بالتزامن مع فرار الرئيس السوري بشار الأسد إلى موسكو بعد انهيار نظامه، انفردت مديرية المخابرات العسكرية الأوكرانية ببث خبر على موقعها على منصة تليغرام يقول نصه إن القوات الروسية في سوريا "سحبت سفينتيها الحربيتين من القاعدة البحرية في طرطوس التي سمح الأسد لموسكو باستخدامها ثمنا لأمنه"، وزادت أن الفرقاطة الأميرال غريغوروفيتش وسفينة الشحن إنجينير تروبين انسحبتا من طرطوس، وأن طائرات روسية تنقل "بقايا أسلحتها وعتادها العسكري" من قاعدة حميميم الجوية.
الخبر الذي بثته وكالة رويترز يوم الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، مصحوبا بعبارة "لم يتسن لرويترز بعد التحقق من الأمر"، قدم عينة لما يأمل أشرس أعداء روسيا حصوله، بعد انهيار نظام أبرز حلفائها في الشرق الأوسط والمشرق العربي.
وفي الوقت ذاته أثبتت صلابة موسكو وقدرتها على تجاوز أصعب اختبار يشهده وجودها العسكري خارج مجالها الإقليمي، عدم دقة الخبر، خصوصا بعد ربط وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف خروج السفن بمناورات بحرية في البحر المتوسط مجدولة سلفا.
غير أن تبدد الأماني الأوكرانية بزوال سريع للوجود العسكري الروسي من سوريا، لم يحجب الحذر الذي وسم مواقف مسؤولي روسيا ووسائل إعلامها حيال انقلاب المشهد السوري، فمع بلوغ زحف المعارضة المسلحة ريفي حماة وحمص، تحت نيران الطيران الحربي الروسي، والإعلان عن فرار الأسد مع بلوغ بعض مسلحيها ريف دمشق، بدأت نتف التصريحات تظهر تباعا، سواء ما اتصل منها بمصير الأسد أو بمصير الوجود العسكري الروسي الممتد منذ إنشاء قاعدة طرطوس البحرية عام 1971 (في عهد الأسد الأب) ثم حميميم الجوية عام 2015 (في عهد الأسد الابن).
بخصوص مصير الرئيس المخلوع بشار الأسد، ظهر أول تصريح روسي بعد يوم كامل من مغادرته في العاشرة من ليل السبت (7 ديسمبر/ كانون الأول) مطار دمشق بطائرة خاصة إلى جهة غير معلومة.
فقال بيان لوزارة الخارجية الروسية أولا إن "الأسد غادر سوريا، وأصدر أوامره بتسليم السلطة سلميا"، وإنه "تفاوض مع أطراف في النزاع المسلح بسوريا"، و"المفاوضات (أسفرت) عن تسليم الأسد للسلطة بشكل سلمي، والتخلي عن منصبه ومغادرة البلاد". وأضاف البيان أن "روسيا لم تكن طرفا في هذه المفاوضات".
في وقت لاحق أزال خبر لوكالة إنترفاكس الروسية منسوب لمصدر في الكرملين، الغموض في مصير الأسد الابن. فقال إن "الرئيس السوري بشار الأسد وأفراد عائلته وصلوا إلى موسكو، وإن روسيا منحتهم حق اللجوء لأسباب إنسانية".
ثم نقلت وسائل إعلام روسية عن ميخائيل أوليانوف المبعوث الروسي لدى المنظمات الدولية في فيينا قوله على تطبيق تليغرام إن الأسد وعائلته "موجودون في موسكو. روسيا لا تخون أصدقاءها في المواقف الصعبة".
وفي اليوم التالي أشار المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إلى أن قرارات منح اللجوء السياسي في روسيا لا تتخذ دون الرجوع للرئيس الروسي، وأن ترك الأسد للسلطة "كان قرارا شخصيا".
أما بخصوص القواعد العسكرية الروسية، فأشار البيان الأول الصادر عن وزارة الخارجية الروسية يوم انهيار حكم الأسد (8 ديسمبر/ كانون الأول) إلى أنها في "حالة تأهب عالية" وأنه "لا يوجد أي تهديد جدي لأمن هذه القواعد".
وذكر البيان أنه تم اتخاذ الإجراءات اللازمة، لضمان سلامة حياة المواطنين الروس في سوريا. وقال مراسل الجزيرة زاور شاوج إن موسكو أعلنت أن القاعدتين تعملان بشكل كامل مع جاهزية كاملة من الناحية الأمنية في صفوف القوات الروسية العاملة في القاعدتين.
ومع وصول مقاتلي المعارضة السورية إلى بلدة جبلة القريبة من قاعدة حميميم، نقلت وكالة تاس عن مصادر في الكرملين قولها "يتواصل المسؤولون الروس مع ممثلي المعارضة السورية المسلحة، التي تكفل قادتها بضمان أمن القواعد العسكرية الروسية والمؤسسات الدبلوماسية في سوريا".
ودعمت قناة "روسيا اليوم" هذه المزاعم عندما نقلت في التاسع من ديسمبر/ كانون الأول تصريحات أدلى بها عضو الجهاز التنفيذي ورئيس دائرة العلاقات الخارجية في هيئة التنسيق الوطنية السورية المعارضة أحمد العسراوي لوكالة نوفوستي قائلا إنه يجب على سوريا ألا تتخلى عن الاتفاقيات مع روسيا التي تلبي مصالحها.
وأضاف العسراوي لنوفوستي: "يجب ألا نخالف كل الاتفاقات التي تلبي وتصب في مصلحة سوريا، ويجب أن نربطها بمصالح البلاد وارتباطها بالقضية العربية". كما أكد أن هناك قوى في المعارضة السورية لا تتخذ موقفا عدائيا تجاه روسيا ومستعدة لبناء علاقات مع أي طرف على أساس المصالح الوطنية السورية.
ورغم حذر وسائل الإعلام الروسي الناطق بالعربية في مقاربة المشهد السوري الجديد، فإن التبدل السريع في تفاصيله كان أسرع من قدرة إدارات الأخبار على الانتباه لضرورات تعديل مسمياتها. فكان من السهل العثور في باب "استطلاع رأي" في موقع "روسيا اليوم" يوم السادس من ديسمبر/كانون الأول مثلا، على دعوة القراء للتصويت بنعم أو لا على السؤال التالي: "برأيك.. هل تتمكن الفصائل المسلحة بقيادة جبهة النصرة الإرهابية من السيطرة على دمشق بعد إدلب وحلب وحماة كما يأمل أردوغان؟".
بالذهنية ذاتها تعامل ألكسندر دوغين المعروف بأنه الأب الروحي لفلاديمير بوتين مع التحول السوري، فكتب على صفحته على منصة إكس: "كانت سوريا فخا لأردوغان، لقد ارتكب خطأ فادحا، لقد خان روسيا. لقد خان إيران، ومحكوم عليه بالفناء. الآن بدأت نهاية تركيا الكمالية.. لقد دعمناكم لغاية الآن.. ستندمون". وفي تغريدة أخرى كتب "سقوط الأسد حدث مأساوي. كان حليفا لروسيا وقطب المقاومة. لقد تقبلنا الضربة كضربة، والألم كألم. هذه هي المعركة. عادة ما تكون للحرب حلقات مختلفة، بعضها مزعج ومؤلم. لكن لا ينبغي لنا أن نستسلم أبدا. سوف نفوز".
بالمقابل كانت مقاربة محلل روسي بارز للتحول السوري أكثر موضوعية وأقل انحيازا في تفسيرها لعوامل فشل بشار الأسد ونجاح معارضيه. فنقلت "روسيا اليوم" عن الخبير العسكري الباحث في الأكاديمية الدبلوماسية التابعة للخارجية الروسية فاديم كوزيولين قوله: "لسوء الحظ، فإن مقاتلي هيئة تحرير الشام لم يفعلوا لإسقاط الحكومة السورية أكثر مما فعل بشار الأسد نفسه. بصراحة، كان الرئيس السابق للبلاد يعتمد على أمجاد انتصارات منتصف العقد الأول من القرن الـ20. لقد اعتقد هو وفريقه أن الصراع على السلطة قد انتهى".
ولهذا السبب -يضيف كوزيولين- "لم يولوا أي اهتمام عمليا لتطوير القوات المسلحة وتحديثها. تحول الجيش إلى مجموعة من القادة العسكريين، حاول كل منهم تكوين عشيرته الخاصة. لكن الجنود أنفسهم والمواطنين العاديين في الجمهورية لم يعجبهم هذا، وبالتالي فسلطة الأسد بدأت تتراجع".
ويختتم فوزيولين تحليله بالقول "على هذه الخلفية، على ما يبدو، وعلى مدى سنوات كان المسلحون يستعدون للانتقام. وتبين أن هيئة تحرير الشام هي الأكثر حماسة بين المجموعات الموجودة هنا، التي، علاوة على ذلك، تحظى بدعم من تركيا وغيرها من اللاعبين الأجانب. لقد كانوا معبئين جيدا ومستعدين للتضحية بحياتهم في المعارك مع الجيش السوري".
بالتوازي مع محاولة تفسير ما جرى في سوريا ببعديه العسكري والإستراتيجي، تحركت روسيا سياسيا، فبادرت في التاسع من ديسمبر/ كانون الأول بطلب عقد جلسة مغلقة لمجلس الأمن الدولي بالتزامن مع إعلان حكومة بنيامين نتنياهو قضم مزيد من الأراضي والمواقع السورية في المنطقة العازلة من هضبة الجولان السوري المحتل.
وفي ختام الجلسة قال مندوب روسيا في المجلس فاسيلي نيبينزيا إن "الجميع بما في ذلك أعضاء مجلس الأمن الدولي، فوجئوا بتغير السلطة في سوريا"، مشيرا إلى أنه "سيتعين علينا أن ننتظر ونراقب ونقيم كيف يتطور الوضع". كما أكد أن أعضاء المجلس متفقون "بشكل أو بآخر" على ضرورة وحدة الأراضي السورية وأهمية حماية المدنيين.
استنادا إلى تحالفها حتى اللحظة الأخيرة مع بشار الأسد، وترجيحها لكفته في النزاع منذ تدخلها العسكري المباشر نهاية عام 2015، هل سيترك هذا الموقف فرصة للتفاهم مع الحكومة السورية الجديدة وإمكانية للإبقاء على القواعد العسكرية الروسية في سوريا؟
بخصوص القواعد، نقل الإعلام الروسي في العاشر من ديسمبر/ كانون الأول عن الكرملين ما يفيد بأنه "يخطط لبحث مستقبل وجود القواعد الروسية في سوريا مع السلطات الجديدة بعد استقرار الأوضاع هناك"، مع تذكيره" بأن سوريا تواجه فترة وصفها بالمعقدة، وأن ما حدث فيها فاجأ العالم كله"، مع الإشارة أيضا إلى أن موسكو "على اتصال دائم مع أنقرة واللاعبين الإقليميين الآخرين بشأن الأوضاع في سوريا".
كما نقلت وكالة نوفوستي عن الكرملين -مساء الأحد الماضي- أن مسؤولين روسا يجرون اتصالات مع قادة المعارضة السورية المسلحة "التي ضمنت أمن قواعدنا العسكرية"، وفق الوكالة الروسية.
من جانبه يرى الباحث وائل علوان أنه "لولا بقاء روسيا عضوا دائما في مجلس الأمن واحتفاظها بحق النقض (الفيتو) ربما لذهبنا إلى احتمال خروجها من سوريا بشكل كامل الآن، وهذا الاحتمال قائم ربما في المستقبل".
وقال إن "هناك تحولا كبيرا (...) في سوريا، هذا التحول هو تحول تحالفات، وتحول أقطاب، وسوريا لم تعد ضمن المجال الحيوي الجيوسياسي الذي تنظر روسيا على أنه امتداد لها. وزاد أن "سوريا تغير عباءة رثة ثقيلة بالية، وهذه العباءة الروسية إرثها عند السوريين غير محبب، فهي رغم أن النظام كان في أشد ضعفه وكان يتهاوى ويتساقط كانت تقصف المدنيين وكانت تستمر في هذه العلاقة الداعمة لنظام حتى مؤيديه لم يعودوا يثقون فيه، فضلا عن الصورة الأخرى عند المؤيدين وهي أن روسيا باعتنا، وروسيا استغنت عنا".
وحول آفاق المستقبل قال علوان "المعارضة (السورية سابقا) لديها موقف سلبي كامل من روسيا، والمجتمع الدولي ينظر إلى روسيا نظرة الطرف المنبوذ، والأوراق التفاوضية التي على الأرض ضعيفة جدا، وهناك بعض التطمينات الإقليمية التي ربما تحاول روسيا الاعتماد عليها لكنها ستكون مؤقتة والواقع في المستقبل يفرض شكلا مختلفا لا يجعل سوريا امتدادا جيوسياسيا للاعب الروسي".
فريق العمل:
مقابلات : أحمد حافظ
تصميم : قسم الوسائط