الهجرة واللجوء إلى واجهة قضايا ألمانيا الساخنة مجددا
"عزيزي أحمد،
لو وجهت لي هذا السؤال قبل 10 أعوام، لأجبت: "سأغادر ألمانيا عندما يصل اليمينيون المتطرفون إلى البرلمان (بوندستاغ). الآن، وصل حزب (البديل) إلى البرلمان، والآن أيضا يشغّل هذا الحزب في برلماننا أكثر من 100 موظف يميني متطرف. أو ربما لقلت: سأغادر عندما يعيّن حزب البديل قضاة دستوريين. هذا حدث أيضا. ففي ولاية بافاريا (بجنوب ألمانيا)، حيث تستطيع المعارضة تقديم ترشيحات خاصة بها، تم تعيين مرشحيْن لحزب البديل في هذا المنصب.
والآن، ما هي خطوطي الحمراء الجديدة؟ أن يلتحق حزب البديل بالحكومة ويبدأ تدريجيا إعادة تشكيل مراكز إدارة الدولة، أو عندما يتسلم وزارة الداخلية وبالتالي السلطة على جهازي المخابرات والشرطة ومكاتب الهجرة واللجوء، أو عندما لا يتم الاكتفاء بالحديث الفارغ حول سحب الجنسيات وعمليات التهجير العكسية، بل يبدأ فورًا وضع الأسس القانونية لذلك.
لهذا كله، أرجوك مرة أخرى أن تتقدم بإجراءات حصولك على أوراق إقامتك وعلى الجنسية الألمانية رغم أن القرار في النهاية ليس بيدك. (..) أكبر أكذوبات الفاشيين والقوميين هي قولهم إنهم يفرّقون بين المهاجرين الجيدين والمهاجرين السيئين. (..) أقرأ في هذه الأيام مذكرات الفيلسوف فيكتور كليمَرَر. يا لها من وثيقة تاريخية مذهلة تصف بدقة ولغة مرهفة التغيرات السياسية في الحياة اليومية بألمانيا بين عامي 1933 و1945. أقرؤها وأقول لنفسي: ارحلي، ارحلي قبل فوات الأوان. فكم أستطيع أن أتحمل وكم يجب عليّ أن أتحمل؟ ماذا عنك ومتى وصلت إلى نقطة قررت فيها أن ترحل عن سوريا وبعدها عن الأردن؟".
"عزيزتي فانيسا،
هل تعرفين لماذا جُن جنوني؟ لأن شعورا بأني مراقب في ألمانيا لا يفارقني. ولكن ليس من قبل جهاز مخابرات. لديّ انطباع بوجود هوس في المجتمع (الألماني) بمراقبة وتقييم كل شيء يقوله شخص غير أبيض. ما يقلقني ليس اليمين المتطرف المنظم، بل فيديوهات مثل الفيديو الذي تم تصويره في جزيرة زولت ويظهر فيه مواطنون عاديون يصرخون "ألمانيا للألمان.. اطردوا الأجانب". (..) يبدو لي أن شرائح واسعة في المجتمع تريد تحميل اللاجئين والمهاجرين مسؤولية جميع المصائب ويتجهون أكثر نحو السرديات اليمينية.
ما يحبطني هي الرغبة في أن أكون جزءًا من هذا المجتمع في وقت تعود فيه الفاشية إلى الازدهار. الحديث لا يدور فقط عن حمقى ومتعصبين ومتطرفين وقوميين، وإنما عن غالبية تبدو وكأنها غير راضية عن الدولة وسياستها. هذا كله يترافق مع التغطية السلبية لوسائل الإعلام، الأمر الذي يجعل ألمانا كثيرين يشعرون بأن الليبرالية والديمقراطية خانتهم. حتى المثقفين يتوجهون نحو السرديات اليمينية، بل الفاشية".

هاتان الرسالتان ورسائل أخرى كثيرة أسّست لقصة تعارف بين شخصين لم يفهم أيّ منهما الآخر في البداية، ولكنهما أصرّا على مواصلة مشوار انتهى بكتاب وعلاقة زوجية. هو هرب عام 2013 من سوريا إلى الأردن ومنها إلى ألمانيا، وهي أبصرت الحياة لأبوين من فيتنام في أحد سكنات اللجوء بجنوب ألمانيا. هو الكاتب السوري أحمد قطليش، وهي الصحفية الألمانية فانيسا فو التي تعمل للصحيفة الأسبوعية النخبوية "دي تسايت" ولم تبق في ألمانيا جائزة صحفية قيّمة إلا حصلت عليها.
أهمية هذه الرسائل من وجهة نظر الكاتب والصحفية لم تقتصر على تأسيسها لبيت زوجي مثالي يريدان الدفاع عنه، بل شكّلت كتابا بعنوان "تعال حيث السكينة". بهذا الكتاب يجوب أحمد وفانيسا في هذه الأيام المدن الألمانية ويقرآن لجمهور متنوع. بعض الناس وتحديدا في المناطق الصغيرة يتفهم وجهة نظرهما ويدعمها بكلمات دافئة ويدعم نفسه بدعمه للاجئين، وبعض آخر لا يتردد في الانتقاد، بل في "شن الحروب" على الكتاب وصراحة مؤلفيه، كما يقول أحمد للجزيرة نت.
أسباب البقاء بالنسبة لفانيسا مفهومة: فهي ولدت في ألمانيا وتتحدث الألمانية كلغة أم وهي -كما تقول- "لم تعد هذه الفتاة المُستضعفة التي تعيش في سكن للاجئين، بل صحفية سياسية لديها ما يكفي من المعرفة والعلاقات والمدخرات من أجل أن تدافع عن نفسها وأن تبني حياة جديدة في بلد آخر".
أما أسباب أحمد فأقلّ إقناعا من أسباب زوجته. فهو -كما يقول- "لديّ نظرة براغماتية حول الرحيل"، و"أريد في الوقت الحاضر البقاء لأني أسست مع زوجتي في هذا البلد بيتا نحبه "مضيفا "ولكن إذا أجبرنا في يوم من الأيام على الرحيل، فلن أخاف من ذلك".
فكرة الرحيل لا تراود فقط فانيسا وأحمد الذي يقول إنه لا يعرف أحدا في أوساط معارفه وأصدقائه "غير البيض" لا يفكر في الرحيل وتحديدا بعد النتائج التاريخية التي حققها الحزب اليميني المتطرف (البديل) في انتخابات محلية في ثلاث ولايات ألمانية في سبتمبر/أيلول الماضي وفي انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو/حزيران الماضي، في وقت عاد فيه نقاش الهجرة واللجوء إلى واجهة القضايا الساخنة التي تشغل ألمانيا.
ووفق نتائج الانتخابات التي تصدرت قضية الهجرة واللجوء مواضيع حملاتها الانتخابية، حصل البديل في ولاية تورنغن على 32.8% من الأصوات (المركز الأول)، في حين جاء في ولاية ساكسونيا المجاورة في المركز الثاني بفارق نقطة واحدة فقط عن الحزب المسيحي الديمقراطي المحافظ (31.9% للمسيحي الديمقراطي و30.6% لحزب البديل).
أما في ولاية براندنبورغ فقد سجل الحزب اليميني المتطرف أيضا حضورا تاريخيا بحصوله على قرابة 30% من الأصوات، رغم بقاء الحزب الاشتراكي الديمقراطي في المركز الأول، ولكن بفارق ضئيل.
هذه النتائج غير المسبوقة في تاريخ ألمانيا شكّلت صدمة في الرأي العام ولدى الأحزاب الديمقراطية بشقيها المحافظة واليسارية الليبرالية، ولكنها كانت سببا في إثارة مخاوف المهاجرين وخاصة المسلمين من خطط الترحيل التي يجهر بها المسؤولون في الحزب اليميني المتطرف وفي دفع مهاجرين كثيرين وحتى ألمانيين بالدم إلى التفكير في الرحيل الطوعي.
متلازمة "ألمانيا للألمان.. اطردوا الأجانب"
هذا النهوض الذي يرسخه حزب يميني متطرف مثل البديل في الانتخابات يأتي في وقت لا يختلف فيه اثنان على عودة ما يعرف بمتلازمة "ألمانيا للألمان.. اطردوا الأجانب" التي تطفو بين الحين والآخر على السطح وأصبحت في الآونة الأخيرة ظاهرة عادية.
فالمسألة لم تعد تتعلق بفيديوهات تأتي من هنا وهناك ويظهر فيها طلاب مدارس أو مشجعو كرة قدم أو شباب ميسورون يرددون "ألمانيا للألمان.. اطردوا الأجانب" (Deutschland den Deutschen .. Ausländer raus)، بل بتسلل لافت للسرديات اليمينية المتطرفة إلى الطبقة الوسطى المعروفة بازدرائها للأفكار اليمينية المتطرفة والمنتفعة قبل غيرها من حالة الرخاء و"السنوات السمان" في أغنى بلد أوروبي، وبشيوع أجواء طاردة للمهاجرين وللألمان أنفسهم.
ووفق قناة "إن دي آر" (NDR) التلفزيونية فإن مكاتب الشرطة الجنائية وعشرات النيابات العامة في مختلف الولايات الألمانية وما يعرف بـ"مركز تسجيل المخالفات العنصرية"، سجلت بين أكتوبر/تشرين الأول 2023 ويوليو/تموز من العام الحالي 389 فيديو يظهر فيها شباب يرددون أغنية "ألمانيا للألمان.. اطردوا الأجانب".
وتعلق القناة شبه الحكومية على هذه الأرقام بالقول إنها "مجرد رأس جبل الجليد" لأن معظم الحالات لا يتم تسجيلها عند الجهات المختصة، الأمر الذي يعني أن أعداد هذه الحالات أكبر بكثير".

ظهرت فيديوهات وتغريدات كثيرة بالمدارس أو بين مشجعي كرة القدم أو بالمراقص يظهر فيها شابات وشبان يرددون أغنية "ألمانيا للألمان.. اطردوا الأجانب". هذه الفيديوهات أثارت ضجة في البلاد ودفعت المغردين لتداولها والتعليق عليها
رفض وخوف وخطط للهجرة
صحيح أن هذه الممارسات تبقى بسبب الخوف من الملاحقة القضائية في أوساط ضيقة نسبيا أو تحدث في مناطق صغيرة، ولكن وقعها يكون كبيرا وخاصة على الجهة المستهدفة. فوفقا لدراسة أجراها المركز الألماني للاندماج وأبحاث الهجرة (DeZIM) تحت عنوان "رفض وخوف وخطط هجرة"، فإن غالبية المواطنين في ألمانيا تعتبر حزب البديل معاديا للديمقراطية وعنصريا. هذا صحيح، ولكن ما يثير مخاوف المواطنين وخاصة ذوي الأصول المهاجرة هو خطط الحزب لما يعرف بـ"الهجرة العكسية" المتمثلة في تنفيذ عمليات تهجير واسعة للمهاجرين أو للألمان المنحدرين من أصول مهاجرة.
وتشير الدراسة إلى أن المواطنين سواء كانوا مهاجرين أو غير مهاجرين يفكرون في الرحيل إلى خارج ألمانيا أو إلى مناطق وولايات أخرى في داخل ألمانيا إذا وصل حزب يميني متطرف إلى السلطة، وتؤكد أن 25% من المواطنين ذوي الأصول المهاجرة يفكرون في مغادرة ألمانيا، وأن 9% منهم اتخذوا خطوات فعلية للقيام بذلك. وتبلغ نسبة الذين يفكرون في مغادرة ألمانيا من ذوي الأصول غير المهاجرة (ألمان بالدم) 12%.
أما نسبة المهاجرين الذين يفكرون في مغادرة الولاية التي يعيشون فيها إلى ولاية ألمانية أخرى فتتراوح بين 18% و34%، وقد أخذ 12% منهم خططا فعلية للقيام بذلك. واللافت هنا أن 24% من المهاجرين الذين يفكرون في المغادرة هم من بلدان عربية.
"هذا التحليل (الدراسة) يبين بوضوح انقسام المجتمع. المؤيدون لحزب البديل يوافقون -خلافا لجميع الشرائح والمكونات الاجتماعية والسياسية الأخرى- على خطة الحزب اليميني المتطرف "الهجرة العكسية" التي تعني الترحيل الجماعي للناس. هذه الأجواء تولّد الخوف والتفكير في الرحيل. إضافة إلى ذلك، تظهر البيانات أن أنصار حزب البديل يعتبرون أنفسهم أشخاصا عاديين وليس متطرفين".
البروفيسور أندرياس تسيك، أستاذ علوم فض النزاعات من جامعة بيليفيلد. المصدر: المركز الألماني للاندماج وأبحاث الهجرة
سابرينا زاياك، رئيسة قسم الصراعات المسؤول عن إعداد الدراسة في مركز الاندماج والهجرة تعتبر نتائج الدراسة "مقلقة للغاية"، وتضيف -في حديث مع الجزيرة نت- "صحيح أن غالبية واضحة في ألمانيا تعتبر البديل حزبا معاديا للديمقراطية وعنصريا وخاصة عندما يدور الحديث عن خططه لتنفيذ تهجير جماعي، ولكن تفكير مهاجرين كثيرين في الرحيل يبيّن مدى عمق تأثير هذا الحزب في عدم شعور المواطنين بالأمن وفي خططهم المستقبلية".
وبحسب زاياك، فإن ما أثار "دهشتها وقلقها" في نتائج هذه الدراسة هو "حجم الخوف" الذي تسببه خطط الحزب للترحيل الجماعي، والعدد الكبير من المواطنين الذين يفكرون في الرحيل أو الذين بدؤوا إعداد خطط لذلك، وهذا كله يبين حالة الارتباك والخوف التي يخلفها ارتفاع شعبية حزب البديل.
المسلمون في الصدارة
ويشمل القلق المهاجرين بجميع أطيافهم وألوانهم حتى إنه يصل إلى جزء من الألمان بالدم، ولكن المسلمين الذين تقدر السلطات الألمانية أعدادهم بـ5.5 ملايين شخص، يتصدرون المهاجرين القلقين من النقاش الدائر. فوفقا لنتائج الدراسة المشار إليها، يرى أكثر من 66% من المهاجرين القادمين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أنهم مهددون إما بالتضييق وإما بالترحيل إذا وصل حزب يميني متطرف إلى السلطة. ويأتي الأتراك والأفغان والباكستانيون والعرب ولا سيما السوريين في المرتبة الأولى، وذلك نظرا لأعدادهم الكبيرة في ألمانيا.
التفكير في مغادرة ألمانيا يشغل كثيرين
نتائج هذه الدراسة والفوز التاريخي الذي حققه الحزب اليميني المتطرف في انتخابات الولايات الثلاث ساكسونيا، وتورنغن، وبراندنبورغ، وما تلا ذلك من استعار النقاش حول قضية الهجرة واللجوء، كل ذلك كان بمثابة "صدمة" للجالية المسلمة الكبرى في ألمانيا وهي الجالية التركية، بحسب رئيسها غوكاي سوفوغلو في حديث مع الجزيرة نت.
"بالطبع أصيبت الجالية التركية بعد أن أصبحت استطلاعات الرأي التي توقعت فوز البديل في هذه الانتخابات واقعا"، يقول سوفوغلو، مضيفا أن "التفكير في مغادرة ألمانيا أمر يشغل كثيرين" في أوساط الجالية.
ووفق سوفوغلو فإن فكرة الرحيل "تراود كثيرين أغلبهم أكاديميون يفكرون في الانتقال للعيش في دول أوروبية أخرى أو في كندا أو في الولايات المتحدة"، لكنه يقول إن "الحديث لا يدور حتى الآن عن ظاهرة منتشرة بشكل كبير".
ولا يكتفي رئيس الجالية التركية بالإشارة إلى المشكلة فقط، بل يبحث عن المتسببين فيها، ويحمل الأحزاب الديمقراطية مسؤولية الارتفاع الكبير في شعبية "الحزب الفاشي" (البديل) بحسب وصفه قائلا إن هذه الأحزاب لم تكن قادرة على تعرية هذا الحزب أمام الناخبين، بل على العكس من ذلك تماما؛ لأن النقاش الدائر حول المهاجرين واللاجئين يُبدي المشاكل وكأنها انتهت في ألمانيا.
رئيسة قسم الصراعات في مركز الاندماج والهجرة لديها أيضا نظرة براغماتية حول الظاهرة، وقد انطلقت في دراسة مركزها أيضا من المصلحة الاقتصادية لألمانيا؛ "لأن خطط الترحيل الجماعي -كما تقول- وتحديدا لمواطنين من أصول مهاجرة سيكون لها تداعيات خطيرة على مشكلة نقص العمالة الماهرة التي يعاني منها الاقتصاد الألماني؛ لأن كثيرين من هؤلاء المهاجرين يشغلون مناصب في قطاعات اقتصادية مهمة".
اقتصاد "في سقوط حر"
زاياك تؤكد أن "تحوّل ألمانيا إلى بلد غير جذاب للعمالة الماهرة من الخارج سيضر بقدرة الاقتصاد الأكبر في أوروبا على المنافسة وعلى قوته الاستثمارية فضلا عن الضرر الذي سيلحق بسمعة ألمانيا كبلد ديمقراطي ومتنوع يؤيد الانفتاح وقادر على اجتذاب الاستثمارات الأجنبية والمواهب، الأمر الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى إضعاف النمو الاقتصادي".
"إذا فكر كل خامس في مغادرة ولايته إذا فاز حزب البديل، فإن هذا سيعني وتحديدا لألمانيا الشرقية (الولايات الشرقية) خسارة لا يمكن تحملها على صعيد فقدان المعرفة والخبرات (know-how) والقدرات الاقتصادية. هذا سيعني كذلك فقدانا كاملا للقدرة الفعلية على اجتذاب العمالة (الأجنبية) الماهرة".
البروفسور غيرت بيكل بجامعة لايبزيغ- المركز الألماني للاندماج وأبحاث الهجرة
النظرة التشاؤمية لأداء الاقتصاد الأكبر في أوروبا تشمل أهل الاختصاص قبل غيرهم وخاصة المعاهد الاقتصادية المستقلة التي واظبت في الآونة الأخيرة على تقديم توقعات ونتائج دراسات تؤكد انكماش اقتصاد ألمانيا في هذا العام لدرجة أن أكبرها وأهمها وهو معهد إيفو يقول في آخر تقرير له حول أداء قطاع السيارات الحيوي إن هذا القطاع "في سقوط حر"، وهذا السقوط يشمل كذلك القطاع الصناعي الذي يعد العمود الفقري لواحد من أكبر اقتصادات العالم.
أكبر اقتصادات العالم
ولم تخف معاهد "إيفو" و"إي دبليو إتش" و"آر دبليو إي" و"معهد الاقتصاد العالمي كيل" في تقريرها الأخير "توقعات الخريف" هذا التشاؤم، إذ قالت إن الاقتصاد الألماني سينكمش هذا العام بنسبة 1% بعد انكماش بنسبة 0.3% عام 2023، عازية ذلك لعدة أسباب أهمها ما وصفته بـ"التغيرات الديمغرافية" الناجمة عن نقص العمالة الماهرة من الخارج.
الأمين العام لغرفة التجارة والصناعة العربية الألمانية عبد العزيز المخلافي يشترط تفاؤله بمستقبل الاقتصاد الألماني وخاصة بقطاع الصناعة، بقدرة الحكومة الألمانية على التغلب على تحديات أبرزها نقص العمالة الماهرة.
وبحسب بيانات غرفة التجارة والصناعة العربية الألمانية، فإنه على الرغم من إصدار الحكومة الألمانية قانونا جديدا للهجرة وإدخال العديد من التعديلات والتحسينات عليه بهدف جذب مزيد من العمال الأجانب من خارج الاتحاد الأوروبي، فإن الارتفاع المتوقع في عدد العمال المهرة لم يتحقق.
ويرى العديد من الاتحادات الصناعية والمهنية الرئيسية في ألمانيا أن هذه الأعداد من التأشيرات وهذا العدد المنخفض من العمالة المتخصصة الأجنبية لن يساهما بشكل كبير في معالجة النقص الحاد في العديد من القطاعات الاقتصادية التي تطالب بضرورة تبني الجهات المختصة ما تسميه "ثقافة الترحيب"، الأمر الذي وصفه بيتر أدريان، رئيس اتحاد غرف التجارة والصناعة الألمانية "دي آي إتش كيه" (DIHK)، بأنه رسالة يجب توجيهها إلى المتخصصين الأجانب تقول: "نحن سعداء بقدومكم إلى ألمانيا".
400 ألف وظيفة شاغرة في العام
وتشير أرقام غرفة التجارة والصناعة العربية الألمانية إلى النقص المتزايد في العمالة المؤهلة، ويتوقع العديد من الخبراء أن يزداد هذا النقص خلال السنوات القادمة، إذ تحتاج الشركات الألمانية إلى نحو 400 ألف عامل ماهر سنويا لضمان استمرار أعمالها.
ولا يقتصر النقص في العمالة المؤهلة على أصحاب المؤهلات الأكاديمية فحسب، بل يتجاوز ذلك وبدرجة قد تكون أكبر وأكثر حدة إلى العمالة المؤهلة في القطاع الصناعي وفي قطاع الرعاية الصحية مرورا بقطاع الضيافة ووصولا إلى العمالة اليدوية الحرفية.
وفي وقت تبحث فيه ألمانيا بجميع مستوياتها عن حل سريع لإشكالية النقص الحاد في العمالة المؤهلة ولتراجع عدد سكانها البالغ في الوقت الراهن قرابة 84 مليون نسمة، يجدد الحزب اليميني المتطرف "البديل" مطالبه بما يسميه "النمو السكاني العضوي" بديلا للهجرة من الخارج؛ مما يعني تلقائيا مطالبة أو تحفيز النساء الألمانيات على إنجاب مزيد من الأطفال.
للوهلة الأولى، يبدو هذا الحل منطقيا وبسيطا، ولكن إلقاء نظرة على الإحصائيات يشير بوضوح إلى صعوبة تطبيقه. فوفقا لمكتب الإحصاءات الألماني الاتحادي، فإن الحيلولة دون انكماش أي مجتمع صناعي تتطلب أن تنجب كل امرأة في المتوسط 2.1 طفل، علمًا بأن بيانات المكتب الحكومي تشير إلى أن كل امرأة في ألمانيا تنجب في الوقت الراهن 1.46 طفل.
علاوة على ذلك، تكمن مشكلة الاقتصاد الألماني في الحاجة الفورية إلى العمالة المؤهلة، وهذا يعني أنه حتى لو تمكنت السلطات المعنية من إقناع النساء فورا بإنجاب المزيد من الأطفال، فإن النتائج لن تظهر قبل جيل واحد أي قبل 20 عاما، الأمر الذي يجعل مكتب الإحصاءات الاتحادي يجزم بأن عدم قدوم مهاجرين جدد سيعني فقدان ألمانيا بحلول عام 2040 قرابة 9 ملايين مواطن. ومن أجل معالجة هذا الخلل تحتاج ألمانيا سنويا وحتى عام 2040 إلى قرابة 490 ألف مهاجر جديد في سن العمل أي بين 20 و66 عاما.