في عام 2019 عنونت الصحيفة الألمانية الكبيرة "فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ" مقابلة مطولة مع شخص يدعى طالب العبد المحسن بمانشيت عريض "أنا أعنف ناقد للإسلام في التاريخ".
في حينها، لم يلتفت حتى أهل الاختصاص لهذه المقابلة، فهؤلاء تعوّدوا بين الحين والآخر على خروج "مثقفين" عرب ومسلمين بمقالات رأي شاذة عن الإسلام والمسلمين في بعض الصحف والمجلات الألمانية.
وعلاوة على ذلك، تعد "فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ" صحيفة محافظة ومعروفة بمواقفها الناقدة للإسلام، والشخص الذي أراد أن يكون "أعنف ناقد للإسلام في التاريخ" لم يكن يعرفه أحد.
ويبدو أن الصحيفة نفسها لم تأخذ ما قاله العبد المحسن على محمل الجد، فنشرت المقابلة في قسم "لايف ستايل".
الآن، كل ألمانيا تعرف طالب العبد المحسن الطبيب السعودي الخمسيني الذي استقل في 21 ديسمبر/كانون الأول 2024 سيارة دفع رباعي مستأجرة من طراز "بي إم دبليو"، وهاجم بها أحد أسواق عيد الميلاد في مدينة ماغدبورغ، مما أدى إلى مقتل 5 أشخاص وإصابة 200 آخرين بجروح، بعضهم في حالة حرجة.
وبعد اجتيازه مئات الأمتار في السوق بسرعة قياسية انحرف العبد المحسن بسيارته يمينا، حيث اعتقلته الشرطة.
معادٍ شرس للإسلام
في الساعات الأولى بعد وقوع الهجوم لم تستخدم الشرطة والنيابة العامة الألمانيتان مصطلحات تعوّد الرأي العام على سماعها عند تنفيذ هجمات من هذا النوع، مثل "عمل إرهابي" أو "إرهاب إسلاموي" وغيرها من المصطلحات، فالمشتبه به لم يكن معروفا لدى المخابرات الألمانية كمتطرف، وعمليات البحث الأولى عنه في مواقع التواصل الاجتماعي والصحف الألمانية بيّنت فورا أنه معادٍ شرس للإسلام ومتعاطف مع الحزب اليميني المتطرف (البديل) ومع إسرائيل، الأمر الذي نفى عنه تهمة تنفيذ هجومه لدوافع سياسية.
لكن طالب العبد المحسن -الذي جاء في عام 2006 إلى ألمانيا ويصف نفسه بأنه "معارض سعودي"- كان معروفا لدى السلطات القضائية بسبب قضايا لا تستحق وضعه تحت المراقبة، أكبرها تهمة تهديد في عام 2013 على خلفية إصدار محكمة في مدينة روستوك شمالي ألمانيا عقوبة تقضي بعمله لمدة 90 يوما كل يوم مقابل 10 يوروات فقط.
وعزت المحكمة في حينها القرار إلى "مضايقته السلام العام من خلال التهديد باستخدام العنف" بسبب عدم اعتراف غرفة الأطباء في ولاية مكلينبورغ فوربومرن شمالي ألمانيا ببعض شهاداته، وفي هذه الولاية اجتاز السعودي تخصص الطب بين عامي 2011 و2016.
وعندما رفضت الغرفة الاعتراف بهذه الشهادات، وهدد العبد المحسن بـ"ممارسات سيكون لها وقع دولي شبيه بما حدث في بوسطون" المدينة الأميركية التي شهدت في 15 أبريل/نيسان 2013 هجومين إرهابيين على ماراثونها السنوي راح ضحيته 3 أشخاص و260 مصابا.
بعدها، واصل العبد المحسن مسلسل الاضطرابات والأفعال الغريبة، فبحسب وزارة داخلية الولاية المذكورة جاء في يناير/كانون الثاني 2014 إلى بلدية مدينة شترال زوند شمالي ألمانيا وطلب مساعدة مالية، وهدد مجددا بارتكاب فعل "سيتذكره الناس طويلا"، وهدد كذلك بـ"الانتحار".
في عام 2016 قدّم العبد المحسن طلب لجوء لدى سلطات ولاية "ساكسونيا أنهالت" بوسط ألمانيا، وبرر ذلك بالارتداد عن الإسلام وبتأليف كتاب ناقد للدين.
هنا يجب التوقف قليلا عند المقابلة التي أعطاها في عام 2019 لصحيفة "فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ"، ففي هذه المقابلة تسأله الصحيفة "الارتداد عن الإسلام عقوبته الإعدام في السعودية، أنت قررت عندما كنت في بداية العشرينيات الارتداد عن دينك، كيف تمكنت من الإفلات من العقوبة؟".
شرح طالب العبد المحسن في الإجابة كيف كان يتظاهر بالصلاة أمام أصدقائه ومعارفه وكيف كانت عائلته تكرهه لأنه ارتد عن الإسلام، وأسهب في شرح قدرته على خداع جميع المحيطين به، وعندما سألته عن سبب تقديمه طلب اللجوء إلى ألمانيا قال إنه بدأ يكتب ضد الإسلام في موقع الناشط السعودي رائف بدوي ولهذا تعرض للتهديد، قائلا "سيذبحونني إذا رجعت إلى السعودية، ولهذا قررت تقديم طلب لجوء إلى ألمانيا".
إشادة باليمين المتطرف
ويبدو أن الأسباب التي ساقها أقنعت سلطات اللجوء التي منحته حق اللجوء السياسي وفق مادة القانون الأساسي "16 إيه" التي تضمن لمقدم الطلب أعلى درجات الحماية.
وبناء على ذلك حصل على الإقامة الدائمة في مدينة برنبورغ القريبة من مدينة ماغدبورغ بولاية "ساكسونيا أنهالت"، حيث عاش حتى تنفيذه الهجوم.
ومن خلال تتبع آثار العبد المحسن في منصة إكس والمقابلة المنشورة في صحيفة "فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ"، ولكن قبل كل شيء من خلال حديث للجزيرة نت مع صحفية رفضت الكشف عن هويتها وكانت على تواصل معه من عام 2018 وحتى أغسطس/آب من العام الحالي، ومن خلال ذلك كله يمكن إلقاء نظرة على عالم الطبيب النفسي المنفصم عن الواقع، فهو لا يكتفي كمهاجر في ألمانيا بالإشادة بالحزب اليميني المتطرف (البديل)، بل يعتبر مُحرضيْن مثل الأميركي ألكس جونس واليميني المتطرف تومي روبنسون قدوة له.
حتى أنه حلم في إحدى التغريدات بالتعاون مع اليمين المتطرف في أوروبا من أجل تأسيس أكاديمية للمرتدين عن الإسلام، متسائلا "من سيحارب الإسلام في ألمانيا سواهم؟".
ويفاخر العبد المحسن في المقابلة التي أعطاها لصحيفة "فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ" في عام 2019 بإقناع مسلمين كثيرين بالارتداد عن الإسلام، ويؤكد "أقول لهم دائما لا، أنا لا أقبل أن ترتد عن الإسلام بفضلي، يجب عليك أن تترك الإسلام بقناعتك الذاتية".
العبد المحسن يحاسب بشدة المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل بسبب سياستها المنفتحة على اللاجئين وبسبب فتح الحدود الألمانية في عام 2015 أمام لاجئين من الشرق الأوسط، معظمهم من سوريا، ويقول في إحدى تغريداته "لأنه لا توجد في ألمانيا عقوبة إعدام يجب على ميركل أن تقضي بقية حياتها في السجن بسبب مشروعها الإجرامي السري الذي ترمي من خلاله إلى أسلمة أوروبا، ولكن لو تم اعتماد عقوبة الإعدام من جديد في ألمانيا فإن ميركل تستحق الموت".
كيف تطرف العبد المحسن؟
الإشادة باليمين المتطرف أو الدعوة إلى زج أنجيلا ميركل في السجن كلها مطالبات تخرج عن المألوف ولكنها تبقى في إطار تدوينات لا يعاقب عليها القانون.
لكن من خلال متابعة تغريداته التي سبقت الهجوم بات واضحا أن العبد المحسن بدأ يجنح نحو التطرف ونحو الدعوة جهارا إلى العنف.
فمن خلال الاطلاع على هذه التغريدات وعلى المراسلات بينه وبين الصحفية -التي فضلت عدم الكشف عن اسمها- عبّر الرجل مرارا عن امتعاضه من تجاهل السلطات الألمانية مطالبه، وأعرب مرارا عن تخوفه مما وصفها بـ"أسلمة ألمانيا"، ولكنه قبل كل شيء بات يتحدث علانية عن "الحرب" مع ألمانيا و"الذبح" و"الموت" وعن أن ألمانيا وسلطاتها لا تفهم إلا لغة العنف والقوة.
هنا يصف أحد المواطنين السعوديين المقيمين في ألمانيا -الذي راقب نشاط العبد المحسن عن كثب- في حديث مع الجزيرة نت هذه التناقضات قائلا إن استخدام مصطلح "مضطرب نفسيا" لتوصيف شخصية العبد المحسن ليس صحيحا، لأن جميع تصرفاته تدل على أنه "عجينة شريرة وسيئة (..)، يضمر الشر وليس أقل من كرة من الكراهية تكبر مع الوقت".
وبشأن أسباب تحفّظ السلطات الألمانية على مراقبته بعد إطلاق هذه الدعوات، قال المعارض "في ألمانيا توجد ظاهرة دعني أصفها بتدليع كل عربي ومسلم يخرج في الإعلام بمواقف ناقدة ومسيئة للإسلام أو يدعي مثلا أنه ملاحق لأنه مثلي جنسيا أو مرتد عن الإسلام"، مشيرا إلى أن السلطات في مثل هذه الحالات "تغض النظر عن هؤلاء الأشخاص وتتعامل معهم معاملة 5 نجوم رغم أنهم ليسوا أقل من قنابل موقوتة".
شخصية عدائية
اجتماع كل هذه التناقضات في شخص واحد وهذا المخزون الكبير من العنف أمران يلفتان الانتباه، وتحديدا انتباه أشخاص تجمعهم مع هذا الشخص قواسم مشتركة.
ولأن السعوديين في ألمانيا ليسوا كثيرين، فإنهم يعرفون بعضهم بعضا، ليس بالضرورة شخصيا كما يقول المحامي السعودي طه الحاجي في مقابلة مع التلفزيون الألماني "إم دي آر".
الحاجي يقول إنه لم يستغرب من تنفيذ طالب الهجوم "ففور سماعي أن المشتبه به سعودي قلت لأصدقائي فورا إن المنفذ قد يكون طالب".
لكن كيف وصل المحامي إلى هذه النتيجة بهذه السرعة؟ يرد المحامي "طالب شخصية عدائية، شخصية متناقضة، وعنده كما نقول "شوفة نفس" ويتعامل مع الناس بتعالٍ، هو مضطرب نفسيا بشكل كبير، كل الأشخاص الذين يتعاملون معه لازم يكون مشكلة معهم، طالب يحب يتسلط ويحس أنه القائد في كل شيء، فالتعامل معه صعب".
في الأعلى مقابلة القناة التلفزيونية مع المحامي طه الحاجي، المقابلة مصورة، الأسئلة بالألماني (خطية)، والإجابات بالعربي، رابط المقابلة أدناه.
شخصية انعزالية
جميع الأشخاص الذين تحدثت إليهم الجزيرة نت يؤكدون أن الطبيب كان شخصية انعزالية وغير اجتماعية.
المحامي طه الحاجي يقول "طالب لم يشارك في أي اجتماع لنا، سواء تعلق الموضوع باجتماعات للمعارضة السعودية أو للنشطاء، أعتقد أن الانعزالية أفضل وصف لشخصيته، لأنه لا يريد علاقة ودية مع محيطه، سواء مع الجيران أو المعارف أو حتى في العيادة أثناء ممارسته العمل، هذا وصف مناسب لشخصية طالب".
"ملاحقة "
في تغريدات لاحقة وفي مقابلة أجرتها معه مدونة أميركية معادية للإسلام في 12 ديسمبر/كانون الأول قدّم العبد المحسن نفسه كطبيب ومعادٍ للإسلام.
في هذه المقابلة يقول إن لديه "دلائل" تثبت تورط الدولة الألمانية في عملية سرية من أجل ما أسماها "ملاحقة المعارضين السعوديين في جميع أنحاء العالم وتدمير حياتهم".
تحذيرات من السعودية
وبينما تجاهلت المخابرات الألمانية جميع الإشارات إلى احتمال استخدام الطبيب العنف لتحقيق أهدافه كانت السلطات السعودية أكثر حذرا، فوفقا لمعلومات المجلة الألمانية "دير شبيغل" حذرت المخابرات السعودية في عامي 2023 و2024 نظيرتها الألمانية 3 مرات من تطرف طالب.
ووفق "ديرشبيغل" فإن الشعبة الخارجية للمخابرات الألمانية (بي إن دي) حصلت في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 على تحذير واضح من المخابرات السعودية، وأن التغريدات التي دعا فيها إلى "تدفيع ألمانيا الثمن" كانت جزءا من هذه التحذيرات التي وصلت إلى السلطات المختصة في ولاية ساكسونيا أنهالت حيث يعيش العبد المحسن، لكن سلطات الولاية لم ترَ في جميع هذه التحذيرات "تهديدا محددا".
وعلاوة على ذلك، تواصلت السلطات السعودية في عام 2023 مع نظيرتها الألمانية عبر الشرطة الدولية (إنتربول)، ودعتها إلى اعتقال طالب العبد المحسن، لكن ألمانيا رفضت الطلب لأنها اعتقدت أن له خلفيات سياسية تتعلق بملاحقة المعارضة السعودية في الخارج، فالرجل تعتبره المخابرات الألمانية معارضا سعوديا، ليس فقط معترفا بحقه في اللجوء إلى ألمانيا، بل يتمتع بأعلى درجات الحماية وفق المادة "16 إيه" القانون الأساسي (الدستور).
تحت تأثير المخدرات
وتنقل المجلة عن السلطات الأمنية الألمانية قولها إن العبد المحسن زار ماغدبورغ في نوفمبر/تشرين الثاني وديسمبر/كانون الأول أكثر من مرة، حيث كان يعيش في فندق "ماريتيم" ويحضّر ربما للهجوم.
وتتساءل المجلة عما إذا كان العبد المحسن في 21 ديسمبر/كانون الأول اليوم الذي شهد تنفيذ الهجوم تحت تأثير المخدرات، وتقول "ما يعرف بالفحص الأولي "دراغ وايب- تيست" كان بحسب السلطات الأمنية إيجابيا، ولكن فصل المقال في موضوع تعاطيه المخدرات قبل التنفيذ متروك لفحص الدم الذي لم يُجرَ حتى الآن.
ورجوعا إلى المقابلة التي أجرتها معه صحيفة "فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ" بدا طالب العبد المحسن ليس مضطربا فحسب أو كما وصف في بداية التقرير بـ"العجينة الشريرة"، بل كان أيضا فاقدا للأمل في كل شيء، ففي معرض إجابته عن السؤال الأخير للصحيفة عما إذا كان يعتقد أن "الإسلام سيعطي المرأة حقوقها"، على حد سؤال الصحيفة، يجيب "لا، لا أعتقد ذلك، لا يوجد إسلام جيد".