"الأطراف المعنية لم تكن تريد فعلها عبر وزارات الخارجية، لأنها أرادت هامشا يتيح إنكار كل شيء إذا اقتضى الأمر، لهذا طرت في ديسمبر/كانون الأول 1992 إلى تونس، والتقيت عرفات". هكذا قال الوسيط النرويجي تيري رود لارسن للجزيرة في شريطها الوثائقي "ثمن أوسلو" معرّفا بالبدايات الجنينية لقناة "أوسلو" السرية التي رعتها وزارة خارجية بلاده، والتي قيض لها أن تصدم العالم المنشغل وقتها بالمفاوضات المتعددة، وتفتح باب تسوية ما زالت مجهولة المآل، رغم مرور 3 عقود على توقيعها.
المهم في اعترافات لارسن أنه لم يكن في ديسمبر/كانون الأول 1992 وسيطا في لقائه بعرفات، بل مديرا لمركز فافو البحثي الممول من اتحاد النقابات العمالية، وحزب العمال النرويجي الحاكم. وليتبين أيضا من خلال الاعترافات المماثلة له، ولدبلوماسيين وباحثين نرويجيين أن "فافو" وباحثيه الذين كانوا قد زاروا قطاع غزة لإجراء دراسات للأوضاع المعيشية في الأراضي الفلسطينية، كانوا في الواقع الواجهة التي استخدمتها وزارة الخارجية النرويجية، لإنشاء ما عرف لاحقا بـ"قناة أوسلو".
يكشف الشريط أيضا أن وزير خارجية النرويج ثورفالد ستولتنبرغ زار ياسر عرفات في مكتبه في تونس عام 1989 في أول لقاء رسمي لهما، بعد إعلان الأخير في مؤتمر صحفي شهير بجنيف في 14 ديسمبر/ كانون الأول "نبذ الإرهاب"، وأن ستولتنبرغ وعرفات اتفقا دون إعلان ذلك على إنشاء قناة سرية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.
يقول الدبلوماسي النرويجي هانس لونغفا إن استخدام مركز أبحاث نرويجي غطاء للتواصل بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، كانت فكرة ياسر عرفات، وإن وزارة الخارجية النرويجية هي التي مولت هذا المركز "وهو أمر مثبت بالوثائق".
بالمقابل كانت في تل أبيب مؤسسة بحثية مماثلة، شكلت بدورها غطاء للاتصالات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. هي "مؤسسة التعاون الاقتصادي" التي أسسها النائب في حزب العمل ونائب وزير الخارجية يوسي بيلين، وضمت الباحثين يائير هرشفيلد ورون بونداك.
وكان الأخيران يقيمان علاقات مع الشخصيات الفلسطينية في القدس الشرقية، ويتبادلان الأفكار وينقلان الرسائل بين الأطراف بصورة غير رسمية، وتحت غطاء المنظمة غير الحكومية التي يعملان فيها -حسب تصريح بونداك نفسه- للوثائقي الذي أنتجته الجزيرة عام 2013.
البدايات
يستذكر أحمد قريع ممثل الجانب الفلسطيني في القناة السرية بداياتها في الجزء الأول من رباعية توثيقية صدرت في بيروت عنوانها "الرواية الفلسطينية الكاملة للمفاوضات" قائلا: "أذكر أن أول مفاتحة لي بهذا الشأن أتت عبر واسطة من جانب المرحوم فيصل الحسيني(...)، إذ بلغني أن اثنين من الأكاديميين الإسرائيليين ينتميان إلى معسكر السلام، ومعروفين بتأييدهما الحوار الفلسطيني الإسرائيلي، وبدفاعهما عن الحقوق المشروعة لشعبنا يرغبان بالاتصال بي شخصيا، علما بأنني لم أكن من مجموعة الاتصال بالإسرائيليين، التي كان يديرها أبو مازن ويدعمها بقوة الأخ أبو عمار والأخ الشهيد أبو جهاد" (ص47).
بدوره، يتطرق محمود عباس (أبو مازن) الذي كان مسؤولا وقتها عن ملف المفاوضات في منظمة التحرير الفلسطينية في كتابه "طريق أوسلو" إلى تلك البدايات قائلا: "في أوائل ديسمبر/ كانون الأول 1992 بدأت قناة أوسلو عملها الأولي. وعولنا على هذه القناة، رغم أنها بدأت بشكل متواضع، وأخذت طابعا غير رسمي على الأقل من الناحية الإسرائيلية، إلا أننا رأينا فيها بارقة أمل، لا يمكننا أن نفرط بها أو نشوش عليها" (ص 67).
مهدت هذه التقديرات، لوصول كل من أحمد قريع وحسن عصفور وماهر الكرد إلى مطار فورنيو الواقع في ضواحي مدينة أوسلو، في ساعة متأخرة من 20 يناير/كانون الثاني 1993 (ص 64)، حيث كان في استقبالهم لارسن نفسه. ليبدأ بعدها وعلى مدى 8 أشهر وبرعاية غير مباشرة لوزارة الخارجية النرويجية، مسلسل من المفاوضات السرية مع مندوبين إسرائيليين، كانت صفاتهم تتغير حسب مقتضيات التفاوض.
عقدت الجولات الأربع الأولى على مدى 4 أشهر، في قصور وفنادق متفرقة داخل النرويج حفاظا على سريتها المفرطة، بمعدل يومين لكل جلسة تفاوض. كانت المفاوضات وقتها تقتصر على الفلسطينيين الثلاثة والباحثَين الإسرائيليين يائير هرشفيلد ورون بونداك الذين كانوا يعودون إلى رعاتهم في تل أبيب وتونس بعد كل جولة حاملين التقارير والانطباعات والتقديرات.
وقبيل افتتاح الجولة الخامسة في 28 مايو/أيار 1993 أبلغ لارسن ضيفه الفلسطيني أن إسرائيل قررت "أن تبعث شخصية رسمية إلى مفاوضات الجولة المقبلة، تلبية لطلبكم الذي لم تتوقف عن طرحه" (ص 143)، ملمحا بذلك إلى المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلية أوري سافير. يقول قريع واصفا الجلسة الجديدة والمتحدث "أخرج ورقة مكتوبة ليبدأ بها الجولة الخامسة متحدثا بلغة إنجليزية سليمة، استهلها بالإعراب عن ارتياحه للتحاور معنا وجها لوجه، ثم شكرنا جميعا على ما بذلناه من جهد سابق". (ص 147).
المحامي الكولونيل
غير أن الجولة السادسة التي بدأت في 13 يونيو/حزيران 1993 لم تخل بدورها من قادم جديد. يقول قريع في وصفه في فصل حمل عنوان "القادم الجديد المحامي-الكولونيل" ما نصه: "وجدنا في قلب سلتنا التفاوضية ذاتها سمكة كبيرة، لا تقل وزنا عن سابقتها، غير أنها كانت نوعا مختلفا بكل تأكيد، تنتمي إلى ذلك الصنف من الأسماك الإسرائيلية ذائعة الصيت بحذرها الغريزي وقلقها المفرط ودهائها الشديد، ناهيك عن حدة أشواكها وصلادة فقراتها العظمية. فقد انضم إلى هذه الجولة المحامي الإسرائيلي يوئيل سينغر الذي كان قد تولى لتوه منصب مستشار قانوني في وزارة الخارجية، بناء على توصية من يوسي بيلين، واعتماد من شمعون بيريز، وتزكية مباشرة من إسحاق رابين" (ص 160).
تسارعت جولات التفاوض بعد انضمام سينغر العسكري السابق ومندوب رابين إليها، واقتصار الجولة السابعة التي عقدت في مقر "فافو" في أوسلو في 27 يونيو/حزيران 1993 عليه كمفاوض من الطرف الإسرائيلي. يقول قريع: "لم يمض سوى أسبوع حتى عدنا مجددا للقاء في أوسلو يوم السادس من يوليو/تموز 1993 فقد حضر هذه المرة أوري سافير ويوئيل سينغر، الأمر الذي يشير إلى ارتفاع وتيرة هذه الجولات التي كان يفصل بينها نحو شهر في السابق، إذ بات يفصل بين الجولة والجولة الأخرى في هذه الآونة نحو أسبوع واحد". (ص 186).
توالت جولات التفاوض بعدها خلال شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب، حيث شهد يوليو/تموز 3 جلسات عرض المفاوضون الإسرائيليون خلالها وثيقة إعلان المبادئ. تلتها جولة ثانية استغرقت يومين. يقول قريع في شأنها: "في 24 من الشهر ذاته عقدنا جولة ثالثة، بدأ الطرفان خلالها وكأنهما يخوضان معركة تفاوضية، أشبه ما تكون بحرب، أسلحتها الوثائق والوثائق المضادة". (ص 213).
عدم تكافؤ
يقر محمود عباس هنا بوجود عدم تكافؤ بين المتفاوضين، فيقول في فصل يحمل عنوان "الجولة العاشرة": "كنا نفاوض وفدا متمرسا متمكنا وصاحب تجربة طويلة في المفاوضات مع أطراف أخرى، وبخاصة مع المصريين، وبالإضافة إلى أنه يستند إلى أطقم كثيرة متخصصة قادرة على أن تزوده بكل المعلومات والتحليلات والأفكار والبدائل. بينما وفدنا لا يملك هذه التجربة وليس لدينا الإمكانات المتوفرة للإسرائيليين، وإن توفرت فلا نستطيع الاستفادة منها بشكل مباشر، لأننا فرضنا على هذه المفاوضات نطاقا من السرية والكتمان، حال دون استفادتنا من كل الطاقات الموجودة لدينا. (ص 241- 242)
في المقابل استفاض قريع في شرح الحائط المسدود الذي وصلت إليه المفاوضات والتي لم يخرجها منه سوى اقتراح سافير ما عرف بـ"صفقة الاعتراف المتبادل". ويقول في هذا الصدد "الحقيقة أنني وجدت في صفقة الاعتراف المتبادل، رغم موقفي المعروف منها، ما يحول دون توقف هذه القناة التي قضينا فيها كثيرا من الوقت، وصرفنا من خلالها كثيرا من الجهد" (ص 219).
لم يُحلّ هذا الاستعصاء -الذي تلخص بعد الجولة الـ11 في خلاف على 10 نقاط- إلا في انتقال المفاوضات إلى صناع القرار. يصف محمود عباس المفاوضات الهاتفية التي انخرط فيها وزيرا خارجية النرويج وإسرائيل ستولتنبرغ وشمعون بيريز أثناء وجودهما في العاصمة السويدية أستوكهولم، ولمدة 7 ساعات كان فيها على الطرف الثاني ياسر عرفات ومحمود عباس وياسر عبد ربه وأحمد قريع وحسن عصفور والقيادي اليساري اللبناني محسن إبراهيم. وكان على الخط بدوره من تل أبيب رئيس الحكومة الإسرائيلية إسحاق رابين.
يقول عباس "بدأ الحديث عن النقاط الساخنة والتعديلات المطلوبة عليها وآراء كل طرف فيها. وبعد أكثر من 10 مكالمات استقر الرأي على إزالة كل الخلافات" (ص 261). وأوعز الطرفان للمفاوضين بتوقيع الاتفاق في أوسلو في 19 أغسطس/آب 1993 بالأحرف الأولى، بذات الأجواء السرية التي سادت منذ يناير/كانون الثاني 1993، وكان أبرز الحاضرين شمعون بيريز ذاته.
تساءل عباس في الفصل الـ11 من كتابه: "هل حافظنا على أسرار أوسلو؟"، ليجيب بنفسه قائلا: "عندما بدأت المفاوضات (...) اقترح الوفد الإسرائيلي أن يبلغ الحكومة الأميركية والحكومة المصرية، وعندما أبلغنا الوفد الفلسطيني بهذا الاقتراح، وافقنا عليه شريطة أن يبلغ الإسرائيليون الحكومة الأميركية، ونحن نقوم بإبلاغ الحكومة المصرية. وبالفعل قام شمعون بيريز بإبلاغ وارن كريستوفر ودان كيرتز من الإدارة الأميركية، إلا أن هذين الرجلين لم يأخذا الأمر جديا، واكتفيا بأخذ العلم دون أن يعطيا هذه المسألة أهمية أو اهتماما يذكر.
أما بالنسبة لنا -يضيف عباس- فقد استمر الاتصال بعمرو موسى وأسامة الباز نطلعهما أولا بأول على تفاصيل المفاوضات، وقد حرص الاثنان على أن يحصرا هذا السر بينهما، وبطبيعة الحال كانا يبلغان الرئيس مبارك بموجز ما يجري، إلا أن أحدا آخر من الإدارة المصرية لن يتسرب إليه خبر هذا الموضوع ضمانا لسريته" (ص275).
الحسن والحسين
ويتحدث عباس عن إبلاغ ملك المغرب الحسن الثاني عبر سفير المغرب في تونس، ثم مدير المخابرات اللواء القادري بأمر "قناة أوسلو" وحصوله على مباركته لها. وكذلك إبلاغ المضيفين التونسيين بشخص كاتب الدولة للشؤون الخارجية محمد بن مصطفى، لكنه يقر بأن القيادة الفلسطينية لم تبلغ الملك حسين شريكها في المفاوضات المتعددة منذ انطلاق مؤتمر مدريد، ويقول في هذا الصدد:
"كنا بعد مضي أشهر على بدء أوسلو نشعر بحرج شديد لأننا لم نبلغ الأردن، وبالذات جلالة الملك حسين شخصيا، لأن الأردن شريكنا في المفاوضات وهو الذي أعطانا الغطاء القانوني للوصول إلى مدريد، وهو الذي ساعدنا في مفاوضات الكوريدور في أول جلسات واشنطن حتى نفصل المسار الأردني عن المسار الفلسطيني، وهو الذي نتحدث باستمرار عن الدخول معه في كنفدرالية. وزد على ذلك أن العلاقات بين الشعبين الأردني والفلسطيني علاقات متميزة. هذه الأسباب تجعلنا غير قادرين أبدا على مواجهة نتائج غضب الملك حسين لو توصلنا إلى اتفاق مع الإسرائيليين وفوجئ بالاتفاق. ولذا اقترحنا على أبو عمار عندما يلتقيه في أبريل/نيسان أن يبوح له بالأمر، ويبلغه بأنه سيضعه بالصورة عندما نصل إلى نتيجة. ولما عاد أبو عمار من عمان أفهمنا أنه وضع الملك بالصورة وأنه راض عن هذا المسار. إلا أني أعرف أبو عمار عندما يريد أن يقول شيئا ولا يريد قوله، إذ تكون النتيجة أن المستمع لن يفهم منه شيئا. ولذا رغبت أن أسافر إلى الأردن لأشرح للملك ما حصل بشيء من التفصيل. إلا أني لسوء حظي عدت من هناك ولم أبلغ أحدا. وذهبت مرة أخرى وقابلته ولكن لم يكن وحده كما لم أكن وحدي، ومن غير اللائق أن أطلب الانفراد به لأحدثه في الأمر حتى لا أثير ريبة الحاضرين وشكوكهم وتساؤلاتهم فعدت إلى تونس. وفي محاولة ثالثة كانت النتيجة نفسها حيث كان قد غادر عمان، فانفردت بصديق مشترك ومقرب من الملك حسين هو الدكتور أشرف الكردي، وقلت له أرجو أن تبلغ جلالة الملك بأني حضرت إلى عمان 3 مرات لأتحدث معه بأمر خطير يتعلق بالمفاوضات ومن سوء حظي لم أتمكن من ذلك، وآمل أن أنجح في المرة الرابعة".
لم تأت المرة الرابعة -حسب نص كتاب "طريق أوسلو"- لأن الوقت قد فات وحصل التوقيع على أوسلو ونشر الخبر في الصحافة الإسرائيلية وغضب الحسين غضبا شديدا، لأننا أخفينا عليه الأمر من بدايته إلى نهايته، ولا أدري إن تقبل حججي وأعذاري أو لم يتقبلها، إلا أني أقول إن له الحق في أن يعتب" (ص 277-278).
إذا كانت مقتضيات سرية مفاوضات أوسلو دفعت القيادة الفلسطينية لإخفاء أمرها "حتى عن قيادي في فتح من وزن نبيل شعث" حسب شهادة محمود عباس في الصفحة 109 من كتابه، فإن ردود الفعل المصاحبة لحقبة تطبيق الاتفاق، وخصوصا مجزرة الحرم الإبراهيمي في 25 فبراير/شباط 1994 وردود الفعل عليها، كانت وراء دفع المسؤولين الإسرائيليين والفلسطينيين مجددا للعودة للتفاوض سرا على تفاصيل إعادة الانتشار الإسرائيلي في الضفة الغربية.
يقول قريع "على إثر التسوية غير الشعبية لقضية الخليل التي استغرقت كثيرا من الوقت، تم على الفور استئناف المفاوضات الثنائية برئاسة كل من نبيل شعث عن الجانب الفلسطيني وأمنون شاحاك عن الجانب الإسرائيلي فيما يتعلق باتفاق غزة أريحا في مصيف طابا في البحر الأحمر وفي العاصمة المصرية القاهرة بعد ذلك. ونظرا إلى كل التطورات السالفة الذكر، لم تتمكن هذه اللجنة التي بدأت أعمالها في 13 ديسمبر/كانون الأول 1993 من إتمام مهمتها في التاريخ المحدد لإنهائها يوم 13 أبريل/نيسان 1994" (ص 316).
قناة سرية
ويضيف قريع في موضع آخر "لم يمض وقت طويل حتى بلغني سافير الموافقة الإسرائيلية على فتح قناة سرية موازية للمحادثات العلنية الجارية في القاهرة بين صائب عريقات ويوئيل سينغر التي كانت تتعلق أساسا بالانتخابات الفلسطينية. وفعلا قام تيري رود لارسن الذي يحظى بثقة الطرفين بترتيب اجتماع بين شمعون بيريز والأخ أبو عمار جرى في مقر الرئاسة الفلسطينية في غزة يوم 21 ديسمبر/كانون الأول 1994، وجرى فيه الاتفاق على فتح هذا المسار التفاوضي السري لتبدأ بعد ذلك أعقد المراحل التفاوضية بيننا وبين الإسرائيليين". (ص 334).
ويمضي قريع قائلا إنه توافق مع سافير مجددا "على مبدأ السرية التامة باعتبارها أحد شروط النجاح المختبرة في السابق، على أن نتكتم على مسارنا هذا بالمسار العلني القائم في القاهرة بين عريقات وسينغر وبين جميل الطريفي والجنرال أورن شاحور منسق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة" (ص 335).
وعن رعاة القناة التفاوضية الجديدة وطواقمها والأماكن التي ضمتهم يقول قريع "بدأت هذه القناة التفاوضية المدعومة من كل من ياسر عرفات ورئيس الحكومة إسحاق رابين تتنقل بين فنادق في بادئ الأمر، فندق الملك داود وفندق حياة وفندق موريه في القدس، إلى أن انتقلنا بها إلى فندق ياميت الواقع على كورنيش تل أبيب العريض حيث كان وفدنا يدخل الفندق من الباب الخلفي تحت اسم وفد عربي من الخليج. وكان يشاركني في الوفد كل من اللواء عبد الرزاق اليحيى وحسن عصفور وحسن أبو لبدة الذي كان يرأس حينها مكتب الإحصاء الفلسطيني" (ص 335).
3 جنرالات
أما من الجانب الإسرائيلي فقد انضم إلى جانب سافير كل من الجنرال عوزي ديان والجنرال غادي زوهر ويوئل سينغر. ومنذ الرابع من يناير/كانون الثاني 1995 بدأت هذه المفاوضات التي كان بعض جولاتها يستغرق أسبوعا كاملا من دون أن تعلم الصحافة بها. وكنت وقتها على اتصال مباشر بالأخ أبو عمار في غزة بينما كنت أقوم بزيارات متفرقة إلى تونس لإطلاع الأخ أبو مازن وأبو ماهر على مجريات هذه القناة السرية الجديدة (ص 335-336).
تطرقت المفاوضات إلى تقسيم الضفة الغربية إلى 3 مناطق (أ، ب، ج) وتم الاتفاق على الانسحاب العسكري الإسرائيلي من المناطق الآهلة بالسكان عشية الانتخابات الفلسطينية، على أن يليه انسحابات من مناطق أخرى. وطال النقاش حول تلك الانسحابات. ثم انتقل المتفاوضون في مرحلة تالية إلى إيطاليا في منطقة تورينو الواقعة في أقصى الشمال الإيطالي حيث عقدوا جولتي مفاوضات سرية في أحد القصور الريفية (...) الذي وفرته وزيرة الخارجية آنذاك السيدة سوزانا أنييلي(...)" ص (337-338).
تنازلات وتوعك
تحدث قريع في كتابه عن تنازلات لم يحددها فرض عرفات على المفاوضين التزامها. وعن أزمة صحية ألمت به جراء الضغوط النفسية نقل على إثرها إلى مستشفى في إيلات. واختتمت تلك المفاوضات بتوقيع اتفاقية جديدة في طابا بالأحرف الأولى في 24 سبتمبر/أيلول 1995 ثم بعد 4 أيام، أي في 28 سبتمبر/أيلول 1995 وقعت رسميا في واشنطن من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات وبشهادة الرئيس الأميركي بيل كلينتون وممثلين عن روسيا ومصر والأردن والنرويج والاتحاد الأوروبي في واشنطن العاصمة.
عن حفل التوقيع في طابا كتب قريع "جلست أنا وسافير يحيط بنا من الجانبين كل من الأخ أبو عمار وشمعون بيريز في اليوم المحدد من قبل أمام عدسات المصورين ووقعنا بالأحرف الأولى مرة أخرى اتفاقا مكونا من 410 صفحات سمي فيما بعد اتفاقية "أوسلو ب" أو "أوسلو الثانية". وكان يلحق بهذه الاتفاقية 8 خرائط متداخلة الألوان وشديدة التعقيد صعبة الفهم على غير الخبراء، وكأنها بذلك تحكي الواقع وتحاكي وضعا لا يقل تعقيدا وصعوبة" (ص 361).
"انتهى دور قريع في هذه المرحلة" (ص 363) كما أقر في ختام كتابه الأول. لكنه عاد بعد سنتين مع تبدل المشهد السياسي في إسرائيل بعد اغتيال إسحاق رابين في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1995 على يد اليميني اليهودي إيغال عمير، ثم صعود صقور الليكود إلى السلطة بعد فوزهم بانتخابات مايو/أيار 1996 وفوز بنيامين نتنياهو بمنصب رئيس الوزراء في الاقتراع المباشر لأول مرة في تاريخ إسرائيل.
النافذة
يقول قريع في الجزء الثاني من "الرواية الفلسطينية الكاملة.. مفاوضات كامب ديفيد (طابا وستوكهولم) 1995-2000": "توافقت القيادة الفلسطينية عبر حوارات داخلية على ضرورة تجنب إغلاق نافذة الفرص النهائية، أيا تكن درجة انفتاح هذه النافذة، التي لا شك في أنها ضيقة وصغيرة إلى أبعد الحدود. ومرة أخرى ألقت القيادة على عاتقي مهمة إقامة جسر تواصل مع رئيس الحكومة الإسرائيلية الممعن في مواقفه المتقلبة وغير العملية تجاه السلطة الفلسطينية وعملية السلام بمختلف جوانبها. ولم تكن مهمتي هذه سهلة، إلا إنها لم تكن مستحيلة على أي حال. لذلك اخترت أن أبدأ هذه المرحلة من نقطة تسبق نقطة اللقاء المباشر مع بنيامين نتنياهو نفسه، وقد بدا لي المحامي إسحاق مولخو صديق نتنياهو الشخصي والمقرب منه جدا بمثابة جسر آمن للاتصال برئيس الحكومة الإسرائيلية. خصوصا أنني كنت أعرف أن مولخو الذي سبق أن التقيته هو موضع سر نتنياهو ومحل ثقته" (ص55).
و"عبر جسر الاتصال الآمن الذي أقامه إسحاق مولخو لقريع -يضيف المسؤول الفلسطيني- كان أول لقاء لي ثنائي ومباشر مع بنيامين نتنياهو في بيت رئيس الحكومة الدائم الواقع في القدس الغربية. وكان ذلك في العاشر من أغسطس/آب 1998 بحضور كل من مولخو ووزير الدفاع إسحاق موردخاي. ثم جرى لقاء ثان في اليوم التالي. أعقبه لقاء ثالث في 15 من الشهر نفسه، ولقاء رابع في 27 سبتمبر/أيلول، أما اللقاء الخامس فقد جرى يوم في 30 من الشهر ذاته، تلاه لقاء سادس يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول 1998. وتوقفت هذه اللقاءات المتتابعة في مدى زمني قصير حتى مطلع السنة التالية، فكان اللقاء السابع والأخير مع نتنياهو في الثاني من مارس/آذار 1999.
زيوريخ
وعن راعيي اللقاءات ومكان انعقادها وحصيلتها يمضي قريع قائلا "كلها في القدس باستثناء لقاء واحد جرى في زيورخ. بحضور مولخو وتيري رود لارسن، وكان آخر لقاءات مع رئيس الحكومة الإسرائيلية في منتصف ولايته التي دامت نحو 3 أعوام، حين اتضح لي أن نتنياهو المتخبط بفعل شتى الضغوط التي تهب عليه من كل حدب وصوب، من داخل حزبه ومن خارجه هو نتنياهو الأيديولوجي الذي لم يبدل من قناعاته السياسية" (ص 56).
أما مواضيع التفاوض السري مع نتنياهو فيختصرها قريع بجملة واحدة: "لقد دارت جميعها حول القضايا المثارة في تلك الفترة لتنفيذ الاتفاقات المبرمة، واستكمال عملية الانسحاب وإعادة الانتشار، والتحضير لمفاوضات الوضع الدائم (...)". ويمضي في ختام تناوله تلك اللقاءات إلى القول "إن بنيامين نتنياهو الاستعراضي المتغطرس أمام عدسات المصورين والميكروفونات، هو غيره في اللقاءات الثنائية المغلقة التي كان يبدو فيها رجلا مجاملا وودودا (...) هكذا كان في أول لقاء له مع الأخ أبو عمار وفي غيره من اللقاءات اللاحقة" (ص 59).
في رهاناتها على فعالية القنوات السرية لم تستثن القيادة الفلسطينية الجنرال أرئيل شارون الأكثر تشددا وقتها في حزب الليكود اليميني. وبذلت أول محاولة في هذا الصدد من قبل محمود عباس بعدما أوكلت لشارون حقيبة الخارجية بدلا من البنية التحتية في حكومة نتنياهو الأولى (1996-1999).
اختراق الزعامة
عن هذا اللقاء يقول قريع "على خلفية الإدراك العميق لصعوبات المرحلة والرغبة الشديدة في إحداث اختراق لعملية السلام، واختراق مماثل داخل الزعامة الإسرائيلية قررت القيادة الفلسطينية فتح خط اتصال مباشر بأرئيل شارون. وكان أول من التقى هذه الشخصية التي ترتبط في الأذهان الفلسطينية بأبشع الصور وأشد الذكريات ألما هو الأخ محمود عباس (أبو مازن) الذي عقد أول اجتماع له مع شارون في مزرعة الأخير في النقب وسط إجراءات سرية، سرعان ما كشفت عنها الصحافة الإسرائيلية، وذلك كله لجس النبض". (ص 66-67).
بعد كسر عباس للحاجز النفسي مع شارون الذي وصفه قريع بأنه "الأب الروحي للمستوطنين" (ص 67)، يقر قريع بأن القيادة الفلسطينية أحالت له ملف الاتصال أخيرا، فعقد أول لقاء له معه للتعارف في فندق الملك داود في القدس في 15 فبراير/ شباط 1998.
ويقول قريع في موضع آخر إنه اتصل هاتفيا بشارون لتهنئته بمنصب وزير الخارجية صيف عام 1998، بالنظر إلى زيادة وزنه وأهميته مما جعل منه "شخصية مركزية أكثر من ذي قبل في تقرير مصير أي مفاوضات مرتقبة في المستقبل" (ص 85). ويضيف أنه اتفق مع شارون خلال المكالمة على عقد لقاء تم "في مساء 13 أكتوبر/تشرين الأول 1998 في فندق لاروم في مدينة القدس قبل أيام معدودة من التوجه إلى الولايات المتحدة لحضور القمة المقررة في واي بلانتيشن". (ص 85).
أما الاجتماع الثالث بين قريع وشارون فتم بعد توقيع اتفاق واي ريفر في أكتوبر/ تشرين الأول 1998 بترتيب مسبق من "مجلي وهبة العضو العربي في حزب الليكود ومساعد شارون لفتح قناة اتصال منفصلة (...) بغرض تنفيذ بنود مذكرة التفاهم التي تم التوصل إليها في 22 أكتوبر/تشرين الأول 1998".
أوراني ووهبة
يقول قريع "فعلا التقيت في 22 ديسمبر/كانون الأول المستشار السياسي لشارون تومر أوراني والسيد مجلي وهبة (...) وأوضح أنه رغم أن هناك قناة اتصال بالأخ صائب عريقات ضمن لجنة التوجيه فإنهم ينظرون إلى هذه القناة كقناة منفصلة. وأضاف أن القناة مع أبو علاء وعلى هذا المستوى هي الأهم بالنسبة إليهم". (ص 92).
أما اللقاء الأخير بين قريع وشارون فتم "يوم الجمعة الواقع في 22 يناير كانون الثاني 1999 في مزرعة هاكوشيم في النقب، أي في مزرعة أرئيل شارون للاجتماع بوزير خارجية نتنياهو في أجواء بعيدة عن الأجواء الرسمية التي صاحبت لقاءينا السابقين في كل من فندق الملك داود يوم الخامس من فبراير/شباط 1998 وفندق لاروم في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1998".
يختم قريع روايته عن القنوات السرية قائلا عن ذلك اللقاء "أحاطني صاحب المزرعة وزوجته الراحلة "للي" بكثير من الود الشخصي. (....) ورغم هذه الأجواء ذات الطابع الاجتماعي المملوء بطقوس المجاملة والانفتاح الاجتماعي، فإن شارون ظل على تشدده المعهود الذي عرفناه عنه من قبل" (ص 99).
إعداد وتحرير : محمد العلي