بعد ظهر يوم حار من شهر مارس/آذار من العام الماضي، كان موظف إغاثة أميركي يجلس على كرسي في بلدة شيرارو في منطقة تيغراي الإثيوبية التي مزقتها الحرب، وهو يحتسي القهوة المحمصة التقليدية، عندما ظهرت شاحنة حمراء مليئة بأكياس الحبوب.
كانت الأكياس التي يبلغ وزنها 50 كيلوغراما مختومة بختم الوكالة الأميركية للتنمية الدولية؛ أكبر مانح للمساعدات الغذائية في العالم. كان من المفترض أن تساعد الحبوب بعض ملايين الأشخاص في إقليم تيغراي الذين يعتمدون على التبرعات الغذائية للبقاء على قيد الحياة.
لكن بدلا من التوجه إلى وجهتها المقصودة – وهي معسكر مليء بالجياع – تحركت الشاحنة الحمراء في الاتجاه الخاطئ. فقرر موظف الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، الذي انضم إليه عدد من زملائه، متابعة الشاحنة.
يقول مسؤولو الوكالة إنهم سرعان ما علموا أن آلاف الأطنان من الحبوب المتبرع بها يتم تحويلها إلى المطاحن التجارية والأسواق في جميع أنحاء إثيوبيا. وصدم اكتشاف الصدفة الوكالة الأميركية، التي أعلنت في مايو/أيار 2023 إنها بدأت تحقيقا في الأمر. وقال برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة – وهو موزع رئيسي للمساعدات الغذائية وشريك رئيسي للوكالة الأميركية للتنمية الدولية في إطعام الجياع في إثيوبيا والعالم – إنه سيحقق بدوره في القضية .
وأثناء التحقيق علق المانحون عمليات توزيع المساعدات الغذائية في جميع أنحاء إثيوبيا، مما أدى إلى حجب إمداداتها عن ملايين الجياع لمدة خمسة أشهر على الأقل. هذا إلى جانب أن نتائج التحقيق لم تكشف بعد، ولم تعرف كذلك أي من أسماء المشتبه فيهم.
ومع ذلك، يعتقد عمال الإغاثة الإنسانية والمسؤولون الأميركيون أن هذا النشاط يمثل إحدى أكبر السرقات وعمليات وضع اليد على المساعدات الغذائية التي تم توثيقها على الإطلاق. ووسط ترجيح ألا يعرف حجم الخسارة الإجمالية أبدا، يقول مسؤول من التغراي إن أكثر من 7000 طن من القمح سرقت – وهي كمية تكفي لإطعام أكثر من 450.000 شخص مدة شهر.
وقالت سيندي ماكين، رئيسة برنامج الأغذية العالمي، في بيان صدر حينها إن هيئة الأمم المتحدة "لا تتسامح مطلقا مع السرقة أو تحويل مسار مواد الإغاثة".
لكن تحقيقا أجرته رويترز وجد أن برنامج الأغذية العالمي كان على علم بسرقة المساعدات الغذائية في إثيوبيا على مدى سنوات، وأنه فشل مرارا في التحرك. ويقول تقرير داخلي للوكالة الأميركية للتنمية الدولية اطلعت عليه رويترز إن المساعدات تم تحويلها إلى الجيشين الإثيوبي والتيغراوي وكذلك إلى السوق السوداء.
وقال أربعة من موظفي الأمم المتحدة ودبلوماسيان لرويترز إن برنامج الأغذية العالمي تلقى تحذيرات من قبل موظفيه، ومن منظمات إغاثة أخرى في وقت مبكر من عام 2021 بشأن تحويل مسار الغذاء الذي يحدث في جميع أنحاء البلاد. وقالوا إن برنامج الأغذية العالمي اختار أن يشيح بوجهه عن الموضوع في خضم أحداث الحرب الأهلية التي مزقت البلاد لأنه يخشى من انتقام الحكومة الإثيوبية وضغوطها المتمثلة بتقليل عدد الشاحنات التي تنقل المساعدات إلى تيغراي المحاصرة.
وقال برنامج الأغذية العالمي لرويترز إن التفاصيل الضرورية لم تتوفر لديه كي يتمكن من التعليق على حالات تحويل مسار الأغذية. ونفى مسؤول في اللجنة الإثيوبية لإدارة أخطار الكوارث، وهي وكالة الإغاثة في البلاد، أن الحكومة كانت بصدد الحد من تدفق المساعدات إلى تيغراي.
لكن بعض المسؤولين الأميركيين وصفوا في تصريحات غير رسمية برنامج الأغذية العالمي بأنه غير جدير بالثقة. ويشير تقرير استقصائي داخلي لبرنامج الأغذية، اطلعت عليه رويترز، إلى برقية أرسلها في مايو/أيار 2023 أكبر دبلوماسي أميركي في إثيوبيا في ذلك الحين قال فيها إن "حجم وعمق عمليات التحويل" في المناطق التي يدير فيها برنامج الأغذية العالمي الإغاثة الغذائية "يثيران الشكوك في قدرة البرنامج على أن يكون شريكا مخلصا ومبدئيا" لتوزيع الغذاء في إثيوبيا.
وتبين لموظفي الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، أن المواد الغذائية المتبرع بها يتم تحويلها في جميع أنحاء البلاد بطريقة "منهجية" وعلى "مستوى رفيع"، وفقا لاستقصاء أولي أجرته الوكالة، يغطي الفترة من مارس/آذار إلى مايو/أيار 2023. وأفاد التحقيق أن الجيش الإثيوبي كان يعيد بانتظام توجيه مسار القمح الممول من المانحين إلى المطاحن الخاصة به لتحويله إلى دقيق لجنوده. وكان "المبتزون المتوحشون" يتلاعبون بالجياع، ويبيعون لهم حصصهم الغذائية.
ويقر برنامج الأغذية العالمي، في تقريره الداخلي، بتحويل المعونة إلى الأسواق والمطاحن على نطاق واسع بعد تسليمها إلى شركائه المحليين لتوزيعها على المحتاجين. لكن التقرير لم يجد أي دليل على أن البرنامج نفسه كان مسؤولا عن ذلك. وأشار التقرير بدلا من ذلك إلى المدنيين الذين كانوا مستهدفين بالمساعدات. وقال التقرير الصادر في يناير/كانون الثاني 2024 إن "التحويل كان مدفوعا بشكل أساسي بالمستفيدين" في إثيوبيا، الذين كانوا يبيعون بعض الحصص الغذائية التي يحصلون عليها.
وتظهر عمليات نهب الطعام في إثيوبيا بجلاء، كيف يمكن إفساد نظام عالمي مصمم للحد من الجوع ومنع المجاعة - مكون من وكالات الأمم المتحدة والجماعات الإنسانية غير الحكومية والدول المانحة بقيادة الولايات المتحدة- بسبب الفساد والضوابط الإدارية المتراخية، وسوء الحكم المحلي الحكومي. علما بأن النظام ذاته يعاني في الأصل من ضغوط هائلة. ففي العام الماضي، واجه ما يقرب من 282 مليون شخص في 59 بلدا وإقليما مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي الحاد. وكان من بينهم أكثر من 36 مليون طفل دون سن 5 سنوات ممن يعانون من سوء التغذية الحاد.
وقال أبوني تسفاسيلاسي مدهين، أسقف أبرشية أديغرات الكاثوليكية، وهي مدينة في تيغراي "كان وقف توزيع الطعام كارثيا"، وأضاف أن "الناس كانوا يموتون، وتدهورت صحة الأطفال والشيوخ ..إنها خطيئة".
تستند هذه القصة، التي تمثل أول سرد شامل لسرقة المساعدات وعواقبها على الإثيوبيين، إلى النتائج التي لم يتم الإبلاغ عنها سابقا لتحقيق أجراه برنامج الأغذية العالمي، وإلى التحقيق الأوّلي للوكالة الأميركية للتنمية الدولية. وقد بٌنيت على مقابلات أجراها صحفيون مع أكثر من 20 شخصا على دراية بالقضية، من بينهم مسؤولون أميركيون وأمميون وإثيوبيون ودبلوماسيون وعمال إغاثة.
أما العقل المدبر لمخطط تحويل مسار الطعام، فما زال لغزا عصيّا على الحل. ولا يزال تحقيق الوكالة الأميركية للتنمية الدولية وبرنامج الأغذية العالمي بهذا الشأن متواصلا.
وردا على أسئلتنا، قال برنامج الأغذية العالمي إنه يتخذ إجراءات للتحقيق ومنع إساءة استخدام المساعدات الغذائية عندما "يكتشف البيع غير القانوني لكميات كبيرة من الإمدادات الإنسانية".
بالمقابل نفى مسؤولون إثيوبيون وتغراويون تلقي قواتهم مساعدات غذائية محولة. وقالت حكومة تيغراي إن متلقي المساعدات غالبا ما "يساهمون بها" في إطار مساعدة ما سمّته "جيش المدنيين".
لكن عملية الاحتيال هذه تركت بصماتها الواضحة: إذ خلّفت الفضيحة شرخا بين الوكالة الأميركية للتنمية الدولية وبرنامج الأغذية العالمي، وهما المنظمتان الإنسانيتان العملاقتان اللتان تشتركان في تقديم مساعدات غذائية منقذة للحياة لملايين من أكثر الناس جوعا في العالم. وتخطط الوكالة الأميركية للتنمية الدولية للتخلص التدريجي من برنامج الأغذية العالمي كموزع للمواد الغذائية في تيغراي وبقية شمال إثيوبيا على مدى الأشهر التسعة المقبلة أو نحو ذلك، والتحول إلى منظمات إغاثة أخرى بدلا من ذلك، حسبما قال مسؤولو الوكالة الأميركية لرويترز.
وتقول الوكالة الأميركية للتنمية الدولية وكذلك برنامج الأغذية العالمي إنهما ما زالا شريكين. وقالت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية إن قرارها بالاستعانة بمنظمات إغاثة أخرى في شمال إثيوبيا يعتمد على "كفاية الكلفة" و"خفض الاحتياجات المتوقعة".
وقال أندرو ميتشل الذي شغل منصب وزير بريطانيا لشؤون أفريقيا حتى يوليو/تموز لرويترز إن "تحويل مسار الطعام كان وصمة عار. لا يمكنك أن تتوقع من دافعي الضرائب الأميركيين أن يذهبوا لمساعدة الناس الجائعين إذا تم إبلاغهم بأن الأموال قد سرقت من قبل الجنود".
وتظهر وثيقة داخلية أن برنامج الأغذية العالمي لا يزال يواجه مشكلة تحويل وجهة الغذاء وجرائم أخرى في إثيوبيا. وأبلغ "تقرير شهري حول التطورات" أصدره البرنامج بشأن إثيوبيا في أغسطس/آب عن 39 حالة، بينها مزاعم بتحويل وجهة المساعدات، والسرقة، وابتزاز المستفيدين، واكتشاف عرض المواد الغذائية المتبرع بها للبيع في الأسواق المحلية. وقال البرنامج لرويترز إن هذه "حوادث بسيطة" ولم يشر إلى عمليات "تحويل واسعة النطاق".
ووصف السناتور الأميركي جيمس إي ريش، وهو أعلى جمهوري في لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، عملية تحويل وجهة المساعدات الغذائية بأنها "لا تطاق". وقال لرويترز "هذا النظام منع ملايين الأشخاص من الحصول على المساعدات المنقذة للحياة بينما مكّن المسؤولين الفاسدين والمقاتلين المسلحين من خدمة أهدافهم الخاصة. يجب محاسبة المسؤولين عن التحويل".
تاريخ المجاعة
لفتت إثيوبيا أنظار العالم عندما ضربتها المجاعة بين عامي 1970 و1980، حيث مات مئات الآلاف نتيجة الجوع الناجم عن الجفاف والاقتتال. وشاع أمر المجاعة بعد المساعدة التي قدمها برنامج "لايف إيد"-وهو حفل موسيقي نظّم عبر المحيط الأطلسي في عام 1985 بمشاركة كبار نجوم موسيقى الروك -وتمكن من جمع نحو 100 مليون دولار.
في العقود الثلاثة الماضية، أحرزت إثيوبيا تقدما ملحوظا، لا سيما في مجال الزراعة. لم يعد الجفاف وشح المحاصيل يؤدي إلى المجاعات. لكن البلاد لم تكن محصنة ضد ما هو الآن السبب الرئيسي للمجاعة على مستوى العالم وهو الحرب.
فقد شنت إثيوبيا حربا على إريتريا المجاورة من عام 1998 إلى عام 2000. وفي عام 2018 وقعت الدولتان اتفاق سلام حصل بسببه في وقت لاحق رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، على جائزة نوبل للسلام. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2020، خاض أبي أحمد حربا مع جبهة تحرير شعب تيغراي، التي حكمت إثيوبيا ذات يوم ولا تزال تسيطر على منطقة تيغراي. وأرسلت إريتريا قوات لدعم أبي أحمد واحتلت مع الجيش الإثيوبي معظم تيغراي.
أدت الحرب، التي انتهت في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، إلى مقتل عشرات الآلاف وترك الملايين جوعى؛ مما جعلها واحدة من أكثر الصراعات دموية في العالم. وعلى الرغم من انتهاء القتال، لا يزال الجوع مستمرا، حيث لا يزال ملايين الإثيوبيين بحاجة إلى مساعدات غذائية، وفقا لتقارير الأمم المتحدة.
لم يكن تحويل مسار المساعدات الذي تم الكشف عنه العام الماضي في إقليم تيغراي الحالة الأولى من نوعها في إثيوبيا. فتقديرات الدبلوماسيين ومسؤولي الإغاثة تفيد أن سرقة وإعادة توجيه مسار المواد الغذائية والمساعدات الأجنبية الأخرى، تحدث منذ عدة سنوات في هذا البلد. فبعد مرور بضعة أشهر على اندلاع الحرب في تيغراي في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، تمت سرقة المساعدات.
وفي مارس/آذار 2021، قال اثنان من كبار عمال الإغاثة إنهما سافرا إلى أديغرات، في تيغراي، حيث شهدا توزيع المساعدات الغذائية من قبل برنامج العمليات الطارئة المشترك في إثيوبيا، وهو برنامج مساعدات غذائية تموله الوكالة الأميركية للتنمية الدولية. وبدلا من رؤية الناس من مستحقي المساعدة يتسلمون الغذاء، رأوا أكياس الحبوب التي تبرعت بها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية يتم تحميلها داخل مركبات، وعلى عربات تجرها الحمير.
لوحات أرتيرية
وقال أحد عمال الإغاثة إن المركبات كانت تحمل لوحات تسجيل إريترية وكانت متجهة على ما يبدو إلى إريتريا. وأبلغ عامل آخر مسؤولي برنامج الأغذية العالمي والوكالة الأميركية للتنمية الدولية الواقعة.
ونفت الحكومة الإريترية تلقي جيشها مساعدات غذائية محولة. وقال مسؤول حكومي ردا على الأسئلة "لماذا نسرق المواد التافهة التي يتم التبرع بها للآخرين؟".
وفي عام 2021 أيضا، رأى مسؤول كبير في الأمم المتحدة شاحنات عدة تحمل لوحات تسجيل إريترية يتم تحميلها من قبل جنود إريتريين يرتدون الزي الرسمي بما يعتقد أنه مساعدات غذائية لبرنامج الأغذية العالمي تغادر إثيوبيا وتعبر إلى إريتريا. وقال المسؤول لرويترز إنه أبلغ كل من برنامج الأغذية العالمي والوكالة الأميركية للتنمية الدولية بما لاحظه. وأكد دبلوماسي أن المسؤول تبادل المعلومات مع منظمتي الإغاثة.
وفي واقعة أخرى، اشتبه شهود عيان في تورط برنامج الأغذية العالمي بشكل مباشر في تحويل مسار الأغذية. ففي عام 2022، أصدر مسؤولو برنامج الأغذية العالمي تعليمات لسائقي قافلة الشاحنات بإلقاء المساعدات بمناطق في تيغراي وأمهرة لا يوجد فيها متلقون للمساعدات، وفقا لشخصين مطلعين على الأمر. وأضافوا أنه تم إرسال قافلة من 20 شاحنة إلى منطقة بالقرب من شيرارو في تيغراي، التي كانت تحتلها القوات الإريترية في ذلك الوقت ولم يكن فيها أي متلق للمساعدة.
أسماء مشكوك فيها
يتحدث عمال الإغاثة والدبلوماسيون في إثيوبيا عن وجود نظام إعانات إنساني قابل للاستغلال، حيث يحدد المسؤولون الإثيوبيون في سياقه، وليس وكالات الإغاثة، من يحتاج إلى المساعدة ومن لا يحتاج إليها. وعلى مدى سنوات كان المسؤولون يقومون بإضافة مئات الآلاف من الأسماء المشكوك فيها إلى قوائم المستفيدين من المساعدات.
في كثير من البلدان، يقوم برنامج الأغذية العالمي بتحديد وتسجيل الأشخاص الذين يحتاجون إلى الغذاء. ففي أماكن بما فيها جنوب السودان، تستخدم المعلومات البيومترية، مثل بصمات الأصابع، للحماية من الاحتيال. لكن في إثيوبيا، اعتمد برنامج الأغذية العالمي حتى أوائل العام الماضي - وفقا لشهادات خمسة من عمال الإغاثة- على قوائم طويلة قدمتها الحكومات المركزية والإقليمية، لأشخاص كتبت أسماؤهم بخط اليد.
وشرح أحدهم كيف قدمت السلطات الإثيوبية قوائم بأسماء 100,000 شخص. فقام برنامج الأغذية العالمي بالاستعانة بمدخلي بيانات لإدخال الأسماء في جداول، وهو الأمر الذي كشف آلاف الأسماء المكررة. وأعرب الموظف المذكور عن شكوكه في أن السلطات الحاكمة تضخم القوائم بأسماء زائدة على الحاجة لتستحوذ على كمية المساعدات الزائدة.
وقد عرض التقرير الداخلي لبرنامج الأغذية العالمي اتهامات مماثلة. واستنادا إلى ما قاله المدير القٌطري لبرنامج الأغذية العالمي في ذلك الوقت في إثيوبيا، فإن الحكومة "قامت بتضخيم أعداد المستفيدين وأن هذا كان عاملا مساهما رئيسيا في تحويل مسار المساعدات الغذائية المزعومة في البلاد". ونقلت الوكالة عنه قوله "إن قضية تحويل المواد الغذائية برمتها.. مرتبطة بأرقام مضخمة".
ورفض المدير القٌطري السابق لبرنامج الأغذية العالمي، كلود جيبيدار، التعليق على ما ورد في هذا التصريح.
وفي هذا الصدد قالت وكالة الإغاثة الإثيوبية إن الحكومة يجب أن تقود الجهود الإنسانية لأنها مسؤولة عن مواطنيها، لكنها نفت أي "نية منهجية لتضخيم قوائم المستفيدين". وقالت حكومة تيغراي من جهتها إنها لا تستبعد تضخيم قوائم المستفيدين في بعض الأحيان.
تحويلات المستوى الرفيع
بعد أن وقعت إثيوبيا اتفاق سلام مع قوات التيغراي في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، تمت إعادة السماح بالوصول إلى المنطقة، والذي كان مقيدا. في أول زيارات الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، في مارس/آذار 2023، اكتشف أحد عمالها الشاحنة الحمراء الضالة.
باشرت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية التحقيق في الواقعة. وزار موظفوها 63 مصنعا وسوقا في سبع مناطق إثيوبية في الفترة من مارس/آذار إلى مايو/أيار 2023، وفقا للتقرير الداخلي للوكالة، الذي اطلعت عليه رويترز. وقد تم تبادل نتائجه، بما في ذلك أدلة فوتوغرافية تؤكد وجود مطاحن "مليئة بالمساعدات الغذائية الممولة من المانحين"، وشركائهم في الاتحاد الأوروبي وبريطانيا والجهات المانحة الرئيسية الأخرى.
وكشف التحقيق الأولي عن تحويلات "المستوى الرفيع" في تيغراي ومناطق أخرى، باستخدام كل من الجيشين الإثيوبي والتيغراوي "بشكل روتيني" للمساعدات الغذائية الممولة من المانحين. وقال أحد مديري المطاحن غير المعروفين لدى الوكالة الأميركية للتنمية الدولية إن منشأته عالجت للجيش الوطني الإثيوبي "ما يكفي من القمح الممول من المانحين" للجيش الوطني الإثيوبي لإطعام 20,000 جندي شهريا.
ويشير التقرير إلى احتمال وجود مخطط يقدّر أن الحكومة الإثيوبية تحول المساعدات الغذائية الأميركية إلى مطاحن خاصة لصنع الدقيق لجنود تيغراي بعد توقيع اتفاق السلام بين الطرفين. كما أظهرت صورة لسجلات الشحن أن جيش تيغراي أرسل إلى مطحنة واحدة حوالي 3000 طن من القمح المعبأ بأكياس الوكالة الأميركية للتنمية الدولية.
ووصفت وكالة الإغاثة الإثيوبية نتائج الوكالة الأميركية بأنها محاولة "لتشويه سمعة الجيش الإثيوبي". ووصفت حكومة تيغراي النتائج التي تفيد بأن جيشها استخدم الغذاء الممول من المانحين بأنها "غير معقولة" و"خاطئة تماما".
كما أجرت سلطات تيغراي تحقيقا في مسألة تحويل المساعدات الغذائية التي تم الكشف عنها العام الماضي. وتم الاستشهاد باستنتاجاتها في تقرير برنامج الأغذية العالمي، الذي قال إن التيغراويين وجدوا أن مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة،فيها رجال أعمال وقادة مدن وجنود وقادة من حزب آبي أحمد السياسي، متورطة في سرقة المساعدات. ولم يعلق المتحدث باسم آبي أحمد على ذلك.
قال الجنرال فيشا كيدانو، المسؤول الكبير الذي قاد تحقيق تيغراي، في مقابلة تلفزيونية مع قناة محلية في يونيو/حزيران 2023 إن التحويل تضمن سرقة أكثر من 7000 طن من القمح و215000 لتر من زيت الطعام. وقال فيشا إنه تم اعتقال سبعة أشخاص وتم التعرف على 186 مشتبها فيه، لكنه لم يذكر أي شخص بالاسم. وقال لرويترز إن تقريرا عن التحقيق سيعلن قريبا.
أما وكالة الإغاثة الإثيوبية فنفت أن تكون كميات كبيرة من المساعدات الغذائية قد تم تحويلها من قبل الجيش الإثيوبي أو الحكومة الفدرالية. وقالت إن الحكومة أجرت تحقيقاتها الخاصة واتخذت إجراءات "قوية" لمنع سوء التعامل مع الإمدادات الإنسانية في المستقبل.
"وقت صعب للغاية"
بناء على النتائج الأولية التي تم التوصل إليها، قرر مسؤولو الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في أبريل/نيسان 2023 أنه لم يعد بالإمكان الاستمرار في توزيع المساعدات الغذائية في إثيوبيا حتى يتم تنفيذ التدابير اللازمة لضمان وصولها بالفعل إلى الجياع. وتم تعليق تسليم المساعدات الغذائية عدة أشهر.
وكان تأثير هذا القرار سريعا. فقد وجدت دراسة استقصائية شملت حوالي 5100 أسرة في تيغراي أن النسبة التي تواجه الجوع الشديد قفزت من 5٪ في فبراير/شباط 2023 إلى 11٪ في أغسطس/آب 2023، وفقا لمجموعة تيغراي للتغذية، وهي شبكة مساعدات إنسانية أحد شركاءها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية وشركاءها. وقالت الدراسة إن الزيادة كانت مدفوعة جزئيا بـ "التوقف المؤقت لتوزيع المساعدات الإنسانية".
قال إردي أسيفا، رئيس مستشفى يتشيلا الأساسي، في وسط تيغراي، إنه بعد قطع المساعدات، كان ما بين 75٪ و80٪ من الأمهات اللائي تم فحصهن في المستشفى يعانين من سوء التغذية الحاد. وقال إن تعليق المساعدات "كان وقتا صعبا للغاية. أولئك الذين كانوا في مرحلة معتدلة من سوء التغذية بدؤوا الدخول في مرحلة صعبة".
وقال أشخاص في مخيمات النازحين لرويترز إنهم لجؤوا إلى أكل أوراق الصبار الشائكة للبقاء على قيد الحياة. واضطر بعض الناس إلى بيع ممتلكاتهم لشراء الطعام أو الدواء. وفي أحد المخيمات في أديغرات، قال أحد قادة المجتمع المحلي إن خمسة أشخاص لقوا حتفهم جوعا أثناء الإيقاف وعانى 120 شخصا من سوء التغذية الشديد.
وقالت تسيجي تيكليبيرهان، وهي أم لأربعة أطفال تعيش في المخيم "بطانيتين تبرع بهما الصليب الأحمر لشراء 25 كيلوغراما من الذرة حتى تتمكن عائلتي من تناول الطعام".
وقال برنامج الأغذية العالمي لرويترز إنه استأنف توزيع الأغذية بمجرد تطبيق ضمانات جديدة. ووصفت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تعليق المساعدات بأنه "إجراء الملاذ الأخير" مع "عواقب حقيقية ومؤثرة للغاية".
برنامج الأغذية العالمي يبرئ نفسه
أدت المشاكل المتصلة بإثيوبيا داخل برنامج الأغذية العالمي، إلى إعادة تقييم شامل لأنظمة وعمليات المنظمة في جميع أنحاء العالم. وتقول المنظمة إنها حسنت كيفية التحقق من وصول الطعام المتبرع به إلى الأشخاص الذين يحتاجون إليه حقا من خلال التتبع والمراقبة الفضلى. وفي إثيوبيا، يشمل ذلك استخدام نظام تحديد المواقع العالمي لأسطول برنامج الأغذية العالمي الذي يضم أكثر من 500 شاحنة، والمزيد من المراقبين الميدانيين، وسجلا رقميا للعائلات التي تعاني من "انعدام الأمن الغذائي".
وركز مكتب المفتش العام لبرنامج الأغذية العالمي تقريره الاستقصائي على تيغراي فقط. وقال متحدث باسم برنامج الأغذية العالمي إن المكتب يجري تحقيقات في منطقتين أخريين. ويعفي التقرير المؤلف من 25 صفحة الحكومة الإثيوبية وموظفي برنامج الأغذية العالمي إلى حد كبير من المسؤولية عن تحويل المساعدات.
ويقر التقرير بحدوث عمليات تحويل ونهب في تيغراي. لكنه يقول في المقابل إنه لا توجد "أدلة كافية" على تحويل المساعدات الغذائية على نطاق واسع. ووجد مكتب المفتش العام أن المسؤولين الحكوميين الإثيوبيين والتيغراويين قاموا بتضخيم قوائم المستفيدين، مما تسبب في قيام برنامج الأغذية العالمي بتوفير الكثير من المساعدات الغذائية. لكن التقرير لم يصل إلى حد اتهامهم بالتواطؤ في السرقة، قائلا إنه لا توجد أدلة كافية "لاستنتاج أن مثل هذا الإجراء تم تنفيذه عمدا لتحويل المساعدات الإنسانية".
وفي تبرئته من أي مخالفات، قال برنامج الأغذية العالمي إنه "لم يجد أي مؤشرات" على أن موظفيه "متورطون في أي نشاط احتيالي أو فساد أو تواطؤ أو سرقة".
وقد ألقى التقرير اللوم على الجياع، وقال إنهم هم الجناة الرئيسيون. ويدعي التقرير أن حوادث تحويل مسار المساعدات كانت مدفوعة إلى حد كبير بمتلقي المساعدات الغذائية، إذ إنهم يبيعون بعض حصصهم الغذائية ليحصلوا على طعام إضافي عن طريق الاحتيال من خلال تسجيل عائلاتهم عدة مرات.
وقال بعض متلقي المساعدات في إثيوبيا لرويترز إنهم يبيعون أحيانا بعض حصصهم الغذائية لكن بدافع اليأس. وقالت ليليتي جبريجيزابهر، وهي أمّ لطفلين في مخيم في بلدة شاير "حصلت على مساعدات لأنني أعاني من ظروف صحية. ساعدني مسؤول محلي في الحصول على 15 كيلوغراما من الطعام حتى أتمكن من بيع بعضها لشراء الأدوية".
وقال أبوني تسفاسيلاسي، أسقف أديغرات، إنه شعر "بالإحباط الشديد" عندما علم من رويترز أن تقرير برنامج الأغذية العالمي يعلق مخطط التحويل على الجياع. وقال "إنهم يعيشون حياة صعبة. كيف يمكن إلقاء اللوم عليهم من قبل منظمات الإغاثة الدولية؟".
بقلم: جوليا بارافيسيني وستيف ستيكلو