"أي شخص لا يمكنه إدانة الهجوم الإيراني الشنيع على إسرائيل، لا يستحق أن يُسمح له بأن تطأ قدماه التراب الإسرائيلي. هذا أمين عام معاد لإسرائيل يدعم الإرهابيين والمغتصبين والقتلة"، بهذه التغريدة المنشورة عبر حسابه على منصة إكس في الثاني من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، فرض وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس حظرا على أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، بذريعة امتناعه عن إصدار إدانة فورية للهجوم الصاروخي الإيراني الثاني على قواعد عسكرية إسرائيلية، من دون أن يفوت كاتس ربط مواقف المسؤول الدولي المذكور بمواقفه ذات الصلة بحرب غزة.
دعم مزدوج
المنظمة الدولية بهيئتيها الكبرى (مجلس الأمن والجمعية العامة) انتصرت لغوتيريش. فأصدر الأعضاء الـ15 في المجلس -ومن بينهم الـ5 الدائمون (وبينهم الولايات المتحدة)- بيانا في الرابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، دعموا فيه موقف غوتيريش، ودعوا "كل الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لإقامة علاقة مثمرة وفعّالة مع الأمين العام، وأن تمتنع (كل الدول) عن أي إجراء من شأنه أن يقوض عمله وعمل أجهزته". وزادوا أن "أي قرار لا يشمل الأمين العام للأمم المتحدة أو الأمم المتحدة يأتي بنتائج عكسية، خاصة في سياق تصاعد التوترات في الشرق الأوسط".
أما في الجمعية العامة، فوجه ممثلو 104 من دولها الـ193 يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول رسالة تضامن ودعم إلى غوتيريش نفسه، أقروا فيها بدوره "الحيوي في تعزيز مقاصد الأمم المتحدة، بما في ذلك الحفاظ على السلام والأمن الدوليين، وتسهيل الجهود الإنسانية، وتعزيز السلام والاستقرار في الشرق الأوسط والعالم". وأشار ممثلو الدول الـ104 كذلك إلى إسرائيل بالاسم، ودانوا إجراءاتها "التي تقوض قدرة الأمم المتحدة على تنفيذ ولايتها، وقد تؤدي إلى تأخير إنهاء الأعمال العدائية، وإنشاء مسار موثوق نحو حل الدولتين".
بديهي ألا يكون ممثل إسرائيل في الأمم المتحدة جلعاد إردان بين الموقعين على الرسالة، بعناوينها المستفزة للحكومة التي ينطق باسمها، فالرجل نفسه لم يتردد في فرم ميثاق المنظمة الدولية، وهو واقف على منبرها، خلال كلمته أمام الجمعية العامة، بعد اعتمادها قرار يوم 11 مايو/أيار الماضي الذي قالت فيه "يوصي مجلس الأمن الدولي بإعادة النظر بإيجابية في مسألة حصول فلسطين على العضوية الكاملة". وفي الشهر التالي، دعا إردان إلى إغلاق مجمع الأمم المتحدة في القدس وترحيل رؤساء الوكالات المتمركزة في إسرائيل. والهدف هو "إرسال رسالة واضحة مفادها أن استمرار انحياز واستغلال الأمم المتحدة ضد إسرائيل سيكون له ثمن". أما في 20 أغسطس/آب الماضي، فطالب إردان صراحة -في مقابلة نشرتها صحيفة معاريف- بـ"إغلاق مبنى الأمم المتحدة، ومحوه عن وجه الأرض". وزاد أنه "قد يبدو هذا المبنى جميلا من الخارج، لكنه أعوج ومشوه".
ما دوافع الكراهية الإسرائيلية الحالية للمنظمة الدولية، ممثلة في كبير موظفيها؟ وماذا فعل البرتغالي أنطونيو غوتيريش ليجر على نفسه غضب حكومة اليمين الإسرائيلي، بدءا من رئيسها وانتهاء برموز دبلوماسيتها؟
خلال ترؤسه مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين بين يونيو/حزيران 2005 وديسمبر/كانون الأول 2015، لم يكن لدى غوتيريش مشكلة تُذكر مع إسرائيل، بحكم انصرافه لملاحقة آثار النزاعات وأزمات التشرد عبر العالم، خصوصا في جنوب السودان وأفريقيا الوسطى وتيمور الشرقية، ثم في اليمن وسوريا والعراق بعد ذلك. وهو ما ترسخ خلال ولايته الأولى أمينا عام للأمم المتحدة أواخر العام 2016.
فخلال زيارته الأولى لإسرائيل بصفته أمينا عام للأمم المتحدة في 28 أغسطس/آب 2017 مثلا، استقبله رئيس الوزراء آنذاك بنيامين نتنياهو، ورأت إسرائيل في الزيارة "فرصة عظيمة للأمين العام ليختبر إسرائيل، ويلتقي قادتها ويفهم التحديات التي تواجهها بين يوم وآخر"، حسبما ذكره سفير إسرائيل في الأمم المتحدة آنذاك داني دانون.
جائزة هرتزل
لا، بل إن المؤتمر اليهودي العالمي منحه نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2020 جائزة تيودور هرتزل (مؤسس الصهيونية الحديثة)، ووصفه رئيس المؤتمر رونالد لاودر في حفل التكريم بقوله: "على مدى سنوات عديدة، أثبت أنك صديق حقيقي ومخلص للشعب اليهودي ودولة إسرائيل"، مضيفا أن غوتيريش "صوت الإنصاف والعدالة الذي كانت دولة إسرائيل والشعب اليهودي ينتظرانه في الأمم المتحدة منذ فترة طويلة جدا".
الانقلاب حدث بعد إعلان إسرائيل حربها على غزة، وبدء حملة الإبادة المعلنة لسكانها في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. ففي 24 أكتوبر/تشرين الأول، أي بعد 3 أسابيع من بدء الحرب، قدم غوتيريش إحاطة إلى مجلس الأمن الدولي انتقد فيها "الانتهاكات الواضحة للقانون الدولي الإنساني في غزة"، وأكد أن "أي طرف في الصراع المسلح ليس فوق هذا القانون"، وأوضح أيضا أن "الشعب الفلسطيني يخضع لاحتلال خانق على مدى 56 عاما"، وأن "هجوم حماس لم يأت من فراغ".
ورغم إدانته لهجوم المقاومة على المستوطنات الإسرائيلية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول ووصفه بـ"الإرهابي"، فإن تصريحه بأن "هجوم حماس لم يأت من فراغ" وتحذيره من "العقاب الجماعي للشعب الفلسطيني" كانا كافيين لإطلاق موجة تحريض على الدبلوماسي البرتغالي، إلى جانب رفض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الرد على مكالماته الهاتفية اللاحقة.
دعوة كوهين
الحملة بدأتها وزارة الخارجية الإسرائيلية التي أصدرت بيانا اعتبرت فيه ما قاله غوتيريش "مثيرا للغضب والدهشة، ووصمة عار عليه وعلى الأمم المتحدة". وصنف البيان كلمات غوتيريش بأنها "تعكس موقفا متحيزا ومشوها تجاه إسرائيل"، وتبرر ما وصفته بـ"الإرهاب البشع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول". وذهب البيان إلى دعوته "للتراجع عن كلماته، والاعتذار بعد أن ألحق الأذى بملايين الإسرائيليين". وزاد وزير الخارجية وقتها إيلي كوهين بأن دعا -في منشور على منصة إكس- غوتيريش إلى الاستقالة. وقال إن الأمين العام للأمم المتحدة الذي "أبدى تفهّما للإرهاب والقتل لا يصلح لقيادة الأمم المتحدة"، واختتم تغريدته بمطالبته بالاستقالة من منصبه.
وعندما اعتمد غوتيريش -لأول مرة منذ توليه المنصب- في السابع من ديسمبر/كانون الأول 2023 على المادة 99 من الميثاق التأسيسي للأمم المتحدة التي تخوله "لفت انتباه مجلس الأمن إلى أي مسألة يرى أنها قد تهدد حماية السلم والأمن الدوليين"، ليحذر من أن الحرب في غزة "قد تؤدي إلى تفاقم التهديدات القائمة للسلم والأمن الدوليين"، رفع كوهين مستوى التحريض ضده، معتبرا أنّ ولاية غوتيريش تمثّل "تهديدا للسلام العالمي".
وبعد أن أملى الوزير الإسرائيلي على غوتيريش ما يراه موقفا صحيحا بقوله: "أعتقد أن غوتيريش، مثله مثل جميع الدول الحرة، يجب أن يقول بوضوح وبصوت عال: حرروا غزة من حماس. الجميع قال إن حماس أسوأ من تنظيم داعش، لماذا لا يستطيع أن يقول ذلك؟". واختتم كوهين بالقول إن "غوتيريش لا يستحق أن يكون أمينا عاما للأمم المتحدة".
إنقاذ الأونروا
في المقابل، التزم غوتيريش الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني على مدار أكثر من عام، فهو لم يكف عن الدعوة لوقف فوري لإطلاق النار، والسماح بدخول المساعدات لقطاع غزة، كما دعم منظمات الأمم المتحدة التي هاجمتها إسرائيل، خاصة منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، واعتبر أن المزاعم الإسرائيلية ضدها بدعم حركة حماس زائفة ولا تُحتمل أبدا. وفي مقابلة بثتها الجزيرة في 13 سبتمبر/أيلول الماضي، أعرب غوتيريش عن اعتزازه بكل الجهود التي بُذلت من أجل إنقاذ الأونروا، وإعادة ترسيخ مصداقيتها دوليا، مبديا سعادته باستئناف دول دعمها للوكالة بعدما كانت قد علقته مؤقتا.
لم تأت من فراغ صلابة موقف الموظف الأممي حيال الحملة الإسرائيلية الشرسة لإقصائه، فانتصار الدبلوماسي البرتغالي للمظلومين ترسّخ خلال تجربته في العمل العام، خصوصا خلال عمله مفوضا ساميا لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة، فخلال ولايته تجول غوتيريش في مختلف مناطق الصراع حول العالم، وكانت له مواقف معروفة من مسألة اللاجئين الذين تدفقوا على أوروبا، خاصة من منطقة الشرق الأوسط، إذ قال -في تصريح له- إن ما قدمته أوروبا في موضوع اللاجئين ليس بالكثير، وإن القارة بحاجة إلى مهاجرين.
وسبق لغوتيريش أن انتقد تعامل البلدان الغنية مع أزمة اللاجئين السوريين، قائلا في تصريحات صحفية: "للأسف، لا يلاحظ الأغنياء وجود الفقراء إلا بعد أن يدخل الفقراء باحات الأغنياء".
وكان غوتيريش قد جاء بالأصل إلى الأمانة العامة للأمم المتحدة، حاملا معه إرثا تاريخيا من الأفكار المعادية للاستعمار والمنادية بحق الشعوب في تقرير مصيرها. فقد كان الرجل جزءا من "ثورة القرنفل" التي خلعت الدكتاتورية الاستبدادية للجمهورية الثانية في البرتغال إستادو نوفو، التي أسسها أنطونيو سالازار منذ عام 1933، وخلفه منذ عام 1968مارسيلو كايتانو رئيسا للوزراء. وقبلها انتمى إلى الحزب الاشتراكي البرتغالي بعيد نشأته عام 1973، وظل ناشطا فيه ومتقلدا مسؤوليات حكومية عديدة في بلده.
ولسنوات عديدة، كان غوتيريش ناشطا في الاشتراكية الدولية، وهي منظمة دولية تضم الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية، وتولى منصب نائب رئيس المنظمة من عام 1992 إلى عام 1999، ورئيسها من عام 1999 حتى منتصف عام 2005. وشغل منصب رئيس وزراء البرتغال من عام 1995 إلى عام 2002، وكان عضوا في مجلس الدولة البرتغالي من عام 1991 إلى عام 2002.
الأحياء الفقيرة
وبالإضافة إلى ذلك، أسَّس غوتيريش المجلس البرتغالي للاجئين والجمعية البرتغالية للمستهلكين (DECO). وفي مطلع السبعينيات، شغل منصب رئيس "مركز العمل الاجتماعي الجامعي" (Centro de Acção Social Universitário)، وهو جمعية تتولى تنفيذ مشاريع التنمية الاجتماعية في الأحياء الفقيرة في لشبونة.
يذكر أن غوتيريش المولود يوم 30 أبريل/نيسان 1949 في العاصمة البرتغالية لشبونة، وفيها نشأ وتربى، درس الفيزياء والهندسة الكهربائية في المعهد العالي للتكنولوجيا، وتخرج عام 1971، ليبدأ بعدها ممارسة العمل الأكاديمي أستاذا مساعدا.
لم يكن مستهجنا حيال هذه المسيرة السياسية والإنسانية لغوتيريش اختياره -إلى جانب الأونروا ومحكمة العدل الدولية- ضمن 4 مرشحين لجائزة نوبل للسلام للعام 2024، لكن منظمة "نيهون هيدانكيو" اليابانية الخاصة بالناجين من القنبلة الذرية، التي فازت بالجائزة، استلهمت الموقف الأخلاقي ذاته الذي التزمه غوتيريش من حرب غزة وجر عليه غضب المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة. فبعد إعلان فوز منظمة "نيهون هيدانكيو" بنوبل للسلام، قال رئيسها المشارك توشيوكي ميماكي إن "الأطفال في غزة يغرقون في الدماء، وهو نفس ما حدث في اليابان قبل 80 عاما".
إعداد: علي حافظ