مع انقضاء سبتمبر/أيلول 2024 يصبح بإمكان رموز السياسية الخارجية الإسرائيلية أن يتنفسوا الصعداء. فجوزيب بوريل رمز القارة الأوروبية الدبلوماسي وأكثر مسؤوليها انحيازا لوجع الفلسطينيين خلال حرب الإبادة الإسرائيلية عليهم، في طريقه -حسب قواعد التناوب المعمول بها في المفوضية الأوربية- للتنحي لصالح مفوضة جديدة.
الحال أن يسرائيل كاتس وزير الخارجية في حكومة نتنياهو لم يخف هذا الشعور، ففي تغريدة له على منصة إكس في 13 سبتمبر/أيلول كتب قائلا "بوريل معادٍ للسامية وكاره لإسرائيل، شغله الشاغل تمرير قرارات وعقوبات ضد إسرائيل في الاتحاد الأوروبي، لكن يتم لجمه بواسطة غالبية دول الاتحاد".
بيد أن عبارات التشفي وحدها لم تكن كافية في معايير إسرائيل ومؤسساتها السياسية للانتقام من الرجل، ففي السابع من سبتمبر/أيلول 2024 نشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" خبرا مفاده أن الحكومة الإسرائيلية ردت على طلبه زيارة تل أبيب يومي 14 و15 (في إطار جولة شملت مصر ولبنان) بأنه "لا يمكنه الحضور". وبحركة خبيثة دعته إلى تنسيق الزيارة بعد الأعياد، التي تأتي أواخر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، أي بعد انتهاء ولايته عمليا.
ما سر عداء المؤسسة الإسرائيلية لرجل كان في شبابه المبكر معجبا بإسرائيل لدرجة دفعته للعمل في أحد كيبوتساتها؟ وماذا عن تبدل موقفه من الحياد في بداية حرب غزة إلى نقيضه في شهرها الثالث؟ وماذا عن تناقض هذا الموقف مع موقف رئيسته في العمل فوندر لاين ومفاعيل التباين الواضح بينهما؟
سرّ عدم رضى إسرائيل عن بوريل تناوله الكاتب الإسباني أوخينيو غارثيا غاسكون منذ عام 2019. ففي مقال نشر بالتزامن مع تعيين وزير الخارجية الإسباني -وقتها- جوزيف بوريل مسؤولا للسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، قال الكاتب إن من شأن تعيين بوريل بهذا المنصب تعقيد العلاقات مع إسرائيل، مشيرا إلى أن صحيفة "إسرائيل اليوم" أكدت أن حكومة نتنياهو تشعر بخيبة أمل إزاء هذه الخطوة.
ويضيف الكاتب أن بوريل اقترح العام 2018 أن يعترف الاتحاد الأوروبي بالدولة الفلسطينية، وبالتالي إجبار إسرائيل على قبول عدم شرعية احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة. وأشار إلى أن بوريل عندما كان شابا كان قد عمل في كيبوتس متطوعا، حيث التقى بزوجته الأولى، وأنه كان أحد المعجبين بإسرائيل، غير أنه اتخذ لاحقا موقفا متعاطفا مع معاناة الشعب الفلسطيني، إلى جانب أنه "لا يخفي إعجابه بالثورة الإسلامية في إيران".
ويقول غاكسون إنه إذا لم يتنبه بوريل لهذه الخطوة، فإنه سيتعرض لهجوم من جماعات الضغط الصهيونية، كالذي تعرض له زعيم حزب العمال البريطاني جيريمي كوربين منذ سنوات، الذي شنت إسرائيل والجماعات المرتبطة بها حملة ضده بسبب دفاعه عن قيام دولة فلسطينية.
مع واقعة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أو من دونها لم يكن لمواقف جوزيب بوريل أن تجد قبولا داخل المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة حتى لو ذهب صاحبها إلى إدانة مبادرة فصائل المقاومة بالهجوم على المستوطنات، وهو ما حصل فعلا. فقد وصف بوريل عملية "طوفان الأقصى" بأنها "جريمة حرب"، وقال "إن ما حدث كان قتلا للمدنيين بشكل واضح من دون أي سبب". كما تجنب الإجابة عن سؤال عما إذا كان للفلسطينيين حق الدفاع عن النفس، واكتفى بالقول: "ما حصل في هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) كان رعبا وما يحدث في غزة أمر مرعب.. كلاهما أمر مرعب".
بعد مرور 3 أشهر على الحرب نشر بوريل في لوموند الفرنسية في 16 يناير 2024 مقالا خلص فيه إلى أن "الحل العسكري في قطاع غزة لن يكون كافيا إذا لم يؤد إلى مشروع سياسي". وكتب "بعد مرور ما يربو على 3 أشهر على مأساة 7 أكتوبر/تشرين الأول رجعت من الشرق الأوسط قلقا من خطورة الأوضاع، لكني أكثر تصميما من أي وقت مضى على إسماع صوت التوازن والعقل والواقعية، لأنه إذا كانت المشاكل معقدة فإن الحرب لن تكون حتمية إلا بالنسبة لأولئك الذين يملكون مصلحة سياسية في إدامتها". وفيما يخص الوضع الإنساني المأساوي الذي يشهده قطاع غزة، قال بوريل "على المستوى الإنساني الوضع مروع".
وفي مرحلة لاحقة عبر بوريل عن موقف مختلف من حركة حماس فقال خلال مداخلة في مؤتمر ميونخ للأمن في 18 فبراير/شباط 2024 إنه لا يمكن القضاء على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لأنها "فكرة"، مؤكدا أن الأوضاع في "الضفة الغربية هي العائق الحقيقي أمام حل الدولتين". وشدد المسؤول الأوروبي على أن الأوضاع في الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل تشكل عائقا كبيرا أمام التوصل إلى حل مستدام يرسي السلام بين إسرائيل والفلسطينيين، قائلا "الضفة الغربية تشهد غليانا.. قد نكون على شفير انفجار أكبر".
ودفعه قلقه من سياسات إسرائيل تجاه الأونروا للتحذير في فبراير/ شباط 2024 من أن اختفاء "هذه الوكالة سيكون لذلك تداعيات كارثية على 5 ملايين و600 ألف إنسان، لأن الأمر لا يتعلق بالسلطة الفلسطينية، فمنذ إنشاء هذه المنظمة قبل 75 سنة، وهي مسؤولية المجتمع الدولي وليس فقط العاملين في الأونروا". وقال إن "هناك طريقة واحدة لحل الأونروا، هي عندما لا يكون هناك لاجئون فلسطينيون".
ودفعت الفظائع المرتكبة لاحقا في غزة من قبل الجيش الإسرائيلي بوريل لزيادة جرعة انتقاداته لممارسات إسرائيل وجيشها. فقال في افتتاح مؤتمر بشأن المساعدات الإنسانية لغزة في بروكسل في 18 مارس/آذار "في غزة لم نعد على شفا المجاعة، نحن في حالة مجاعة يعاني منها آلاف الأشخاص". وأضاف "هذا غير مقبول. المجاعة تستخدم سلاح حرب. إسرائيل تتسبب في المجاعة". وفي التاسع من مايو/ أيار حث بوريل الأوروبيين على عدم بيع الأسلحة لإسرائيل من أجل دفعها لوقف القصف المتواصل على غزة للشهر الثامن على التوالي.
وبعد 3 أيام من طلب المدعي العام للجنائية الدولية من قضاتها في 21 مايو/أيار بإصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، طلب بوريل في مقابلة مع التلفزيون الإسباني من الجميع، بدءا من حكومة إسرائيل وأيضا بعض الحكومات الأوروبية، عدم ترهيب القضاة وعدم تهديدهم.
وكرر بوريل بعد يومين دعوته بضرورة تطبيق قرارات محكمة العدل والجنائية الدولية الموجهة لإسرائيل وقادتها بعد قتل الجيش الإسرائيلي أكثر من 30 نازحا فلسطينيا في مخيم برفح في 26 مايو/أيار. وقال إن مقتل أكثر من 30 شخصا من النازحين في رفح يدفعنا إلى المطالبة بضرورة تطبيق قرار محكمة العدل، مضيفا أن إسرائيل تمضي قدما في العملية العسكرية جنوبي القطاع رغم حكم المحكمة، الذي يحثها على وقف هجومها على الفور.
ومع تكرار الجيش الإسرائيلي لمجازره وبلوغها مسجد ومدرسة التابعين في غزة في العاشر من أغسطس/آب كتب بوريل على منصة "إكس" أن "الصور القادمة من مدرسة تؤوي نازحين في غزة تعرضت لغارة إسرائيلية مروعةٌ، مع ورود أنباء عن سقوط عشرات الضحايا الفلسطينيين". وأضاف أنه "تم استهداف ما لا يقل عن 10 مدارس في الأسابيع الأخيرة. لا يوجد ما يبرر هذه المجازر".
وبعد أسبوعين قال قبيل بدء اجتماع غير رسمي لوزراء خارجية الاتحاد في بروكسل إنه باشر إجراءات لفرض عقوبات على وزراء إسرائيليين لإطلاقهم خطاب كراهية ضد الفلسطينيين واقتراحات تخالف القانون الدولي وتمثل تحريضا على ارتكاب جرائم حرب، في إشارة إلى الوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش.
رد وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين على مطالبة بوريل بمحاكمة بن غفير وسموترتيش وقتها في منشور على منصة إكس يوم 29 أغسطس/آب بالقول إن "جوزيب بوريل الذي يحوّل الأموال إلى السلطة الفلسطينية يريد فرض عقوبات على الوزراء الإسرائيليين الذين يعملون على مكافحة الإرهاب.. نفاق". لكن قلق المسؤولين الإسرائيليين من بوريل ومواقفه كان قد وجد مبكرا ترياقه في مواقف الألمانية أورسولا فون ديرلاين رئيسة المفوضية الأوروبية ورئيسة بوريل في منصبه الأوروبي.
ففي اليوم السادس من حرب غزة أشهرت المسؤولة الأوروبية الأولى تعاطفها مع إسرائيل وزارتها. وأدانت خلال الزيارة "بشكل قاطع الهجوم الذي نفذته حركة حماس ضد إسرائيل"، واصفة إياه بأنه "الإرهاب بأبشع صوره"، وأكدت أن "لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها ضد مثل هذه الأعمال الوحشية". وعبرت عن "دعم الاتحاد الأوروبي غير المشروط" لتل أبيب، دون أن تتطرق خلال اتصالاتها مع المسؤولين الإسرائيليين إلى تدهور الوضع الإنساني في غزة بسبب استهداف المدنيين والبنية التحتية.
ودفع موقف فون دير لاين المنحاز لإسرائيل موظفي الاتحاد الأوروبي لكتابة رسالة مشتركة في 20 أكتوبر/تشرين الأول 2023، يحثونها فيها على الدعوة لوقف إطلاق النار وحماية حياة المدنيين بدلا من دعم إسرائيل من دون قيد أو شرط. أما بوريل نفسه فأفصح في فبراير/ شباط عن موقفه المخالف لفون دير لاين بالقول، إنها بزيارتها إلى إسرائيل أواخر 2023، "لا تمثل إلا نفسها من حيث السياسة الدولية، وخلفت تكلفة جيوسياسية باهظة لأوروبا".
ألهمت دعوة بوريل هذه موظفين أوروبيين آخرين للذهاب بعيدا في محاسبة فون دير لاين. ففي 19 سبتمبر/أيلول الماضي قدم خبراء في معهد جنيف الدولي لأبحاث السلام شكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية ضد فون دير لاين تطالب بالتحقيق معها. وجاء في بيانهم "هناك أسباب معقولة للاعتقاد بأن دعم فون دير لاين غير المشروط لإسرائيل -العسكري والاقتصادي والدبلوماسي والسياسي- مكّنها من ارتكاب جرائم الحرب والإبادة الجماعية المستمرة في غزة".
فمن يكون هذا الدبلوماسي الإسباني الذي أقلقت تصريحاته ومواقفه مؤسسة الحكم في إسرائيل؟
تقول سيرة نشرتها رويترز عن بوريل إنه ولد في 24 أبريل/نيسان 1947 في إحدى قرى مقاطعة كتالونيا في إسبانيا، لأسرة فقيرة لها تاريخ من النضال السياسي والنقابي في ظل حكم الجنرال فرانكو.
عمل والده مسؤولا عن مخبز صغير في القرية، وهي المهنة التي ورثها عن والديه المهاجرين إلى الأرجنتين من كتالونيا. وقد عاد جد جوزيب وعائلته إلى إسبانيا مرة أخرى عندما كان عمر بوريل الأب 8 أعوام، وذلك قبل اندلاع الحرب الأهلية الإسبانية.
وفي عام 1969، قابل جوزيب بوريل الفرنسية كارولين ماير عندما كان متطوعا في كيبوتس "غال أون" في إسرائيل، فتزوجا ورزقا بطفلين أحدهما أصبح دبلوماسيا إسبانيا، لكن هذا الزواج لم يكتب له الاستمرار طويلا.
انتقل بعدها إلى مدينة برشلونة لدراسة الهندسة الصناعية، قبل أن يتحول اهتمامه إلى هندسة الطيران في جامعة مدريد التقنية التي تخرج فيها عام 1969 بعد تغيير جامعته الأولى.
في عام 1979 حصل على الوظيفة السياسية الأولى له من خلال انتخابه عضوا في مجلس مدينة مدريد، وامتزج عمله الجامعي بالسياسي من خلال لجنة السياسات المالية التي انصب عملها على مكافحة الفساد المالي وملاحقة التهرب الضريبي. وبداية من عام 2003 تم اختيار بوريل رئيسا للبرلمان الأوروبي ليصبح الرئيس الإسباني الثاني للبرلمان بعد إنريكي بارون كريسبو.
ترقى في المناصب الأوروبية فاختير وزيرا للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي بين عامي 2018 و2019، قبل اختياره ممثلا أعلى للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي عام 2019. وهو المنصب الذي سيغادره في نهاية سبتمبر/ أيلول الجاري، لتخلفه فيه رئيسة وزراء إستونيا السابقة كاياك كالاس.
في أحدث ظهور له قال بوريل في 28 سبتمبر/أيلول أمام الصحفيين أثناء حضوره الجمعية العامة للأمم المتحدة إن "ما نفعله هو ممارسة كل الضغوط الدبلوماسية لوقف إطلاق النار، لكن لا يبدو أن أحدا يملك القدرة على وقف نتنياهو، لا في غزة ولا في الضفة الغربية". فهل ستتجرأ المفوضة الجديدة على تكرار هذه الأقوال؟
إعداد : علي حافظ
تصميم : قسم الإنفوغراف