحد أكثر الأعمال المعمارية السياسية جموحا، فقد تم الاتفاق (في اتفاقية أوسلو) على إدارته من جانب السلطة الفلسطينية ومصر، على أن يبقى الإشراف الكامل للأمن الإسرائيلي، مع مراقبين أوروبيين، يتابعون من خلال غرف تحكم فيديوهات حية للعابرين وما يحملونه في حقائبهم.
يتحدث وايزمان في كتاب "أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي" الذي صدر عام 2007، عن سمة مهمة من سمات العمران في فلسطين، وهي نقاط التفتيش وتسييج الطرق التي قيّدت حركة المرور، وأتاحت لجيش الاحتلال طريقة أخرى، استخدمها إلى جانب اجتياح المدن واستخدام القوة للسيطرة على حياة الفلسطينيين، وفرضت واقعا اقتصاديا وجغرافيا واقتصاديا جديدا، من خلال تفاصيل معمارية -تبدو بسيطة- يواجه الفلسطيني قسوة العبور من بوابات ضيقة ( 55 سم) تضغط على أجساد المسافرين، للتأكد من أنهم لا يحملون شيئا، ويؤدي المرور عبرها إلى تكسر الطرود أحيانا وتناثر الأمتعة، ومعاناة العابرين.
يبدو الحصار محكما إذن، لكن الأمور لم تمضِ كما خُطّط لها، مع كل هذا كانت مبانٍ أخرى تُقام وتتوسع، ليجد فيها الاحتلال عدوا يصعب قهره، كان ذلك في المخيمات التي اكتسبت خصوصية معمارية حولتها إلى هاجس واجهه السياسيون.
بشكل عام تتميز عمارة المخيم بالشوارع الضيقة والأزقة، التي فرضتها محدودية الأرض، وتكدست فيها قصص ما يزيد على 500 قرية مفقودة، وهكذا عاشت ما أريد لها أن تكون عمارة مؤقتة لما يزيد على سبعة عقود، وتشكلت فيها قيم اجتماعية وثقافية، بدافع من الرغبة في إعادة الألفة إلى المكان. أعاد الفلسطينيون إعمار مساحاتهم الخاصة بحياة اجتماعية ولغة مشتركة، فأطلقوا على كل منطقة من المخيم اسم القرية الأصلية التي قدِم منها سكانه، وهكذا نمت مساحة تحمل ذكريات السكان وثقافتهم وهويتهم، وتُذكِّر على الدوام بحقهم المسلوب، وتحمل دليلا عليه.
يتميز المخيم بشوارعه الضيقة التي لا تتسع لمرور أكثر من شخص واحد في بعض الأحيان، كما يتميز بالمباني المكتظة، والمجاري البدائية المفتوحة، غالبا ما يكون للمنازل طريق جانبي بعيد عن الطريق العام لتأمين الخصوصية، تشي هذه الشوارع الضيقة بعلاقات أكثر دفئا، وتسفر المباني المتقاربة عن تعايش وتعاون، التوسع هنا رأسي، فزواج أحد أبناء العائلة يعني طابقا جديدا في المبنى، إذ لا مجال لتوسع أفقي مع محدودية المساحة، وهذا ما يشكل لدى القاطنين عقلية الأسرة الواحدة، ويشكل في النهاية سلوك مجتمع كهذا ووظيفته.
تسلط دراسة نشرتها مجلة أرينا جورنا أركيتكتشر ريسيرش ARENA Journal of Architectural Research عام 2021 الضوء على ما تفرزه بيئة المخيم من عادات وعلاقات، إذ فرض المكان الجديد الذي ضم فلسطينيين من عشرات القرى، تغيرات في السلوك الاجتماعي والثقافي نجمت عن الرغبة في التكيف مع العيش في مساحة صغيرة جمعت عددا كبيرا من السكان، وتضيف الدراسة وجهة نظر أخرى إذ تؤكد أن المجتمعات التي شكلتها الأزمات (مثل المخيمات)، ستظل تتسم بحسب تعبيرها بالعنف، ويمكننا تصور الأمر بتأمل الظروف التي تكوّن فيها المخيم حيث النزوح العنيف الذي فرضه التهجير القسري، وكيف ظل الرفض العنيد من جانب اللاجئين لإعادة التوطين سمة أساسية في المخيمات باعتباره انتقاصًا من حقهم في العودة إلى وطنهم، وهكذا ظلت الأزمة حاضرة لم تُنس.
ذابت في المخيم الفوارق الاجتماعية والمادية فأصبحت الظروف متساوية، وألقت الخصوصية المعمارية بظلالها على طبيعة علاقات السكان فيها، إذ تعتبر المخيمات أكثر المجتمعات الفلسطينية تماسكا، وهذا التماسك الاجتماعي يعتبر بيئة خصبة لنجاح الإضرابات وأعمال العصيان المدني.
خلال العقود التالية للنكبة وإزاء الأوضاع الاقتصادية الصعبة كانت مواصلة التعليم أملا في الحصول على حياة أفضل طريقا للجيل الثاني، وهكذا ارتفعت نسب الأطباء والمهندسين في المخيمات، فأسهموا في تعزيز البنية التحتية للمخيمات.
كل شيء هنا مؤقت
على أن عمارة المخيم، تحمل سمات المؤقت بدرجة ما، إذ بشكل أو بآخر، وحتى مع تحول ذلك المؤقت من خيام إلى صفيح ثم إسمنت، وارتفاع الطوابق ودخول الخدمات الأساسية، فإن ما لم يتغير هو ذلك الشعور بالمؤقتية.
هذه البيئة "المؤقتة" لم تكن فقط بحكم طبيعة عمارتها تحتضن المقاومة، بل كانت -في رأي جيش الدفاع- تفرزها، بطبيعتها المادية والاجتماعية؛ لذا فقد سعى جيش الدفاع لتحديث البنية التحتية لها ورفع مستوى المعيشة فيها، حتى لا تظل "بيئة خصبة للسخط"، وحتى تقلّ حماسة السكان لاحتضان المقاومة إذا أصبح لديهم ما كانوا يفقدونه.
حين طُرحت خطط أخرى لإنشاء مبان شاهقة تستوعب اللاجئين وتشكل سكنا دائما لهم، اعتبر الفلسطينيون ذلك خيانة للقضية، فالمخيم بطبيعته المؤقتة يمثل دليلا على المطلب الفلسطيني بالعودة إلى الأراضي التي هُجِّر منها أهلها عام 1948م، والمنظمات الفلسطينية في حرصها على إبقاء كفاءة البنية التحتية للمخيمات في حدها الأدنى، إنما تقصد بقاء الأمر على هذا النحو ليُفضي إلى البحث عن حل للأزمة.
وهذا هو السبب في رغبة الاحتلال الدائمة في طمس هذا المجتمع، فالمخيم ببنيته يثير لدى قاطنيه سؤالا دائما، عما أتى بهم إلى هذا المكان، ويفرز دائما مساحات للعمل على المطالبة بالحق وتغيير الوضع القائم، ولهذا السبب لا غيره، تسعى الحكومات المتعاقبة لما يمكن القول إنه "فرض" حياة أفضل على هؤلاء اللاجئين.
هنا تولد المقاومة
لطالما مثلت مخيمات اللاجئين مساحات جدلية، في محاولة لفهم أسباب استمرار وجودها، وهي الميدان الذي يسعى فيه اللاجئون للتغلب على أنماط الإدارة المختلفة، يشكل اللاجئون الفلسطينيون نحو 24% من لاجئي العالم ويسكنون في أكبر مساحة من المخيمات المعاصرة، منذ نحو ثمانية عقود. يوجد اللاجئون في مساحة يسعون فيها للتغلب على معايير الأونروا والحكومة المضيفة (في المخيمات خارج فلسطين) وبناء مساحة أكبر في شكل مادي لم تخطط له هندسة معمارية، بل خطّته الحاجة وحدها، وشكّله استمرار النزوح.
بين سكان غزة البالغ عددهم 2.1 مليون نسمة يمثل اللاجئون 80% يعيش نصفهم في مخيمات اللاجئين، ويعيش عدد أكبر في امتدادات المخيمات، التي تؤدي دورا مهما في الصراع؛ فحياة سكانها المتأرجحة دائما على المحك، وتحمّلهم للنصيب الأكبر من القمع يدفعان بهم إلى صدارة الانتفاضات والحركات المقاومة. مخيم جباليا للاجئين في غزة على سبيل المثال كان مكان ولادة الانتفاضة الأولى في الثمانينيات، هناك حيث يعيش سكانه في ظروف صعبة وجد الفلسطينيون أبسط الطرق نحو المطالبة بالحق، وقد تمثل ذلك في الحجارة.
تمكّن اللاجئون كثيرا من تحويل الأرض إلى مواقع مقاومة مبتكرة، باستخدام عناصر مثل الأنفاق أو الممرات المرتفعة، وكانت آليات استراتيجية للهجوم المضاد لتجنب الحركة على الأرض بما تمثله من خطورة. في قطاع غزة تعتبر حماس مخيمات اللاجئين (وجباليا تحديدا) معقلًا لها، فهي تقدم الدعم المادي من ناحية وتهدي إلى الحركة نخبة من قادة الصفوف الأمامية.
كانت الحكومات الإسرائيلية تراقب بالطبع ما تمثله المخيمات من تهديد، وهذا ما دفع جيش الاحتلال إلى بناء نماذج من المعسكرات والبلدات العربية لتدريب جنوده على الهجوم في هذه المساحات والتأقلم مع كثافة السكان فيها، وقد حاولت تلك الحكومات من ناحية أخرى بطرق مختلفة احتواء الاحتمالات الثورية داخل المخيمات؛ وتم ذلك بإحاطتها بأسلاك شائكة في السبعينيات، وإحاطتها بجدار حدودي في التسعينيات.
مخيمات جاهزة للاجتياح
في وقت مبكر كان أحدهم يعي ذلك ويعدّ المدن -معماريا- لكي تناسب هجمات جيشه. يتحدث إيال وايزمان في كتاب "أرض جوفاء" عن تلك الفكرة التي لمعت في ذهن آرييل شارون بأن الصراع المسلح مع الفلسطينيين مشكلة مدنية، ولهذا سعى جيش الاحتلال إلى تغيير المظهر المادي لما اعتبره "موطن الإرهاب الطبيعي" واعتبر مركزه في مخيمات اللاجئين، وأطلق اسم "جهاد البنيان" على هذا التوسع.
من المعروف أن قوات الاحتلال نادرا ما تمكنت من دخول المخيمات بأزقتها الضيقة لممارسة حملات الاعتقالات، فكانت هدفا في السبعينيات لـ"الهدم من أجل البناء" وهي الخطة التي وضع شارون فصلها الأخير الأكثر دموية ووحشية كما يشير إليه الكاتب، فأمر الجرافات بشق طرق عريضة في مخيمات جباليا والشاطئ ورفح لتقسم هذه المخيمات إلى أحياء أصغر حجما يمكن عزلها والوصول إليها، وجرى تعبيد الطرق وتنظيم الإنارة في الشوارع لكي لا يغيب ما في المخيمات عن عين الرقيب.
كان شارون يرى في تشريد عدد من سكان المخيمات فائدة كبيرة، يتخلص بها إلى الأبد من مشكلة المخيمات بما تثيره من حق لسكانها في أراضيهم، وهذا ما فسره وزير الدفاع حينها موشيه دايان بالتأكيد على الهدف الحقيقي لما بدا أنه محاولة لحل مشكلة اللجوء و"تأمين الإسكان اللائق"، إذ قال إن بقاء اللاجئين في المخيم يعني تمسك أطفالهم بأراضيهم الأصلية، وهكذا جرى تقديم منح للاجئين بمساحة 250 مترا مربعا وإعانة بمواد البناء، لكن ذلك كان مشروطا بهدم منازلهم القديمة في المخيم، وكان التهديد بالهدم العشوائي الجاري حينها في منازل اللاجئين في المخيم وسيلة اعتمدها الاحتلال لدفع مزيد من اللاجئين إلى قبول العرض.
رغم معارضة منظمة التحرير له نجح البرنامج في بعض المناطق مثل منطقة حي الشيخ رضوان شمال غزة، فأطلق عليه الفلسطينيون اسما ساخرا هو حي شارون، لكن الهدف الأساسي لم يتحقق إذ تحولت هذه المناطق أيضا إلى مراكز للمقاومة.
في سبتمبر/أيلول عام 2005 كانت القوات الإسرائيلية تنسحب بشكل كامل من قطاع غزة، تاركة خلفها حطام أكثر من 3000 مبنى، كانت مُصممة ليستوعب كل منها سكن أسرة واحدة صغيرة، وفوق الأرض ارتفعت رايات التنظيمات الفلسطينية، وصور القادة والشهداء، وبدأ الإعمار بإطلاق أسماء فلسطينية منها ياسر عرفات وأحمد ياسين على المناطق المحررة، ليتغير شكل العمران في غزة، وتتخذ السيطرة شكلا آخر، حيث يراقب الاحتلال "جوا"، وعلى الأرض كانت المقاومة تتخذ شكلا مختلفا أيضا وتجد ملاذا آخر بين الأبنية، ويظهر في الحرب الجارية اليوم مدى تأثيرها.
حول إمكانيات الحيز الحضري بتعدد أشكاله في إنتاج المقاومين واحتضانهم ودعم صمود الناس، يؤكد الدكتور عبد الرحمن كتانة المتخصص في التخطيط المعماري والحروب بجامعة بيرزيت لـ"أبعاد" أن النسيج العمراني ينتج بيئة اجتماعية خاصة تؤثر بدورها في شكل النسيج الاجتماعي فيها، ويشير إلى الاختلاف بين البيئة المكتظة في المخيمات، وغيرها في العمارات السكنية أو الفلل في المدن الأخرى.
فمثلا، يكون المخيم أكثر إنتاجا للعلاقات الاجتماعية لأن المساحة المكانية تفتح مجالا لأفراده للالتقاء، فتتشكل الروابط الاجتماعية الصغيرة غير الرسمية التي تعتمد على وجود الناس في المكان، وتنشأ مجموعات مثل رجال الحارة وشباب الحارة، وشباب الجامع، وأولاد الحارة، تلتقي بشكل مقصود وغير مقصود في الجامع والشارع والملعب وعلى أبواب المحلات، فضلًا عن اللقاءات المرتبة، مثل تلك التي تنظمها نساء الحارة في البيوت، وهكذا ينتمي كل فرد من أفراد الأسرة الواحدة لروابط اجتماعية أخرى، ويشكل جزءا منها؛ الأم جزء من "نسوان الحارة" والطفل أحد أولاد الحارة، وهذا النسيج الاجتماعي يتعاضد أكثر ويحمي نفسه في مواجهة الضغوط الخارجية في الحروب والكوارث.
تأثر الحيز العمراني بتلك التشاركية التي غلفت العلاقات الاجتماعية في المخيم وأثر فيها، وكان النسيج الاجتماعي الناتج عنه قادرا على إنتاج المقاومة والبقاء أساسًا وحاضنة لها، بمساعدة عوامل أخرى منها الدين ودور العائلة، في غزة يكون واضحا في بعض المناطق كيف أن عائلة بعينها هي التي تشكل مربعا سكنيا ما، وهذه طبقة أخرى من التعاضد.
تدخل رابطة أخرى لتزيد التعاضد وهي الانتماء الاختياري للتنظيم الذي يمتد في شبكة أوسع في كل المناطق، الجامع مثلا كان محلا لتجنيد المقاومين لبعض الحركات، وكذلك كان النادي الرياضي أو مركز الشباب لمجموعات أخرى، وهذا ما نعنيه بكون البيئة المبنية هي التي تشكل الحاضنة الاجتماعية وتسهم في تنظيم واستقطاب عناصر المقاومة كما أن بها ديمومة عمل وحياة المقاومة.
شاهدنا هذا بالتحديد -وفق ما علق محللون عسكريون- مع كتائب القسام وسرايا القدس في الحرب الجارية التي بدأت في أعقاب هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، فقد اعتمد عمل كتائب المقاومة على المناطق، بحيث اعتمد توزيع خلايا المقاومة على الحيز المكاني ومعرفة المقاتلين بالمناطق أكثر مما اعتمد على الهياكل التقليدية للكتائب، هناك يكون للمقاومة علاقات مع المكان والعائلة والجيران والتنظيم بالطبع، وكل هذه الطبقات الاجتماعية حاضنة مثالية، إذ يشترك كل الموجودين مع المقاوم في أكثر من رابطة من هذه الروابط.
المعرفة الحدسية
يعتمد جزء كبير من عمل المقاتل -كما يوضح عبد الرحمن كتانة- على الملاحظة بالنظر، وما يمكنه رؤيته؛ ولهذا يستخدم جيش الاحتلال تقنيات المراقبة مثل المسيّرات وطائرات الاستطلاع والروبوتات العالية، ويوضح كيف أن البيئة المبنية بشكل عام تحدّ الرؤية، وتعيق خطوط النظر فتعيق عمل الجندي.
وفقًا لــكتانة، يلزم أي مقاتل في حرب المدن خاصة نوعين من المعرفة، الأول هو المعرفة التقنية التي يحصل عليها من خلال الخرائط والمعلومات والبيانات التي تجمعها له أجهزة الاستخبارات والخبرة من خلال التدريب على ممارسة القتال، أما الثاني فهو المعرفة الحدسية التي لا يحصل عليها إلا من خلال الحياة في المكان نفسه، وعدم العيش في المكان يُفقد الجندي هذه المعرفة.
في غزة يعرف المقاتل -صاحب الأرض- المكان، وهو من يمتلك معرفة حدسية عالية جدا، يمكن ملاحظتها في فيديوهات المقاومة حيث يعرف المقاومون حدسيا أين ستصل الدبابة، وتعتمد المقاومة على خلايا وكتائب وعقد من أهل المكان، لديهم معرفة حدسية غير محدودة لا تعادلها المعرفة التقنية لجنود الاحتلال، فمن يعرف طبيعة المكان أكثر يستطيع اتخاذ ردّ أسرع.
ميزة أخرى دعمت هذه القدرة الحدسية يخبرنا بها كتانة، هي القدرة على اتخاذ قرار لا مركزي؛ فقد اعتمدت المقاومة على عقد قتالية من 4 أو 5 أفراد يكون ردّها بقرار لا مركزي يصدر من داخل العقدة نفسها، في حين يعتمد جيش الاحتلال على المعلومات ولا يمكنه اتخاذ مثل تلك القرارات دون الرجوع إلى القيادة.
يشير كتانة هنا إلى أنه حتى مع الهدم الذي يخفي معالم العمران في المدينة، ويؤثر في بعض العمليات التكتيكية بشكل عام تظل المعرفة الحدسية قوية لدى المقاومين؛ فالركام ينتج نوعا جديدا من "التمويه"، وهو تكنيك عسكري ساعد المقاومة على التماهي مع الركام، لذا كانت تحذيرات الجيش الأمريكي بألا يصنع جيش الاحتلال الكثير من الركام لأنه يعيق الدبابات ويصبح مكانا للكمائن، وقد كان بالفعل مكانا لتنفيذ الكثير من العمليات.
ثلاثية الأبعاد.. الجندي المنهك
أدّت العمارة إذن الدور الأقوى في تعزيز قدرة المقاومة على الردّ الأسرع والمناورة من مبنى إلى آخر بكفاءة أعلى واستخدام طبقات المباني لعمل استطلاع من مناطق غير متوقعة من نافذة في مبنى ثم من نافذة في مبنى مقابل على سبيل المثال، وهو ما خلق بيئة قتال ثلاثية الأبعاد، فصارت قدرة المقاومة على الاستطلاع غير محدودة تقريبا، وبالمثل قدرتها على إطلاق النار وتحديد اتجاهها.
يؤدي هذا بجنود الاحتلال إلى ما يسمى "مرحلة الإنهاك"، أمام كثرة الاحتمالات، وتعدد الأماكن التي قد تأتيهم منها قذيفة أو إطلاق نار أو حتى مجرد رصد حركتهم، تُستنزف الطاقة النفسية للمقاتلين وهذا من أهم عوامل ضعف الجنود في حروب المدن ويعتبره بعض العسكريين أصعب الأسلحة.
يضيف كتانة "رأينا مثل هذه الحالة حين قتل جنود الاحتلال ثلاثة أسرى إسرائيليين، لا تبرير هنا بالنسبة لي سوى حالة الإنهاك التي تشلّ القدرة على اتخاذ القرار ، فجعلت الجنود لا يستوعبون كون الأسرى يحدثونهم بالعبرية، في مثل هذه الحالة أيضا تحدث حالات الانتحار وقتل الزملاء، ولهذا كان الحديث عن أن نحو 20% من قتلى جيش الاحتلال من نيران صديقة"، تلك القدرة التي تمتلكها المقاومة على استخدام البيئة المبنية سواء القائمة منها أو المهدمة، وبراعتها في عمل كمائن فيها، تخلق لدى الجندي الإسرائيلي حالة إنهاك تجعله رد فعل وليس فعلا.
وقد زادت الأنفاق قوة هذه البيئة الثلاثية الأبعاد، إذ دمجت فيها المقاومة ما فوق الأرض بما تحتها، وبالبيئة المبنية في مخارج ما تحت الأرض من مبان وأنفاق أمكن الربط بين مجموعة من المباني فوق الأرض لتزيد الشبكة الثلاثية الأبعاد في بيئة المعركة، فتصبح غير محدودة ولا يسهل على الجندي رؤيتها والإلمام بها، لتزيد حالة عدم التوقع لديه. هكذا تسير الدبابة بصعوبة في مكان القدرة على استهدافها فيه تمثل 360 درجة.
الإعداد السابق كان عنصرا آخر يضيفه عبد الرحمن كتانة، ويؤكد أنه أسهم في دعم المقاومة في غزة، قائلا "هناك كمائن وخطط مسبقة رأيناها في أكثر من نموذج، تعاملت مع إمكانيات وفرص دخول العدو، كانت هناك مجموعات قتالية تنتظر لأسابيع حتى تنفذ هجوما لتحسن استغلال جميع الظروف وتخلق كمينا جيدا، في الحادثة التي قُتل فيها 20 جنديا، تبين أن المقاتلين كانوا يرصدون حركة الجنود من أيام سابقة، لكنهم لم يهاجموهم إلا في اللحظة المناسبة بفضل القدرة على الاستطلاع التي منحتها لهم البيئة المبنية، وقدرتهم بالتالي على اتخاذ القرار في الوقت المناسب"، ويضيف هنا "لا يعني هذا أن المقاوم أقوى لكنني أتحدث عما تمنحه له هذه القدرة".
العمارة حليفا في الحرب
في معارك المدن بشكل عام تتبدى قدرة العمارة على خلق بيئة ترهب العدو، كما يشرح الدكتور عبد الرحمن كتانة، يتوقع الجنود استهدافهم من أي جهة، وهو ما يدعم قدرة المقاومة على أن تخوض حرب عصابات تعتمد على المكان وليس على الشكل التقليدي للكتيبة من حيث العدد والتنظيم، فتوظف مجموعات تعرف المكان جيدا بكل عناصره، تسيطر المقاومة ضمن خططها على منطقة ما ثم تبدأ المواجهة، وهذا لا يوجد في المناطق المسطحة، إنها قدرات تمنحها حرب المدن.
تمنح العمارة للمقاوم أيضا قدرة على الرصد والاستطلاع من أكثر من جهة والتخطيط والهجوم والرجوع، إنها ميزة حرب المدن، وقد نجحت المقاومة في إعداد خطط تحاول تحقيق أهداف تكتيكية تؤثر على المدى الطويل في الأهداف الاستراتيجية، في الحادثة الأخيرة لمقتل الضابط المسؤول عن الهجوم على مستشفى الشفاء، يتبين كيف رصدته المقاومة وتتبعته من منطقة لأخرى، واستخدمت الاستطلاع من أكثر من جهة لتحديد هدفها، والتأكد من أنه الشخص المستهدف.
في مواجهة قدرات الآلية الإسرائيلية من مسيّرات ودبابات، كانت البيئة المبنية مهمة في دعم المقاومة، في أكثر من حادثة كان المقاوم يضع العبوة وينسحب معتمدا على زاوية الرؤية وعلى تقديره للمسافة التي تحتاج إليها حساسات الدبابة لكي تستشعر الخطر وتبدأ الردّ، فكان يعرف كيف يستبقها.
كان الأمر نفسه يحدث مع قاذف الياسين 105 المضاد للدبابات حين يتم إطلاقه من مسافة لا تزيد على 100 متر، بسبب سرعته وقرب المقاوم لا يلبث النظام المضاد للصواريخ الموجود في دبابات الميركافا، أن يعمل، في أكثر من فيديو ظهر المقاوم وهو يهاجم من مسافة قريبة جدا ثم يختفي من خلال باب مثلا، وهكذا منح العمران للمقاوم قدرة على الاستباق والهجوم قبل أن تستعد الدبابة وتلف الرشاش أو المدفع وتفعل أي نظام.
كيف يواجه الاحتلال؟
كان على أجيال سابقة من العسكريين التعامل مع مناطق جغرافية مختلفة، إضافة إلى الهياكل المبنية من حصون ومعسكرات، ومع تزايد الأماكن الحضرية التي تتحول إلى مسرح لعمليات الجيوش، يعمل مخططو الحرب حاليا على فهم الشوارع الحضرية الكثيفة. في عام 2011 على سبيل المثال كان على قوات خاصة تابعة لمشاة البحرية الأمريكية مداهمة مجمع سكني تتنوع طبيعته بين القرى والحقول؛ مما دفع بمخططي الحرب إلى وضع الشوارع الحضرية في الاعتبار عند التخطيط لعملياتهم المستقبلية.
في كتاب Fronts: Military Urbanisms and the Developing World "الجبهات: التمدن العسكري والعالم النامي" يصف كل من إرسيلا كريبا وستيفن مولر هذا المفهوم، من خلال نسخة أخرى من تخطيط المدينة تمنح المتدربين قدرة على التعرف على معالمها، وكيف يجري تدريب العسكريين على معلومات تتعلق بمواد البناء وسمك الجدار وأي مستويات المبنى يمكن اختراقها بسهولة. هكذا تُبني اليوم قرى ومناطق حضرية تحاكي المواقع التي سيكون على الجيوش التعامل معها لتوفير تحديات مماثلة وبيئة واقعية للتدريب على الحركة وتفتيش المنازل وصولا إلى القصف.
يوضح لنا الدكتور عبد الرحمن كتانة كيف كان جيش الاحتلال يطور خططه في الحرب في المدن، فأنشأ مبكرا جدا -في منطقة النقب- مدينة "البلدية" التي تشبه في تصميمها المدن والمخيمات العربية، لتدريب جنوده على خوض الحرب فيها. لقد استُخدمت هذه المدينة للتدريب من قِبل جيوش أخرى، وحتى 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي كان الجيش الإسرائيلي من أنجح الجيوش في خوض معارك المدن، وكانت المسيّرات التي تراقب حتى من خلال الجدران محل فخر الجيش.
لقد حدّ من تلك القدرات، نقص حاد في قدر ودقة المعلومات الاستخبارية الواردة من القطاع إلى جيش الاحتلال، ولهذا السبب استخدم القصف السجادي لتحقيق أهداف عسكرية مثل تسوية أرض المعركة وإرباك خطوط الدفاع، إلى جانب أهداف سياسية لاستهداف المدنيين بشكل انتقامي، وإجبارهم على الهجرة، إذ كانوا الحاضنة للمقاومة ولأنهم جزء من عائلات المقاومين، فكان القصف يهدف لأن يدفع المدنيون ثمن وقوفهم إلى جانب المقاومة.
كتكنيك عسكري فإن هذا القصف كان يمسح المنطقة لتخريب الخطط الدفاعية في محاولة لأن تكون المنطقة ثنائية الأبعاد فتكون قدرة الدبابات والجيوش على المناورة أكبر، في بعض المناطق مثل بيت حانون وبيت لاهيا على المناطق الحدودية سُويت مناطق وأحياء كاملة بالأرض، ولم يكن الأمر عشوائيا، لقد أراد جيش الاحتلال التخلص من العمارات السكنية التي تشكل حواجز تحجب النظر، كما سعى بهذا القصف للتمهيد لدخول المنطقة وإلحاق أضرار بالأنفاق الموجودة فيها.
أعاق الركام حركة الدبابات إلى حد ما لكن التأثير ظل أقل مما لو كانت المباني لا تزال على حالها كاملة وبها سكانها. يلفت كتانة نظرنا هنا إلى أن وجود الناس في الأحياء السكنية يعيق جيش الاحتلال ليس فقط لأن قصفهم يزيد الخسائر بين المدنيين ويزيد إحراجه، وإنما لأنهم يدعمون المقاومة بالمعلومة والملاحظة وحتى الطعام، فضلًا عن نقل الجرحى وعلاجهم.
كان جيش الاحتلال يلجأ لأن يفيد أيضا من الحيز العمراني ويصبح جزءا منه حتى لا يظل بالشوارع فيخضع للمقاومين بمعرفتهم الحدسية بالمكان، ويصبح مكشوفا لهم، ضمن استراتيجيات الجيش صنع الجنود حفرا داخل البيوت ليتحركوا من بيت إلى آخر دون أن ترصدهم المقاومة، كانوا يصنعون ممرات داخل المناطق المبنية من خلال تفجير الحوائط وعدم استخدام الأبواب إلا بعد تطهير المنطقة كاملة.
في أطراف المدينة في منطقة بيت لاهيا وبيت حانون ومنطقة الكرامة كان جنود الاحتلال يصنعون شوارعهم الخاصة ويؤسسون مناطق التمركز بين عمارات سكنية أو بجانب المدارس ليسيطروا على المكان ويستخدموا البيئة المبنية من عمارات سكنية ومدارس للاحتماء بها باعتبار أن المقاومة ستتجنب القتال فيهم حفاظا على حياة المدنيين.
في مقال نشرته مجلة الدراسات الفلسطينية مطلع عام 2024 يشرح عبد الله البياري مكونات العلاقة المكانية الأساسية في الحرب الجارية في غزة، من خلال استعارة تعود إلى التراث الروماني، وهو المسرح الروماني الذي يمكننا في بُعده الجسدي والمعماري والمكاني من فهم استراتيجية الحرب وجغرافيا الهيمنة الإسرائيلية، وفهم عقلية الحرب لدى المنظومة الصهيونية.
يشير المقال إلى أن إسرائيل باعتبارها كيانا استيطانيا إحلاليا اعتمدت الاستحواذ على المكان كجزء أساسي من أهدافها، ويشرح كيف يمكن لنموذج المسرح الروماني أن يشرح لنا الحرب على غزة، حيث كانت السلطة المتحكمة في المسرح، (التي كانت تتمثل في الإمبراطور الروماني) تنطلق من موقع رأسي يكشف فيه الإمبراطور مجال الهيمنة والأجساد، وبإشارة منه تبدأ المقتلة وتنتهي.
يربط المؤلف هذا النموذج بالحرب الدائرة في غزة، في مشاهد مختلفة، منها مشهد "الفرجة" حيث اعتاد المستوطنون في مجال "غلاف غزة" أن يتابعوا بتشفٍّ مشاهد القصف ويرصدوا الأمر بكاميراتهم، ويضيف مشهدا آخر هو السيطرة، مثل حصار المسرح كفراغ معماري مسور له منافذ محددة، إذ يبدو أن الاحتلال يسيطر على مسرح الأحداث في غزة، ويملك "الاستعلاء" من خلال سيطرته من الأعلى على الجو.
دفع هذا كله المقاومة نحو العمق، ومع كل تفوق إسرائيلي في الجو يُطبق الحصار على القطاع ويزيد القوة التدميرية، كانت المقاومة تفتح طرقا أعمق تحت الأرض، لتمكنها مواجهة عدم التكافؤ الحادث، وهكذا تطورت الأنفاق التي بدأ اللجوء إليها في الثمانينيات لأغراض تجارية بين العائلات المتفرقة بقسم مدينة رفح الحدودية إلى جانب مصري وآخر فلسطيني، وبعد تهريب التبغ واللوازم المنزلية جرى نقل الأسلحة مع الحصار الجاري في قطاع غزة خلال الانتفاضة.
أصبحت الأنفاق هي مصدر دعم المقاومة بالأسلحة والذخيرة والمقاومين وتطورت الوسائل التي تحول دون اكتشافها، فكانت تبدأ من داخل أبنية على جانبي الحدود، وتلتقي في نقطة محددة، وتتفرع عبر طرق أخرى، لعدة ممرات منفصلة، بحيث لا يؤثر اكتشاف أحدها أو تهدمه على مسار الأنفاق الأخرى.
ظل الحفر عملية محفوفة بالمخاطر وتعددت الحيل التي تهدف لكتمان الأمر، إذ تبقى الأبنية مأهولة بسكانها كما هي، ويبدأ الحفر من عدة غرف، تُجمع نفايات الحفر بحرفية للتخلص منها لاحقا، دون أن ترصدها طائرات الاحتلال، فالرمل الزائد يرشد جيش الاحتلال والمتعاونين معه.
للمفارقة فإن الهدم الضخم الذي مارسه جيش الاحتلال كان يفسح المجال للتخلص من نفايات الحفر وسط ركام المباني، بعد أن اختفت معالم العمران ولم يعد سهلا تمييز الركام من نفايات الحفر.
الطبيعة الرملية للتربة أسهمت في تسهيل الحفر من خلال اليد أو باستخدام أدوات كهربائية بسيطة، كما أنها حالت دون تدميرها إذ قللت طبيعتها الرخوة من تأثير المتفجرات التي استخدمها جيش الاحتلال في محاولاته لتدمير شبكة الأنفاق. اليوم تتحدث تقارير عن أنفاق بطول يبلغ نحو 560 و720 كيلومترا، وفتحات أنفاق تبلغ 5700 فتحة نفق، ولا تزال البيانات حول طول ونوعية الأنفاق تفاجئ جيش الاحتلال، فقد كان بين المفاجآت على سبيل المثال ما يذكره الدكتور عبد الرحمن كتانة من قدرة المقاومين على إعداد فتحة في النفق، حسب توقعهم لمكان تموضع الهدف، وهي مرونة في استخدام الأنفاق وميزة لم تكن معروفة تشير إلى مدى قوة تأثيرها.
إنه أحد فصول قصة الصراع الطويلة، ولا يزال الحيز العمراني ميدانا للحرب اليوم، يحمي فوق الأرض، أرضا محررة في العمق، تواصل المقاومة وتبدو كصندوق أسود لا يسهل الكشف عن محتوياته، وتمثل للجيش الإسرائيلي كابوسا تحت الأرض، بما تعنيه من قدرات للمقاومة على إدارة المعركة، وعلى البقاء.