أزمات وتحالفات وحروب بالوكالة تشعل القرن الأفريقي
تشهد منطقة القرن الأفريقي عددا غير قليل من الأزمات والتوترات، تتحرك بفعل العوامل الخارجية والداخلية لتصبغ المنطقة بالاضطرابات وعدم الاستقرار الذي يعتبر السمة الراسخة لها.
وقد تكون هذه الأزمات داخل الدول ذاتها أو بين دولة وأخرى، كما ترتبط بعضها بالعوامل الدولية ومصالح الأقطاب المختلفة، وعلى صلة وثيقة بموقعها الجيوسياسي وأهميتها الأمنية والعسكرية والإستراتيجية بشكل عام.
ونسعى في هذا التقرير لتسليط الضوء على محركات الأزمة الراهنة والتحالفات والاصطفافات بين الفاعلين الرئيسيين وبعض القوى المحلية في القرن الأفريقي، وأين تقاطعت المصالح وأين تعارضت، وما تداعيات ذلك على المنطقة، وهل يمكن أن تتصاعد تلك التوترات إلى حرب جديدة.
إثيوبيا محور الأزمات
تعتبر إثيوبيا دولة مركزية في المنطقة، وقد رسخت لهذا الدور منذ وقت مبكر، وحاولت أن تبرز على المسرح العالمي من خلال المشاركة في القضايا الدولية، كما سوقت نفسها على أنها لم تخضع للاستعمار الغربي إلا بضع سنوات.
ولكن تراجع دورها بعد الحروب الطويلة التي خاضتها مع الثورة الإريترية التي كانت تناضل منذ مطلع ستينيات القرن الـ20 من أجل الاستقلال، وكان من أبرز نتائجها أن أصبحت إثيوبيا دولة مغلقة.
وترتبط أزمة القرن الأفريقي الراهنة بإثيوبيا، أصالة ووكالة، لتداخل عوامل كثيرة بعضها موصول بالتاريخ القديم وبعضها مستجد وحديث:
- مياه النيل وسد النهضة
ظلت الخلافات بين إثيوبيا ومصر حول مياه النيل تشغل مساحة كبيرة بين البلدين منذ آماد بعيدة، تتمدد وتنكمش وفق ديناميات الظروف الإقليمية والدولية، وتحملت منطقة القرن الأفريقي عبئا كبيرا جراء ذلك الصراع، وجاءت أزمة سد النهضة لترفع الأزمة إلى مستوى متقدم من الصراع بين البلدين.
- أزمة الدولة الحبيسة
لازمت إثيوبيا أزمة الإطلال على البحر ليس لفقدانها الموانئ المرتبطة بالجوانب الاقتصادية على أهميتها، ولكن لفقدانها جزءا مهما من حيويتها الجيوسياسية، خاصة أن الإطلالة المفقودة لها علاقة بأحد الممرات المهمة دوليا وهو البحر الأحمر.
إلى جانب عوامل أخرى أقل أهمية، شكلت المسألتين السابقتين المشهد الراهن في القرن الأفريقي ولعبت دورا مهما في خلق اصطفافات وتحالفات، وربما أحيانا جمع متناقضات، يجمعها سباق على تفوق رؤية كل طرف وتحقيق إستراتيجيته وفق مصفوفات أقرب لنظرية الحافة في بعض الأحيان.
وفي محاولة للخروج من أزمة الدولة الحبيسة جغرافيا، وعلى الرغم من استخدامها لموانئ جيبوتي وبعض دول الجوار لما يقرب من 30 عاما وإقامة خطوط للسكك الحديدية بمبلغ 4 مليارات دولار، إلا أن إثيوبيا ألحت على تحقيق رغبتها بالوجود المباشر في البحار الدافئة والمشاركة الدولية.
وفي سبيل تحقيق ذلك، لجأت إثيوبيا إلى الخاصرة الرخوة في الصومال وهو إقليم أرض الصومال الانفصالي، ووقعت اتفاقا معها باستئجار موقع يطل على خليج عدن مقابل اعتراف إثيوبيا بالإقليم كدولة، إلى جانب نيله مزايا في الخطوط الإثيوبية وسد النهضة.
الصومال ورحلة البحث عن حلفاء
أحدثت مذكرة التفاهم بين إثيوبيا وأرض الصومال هزة وحراكا كبيرا في السياسة الصومالية، إذ لم يكن أمام مقديشو إلا البحث عن تحالفات من أجل حماية سيادتها كي تستطيع الوقوف في وجه الإصرار الإثيوبي الذي يستغل ضعف الحكومة المركزية في مقديشو، والظروف التي تمر بها البلاد.
ولذلك بدأت مقديشو بتشكيل رأي عام مؤيد لها في الإقليم، وكسبت المجتمع الدولي والإقليمي بعد إثارته قضية انتهاك إثيوبيا للصومال وسيادته وحدوده المعترف بها دوليا، فجاءت بيانات التأييد من الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة والجامعة العربية والاتحاد الأوروبي، وفي الجوار القريب كسبت تأييد كل من إريتريا وجيبوتي والسودان في سياقات تختلف فيها أسباب التأييد وملابسات المواقف.
كما تعتبر الإمارات حليفا مهما للصومال، وعادت له مع عودة الرئيس حسن شيخ محمود للرئاسة وعبر اتفاقية وقعها البلدان في أوائل عام 2023.
وعزز وجود الإمارات علاقاتها الخاصة بأرض الصومال وبونتلاند وجوبا لاند، كما أنها حليف مهم جدا لإثيوبيا التي تعتبر الخصم اللدود لمصر، وهنا تتصادم الرؤيتان المصرية والإماراتية في التعاطي مع إثيوبيا.
في المقابل، بادرت الحكومة الصومالية إلى توقيع اتفاقيتين مع تركيا:
- أولاهما؛ في فبراير/شباط 2024، وهي "اتفاقية الإطار للتعاون الدفاعي والاقتصادي" ضمنت الصومال بموجبها حماية لشواطئها لمدة 10 أعوام، ومكافحة الصيد غير المشروع في المياه الصومالية، مع التزام تركيا ببناء وتجهيز البحرية الصومالية لتولي هذه المسؤولية.
- والثانية؛ جاءت في مارس/آذار 2024، وهي اتفاقية للتعاون في مجال النفط والغاز، وتشمل استكشاف واستغلال وتطوير وإنتاج النفط في "كتل الصومال البرية والبحرية" وهي تعزز الاتفاقية الأولى وتعمل على تعميق العلاقة بين الطرفين.
مصر تخلط أوراق آبي أحمد
من جهة أخرى، بذلت مصر جهودا دبلوماسية حثيثة في نسج علاقات قوية مع دول الإقليم بعد تعذر التفاهم مع إثيوبيا فيما يخص سد النهضة، وتزامن ذلك مع بروز خلافات بين إريتريا وإثيوبيا، وتوجس جيبوتي من إفرازات الأزمة الناشئة جراء الخلافات الصومالية الإثيوبية.
وعلى المستوى الثنائي، وقعت مصر عددا من الاتفاقيات الثقافية والاقتصادية مع الصومال، كما دعمت حكومتها في جوانب تدريب القوات الرسمية المختلفة، وارتفعت وتيرة العلاقات بين البلدين بعد حجر رئيس الوزراء آبي أحمد الذي ألقاه في بركة القرن الأفريقي، المتمثل في مذكرة التفاهم مع إقليم أرض الصومال.
وفي يناير/كانون الثاني 2024، صرح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي -في استجابته لتفاعلات المذكرة- بأن مصر لن تسمح بأي تهديد للصومال أو أمنها، اعتراضا على محاولات إثيوبيا الاعتراف بأرض الصومال.
ومع تصاعد التوترات وإصرار أديس أبابا على عدم التراجع عن تنفيذ المذكرة، تدخلت تركيا في مساع للوساطة بين الصومال وإثيوبيا وعقدت لقاءين في أنقرة، وأُعلن عن حدوث تقدم إيجابي بدون الخوض في التفاصيل، إلا أن القاهرة كان لها حديث مختلف، عبر خطوتين هما:
- بروتوكول تعاون عسكري
في منتصف أغسطس/آب الماضي، وقعت القاهرة ومقديشو بروتوكول تعاون عسكري دخل حيز التنفيذ بعد أسبوعين من توقيعه. وبموجب هذا الاتفاق -بحسب مصادر إعلامية- ستتمكن مصر من نشر 5 آلاف جندي في الصومال إضافة إلى تزويدها بالمعدات العسكرية والانخراط في المزيد من تدريب القوات الصومالية.
- ورقة البعثة الأفريقية
تعتبر مشاركة مصر في بعثة الاتحاد الأفريقي -التي ستخلف القوات المنتهية مدتها في الصومال والتي ستغادر بنهاية العام الجاري- فرصتها الأخرى وورقتها القوية والتي بموجبها ستتمكن القاهرة من نشر 5 آلاف جندي آخر في الصومال، وهو ما رفع التوتر إلى مستوى غير مسبوق.
التحالفات الجديدة في القرن الأفريقي
من حيث المبدأ يمكن القول إن الثابت في منطقة القرن الأفريقي هو المتحول ذاته، إذ إن تصاعد الصراعات واستمراريتها، وتداخل الأجندات الدولية والإقليمية يجعل من الصعب الحديث عن تحالفات إستراتيجية بقدر ما يمكن مراقبة غير ذلك.
فمنذ تفجر أزمة المذكرة، بدأت العلاقات بين إريتريا والصومال أكثر متانة وقوة، وبدا رئيسا البلدين في تنسيق متصل بين الفينة والأخرى، وزار الرئيس الصومالي إريتريا أكثر من 3 مرات منذ بداية هذا العام، كما عادت العلاقات بين مصر وإريتريا إلى طبيعتها بعد فترة فتور.
وجمعت الأزمة الصومالية والمخاطرة الإثيوبية، هذه الأطراف مع اختلاف قضايا الخلاف لكل طرف مع إثيوبيا، إلا أن الدول الثلاث بدأت في التنسيق لمواجهة أديس أبابا تحت عنوان حماية السيادة الصومالية.
وبالتزامن، اتخذت الصومال وإريتريا إجراءات ضد الخطوط الجوية الإثيوبية بمنعها من استخدام أجوائها والهبوط على مطاراتها، وبذلك تشكل تحالف في مواجهة آبي أحمد وتم منعه من الوصول إلى المياه الدافئة.
وغير بعيد من هذا التحالف دولة جيبوتي التي تنظر بقلق بالغ في توجه أديس أبابا الجديد لكونها أكبر الخاسرين إذا أوقفت إثيوبيا استخدام موانئها التي تدر عليها ما يزيد على 1.5 مليار دولار سنويا.
تعدد الاتفاقيات والفاعلين في الصومال
منذ عودة الرئيس حسن شيخ إلى الرئاسة في مايو/أيار 2023، عقد عددا كبيرا من الاتفاقيات مع دول كثيرة، ربما يتجاوز عددها 6 دول من بينها المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وأوغندا وكينيا، وإريتريا وتركيا ومؤخرا مصر.
وعلى الرغم من أهمية الاتفاقيات في مساعدة الصومال في حل بعض مشكلاته، إلا أنه في ذات الوقت يمكن أن تتسبب في تنافر وتضارب بعضها، ويمكن فرز التحالفات الأقوى والمؤثرة وهي الوجود الإماراتي والتركي وأخيرا المصري باعتباره آخر عناصر التسخين في المنطقة.
ولا شك بأن كل دولة لها مقاربتها في التعامل مع الشأن الصومالي الداخلي والشأن الإقليمي والدولي، وفيما يخص مصالحها في الصومال، ولكن حتى لو افترضنا جدلا تحاشي الاصطدام إلا أنه في لحظة ما ستتواجه الإستراتيجيات وحينها سيكون لزاما على الصومال الاختيار وخسارة طرف لحساب آخر.
اصطفاف أقاليم صومالية مع إثيوبيا
بدأ التدخل الإثيوبي في الصومال بعد أزمة المحاكم الإسلامية في 2006، وكانت القوة الرئيسية التي أضعفت المحاكم الإسلامية. ومنذ ذلك الوقت، تمتلك إثيوبيا حضورا كبيرا في الصومال عسكريا وأمنيا، عبر اتفاقية ثنائية مع الحكومة، إضافة إلى قواتها الموجودة ضمن قوات البعثة الأفريقية أتميس.
ويمكن قراءة النفوذ الإثيوبي على النحو التالي:
توافق الصوماليون على الحكم الفدرالي باعتباره جزءا من حل الخلافات الداخلية، وتم تقسيم البلاد إلى 5 أقاليم، تتمتع باستقلالية في إدارة الشأن المحلي، ولكن مع تراكم الخلافات المناطقية والعرقية في الصومال، فإن بعض الأقاليم تحاول أن تحتفظ بالبقاء على مسافة عن المركز وبعض الاستقلالية التي ترتفع وتيرتها أحيانا إلى خلافات علنية مع الحكومة الفدرالية.
وإذا وضعنا في الاعتبار التدخلات الخارجية في الشأن الصومالي فسنجد أن مستوى الخلافات بين المركز وبعض الأقاليم كبيرة، برزت بشكل أكثر وضوحا بعد طرح الرئيس حسن شيخ مسألة استكمال الدستور واقتراح بعض التعديلات.
وبعد توقيع مذكرة التفاهم اتسعت رقعة الخلافات، بين الحكومة الفدرالية وبعض الأقاليم وبرز إقليم بونتلاند كأبرز المعارضين للحكومة الفدرالية، بفعل المناورات الإثيوبية.
ووصلت قمة التوتر بعد وصول القوات المصرية إلى مقديشو، حيث أعلن عدد من الأقاليم وقادتها تململهم من تطور العلاقات في الجانب العسكري بين الصومال ومصر، بينما أعلن رئيس الإقليم الجنوبي الغربي رفضه العلني للقوات المصرية وتأييده لبقاء القوات الإثيوبية.
ولم يعد سرا حسب مصادر صومالية موثوقة أن 4 أقاليم بما فيهم أرض الصومال لا يرحبون بالخطوات المصرية مع الصومال.
جولات تفاوض
وكادت الدبلوماسية التركية أن تحدث اختراقا في جدار الخلاف الصومالي الإثيوبي عبر جولات التفاوض الهادئ، حيث تحدثت الأطراف متفائلة بحدوث تقدم في الجولة الأخيرة، ليقطع خبر وصول الطائرات العسكرية المصرية إلى مطار مقديشو الخيط الرفيع الذي أوقف كل التكهنات ولينقل المنطقة إلى مربع متقدم جدا من التوتر والتحشيد غير المسبوقين.
وبين إصرار آبي أحمد الجَموح لدرجة المخاطرة لبلوغ أهدافه، ودخول مصر العسكري المباشر على تخوم إثيوبيا، تختمر معادلة المواجهات الجديدة في المنطقة والتي وُصفت من بعض الخبراء "بالحرب التي لا يتحدث عنها أحد" باعتبارها قدرا ماثلا قادما وليس مجرد توقعات أو تكهنات أو ضرب من الخيال.
فهل ستشهد المنطقة تهدئة باستئناف المحادثات بين الصومال وإثيوبيا أو بين مصر وإثيوبيا أم أننا على حافة الهاوية؟