قراءة في نتائج انتخابات كندا "المفصلية"

شهدت كندا في 28 أبريل/نيسان 2025 انتخابات فدرالية تعد من أبرز المحطات في تاريخها السياسي الحديث، حيث توافد ملايين الناخبين لاختيار أعضاء مجلس العموم وسط ظروف استثنائية وتغيرات كبيرة في المشهد الحزبي، إلى جانب تصاعد التوترات مع الولايات المتحدة وتزايد المخاوف الاقتصادية.
اتسمت الحملة الانتخابية، على قصر مدتها، بتنافس شديد بين الحزبين الرئيسيين الليبرالي والمحافظ، مع تقلب ملحوظ في نتائج استطلاعات الرأي، مما زاد من أهمية الإقبال على صناديق الاقتراع.
ورغم تمكن الحزب الليبرالي من التفوق على منافسيه، فإن فوزه لم يكن كافيا لتحقيق أغلبية مريحة في مجلس العموم، مما سيجبر الحزب على البحث عن تحالفات مع أحزاب أصغر للحفاظ على السلطة، وهو ما قد يؤدي إلى تشكيل حكومة هشة وغير مستقرة.
ويعد هذا الفوز هو الرابع على التوالي للحزب الليبرالي في الانتخابات، وحصد فيه 169 مقعدا مقابل 144 للمحافظين، وفقا لنتائج نهائية نشرتها هيئة الانتخابات الكندية، مما يعني قدرة رئيس الوزراء مارك كارني على تشكيل حكومة أقلية بعد أن فصلت بينه وبين الحصول على الأغلبية 3 مقاعد فقط.

انتخابات متميزة.. لماذا؟
لم يكن المراقبون وحدهم من وصفوا الانتخابات الحالية بالتاريخية والمفصلية، بل شاركهم في ذلك كبار السياسيين في البلاد، وبدا ذلك في أبرز تجلياته حين قال زعيم الحزب الليبرالي ورئيس الوزراء مارك كارني عند دعوته إلى إجراء هذه الانتخابات المبكرة "نحن نواجه أكبر أزمة في حياتنا".
ويعود هذا إلى طبيعة التحديات التي فرضتها خطابات وإجراءات الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الكنديين الذين يشعرون بالقلق حول ما يخبئه لهم المستقبل، بعد مطالبته بضم بلادهم لتكون الولاية الأميركية الـ51، والحرب التجارية التي أعلنها على أوتاوا، وهو ما قوبل بصعود غير مسبوق للوطنية الكندية، وفق تعبير أستاذة الفلسفة المشاركة في جامعة ليزبريدج، سوزان ديليمان.
وفي السياق نفسه، تأتي هذه الانتخابات كمحدد رئيسي للمسار الذي ستسلكه كندا في المرحلة القادمة عقب انطواء حقبة رئيس الوزراء السابق جاستن ترودو الذي أعلن استقالته في مارس/آذار الماضي بعد ما يقارب عقدا من تولي السلطة، مفسحا المجال لخليفته كارني ليقود أول انتخابات عامة رئيسا للحزب الليبرالي.
لم يكن كارني الزعيم الجديد الوحيد الذي خاض الانتخابات الفدرالية لعام 2025؛ فقد شاركه السباق بيير بوليفير، الذي انتُخب رئيسا لحزب المحافظين -أكبر أحزاب المعارضة- في سبتمبر/أيلول 2022، وجوناثان بيدنو الذي أصبح زعيما مشاركا لحزب الخضر في العام نفسه.
وقد سعى كل من كارني وبيدنو للحصول على مقعد في مجلس العموم لأول مرة، مما أضاف عنصرا من عدم اليقين إلى نتائج السباق الانتخابي طوال فترة الحملة.
بجانب ما سبق، تميزت هذه الجولة الانتخابية بأنها الأولى التي تُجرى باستخدام الدوائر الانتخابية الجديدة التي أُعيد ترسيمها بعد توزيع السكان في 2022، حيث ارتفع عدد مقاعد مجلس العموم من 338 إلى 343.
ويشير محللون إلى أن هذا يعكس النمو السكاني والتحولات الديمغرافية، خاصة في المناطق الحضرية وسريعة النمو، وهو تغيير قد يؤثر على إستراتيجيات الأحزاب وقد يغير توازن القوى في البرلمان.
كما شهدت كندا نسبة تصويت مبكر قياسية زادت بنحو 25% عن الانتخابات الماضية، وهي الأعلى في تاريخ الانتخابات في البلاد، ورغم ميل الناخبين في هذا التصويت إلى ترجيح الليبراليين، وفق عدد من استطلاعات الرأي، فإنها لم تكن تعد عاملا حاسما في تحديد هوية الفائز، بل كانت أحد العوامل التي زادت من حدة التنافس قبل الوصول إلى يوم الاقتراع في 28 أبريل/نيسان.
منافسة بين السياسي والاقتصادي
تنافس في هذه الانتخابات عدد من قادة أبزر الأحزاب في البلاد، لكن استطلاعات الرأي أكدت منذ البداية انحسار المنافسة بين اثنين منهما، الحزب الليبرالي الحاكم ومرشحه رئيس الوزراء مارك كارني، وحزب المحافظين ومرشحه رئيس الحزب بيير بوليفير.
ويمتلك بوليفير سجلا حافلا كسياسي وبرلماني مخضرم في حزب المحافظين، ويصفه المسؤول السابق في إدارة حملات انتخابية محافظة ياروسلاف باران بأنه شخصية "شعبوية محافظة"، وفي الجهة المقابلة يقف كارني "التكنوقراطي التقدمي" الذي رغم خبرته الاقتصادية الكبيرة (المحافظ السابق لبنكي كندا وإنجلترا المركزيين) فإن تاريخه السياسي الحزبي بدأ فعليا العام الماضي.
وتحت شعار "التغيير"، ارتكز برنامج بوليفير على أنه الشخصية الأجدر لقيادة تحول جذري في مواجهة ما يعتبره أكبر مشكلة تعانيها البلاد والمتمثلة في سياسات حكومة جاستن ترودو وإرثها التي وصف حقبتها بـ"العقد الليبرالي الضائع"، أما حملة كارني فقدمته على أنه الأقدر على حماية السيادة الكندية أمام سياسات الرئيس الأميركي ترامب وأجندته، وهو ما يلخصه شعاره "كندا من تقرر ما يحدث هنا".
وفي خضم الحملة الانتخابية، حاول المحافظون تصوير كارني كشخصية ليبرالية ستواصل اتباع سياسات ترودو، وهو ما لخصه السؤال الذي طرحه بوليفير خلال مناظرة قادة الأحزاب "ما تكلفة معيشتكم مقارنة بما كانت عليه قبل عقد من الزمن؟"، مضيفا "هل أنتم مستعدون لانتخاب نفس النواب والوزراء والموظفين الليبراليين من جديد لولاية رابعة؟".
وفي المقابل، عمل الليبراليون على رسم بوليفير كشخصية شعبوية تفتقر إلى الخبرة الخارجية اللازمة لمواجهة إدارة ترامب والمعضلات الاقتصادية، "على عكس بيير بوليفير، سبق لي إدارة ميزانيات، وإدارة اقتصادات، وإدارة أزمات. هذا وقت الخبرة، لا التجارب". يقول كارني في أحد خطاباته الانتخابية.

بين كارني وبوليفير.. الاتفاق والاختلاف
ويشير تحليل منشور على موقع هيئة الإذاعة الكندية إلى أن الفارق بين الحزبين الرائدين قد تقلص في بعض المسائل على مدى الشهرين الماضيين، حيث اتفقا على ضرورة فرض رسوم جمركية انتقامية على المنتجات الأميركية ردا على الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على المنتجات الكندية، كما يقترحان زيادات متشابهة في الإنفاق الدفاعي.
وبينما يعد الحزبان بتخفيضات في ضريبة الدخل وبالعمل لإقناع البلديات بإزالة العوائق التنظيمية أمام بناء المساكن، تصل الخلافات بينهما مداها فيما يتصل بأزمة التغير المناخي.
ويوضح تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية أن تحت هذا التقارب في العناوين العريضة ثمة العديد من الاختلافات في التفاصيل، وعلى سبيل المثال، يتفق الحزبان على تطبيق شكل من أشكال التعريفات الجمركية الانتقامية ردا على التعريفات التي فرضتها الولايات المتحدة، لكنهما يختلفان حول كيفية استخدام الأموال التي يتم جمعها من هذه الرسوم.
وبينما وعد المحافظون بتخصيص هذه الأموال للإعفاءات الضريبية، وخاصة للعمال المتضررين من الرسوم الجمركية، صرّح الليبراليون بأنهم سيستخدمون الأموال التي تُجمع من الرسوم الجمركية المضادة لمساعدة العمال والشركات.
كما تعهد الليبراليون بإنفاق مليارات الدولارات الكندية لتنويع التجارة خارجيا وداخليا والاستثمار في البنية التحتية، في حين يعتزم المحافظون إزالة الحواجز التجارية بين المقاطعات، والتوصل إلى اتفاقية للتجارة والتنقل مع المملكة المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا.
العلاقة مع الولايات المتحدة
احتلت قضية العلاقة مع الجار الجنوبي العملاق عناوين الأخبار طوال الفترة الماضية، وحدد استطلاع رأي -قامت به مؤسسة "إيبسوس" في بداية الحملة الانتخابية- هذا الملف باعتباره أحد أهم 3 قضايا يعدها الكنديون الأكثر إلحاحا بالنسبة للبلاد.
ووفقا لتلفزيون "سي بي سي" الكندي، فإن كلا من كارني وبوليفير يتحدثان بشكل عام عن أهمية السيادة الاقتصادية، لكن نظرتهما إلى التحدي الذي يفرضه دونالد ترامب على كندا تكشف عن خلافات أعمق بين الرجلين.
فبينما صوّر بوليفير تحدي ترامب على أنه معركة تعريفات جمركية ينبغي أن تنتهي بإعادة التفاوض على اتفاقية تجارية جديدة، يصوره كارني على أنه علاقة متغيّرة وعالم متغيّر، مما يتطلب من كندا التصرف بشكل مختلف، وإقامة تحالفات جديدة مع "دول متشابهة في التفكير"، وإعادة التفاوض ضمن هذا الإطار مع الولايات المتحدة.
ووفقا للعديد من المراقبين، فإنه في ضوء التباينات بين الرجلين، فإن نتائج الانتخابات التي أسفرت عن فوز كارني ستشكل ملامح الخيارات السياسية والاقتصادية التي ستتخذها كندا خلال السنوات المقبلة بشأن علاقتها بالولايات المتحدة، وبالعالم.

حملة انتخابية متقلبة
كما شهدت شهور الحملة الانتخابية مجموعة من التحولات الدراماتيكية أبرزتها استطلاعات الرأي التي كانت تشير إلى تقدم ساحق لحزب المحافظين، بفارق تجاوز 20 نقطة مطلع العام الحالي أمام الليبراليين الذين تراجعت شعبيتهم في السنوات الأخيرة من حكم ترودو، نتيجة تصاعد السخط الشعبي فيما يتعلق بالاقتصاد والهجرة والخدمات.
ويشير محللون إلى أن نقطة التحول في المؤشر كانت مع استقالة ترودو وصعود مارك كارني إلى سدة رئاسة الحزب الليبرالي والحكومة، مصحوبا بتحول في المزاج الانتخابي مع تصاعد التوترات مع الولايات المتحدة، وقدرة كارني على استقطاب شرائح من الناخبين المترددين أو القلقين بخبرته الاقتصادية وتركيزه على خطاب التوافق.
ومنذ منتصف مارس/آذار، كشفت استطلاعات الرأي عن تقدم متسارع لليبراليين، حيث توقع نموذج "يوغوف" حصول الليبراليين على أغلبية متواضعة مع نسبة تصويت تتراوح بين 40% و44% مقابل 37% و40% للمحافظين، كما أظهر استطلاع قامت به مؤسسة "إيكوس" تقدما مستقرا لليبراليين بفارق 6 نقاط مع توقع أغلبية مريحة.
وشهدت الأيام الأخيرة للحملة تحولا جديدا مع تزايد طفيف في حظوظ المحافظين وعودة النسب إلى التقارب بين الحزبين، مما جعل سيناريو حكومة الأقلية واردا وفقا لاستطلاع نهائي نشرته مؤسسة (أباكوس) قبل يومين من الانتخابات.
ورغم أن نتائج الاستطلاع الأخير تحققت بالفعل بحصول الليبراليين على أغلبية غير مريحة لتشكيل حكومة بمفردهم، فإن خبراء الاستطلاعات أكدوا أن تقلب مزاج الناخبين عكس حدة المنافسة والاستقطاب في سباق مفتوح تؤثر فيه العديد من العوامل.