لم يظهر محمد الضيف سوى ثلاث مرات طوال عقدين صوتا وصورة معتمة، لا أحد يعرفه على وجه اليقين غير صفوة من رجال المقاومة الإسلامية (حماس)، ولا تعرفه إسرائيل إلا بتلك الصورة المعتمة والصوت نفسه، وهي تسعى وراءه منذ عقود، والجميع يعرفه رمز المقاومة في فلسطين الذي أطلق "طوفان الأقصى" بالحضور ذاته الذي بات كابوسا لإسرائيل.
في منتصف عام انطلاق الثورة الفلسطينية سنة 1965 ولد محمد دياب إبراهيم المصري (محمد الضيف).
جاء الرجل إلى الدنيا مع أصوات الرصاصات الأولى لتحرير فلسطين، فبات مناضلا ومقاوما، فقائدا عاما لكتائب عزالدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) منذ عام 2002.
بصورته المعتمة تلك وصوته الهادئ والواثق أعلن محمد الضيف صباح يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 انطلاق معركة "طوفان الأقصى" برا وبحرا وجوا بنحو 5 آلاف صاروخ طالت تل أبيب والقدس، تلاها اقتحام المقاومة مستوطنات وكيبوتسات وثكنات إسرائيلية وقتل وأسر أعداد كبيرة من الجنود والضباط، وكانت العملية غير مسبوقة بحجمها وتأثيراتها ونتائجها.
رجال الضيف
بالنسبة للأوساط الفلسطينية والرأي العام العربي فقد سطر محمد الضيف والمقاومة الفلسطينية ما أطلق عليها ملحمة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والتي جاءت بعد خمسة عقود من نصر أكتوبر/تشرين الأول 1973، ليكرس شهر الهزائم الإسرائيلية كما كان يونيو/حزيران شهر الهزائم العربية.
وبات "أبو خالد" علامة فارقة كقائد أركان المقاومة، ذكّر الكثيرين بالفريق أول سعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية في حرب العبور.
ورغم ظهوره النادر فإن الضيف اكتسب طوال النزالات السابقة مع إسرائيل هالة من الاحترام كقائد عسكري داخل حركة حماس وفصائل المقاومة وبين جموع الفلسطينيين، وكان هتاف "حط السيف قبال السيف، إحنا رجال محمد ضيف" أحد أكثر شعارات ترديدا في مظاهرات الفلسطينيين بالضفة والأقصى وفي الداخل الفلسطيني عام 2021، ومن شأن عملية "طوفان الأقصى" بنجاحاتها العسكرية أن تحوله إلى شخصية أيقونية.
ويصف الكاتب الإسرائيلي حاييم ليفنسون -في مقال له بصحيفة هآرتس يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول- ما حصل بالكارثة الإسرائيلية و"العار الذي لا يزول"، ويشير إلى أنه "حتى لو عثرت إسرائيل على محمد الضيف في مخبئه وقدمته للمحاكمة فلن يكون لذلك أي معنى، إذ اكتملت الخسارة مع الصفعة الأولى".
في اللاوعي الإسرائيلي يبدو العثور على ذلك الرجل الشبح الذي ينحدر من أسرة فلسطينية مهجرة من بلدة القبيبة، ونشأ في مخيم خان يونس أو تصفيته معادلا معقولا نسبيا لما حل من "كارثة" أو ربما يخفف قليلا من وقعها، لكن إسرائيل ضيعت صورته وملامحه وآثاره منذ سنوات -وقد كان سجينا لديها عام 1989 لمدة 16 شهرا دون محاكمة- وبات فقط صوتا وصورة معتمة تقض مضجعها.
القائد الشبح
تغيرت ملامح محمد الضيف التي تبدو في صورته الوحيدة المعروفة، ولا تملك المخابرات الإسرائيلية (الموساد) ولا جهاز الاستخبارات العسكرية (الشاباك) صورة واضحة عن شخصية من يسميانه "الرجل الأفعى"، فقط ثلاث صور، إحداها لظله وثانيهما مأخوذة من ملفاته القديمة حين كان شابا، وصورة أخرى وهو ملثم، لذلك هو الهاجس الأول لإسرائيل والمطلوب رقم واحد لديها.
وخلال 27 عاما فشلت محاولات اغتياله الخمس المعروفة، وتشير معلومات غير مؤكدة إلى إصابته عام 2003 إصابة مباشرة تركته مشلولا، لكن حضوره بات أبرز وأقوى.
وتبرر الموساد عجزها عن تصفيته بكونه "هدفا يتمتع بقدرة غير عادية على البقاء، ويحيط به الغموض، ولديه حرص شديد على الابتعاد عن الأنظار".
وكعادة قادة العمل السري ولأسباب أمنية لا تجد الكثير من المعلومات عن محمد الضيف، فمنذ عقود كانت التصفيات واغتيال قادة حركة المقاومة الفلسطينية وكوادرها نهجا إسرائيليا وعقيدة أمنية وسياسية، ومنذ بداية التسعينيات اُغتيل العديد من كوادر حركة حماس، بينهم الشهيد الشيخ أحمد ياسين (2004) والدكتور عبد العزيز الرنتيسي (2004) ويحيى عياش (1996) وصلاح شحادة (2002) وعماد عقل (1993) وغيرهم، ونجا محمد الضيف مرارا.
لا يستعمل الضيف الهواتف الحديثة أو الأجهزة القابلة للتتبع، وتحاط تحركاته بسرية بالغة ولا يظهر في الأماكن العامة، إذ غاب عن جنازة والدته في يناير/كانون الثاني 2011، وربما يكون قد حضر متخفيا دون أن يلفت الانتباه ليلقي النظرة الأخيرة عليها.
ويقول من عرفه خلال سنوات شبابه إنه رجل حاد الذكاء، ويتمتع بحضور قوي وحس أمني عال وقدرة كبيرة على التخفي إذا أراد، إضافة إلى ملكة التخطيط والضبط والربط واستنباط الحلول.
من النضال إلى القيادة
في سنوات شبابه كان محمد الضيف يشبه أي شخص مكافح من فلسطينيي الشتات والمخيمات، دفعه الفقر وظروفه العائلية لمغادرة مقاعد التعليم مؤقتا والعمل في مجالات عدة، ليعود لاحقا إلى الجامعة الإسلامية في غزة، حيث بات ناشطا طلابيا في التيار الإسلامي.
انتمى الضيف إلى حركة حماس عام 1987، كما كان في حياته الجامعية مولعا بالمسرح وأسس فرقة "العائدون"، ولعب أدوارا مسرحية ضمنها، وفي منتصف عام 1988حصل على درجة البكالوريوس في العلوم.
لم يكن الضيف يميل إلى الحركة المبالغ فيها أو الاستعراض، عرف بين جيرانه وزملائه الطلاب بالهدوء وحسن المعشر، كما كان يتمتع بجانب من روح الدعابة مع قدر كبير من الالتزام بالقضية وعمق التحليل، وفي عام 1989 اعتقلته إسرائيل لمدة سنة ونصف بتهمة النشاط العسكري مع حركة حماس، وكانت تجربة السجن بداية عمله العسكري الفعلي في صلب كتائب الشهيد عز الدين القسام التي كانت قد برزت على الساحة الوطنية الفلسطينية.
ففي منتصف العشرينات من عمره تقاسم الضيف الزنزانة مع عدد من منتسبي الحركة، بينهم غازي حمد عضو المكتب السياسي للحركة حاليا، والذي يماثله في العمر، ويصفه وفق صحيفة فايننشال تايمز بأنه "كان لطيفا للغاية، وكان وطنيا طوال الوقت وكان يرسم رسوما كاريكاتورية صغيرة لإضحاكنا"، مشيرا إلى أنه "منذ بداية حياته في حماس كان يركز على المسار العسكري".
حتى لو عثرت إسرائيل على محمد الضيف في مخبئه وقدمته للمحاكمة فلن يكون لذلك أي معنى، إذ اكتملت الخسارة مع الصفعة الأولى
حين انتقل من غزة إلى الضفة مع عدد من قادة كتائب القسام أشرف محمد الضيف على تأسيس فرع للقسام هناك، وبرز كقيادي إثر اغتيال عماد عقل عام 1993 حين أشرف على تنفيذ عمليات عدة، من بينها أسر الجندي الإسرائيلي نخشون فاكسمان عام 1994.
وبعد اغتيال يحيى عياش في 5 يناير/كانون الثاني 1996 خطط الضيف لسلسلة عمليات فدائية أخرى أوقعت عشرات القتلى والجرحى في صفوف الإسرائيليين.
وتشير صحيفة هآرتس (عدد 20 أغسطس/آب 2014) إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك شيمون بيريز ورئيس شعبة المخابرات العسكرية موشيه يعالون التقيا رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسر عرفات وحذراه من مخططات الضيف، وطالبا السلطة بالتحرك الحاسم ضد حماس، لكن عرفات تجاهل التحذير وسأل محمد دحلان -الذي كانت تربطه علاقة ودية بالضيف- "من هو محمد الضيف هذا؟".
اعتقلت السلطة الفلسطينية محمد الضيف في مايو/أيار 2000، لكنه استطاع الفرار مع بداية انتفاضة الأقصى التي اعتبرت محطة مهمة في تطور أداء كتائب القسام، وتولى الضيف قيادتها عام 2002 إثر اغتيال قائدها العام الشهيد صلاح شحادة في 22 يوليو/تموز من العام نفسه.
كان محمد الضيف المصنف ضمن لوائح الإرهاب الأميركية أيضا قد تعرض لأول محاولة اغتيال في 2001 لكنه نجا، وجرت محاولة ثانية لاغتياله عام 2002 عندما أطلقت مروحية "أباتشي" إسرائيلية صاروخين نحو سيارته، أصيب إثرها بجروح فتولى علاجه الشهيد الراحل عبد العزيز الرنتيسي الذي اغتيل بدوره عام 2004.
وفي عام 2003 حصلت محاولة أخرى فاشلة لاغتيال الضيف وبعض قادة حماس بصاروخ في غزة، وتكرر الأمر عام 2006 حين أصاب صاروخ إسرائيلي منزلا كان الضيف يجتمع فيه مع قادة من كتائب القسام، وقالت إسرائيل إنه أصيب بجروح بالغة جعلته مقعدا، دون أن تكون هذه المعلومات مثبتة.
وفي عام 2014 استشهدت زوجته وابنه الرضيع في غارة كانت تستهدفه في حي الشيخ رضوان بغزة.
وتشير بعض الشهادات إلى أن الضيف كان صانع قنابل بارعا، وقد درس على يد يحيى عياش الملقب بـ"المهندس"، كما أنه شارك منذ سنوات في تصنيع أول الصواريخ التي أصبحت لاحقا ترسانة كبرى لدى فصائل المقاومة، وهو أيضا مهندس برنامج بناء شبكات الأنفاق الأرضية الذي استمر لنحو عشر سنوات.
كان محمد الضيف -الذي استمد كنيته هذه من تنقله الدائم بين منازل الفلسطينيين وحلوله ضيفا عليهم خشية الاغتيالات الإسرائيلية- رقما ثابتا في أربع حروب خاضتها المقاومة ضد إسرائيل أعوام 2008 (معركة الفرقان) و2012 (حجارة السجيل) و2014 (العصف المأكول) و2021 (سيف القدس).
وتعد عملية "طوفان الأقصى" المعركة الخامسة التي يحضرها، وقامت هذه المرة على عنصر المبادأة، فكانت مفاجأة إستراتيجية وتكتيكية كاملة لإسرائيل لا تشبه غيرها بأحداثها ومفاعيلها الراهنة والمستقبلية.