3/11/2024-|آخر تحديث: 3/11/202402:35 م (بتوقيت مكة المكرمة)
بعد ساعات قليلة من سقوط 180 صاروخا إيرانيا على أهداف متفرقة داخل إسرائيل، مساء 1 أكتوبر/تشرين الأول 2024، التأم في بلغاريا بدعوة عاجلة من رئيسها رومن رادف، اجتماع نادر للمجلس الاستشاري للأمن القومي لتقويم المخاطر المحتملة على هذه الدولة الأوروبية الشرقية البعيدة نسبيا عن ميدان الحرب. في ختام الاجتماع ، اصطف رئيس حكومة تصريف الأعمال ووزير الداخلية ومدير المخابرات وزعماء أو ممثلو 6 أحزاب ممثلة بالبرلمان، خلف الرئيس الذي وجه رسالة إلى مواطنيه عبر الصحافة، فحواها: أنه بعد الاطلاع على "تقارير الأجهزة المختصة توصلنا إلى خلاصة بأنه لغاية الآن لا يوجد تهديد لبلدنا".
ثم حذّر رادف من احتمالات "ازدياد موجات اللجوء التي يمكنها التحرك باتجاه بلدنا، وإمكانية وقوع هجمات إرهابية". لكنه عند تطرقه للواقعة التي استدعت عقد الاجتماع النادر وملابساتها، لجأ للغة الدبلوماسية والتلميحات قائلا "نضم صوتنا إلى المجتمع الدولي في الدعوة إلى وقف التصعيد وضبط النفس، وتجنب استدراج دول أخرى، بما يشكل تهديدا للأمن الإقليمي والعالمي".
في الوقت الذي كان رادف يدلي بهذه التصريحات، كان زعيم حزب فازراجدانة (Vazrajdane النهضة) كوستادين كوستادينوف الخارج لتوه من الاجتماع، يعرض على بعد أمتار قليلة من القصر الرئاسي، وجهة نظر مخالفة تماما لما أعلنه رئيسه. فقال للصحفيين "نحن الوحيدون الذين لم ندعم وجهة نظر المجلس الاستشاري للأمن القومي، لسبب بسيط؛ لأننا طلبنا اتخاذ الموقف ذاته الذي اتخذه من الوضع في أوكرانيا، لكننا لاحظنا تكرار المعايير المزدوجة". وفي توضيح لموقف حزبه من الحرب الإسرائيلية المتوالية فصولا منذ 13 شهرا في غزة ولبنان قال كوستادينوف "موقفنا يقول بوجوب إدانة العدوان الإسرائيلي، مثلما سبق لبلغاريا أن أدانت العدوان الروسي (...) نحن أمام ازدواجية بشعة في المعايير".
من يكون كوستادينوف الخارج عن الإجماع السياسي البلغاري؟ وماذا يمثل حزبه في المشهد السياسي لهذه الدولة المنتمية إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وما هي دوافعه لاتخاذ موقف من حرب إسرائيل على غزة ولبنان، لم يماثله في الجرأة أي من أحزاب دول شرق أوروبا؟ وهل اقتصر موقفه المعلن أمام القصر الرئاسي، على التصريح القصير الذي أدلى به للصحفيين؟.
استفتاء الناتو
يوصف هذا الحقوقي والباحث في التاريخ والإثنيات، والمولود عام 1979 من قبل خصومه السياسيين بالتطرف. وعندما تذكر وكالات الأنباء الغربية اسم حزبه، الذي تأسس عام 2014 ودخل البرلمان بعد 7 أعوام، ترفقه بلازمة" القومي الموالي لروسيا". ويستمد هذا الوصف مادته من مواقف أعلنها كوستادينوف في غير مناسبة ، بينها مطالبته حكومة بلغاريا في يناير/كانون الثاني 2022 بإعادة نظر في عضويتها في حلف الناتو عن طريق استفتاء شعبي. ومطالبتها في فبراير/شباط 2022- وبعد يوم من اعتراف روسيا باستقلال كياني دانتسك ولوغانسك اللذين أعلنا انفصالهما عن أوكرانيا- بأن تفعل الشيء ذاته، على غرار ما فعلته صوفيا عام 2008 عندما اعترفت باستقلال كوسوفو عن صربيا. وفي موقف إضافي مخالف للتيار السائد في بلغاريا، شارك كوستادينوف بمؤتمر بحثي نظمته في موسكو حكومة روسيا يوم 5 سبتمبر/أيلول الماضي تحضيرا لقمة بريكس 2024 التي اختتمت قبل أيام.
وفي اتجاه مواز يحركه رفض الهيمنة الأميركية على القارة الأوروبية، والرغبة في استعادة دولها لسيادتها أدخل كوستادينوف حزبه في مغامرة مثيرة للجدل. فقد أعلن في 19 أكتوبر/تشرين الأول الماضي في صوفيا، وخلال مؤتمر صحفي حضره رينيه أوست رئيس حزب البديل لألمانيا المعروف بعدائه للمهاجرين ، عن تشكيل حزب أوروبي جديد اسمه " أوروبا الأمم المستقلة". وكشف أن رئيس الحزب الجديد هو عضو برلمان أوروبي عن فازراجدانه ويدعى ستانيسلاف ستويانوف، وأن تشكيلات سياسية من ألمانيا وفرنسا وسلوفاكيا وبولندا والمجر ولاتفيا والتشيك وهولندا انضوت في الحزب الجديد.
وفسّر كوستادينوف للجزيرة نت دوافع تشكيل التحالف الجديد بقوله "هم مثلنا، يريدون أن تكون بلادهم مستقلة، وذات سيادة، ويريدون، مثل أي شعب مستقل، أن تكون لهم كلمة في بيتهم. وأن لا يشعروا أنهم يعيشون كدخلاء. هذا هو ما يريدونه، وهذا ما نريده في بلدنا". وبرر كوستادينوف خوضه هذه المغامرة والأحكام التي يتوقع أن تلصق بمدبريها بالقول " في أوروبا، التي يُنظر إليها على نحو متزايد باعتبارها حقلا تجريبيا للنفوذ الاقتصادي والسياسي والعسكري الأميركي، فإن مثل هذه المواقف السيادية لا تلقى استحسانا كبيرا. ولهذا السبب، بدأوا في لصق تسميات بالفاعلين راديكاليون، متطرفون ، متطرفون يمينيون".
مستعمرة أميركية
وذهب كوستادينوف إلى حد اعتبار أن بلاده أصبحت بعد انهيار المعسكر الإشتراكي عام 1989" مستعمرة أميركية" وأنه تم نقلها "مباشرة من المعسكر السوفياتي إلى المعسكر الأميركي. ولم يكن لدينا يوم واحد من السيادة. ولا يوم! لذلك، من المهم جدًا بالنسبة لنا أن تكون لدينا السيادة الآن".
في موضوع الحرب الإسرائيلية المتوالية فصولا في فلسطين ولبنان منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023 سجل كوستادينوف أكثر من مبادرة مخالفة للسياسات الحذرة للتيار البلغاري السائد. ففي 17 سبتمبر/أيلول الماضي، أطاح بحصاد عام كامل من التجاهل الإعلامي والبرلماني لتطورات حرب غزة، وأعادها بضربة واحدة إلى صدارة المشهدين الإخباري والسياسي، عندما كشف في مداخلة علنية، تهرب رئاسة البرلمان من إقامة معرض صور لضحايا الحرب الإسرائيلية على غزة، بعد قيامها باستضافة معرض يظهر وجهة النظر الإسرائيلية من هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وخلال مداخلته التي قاطعها زعيم الغالبية بويكو بوريسوف والقطب المالي ديليان بييفسكي، واستمرت 7 دقائق، استل كوستادينوف مجموعة من صور الضحايا المدنيين من أطفال ونساء غزة ليعرضها أمام الشاشات متسائلا: "هل نحن في المجلس الوطني، أم في الكنيست الإسرائيلي؟ لأن هذا لا يمكن مشاهدته هناك". وقد رضخت رئاسة البرلمان بعد خطاب كوستادينوف وسمحت بإقامة المعرض الفلسطيني في أحد أروقته يوم 20 سبتمبر/أيلول.
وفي تحرك مناهض للحرب الإسرائيلية هو الأوسع على مستوى بلغاريا منذ اندلاعها نظم أنصار فازراجدانه في 22 أكتوبر/تشرين الأول الماضي احتجاجا سلميا في 9 مدن بلغارية تحت شعار" امنحوا السلام فرصة". شمل التحرك مدن بلوفديف وفارنا وبورغاس وفيليكو تارنوفو وروسِه وبليفين ويامبول، إضافة إلى العاصمة صوفيا، حيث كان كوستادينوف على رأس المشاركين في تظاهرة جابت الشوارع الرئيسية وسط العاصمة.
غياب "الإشتراكي"
وأتى تحرك فازراجدانه في وقت التزم فيه الحزب الاشتراكي (وريث الحزب الشيوعي) الصمت ولم تصدر عنه مواقف واضحة في دعم الطرفين الفلسطيني واللبناني علما بأن الحزب المذكور كان يقيم لغاية فقدانه السلطة عام 1989 روابط قوية مع كل من الجزائر وليبيا واليمن وسوريا والعراق والفصائل الفلسطينية والأحزاب اليسارية في عدد من الدول العربية. ورجح مراقبون أن تكون الأزمات الداخلية التي يمر بها الحزب هي السبب في عزوفه عن اتخاذ مواقف واضحة بشأن السياسة الخارجية لبلغاريا.
وأدخل فازراجدانه كذلك موضوع الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان في صلب الحملة الانتخابية التي انتهت في 27 أكتوبر/تشرين الأول باحتفاظه بوزنه البرلماني كثالث قوة في المجلس الـ51. فحذر زعيمه كوستادينوف البلغار من النأي بأنفسهم عن التصويت قائلا: "يوم الأحد لن نختار فقط من يحكمنا، بل سنختار بين الحرب والسلام". وحذر في كلمة في ختام المسيرة السلمية من قدوم حكومة جديدة "ليس لديها مشكلة في إشراكنا في الحرب سواء كنا في الحالة الأولى ندعم الضحية المفترضة (كما هو الحال مع أوكرانيا)، أو في الحالة الأخرى (الشرق الأوسط حيث) ندعم المعتدي الصريح، مثل إسرائيل".
أما بخصوص الموقف الرسمي البلغاري حيال ما يحدث في غزة ولبنان فقال كوستادينوف "في الوقت الحالي تمارس دولتنا سياسة مخادعة؛ في أوكرانيا تدعم ما يسمونه ضحية العدوان. في صراع الشرق الأوسط تدعم المعتدي بكلتا يديها. هذه مخادعة تجعلني كبلغاري أشعر بالخجل. أشعر بخجل من سياسة دولتنا. لذا نظمنا هذا التحرك كي نثبت أن الشعب البلغاري لديه ضمير".
مقابل ما يعتبرها سياسة "مخادعة" و"ازدواجا بشعا للمعايير" يمارسه التيار السائد في بلغاريا، أفصح كوستادينوف عن موقف جريء من شقين: أولهما تحديد هوية المسؤول عن تأجيج الصراع في الشرق الأوسط، وثانيهما دعوة دول العالم وبينها بلغاريا للجمه، خشية من بلوغ آثار الصراع عقر ديارهم. فقال للجزيرة نت "يجب أن نكبح جماح نتنياهو المجنون. هذا ما يجب علينا فعله، لأنه بخلاف ذلك فإن هذا الرجل الذي يكافح حاليًا للبقاء خارج السجن، حيث إن شعبه يريد التحقيق معه، فإن هذا الرجل سوف يضرم النيران في العالم".
ولم يتردد كوستادينوف من الإقرار بخشيته من أثر الحرب على بلغاريا نفسها، وبينها خطر موجة لجوء جديدة تكون وجهتها هذا البلد الذي بات منذ عام 2007 بوابة الاتحاد الأوروبي الشرقية، إلى جانب اليونان. فيقول صراحة إن "كل من يحتاج إلى اللجوء ويحتاج إلى الدعم سيحصل عليهما في بلغاريا، ولكن هناك إجراءات لذلك. ويعد عبور الحدود خارج نقاط التفتيش في البلاد جريمة يعاقب عليها بالسجن بموجب قانون العقوبات. مما يعني أن من يعبر الحدود بطريقة غير شرعية فهو مجرم". واعتمادا على تعريف حق اللجوء بأنه -حسب كوستادينوف- مقتصر على "الدول المجاورة للبلد الذي خرج منه (اللاجئ)، ولا ينطبق هذا الحق على الدول التي تحد هذه البلدان المجاورة "فإنه يخلص إلى القول" إذا أردنا منع مثل هذه الموجة من اللاجئين، وأزمة المهاجرين هذه، فيجب علينا أن نفعل كل ما بوسعنا حتى لا نسمح للصراع أن يشتعل".
الخشية البلغارية من موجة لجوء جديدة ليست محصورة بكوستادينوف وحده، بدليل أنها وردت على لسان الرئيس رادف بعد الاجتماع الطارئ للمجلس الاستشاري للأمن القومي البلغاري. فما الذي يدفع هذا السياسي القومي إذن للالتزام موقف مخالف للتيار الأوروبي – الأطلسي السائد في بلاده منذ انتقالها من المعسكر الاشتراكي إلى المعسكر الغربي ؟.
الكنائس والأديرة
يربط كوستادينوف موقفه بـ3 عوامل: أولهما أنه ينظر إلى" الأبعاد الأكبر في هذه القضية" والتي يلخصها بأن ميدان الصراع ( الشرق الأوسط) هو نفسه "مهد المسيحية" وأن "أقدم المسيحيين يعيشون في لبنان أما مسيحيو فلسطين فهم الأوائل" وأنه هو نفسه "شخص مؤمن".
أما العامل الثاني المرتبط بالأول، فيتصل بالرواية المزورة التي تنقل" عمدا" للمجتمع البلغاري حول الحرب. حيث " يتم تقديم الهجمات على النساء والأطفال على أنها هجمات على الإرهابيين. أما الهجمات على الكنائس والأديرة فيتم إخفاؤها والتستر على تدمير أقدم إرث ثقافي وتاريخي". ويضيف "نرى كيف يتم توجيه انتباه ما يسمى بالعالم الغربي نحو الإسلام والإرهاب الإسلامي، ويتم تجاهل تدمير أقدم دير وهو "القديس برفيريوس في غزة".
أما العامل الثالث فيتصل برغبته كسياسي في استعادة المكانة التي كانت لبلاده في الشرق الأوسط ". وهو يقول في هذا الصدد" كانت لدينا علاقات جيدة جدًا مع دول الشرق الأوسط. بل كانت هذه علاقات ممتازة مع جميع الدول العربية. بعد عام 1989 م عندما دخلنا إلى دائرة النفوذ الأميركي، شطبنا كل شيء بخفة يد واحدة ، في ليلة وضحاها ، حرفياً. والآن فقدنا أسواقًا تقدر قيمتها بالملايين. لقد فقدنا تأثير قوتنا الناعمة".
ثمة أبعاد شخصية وإنسانية حكمت موقف كوستادينوف من محنة اللاجئين الفلسطينيين التي تجددت في حرب غزة . أولها أن جذوره الأولى تعود إلى عائلة لاجئين أجبرت على اللجوء عام 1878 من قرية كانت تقع ناحيه أودرن ( أدرنة) من منطقة تراقيا الشرقية . وهو يقول " عانى ثلث الشعب البلغاري من مآسي مماثلة في تاريخ عائلاتهم. ولهذا السبب بالتحديد أنا حساس للغاية لمثل هذا المصير". أما البعد الثاني فمرتبط بممارسات إسرائيل . ويقول في هذا الصدد" ونحن نرى كيف يمارس إرهاب الدولة والإبادة الجماعية. وعلاوة على ذلك ينفذها بلد يدعي أنه هو نفسه كان في يوما ما ضحية. نعم، إنها حقيقة لا تقبل الجدل أن اليهود كانوا ضحايا الإبادة الجماعية. ولكن هل هذا يبرر لهم أن يقوموا بدورهم حالياً بعمليات إبادة جماعية؟".