فور الإعلان عن سقوط النظام السوري وفرار الرئيس بشار الأسد من دمشق قررت إسرائيل أن الفرصة سانحة لتغيير جوهري في المنطقة بعدما أيقنت أن ما تسميه "محور الشر" قد انهار. وانتقلت سريعا من مستوى التأهب ومراقبة الوضع عن بعد إلى مستوى استغلال الفرصة والتدخل المكثف لتحقيق مكاسب كانت تحلم بها طوال تاريخها. وهكذا فورا ومن دون تردد أو طول نقاش قررت ليس فقط احتلال المنطقة العازلة واحتلال جبل الشيخ السوري، بل البدء بأوسع عمليات جوية لتدمير مقدرات سوريا العسكرية.
وطبيعي أن هذه الخطوات ما كانت لتتم من دون تشاور واتفاق مع الإدارة الأميركية التي يبدو أنها لم تعارض الإجراءات الإسرائيلية، وربما شجعت عليها. ففي سوريا نشأ وضع رفعت فيه الحماية، حتى الشكلية، التي كانت لروسيا وباتت السياسة الأميركية تستند إلى محاولة منع وقوع آثار خطيرة للأحداث السورية على كل من إسرائيل والأردن والعراق ولبنان. وفي كل الأحوال توافقت إسرائيل وأميركا على أن سقوط نظام الأسد يضعف بشكل جوهري "محور المقاومة" الذي كانت تلعب فيه سوريا دورا مركزيا.
ورغم أن إسرائيل وأثناء الحرب على غزة ولبنان عمدت إلى توسيع غاراتها على سوريا بذرائع شتى، بينها استهداف إمدادات لحزب الله أو ضرب مخازن عتاد وذخائر إيرانية أو قطع خطوط إمداد، فإنها هذه المرة قررت احتلال أراض سورية.
وفي هذا السياق أبلغت إسرائيل إدارة بايدن، وفقا لباراك رافيد في موقع "والا" الإخباري، أنها تنوي احتلال المنطقة العازلة ومواقع في سوريا لضمان ألا تتعرض من سوريا إلى 7 أكتوبر آخر.
وبحسب "والا" فإن إسرائيل أبلغت أميركا أن خطوتها، وهي الأولى من نوعها منذ اتفاقيات فصل القوات التي أعقبت حرب 1973، مؤقتة وليست دائمة وقد تستمر أياما أو أسابيع، وأنها احترازية إلى حين اتضاح الوجهة في سوريا.
ولم تعارض أميركا هذه الخطوات، خصوصا أنها تعهدت بمنع تأثر كل من إسرائيل والأردن والعراق ولبنان سلبا من التطورات في سوريا. وبديهي أن تشكل إسرائيل ركيزة للوفاء بهذه التعهدات في المستقبل القريب وعلى أمل إعادة رسم خريطة المنطقة بما يلبي التطلعات الأميركية، ولذلك فإن الكلام عن احتلال مناطق لأيام أو أسابيع أقرب إلى الكلام المرسل.
الذرائع
وكعادتها حاولت إسرائيل في البداية عرض ذرائع لخطوتها في احتلال المنطقة العازلة بادعاء تعرض 4 نقاط لقوة المراقبة الدولية "أوندوف" لهجمات من جانب مليشيات سورية. وكأن الاحتلال الإسرائيلي للمنطقة العازلة هو حماية للقوات الدولية وليس انتهاكا فظا للقانون الدولي.
ومعروف أن روسيا سارعت في الأمم المتحدة إلى مطالبة الأسرة الدولية برفض هذا الانتهاك ومنع استمراره وحماية قوات "أوندوف" الدولية.
وهكذا في وقت مبكر من صباح يوم الأحد، وبعد موافقة المجلس الوزاري الأمني بالإجماع على التحرك القوي في سوريا، سيطرت قوات إسرائيلية خاصة من وحدة "شلداغ" على جبل الشيخ السوري بعد أن كانت القوات السورية تركته. كذلك تقدمت المدرعات الإسرائيلية لاحتلال المنطقة العازلة وتجاوزتها إلى مناطق أخرى بدعوى حماية قواتها المتوغلة.
وكانت في البداية أيضا قد أعلنت أن هدفها احتلال حزام أمني على طول الحدود السورية بعرض لا يتجاوز كيلومترين، لكنها سرعان ما توغلت لتغدو على مسافة قصيرة من مدينة قطنة المشرفة على مداخل العاصمة دمشق.
تدمير منهجي
وفي هذه الأثناء بدأت إسرائيل أكبر عملية تدمير منهجية للقدرات العسكرية السورية بدعوى منع وقوعها بأيدي "جهات معادية".
وتوجهت أكبر غاراتها، التي توصف بأنها أكبر عملية جوية في تاريخ الجيش الإسرائيلي، نحو تدمير كل المطارات العسكرية بكل ما تحويه من طائرات حربية ومروحية وذخائر. وتم ذلك بعد أن دمرت كل قواعد الدفاع الجوي السورية ومنصات الصواريخ بعيدة المدى ومخازن القواعد هناك، وبعدها توجهت نحو الموانئ السورية لتدمر البنى التحتية العسكرية والسفن الحربية فيها.
كما سارعت لاستهداف المصانع الحربية والمختبرات العلمية وكل منشآت التطوير العسكري، بدعوى تدمير الأسلحة الكيماوية خشية وقوعها في"الأيادي الخطأ"، حسب مسؤول إسرائيلي.
ولم تترك قواعد الجيش السوري من عملية التدمير هذه على أمل تجريد سوريا في المستقبل المنظور من أية قدرات عسكرية دفاعية كانت أم هجومية ومنعها من إعادة بناء قوتها قريبا. فالهدف الواضح لإسرائيل هو تدمير كل قوة وكل مكان وكل منتج شارك في بناء قوة سورية هددت أو يمكن أن تهدد مستقبلا إسرائيل.
ورغم احتلال مناطق شاسعة من الأرضي السورية ووضع دمشق تحت مرمى المدافع قصيرة المدى الإسرائيلية، فإن درة تاج ما حققه هذا التوسع هو السيطرة على الجانب السوري من جبل الشيخ. فالسيطرة على جبل الشيخ السوري بقوات شلداغ أكمل السيطرة على أحد أهم المواقع الاستراتيجية في الشرق الأوسط. فهذا الجبل يشرف على مناطق واسعة جدا من فلسطين ولبنان وسوريا والأردن. وفي الحالة الإسرائيلية الحالية يشرف أيضا على طريق بيروت دمشق ويتيح السيطرة على هذا المحور.
وفي نظر قيادات عسكرية تتيح السيطرة على المنطقة العازلة توفير ورقة ضغط للمساومة مستقبلا حيث ستطالب إسرائيل بشروط جديدة "لاستمرار تجريد المنطقة من السلاح والاستقرار فيها". وفي نظرهم فإن: "ما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول في قطاع غزة لن يتكرر مرة أخرى، لقد تعلمنا الدرس".
وقد حاول رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، الذي زار الهضبة فور دخول المعارضة دمشق، أن ينسب لإسرائيل -قاصدا تحت قيادته- الدور الأكبر في إسقاط حكم الأسد. ولكن زعيم المعارضة، يائير لبيد، المدرك لغرض نتنياهو من وراء هذا التصريح، رد عليه نافيا أن يكون هناك مثل هذا الدور المحوري. وزاد على ذلك بالدعوة لتشكيل لجنة تحقيق لبحث الإخفاق الاستخباري الإسرائيلي في توقع الانهيار السريع للنظام السوري.
تحرك دفاعي
وقال نتنياهو في زيارته للحدود السورية إنه بعد انهيار اتفاق فصل القوات لعام 1974 بين إسرائيل وسوريا في الأيام الأخيرة، عندما تخلى الجيش السوري عن مواقعه، كان على إسرائيل أن تتحرك. وأضاف "لقد أعطينا الجيش الإسرائيلي الأمر بالسيطرة على هذه المواقع لضمان عدم تمركز أي قوة معادية قرب الحدود الإسرائيلية. وهذا تحرك دفاعي مؤقت لحين التوصل إلى ترتيب مناسب".
وفي كل حال، ينظر أغلب المراقبين الإسرائيليين إلى أن ما حدث من تحرك إسرائيلي في سوريا أمر غير عادي بكل المقاييس، وأن هذا ثمرة فراغ حقيقي دفع رئيس الأركان الإسرائيلي، هرتسي هاليفي، للحديث عن جبهة رابعة في سوريا.
وأكد هاليفي أن الجيش يعمل في سوريا، وأوضح للمجندين الجدد في لواء غولاني أن "جيش الدفاع الإسرائيلي يقاتل في 4 ساحات، في يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وغزة ولبنان، ويبدأ الليلة في سوريا أيضا".
وبحسب الجيش الإسرائيلي، "نحن نستخدم النار طوال اليوم وفي الساعات القادمة في سوريا لإزالة التهديدات ضد إسرائيل. الفضاء الإيراني يضعف في المنطقة وينكسر المحور الشيعي، ونحن أمام حدث كبير ومثير. لقد برزت قوة إسلامية في سوريا، وعلينا أن نرى كيف ستتعامل".
وأيا يكن الحال، فإن احتلال جبل الشيخ والسيطرة على المنطقة العازلة، وهو أمر تمت الموافقة عليه بالإجماع من قبل المجلس الوزاري السياسي الأمني، وتدمير كل القدرات السورية أمر ليس تدخلا في الشأن السوري، إذ إن الناطقين بلسان الجيش الإسرائيلي يشددون على أنه "لا يتدخل في الأحداث التي تجري في سوريا وسيواصل التحرك طالما لزم الأمر للحفاظ على المنطقة العازلة وحماية دولة إسرائيل ومواطنيها من عبور خط "ألفا" حيث تبدأ المنطقة الفاصلة المنزوعة السلاح".
وبعيدا عن التكهنات والألاعيب اللفظية، فإن إسرائيل لم تخف يوما توقها للسيطرة على جبل الشيخ وأراض سورية تتيح لها تهديد دمشق، وهذا ما توفر لها الآن. وكثيرون في إسرائيل يقولون سرا وربما علنا كما ورد في "يديعوت أحرونوت": "أننا بتنا على الجبل، وأن احتلال جبل الشيخ ومناطق أخرى مهم للدفاع عن الجولان الإسرائيلي، على طول الحدود في المنطقة العازلة في أراضي النظام السوري السابق، هي أكثر من مجرد ضم نقطة أو "صورة انتصار"، بل هو حدث إستراتيجي، يستغل واقعا أمنيا وسياسيا غير مسبوق منذ سنوات".
حذرت افتتاحية "هآرتس" اليوم من اللعب بالنار في سوريا حيث كتبت "التفسير الذي أعطاه الجيش الإسرائيلي لدخول قواته إلى المنطقة العازلة التي على حدود سوريا والسيطرة على جبل الشيخ السوري في أعقاب سقوط نظام الأسد في سوريا هو أمني صرف"
لكن "نتنياهو هو الآخر تكبد عناء الإيضاح بشكل علني أن الجيش الإسرائيلي يدخل إلى المنطقة العازلة وإلى الجولان السوري لأهداف الدفاع، لأن "جنود سوريا تركوا مواقعهم".
ومع ذلك سارع نتنياهو إلى منح نفسه "صورة نصر" في الحدود السورية، وفي سياق حديثه زرع بذور مشاكل للمستقبل، إذ أعلن "هذا يوم تاريخي في تاريخ الشرق الأوسط"، وأنه مع سقوط نظام الأسد "سقطت حلقة مركزية في محور الشر الإيراني"، وكالمعتاد، نسب لنفسه الإنجاز "هذه نتيجة مباشرة للضربات التي أوقعناها على إيران وعلى حزب الله"، وشدد على أن سقوط النظام يخلق "فرصا جديدة، مهمة جدا لدولة إسرائيل".
واعتبرت الافتتاحية أن استخدام ألفاظ من قبيل "تاريخي" و"فرص جديدة" هو استخدام متفجر وخطير، يغمز على أي حال كل أولئك الذين يحلمون بتوسيع أراضي إسرائيل.
وشددت على أنه "في 7 أكتوبر تعلمت دولة إسرائيل ثمن عدم الاكتراث والغرور. إسرائيل لا تحتاج لأن تستغل "فرصا جديدة" بل عليها أن تدافع عن نفسها ضد مخاطر جديدة. ويجمل برئيس وزراء مسؤول عن الكارثة الكبرى في تاريخ إسرائيل أن يتخلى عن "صور نصر" عابثة ويبدي تواضعا أكبر".