شواهد قبور الحرب في غزة من ركام المنازل المدمرة
غزة– "يدمرون منازلنا فوق رؤوسنا، ومن ركام حجارتها نبني قبورنا" يقول "الحانوتي" طافش أبو حطب كما يعرّف نفسه، والذي يعمل في مهنة حفر القبور ودفن الموتى منذ 19 عاما، ويشرف حاليا على المقبرة التركية غرب مدينة خان يونس في جنوب قطاع غزة.
وطوال عقدين من عمله في هذه المهنة، يعتبر أبو حطب الحرب الإسرائيلية الحالية هي "الفترة الأصعب"، ويقول للجزيرة نت "لم تمر علينا فترة دموية بهذا الجنون مثل هذه الحرب، فلا يمر يوم من دون دفن شهداء بالعشرات".
والأكثر إيلاما بالنسبة لهذا الرجل الستيني أنه يحفر قبورا ويدفن شهداء بشكل يومي، غالبيتهم من النساء والأطفال، وبينهم مواليد ورضع، وعائلات بأكملها تحولت لأشلاء ومسحت من السجل المدني، حيث توشك المقبرة على الامتلاء، وقد كانت تضم 60 قبرا عندما اندلعت الحرب في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، لكنها اليوم تحتوي أكثر من 6 آلاف قبر.
قبور من ركام
أبو حطب ليس موظفا رسميا، والعمل في حفر القبور هي مهنة يعيش منها مع عدد من أبنائه والعاملين معه، ويقول إن الحرب تسببت في رفع كلفة حفر القبور وتجهيزها، وبحزن شديد يصف الحال "الحرب رفعت أسعار كل شيء في غزة، إلا دماءنا، فهي رخيصة بالنسبة لهذا العالم الظالم".
قبل اندلاع الحرب، كان أبو حطب يحفر القبر ويجهزه بسعر 280 شيكلا (الدولار يعادل 3.7 شيكلات) ويتقاضى ثمنه من ذوي المتوفى بهامش ربح يتراوح من 50 إلى 100 شيكل، لكن في هذه الأثناء وبفعل الحرب الضارية والحصار الخانق ومع إغلاق المعابر وتوقف مصانع الحجارة وطوب البناء، وشح مادة الأسمنت، ارتفعت تكاليف بناء القبر، لتتراوح كلفته من 450 إلى 500 شيكل.
وفي ظل توقف هذه المصانع، لجأ أبو حطب إلى ركام المنازل والمباني المدمرة، ويشتري من عمال على عربات تجرها الحيوانات ما يجمعونه من حجارة صالحة لإعادة التدوير، يقوم بتنظيفها وتهيئتها واستخدامها كجدر إسنادية للقبور، ويقول إن هذه الحجارة أكثر كلفة مادية من تلك الجديدة التي كان يستخدمها قبل الحرب.
وكان حجر المصنع الجديد يباع قبل الحرب بنحو شيكل ونصف، فيما يضطر أبو حطب حاليا لشراء الحجر الواحد من مخلفات القصف والغارات الجوية الإسرائيلية بـ4 شواكل، وارتفع سعر طن الأسمنت من 400 شيكل إلى 5 آلاف شيكل، وبحدة وغضب يقول هذا الرجل "بهذه الأسعار يمكنني شراء باخرة أسمنت في مصر".
"الناس مكلومة، ومنهم كثيرون لا يملكون ثمن القبر، ولا يعلمون هذه التكاليف، ويحملونني المسؤولية، طيب أنا شو أعمل؟"، حيث يتساءل أبو حطب عن دور المؤسسات والهيئات الرسمية والأهلية في دعم حفر القبور وتجهيزها في ظل هذه الحرب الدامية.
وتتحمل بلديات وهيئات خيرية وأشخاص مبادرون في عدد من مقابر القطاع تكاليف القبور الخاصة بدفن الشهداء، والأموات من الطبقات الفقيرة والمحتاجة.
أهوال الحرب
يجول أبو حطب ببصره في أرجاء المقبرة الحديثة التي افتتحت قبل أعوام قليلة، ويقدر أنه حفر قبورا وشارك في دفن أكثر من 7 آلاف شهيد منذ اندلاع الحرب، وكانت أصعب أيامها عليه حينما استشهد 137 فلسطينيا بينهم عشرات من أفراد عائلته، وقد كانوا نازحين من مدينة غزة لمدينة خان يونس.
وخلال شهور الحرب فقد هذا الرجل من عشيرته "السطرية" أكثر من 120 شهيدا، من بينهم نجله وشقيقه، ويقول إن هذا العدد يعادل أموات العشيرة على مدار 10 إلى 15 عاما في الأوقات الطبيعية.
ومنذ 10 أعوام، يعمل طارق (28 عاما) مع والده طافش أبو حطب في هذه المهنة، ويقول هذا الشاب العشريني الأعزب للجزيرة نت إنه لم يتخيل يوما أن يحفر قبورا بهذا العدد في اليوم الواحد، فيما قبل الحرب كان يحفر ما لا يزيد عن 10 قبور في الشهر.
ويقدر طارق أن المقبرة التي يعمل بها منذ افتتاحها قبل 7 أعوام توشك على الامتلاء تماما، وفي سبيل مواكبة الأعداد الهائلة من الشهداء يوميا لجأ هذا الشاب وأبوه إلى أسلوب حفر القبور بشكل متلاصق إلى جانب بعضها البعض من دون مساحات بينية، وهو أمر غير معتاد في مقابر غزة.
وعايش "الحانوتي طارق" أحداثا قاسية وتختزن ذاكرته الكثير من أهوال الحرب، ويذكر بتأثر كبير أن رجلا جاءه حاملا 3 أكياس من الأشلاء ليدفنها، قال إنها لطفله البالغ 9 أعوام، استهدفته مسيّرة إسرائيلية بصاروخ، فأصابه مباشرة ومزق جسده.
ومن أكثر أيام الحرب دموية على هذا الشاب وأبيه حسبما اتفقا كانت "مجزرة المواصي" التي ادعت فيها قوات الاحتلال استهداف القائد العام لكتائب عز الدين القسام، الذراع العسكري لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، محمد الضيف، وقائد لواء خان يونس رافع سلامة، والتي استشهد فيها عشرات المدنيين.
يقول طارق "نجهز يوميا حوالي 30 قبرا، وفي يوم وقوع المجزرة لم تكف هذه القبور لأعداد الشهداء الذين وصلوا المقبرة، وبينهم رجال ونساء وأطفال، حولت صواريخ الاحتلال أجسادهم إلى أشلاء وضعت في أكياس لدفنها".
واقع مأساوي
إضافة إلى مواكب الشهداء التي لا تتوقف نتيجة الجرائم والمجازر الإسرائيلية، يقول مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة للجزيرة نت إن أعداد الوفيات الطبيعية ارتفعت إلى 6 أضعاف ونصف الضعف عما كانت عليه قبل الحرب، وذلك نتيجة تداعيات الحرب والحصار الخانق، وانهيار المنظومة الصحية وتفشي الأمراض والأوبئة.
ومع استهداف الاحتلال لنحو 60 مقبرة بهدمها وتجريفها، ونبش أكثر من 1500 قبر، وتعذر وصول المواطنين لمقابر في مناطق خطرة قريبة من السياج الأمني الإسرائيلي وأماكن توغل الاحتلال، كان اللجوء إلى خيارات بديلة مؤلمة كالدفن الجماعي، وبناء قبور متلاصقة باستخدام حجارة ومخلفات من المنازل والمباني المدمرة، بحسب الثوابتة.
ويلفت المسؤول الحكومي إلى أن حرب الإبادة الجماعية فرضت على سكان غزة خيارات قاسية أخرى كثيرة، ومنها الدفن في قبور عشوائية، في الشوارع وساحات المدارس والمستشفيات.
وبحسب بيانات وزارة الأوقاف والشؤون الدينية فإن قطاع غزة، الذي يقطنه زهاء 2.2 مليون نسمة على مساحة 360 كيلومترا، يستنزف زهاء 9 دونمات (الدونم يساوي ألف متر مربع) مقابر سنويا، ويكفي الدونم الواحد منها لـ220 إلى 240 قبرا، في حين تعاني الوزارة منذ سنوات من أزمة حادة في توفير مساحات كافية من الأراضي لتخصيصها كمقابر، وقد عمقت الحرب من حدة الأزمة.