جرأة في فضح انحياز أميركا وصحافتها في حرب غزة

Samuel Mina jr الصحفي الذي أحرق يده أمام البيت الأبض في 5 أكتوبر
Samuel Mina jr الصحفي الذي أحرق يده أمام البيت الأبض في 5 أكتوبر
صموئيل مينا يشعل النار في يده أمام البيت الأبيض في 5 أكتوبر/تشرين الأول الجاري (مواقع التواصل الاجتماعي)
صموئيل مينا يشعل النار في يده أمام البيت الأبيض في 5 أكتوبر (مواقع التواصل الإجتماعي)

المكان: حديقة لافييت قبالة البيت الأبيض

الزمان: صباح السبت 5 أكتوبر/تشرين الأول 2024

شاب في الثلاثينيات من العمر، يتقدم حشد المتجمهرين تحت رقابة الشرطة، قبالة مقر الرئاسة الأميركية، للاحتجاج على الحرب الإسرائيلية المستمرة على قطاع غزة، ثم يفاجئهم بإشعال النار في ذراعه اليسرى وهو يصيح "نشرنا المعلومات المضللة. أنا صحافي.. جعلت الأمر يبدو كأنّه طبيعي.. إلى 10 آلاف طفل في غزة ممن فقدوا طرفا في هذا الصراع.. أعطيكم ذراعي اليسرى.. ليرفع صوتي صوتكم كي لا تختفي ابتساماتكم (...)".

استقطب الفعل الاحتجاجي النادر هذا اهتمام الإعلام والشرطة الفدرالية والمتضامنين مع غزة الذين هبوا لنجدة القائم به، وهو صموئيل مينا جونيور الصحفي في شبكة أريزونا فاميلي. وذكّر من جانب آخر بالأفعال التضامنية المماثلة التي أقدم عليها 3 شبان أميركيين آخرين أمام ممثليات دبلوماسية إسرائيلية في ولايات أميركية مختلفة، وهم على التوالي: شاب لم تعرف هويته أضرم النار في نفسه قبالة القنصلية الإسرائيلية في أتلانتا في الثاني من ديسمبر/كانون الأول 2023، ثم العسكري في سلاح الجو آرون بوشنيل الذي أحرق نفسه حتى الموت قبالة السفارة الإسرائيلية في واشنطن يوم 25 فبراير/شباط الماضي، وأخيرا ماثيو نيلسون الذي أشعل النار في نفسه حتى الموت قبالة القنصلية الإسرائيلية في بوسطن يوم 11 سبتمبر/أيلول الماضي.

مقال شارح

لكن الأهم في واقعة صموئيل هو اجتماع البعد الإنساني للفعل الاحتجاجي هذا بالرسالة الإعلامية، التي كشف تفاصيلها في اليوم ذاته في مقال مطول نشر على موقع صموئيل الشخصي. وتضمن المقال شرحا لآرائه واستنتاجاته حيال سياسات إدارة بايدن العامة وتلك المتصلة بحرب غزة. وإلى جانبها السياسات التحريرية لوسائل الإعلام الأميركية في تغطياتها لحرب الإبادة المتوالية فصولا في القطاع.


بدأ صموئيل مقاله بانتقاد الإعلام الأميركي الذي تجاهل قتل الأبرياء والمدنيين في غزة ولبنان، وانتقد الجمهوريين والديمقراطيين، وموقف المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس من الإبادة الجماعية في قطاع غزة. وقال "على مدى السنوات السبع الماضية، خدمت ولاية أريزونا صحافيا ومصور فيديو وراوي قصص بصرية، ودخلت الصناعة باحتراف بصفتي عاملا مستقلاً في عام 2017، وأصبحت مصور فيديو إخباريا بدوام كامل في عام 2022، وأحببت بشكل خاص التعرف إلى مدى اعتماد الصحافة على أسس ممارستها القائمة على الفلسفة والأخلاق، ومع ذلك، من بين جميع مدارس الفلسفة التي تشكل أساسا للصحافة، لا يوجد منها ما هو أكثر أهمية من الموضوعية".

الإهمال الكسول

انتقد صموئيل موقف كامالا هاريس من الإبادة الجماعية (الأناضول)

وأشار مقال صموئيل إلى الأسباب التي جعلته يركز بشدة على ضرورة إنهاء الإبادة الجماعية التي تحدث في فلسطين، وأرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن البيت الأبيض يواصل تصوير الإبادة على أنها حرب على حماس، ويصورها على أنها حرب على "المغتصبين وقاتلي الأطفال".

وزاد "ونحن الصحافيين الأميركيين من خلال الإهمال الكسول في أفضل الأحوال، أو من خلال النفوذ المؤسسي في أسوأ الأحوال، خلقنا البيئة، واحتضنا الأدوات التي يستخدمها قادة حكومتنا لتفكيك حقائق العالم الذي نعيش فيه. ذهبنا إلى إسرائيل ولم نكلف أنفسنا عناء المطالبة بالسماح لنا بالدخول إلى غزة. تحدثنا إلى إسرائيل التي لم تقدم لنا أي دليل، ومع ذلك أفادت بأن المغتصبين وقاتلي الأطفال هاجموا حليفا للولايات المتحدة".

وتابع "لكنني صحافي، أنا وسيط للمعلومات، ومن واجبي البحث عن المعلومات والخبرة ووجهة النظر من الخبراء والشهود والروايات المباشرة لأي موضوع، وتوصيل ذلك إلى جمهور كبير دون السماح لمنظوري وتأثيري بتلويث هذه المعلومات. لكنني هنا اليوم جئت لأخبرك أن الموضوعية في ما يتعلق بالصحافة هي قشرة مما كانت عليه ذات يوم".

وأفصح صموئيل في رسالته عن طبيعة الاستنتاج الذي خلص إليه وملخصه أن "الصحافيين الذين سبقوه، والذين لم يكن لديهم أي تفانٍ في سبيل الحقيقة، هم الذين سمحوا لسياسيين من مختلف أنحاء العالم، ممن يفتقرون إلى الإيمان والشجاعة والصدق، بتشويه الحقيقة وإخفائها".

ما توصل إليه صموئيل مينا عبر تجربته الشخصية بعد عام من حرب غزة عن انحياز الصحافة الأميركية وتبنيها الرواية الإسرائيلية، كان قد كشفه موقع "إنترسبت" (Intercept) قبل انقضاء شهر الحرب الثاني. ففي دراسة أعدها آدم جونسون وعثمان علي ونشرت في 9 يناير/كانون الثاني 2024 أثبتت وبالأرقام تحيزا ثابتا للصحف الأميركية الثلاث الكبرى (نيويورك تايمز وواشنطن بوست ولوس أنجلوس تايمز) ضد الفلسطينيين خلال تغطياتها لوقائع الحرب على قطاع غزة.

خلل كبير

وجمع الباحثان أكثر من ألف مقال من نيويورك تايمز وواشنطن بوست ولوس أنجلوس تايمز حول حرب إسرائيل على غزة، ثم حصرا استخدامات بعض المصطلحات الرئيسية فيها، والسياق الذي استخدمت فيه، لتكشف إحصاءاتهما عن خلل كبير في طريقة تغطية أمور الإسرائيليين والشخصيات المؤيدة لإسرائيل مقابل الأصوات الفلسطينية والمؤيدة للفلسطينيين، مع استخدامات تفضل الروايات الإسرائيلية على الروايات الفلسطينية.

نيويورك تايمز
اختار الباحثان ألف مقال نشرت في ثلاث صحف رئيسية بينها نيويورك تايمز (الجزيرة)

وبيّن الإحصاء الذي شمل الصحف الثلاث أن كلمات "إسرائيلي" أو "إسرائيل" تتردد أكثر من كلمة "فلسطيني" أو أي صيغ مختلفة منها، رغم أن الوفيات الفلسطينية فاقت الوفيات الإسرائيلية بكثير. فمقابل كل قتيلين فلسطينيين، يتم ذكر الفلسطينيين مرة واحدة. ومقابل كل وفاة إسرائيلية، يتم ذكر الإسرائيليين 8 مرات، أو بمعدل 16 مرة أكثر لكل وفاة من الفلسطينيين.

وتم كذلك استخدام مصطلح "مذبحة" من قبل المحررين والمراسلين لوصف مقتل الإسرائيليين قياسا بالفلسطينيين بنسبة 60 إلى 1، وتم استخدام كلمة "ذبح" لوصف مقتل الإسرائيليين مقابل الفلسطينيين بنسبة 125 إلى 2. وتم استخدام كلمة "مروعة" 36 مرة لوصف قتل الإسرائيليين مقابل 4 مرات للفلسطينيين.

ضغوط وتلاعب في تغطيات "بي بي سي" و"سي إن إن"

Samuel Mina jr الصحفي الذي أحرق يده أمام البيت الأبض في 5 أكتوبر
Samuel Mina jr الصحفي الذي أحرق يده أمام البيت الأبض في 5 أكتوبر
مينا يصيح أمام البيت الأبيض (مواقع التواصل الاجتماعي)
مينا يصيح أمام البيت الأبيض (مواقع التواصل الاجتماعي)

ولاحظ الباحثان أن عمليات القتل التي ترتكبها إسرائيل في غزة لا تحظى بتغطية متناسبة سواء من حيث النطاق أو الوزن العاطفي، مقارنة بمقتل الإسرائيليين في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. ويتم كذلك تقديم عمليات قتل الفلسطينيين في الأغلب كأرقام مجردة مرتفعة بشكل تعسفي. ولا يتم وصف عمليات القتل باستخدام لغة عاطفية مثل "مذبحة" أو "مروعة".

في حين يتم تصوير عمليات قتل المدنيين الإسرائيليين على نحو ثابت كجزء من إستراتيجية حماس، في حين يتم تغطية عمليات قتل المدنيين الفلسطينيين كما لو كانت سلسلة من الأخطاء التي ارتكبت لمرة واحدة، والتي ارتكبت في الواقع آلاف المرات، على الرغم من وجود أدلة عديدة تشير إلى نية إسرائيل المسبقة بإيذاء المدنيين والبنية التحتية المدنية.

هوة

وخلص الباحثان في الدراسة إلى أن الصحف الثلاث الكبرى نادرا ما راعت الأبعاد الإنسانية في تغطياتها للفلسطينيين. وعلى الرغم من هذا التناقض، تظهر استطلاعات الرأي تحولا في أوساط الديمقراطيين باتجاه مزيد من التعاطف مع الفلسطينيين والابتعاد عن إسرائيل.

هذا إلى جانب اتساع الهوة بين الأجيال، والمتأتية جزئيا من الاختلاف في مصادر المعلومات الإخبارية. إذ يحصل الشباب على معلوماتهم عن الحرب بوجه عام من "تيك توك" (TikTok) و"يوتيوب" (YouTube) و"إنستغرام" (Instagram) و"إكس" (X)، في حين يحصل الأميركيون الأكبر سنا على أخبارهم من وسائل الإعلام المطبوعة والفضائيات.

واقعة روبرتسون-هاغاري كشفت انحياز "سي إن إن" (الفرنسية)

ما خلص إليه الصحفيان آدم جونسون وعثمان علي في دراستهما المنشورة في 9 يناير/كانون الثاني الجاري حول السياسات التحريرية للصحف الأميركية الرئيسية الثلاث، أكد 10 صحفيين غربيين حصوله في تغطيات "سي إن إن" (CNN) الأميركية الإخبارية ونظيرتها البريطانية "بي بي سي" (BBC). وثق هذه الاعترافات برنامج "ليسننغ بوست" (The Listening Post) الأسبوعي الذي بثته الجزيرة الإنجليزية بذكرى مرور العام الأول على حرب غزة.

وأجمع الصحفيون الذين كلفوا بتغطية الحرب على وجود معايير مزدوجة ومنهجية في القناتين، مشيرين إلى أن المحررين الكبار كانوا يتدخلون في صياغة التقارير للتقليل من شأن الفظاعات التي ترتكبها إسرائيل والتي من شأنها تعريضها للملاحقة القانونية.

وأشير في سياق الحديث إلى واقعة مرافقة نيك روبرتسون المحرر الدبلوماسي في شبكة "سي إن إن" في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي للمتحدث العسكري الإسرائيلي دانيال هاغاري إلى مستشفى الرنتيسي للأطفال بعد قصفه لعرض ما زعم أنه إثبات على استخدام حماس المستشفى لإخفاء الأسرى الإسرائيليين. وعرض هاغاري قائمة مكتوبة بالعربية مثبتة على مدخل قسم الاستقبال باعتبارها قائمة بأسماء أعضاء حماس الذين يراقبون الأسرى، وهو ما عرضه روبرتسون دون تعليق.

وبعد افتضاح الأكذوبة على وسائل التواصل الاجتماعي، واتضاح أن القائمة هي لجدول مناوبة أسبوعي للعاملين، وأنه لا دليل على احتجاز أسرى داخل المستشفى، تم تنبيه روبرتسون من قبل أحد محرري "سي إن إن"، لكنه رفض تصديق الواقعة وتصويبها قبل إعادة نشر التقرير على موقع الشبكة.

وقال الصحفي آدم الذي أورد الواقعة "إذا كنت تثق في الحكومة الإسرائيلية أكثر من زملائك، فأنت بحاجة للضرب على ظاهر يدك، لأن تقاريرك منحت الغطاء للعملية الإسرائيلية". وأضاف أنه عندما صدر عن وزارة الصحة في غزة أن حصيلة القتلى تجاوزت 40 ألفا، تردد أن مدير تحرير "سي إن إن" مايك ماكارثي أصدر توجيهات لفريقه تنص على "عرض الأمر في سياق يتيح محاسبة حماس.. وهو ما ظهر في النشرات التالية".

الانحياز التحريري

وعن انعدام التوازن في المقابلات المرشحة للبث على شاشة "بي بي سي"، تحدثت للجزيرة سارة التي استقالت من العمل في القناة الإنجليزية مؤكدة "وجود نوع من العناد لدى المحررين التنفيذيين لأخذ مسألة الانحياز التحريري في الاعتبار". وأضافت "غالبية الضيوف من الطرف الفلسطيني هم من كان يتم فحصهم مسبقا ويتم إبلاغهم بعدم ضرورة استخدام عبارة صهيوني". وزادت "لم يكن هنالك توازن قط في تغطية الحدث الجاري. المتحدثون الإسرائيليون الذين يظهرون عندنا كانت تترك لهم حرية قول ما يشاؤون مع استثناءات لا تذكر".

منتجو الحوارات في "بي بي سي" يطلبون من ضيوفهم الفلسطينيين عدم استخدام عبارة "صهيونية" (رويترز)

في أوروبا الشرقية أيضا سجل مراقب فلسطيني يتابع ما يرد في الإعلام البلغاري واقعة مماثلة عن عدم الاكتراث بدقة المعلومات بشأن ما تم يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 بعد مرور عام على الهجوم. فأشار على مدونته على فيسبوك إلى أن محرر النشرة الإخبارية الرئيسية في التلفزيون الرسمي "بي إن تي في" (БНТ) ذكر في تقريره مساء 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024 أن حماس استخدمت الدبابات في هجومها على المستوطنات بينما كانت اللقطة الظاهرة على الشاشة تعرض دبابة إسرائيلية تشتعل فيها النيران.

رأي حقوقي

وكان مسؤول حقوق الإنسان في الأمم المتحدة كريغ مخيبر، الذي استقال العام الماضي بسبب رد المنظمة المتهاونة في الحرب الإسرائيلية على غزة، قد قال في وقت سابق للجزيرة الإنجليزية إن وسائل الإعلام الغربية "أصبحت في الواقع جزءا من آلية الإبادة الجماعية" في وقت كانت فيه الحكومات الغربية بدورها "متواطئة".

المؤكد بالمقابل أن مبادرات صموئيل وقبله بوشنيل أو مخيبر لن تبقى أصواتا بلا أصداء، رغم انحيازات وسائل الإعلام والحكومات الغربية. فقد سجل الصحفي الأميركي الشاب يقينه بهذا الصدد مستندا إلى قناعته بقدرة رموز السياسة والإعلام في أميركا وفلسطين على إسماع أصواتهم في كل الظروف.

وأشار إلى ذلك في ختام رسالته قائلا "لدى جو بايدن صوت، وكامالا هاريس صوت، ودونالد ترامب صوت، وشيرين أبو عاقلة صوت، وآرون بوشنيل صوت، ولا يزال لفلسطين صوت، ولدي صوت أيضا، ويسعى صوتي إلى الحقيقة، وسواء كان ذلك للخير أو للشر، فإن صوتي هو الخطاب الذي لا يمكن إسكاته".

المصدر : الجزيرة