أنا أو الفوضى.. هل يسعى ماكرون لوضع اليمين المتطرف أمام اختبار السلطة؟
باريس- بعد دقائق قليلة من فوز اليمين المتطرف في الانتخابات الأوروبية، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حل الجمعية الوطنية والدعوة لإجراء انتخابات تشريعية في 30 يونيو/حزيران الجاري والسابع من يوليو/تموز المقبل، مساء أمس الأحد، محدثا زلزالا سياسيا لم تشهده البلاد منذ عقدين من الزمن.
وفي خطوة يأمل من خلالها إثبات نفسه مجددا، باعتباره سيد اللعبة والحصن الوحيد ضد حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف، يخاطر رئيس الجمهورية بجرّ الجميع نحو الهاوية، وتقديم الأغلبية لليمين المتطرف، ومعه مفاتيح السلطة.
ورغم تآكل واختفاء "الجبهة الجمهورية" بين جولتي الانتخابات الرئاسية، يرى مراقبون أن قرار ماكرون -منذ حل الرئيس الراحل جاك شيراك البرلمان عام 1997- ضرب من الجنون وانتحار سياسي، إن لم يكن قربانا لليمين المتطرف.
وقد أدت نتيجة التصويت الأوروبي إلى وصول حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف إلى مستويات لم يصل إليها من قبل، حيث حصل على ثلث الأصوات المدلى بها، في المقابل، كانت الهزيمة شديدة بالنسبة للمعسكر الرئاسي، الذي حصل بالكاد على 15% من الأصوات، وهو مستوى منخفض تاريخيا بالنسبة للحزب الحاكم.
"أنا أو الفوضى"
حاول ماكرون منذ بداية ولايته الثانية المناورة داخل البرلمان، واختيار السلطة التنفيذية على التشريعية لاستخدام الدستور، معتمدا -وفقا لمحللين- على إستراتيجيته "أنا أو الفوضى"، لكنه تجاهل قوة المعارضة في الجمعية الوطنية، التي حاربت معظم سياساته بشأن نظام التقاعد وقانون الهجرة والميزانية، وغيرها.
وتعليقا على هذه الإستراتيجية المثيرة للجدل، يجد المحلل السياسي إيف سنتومير صعوبة في ترجمة أهداف الرئيس الفرنسي الحقيقية وراء حل البرلمان، لكنه يقدم في حديثه للجزيرة نت تفسيرين محتملين، أولهما هو تشبث ماكرون بفكرة "أنا أو الفوضى" لإحداث صدمة سياسية، والظهور كحصن ضد صعود اليمين المتطرف إلى السلطة في البلاد.
أما السيناريو الأكثر واقعية بالنسبة لسنتومير، يتمثل في رغبة ماكرون في وصول "التجمع الوطني" إلى الحكومة لتفقد مصداقيتها خلال 3 سنوات، مما سيسمح بانتخاب شخص من معسكر آخر في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
من جانبه، يرى المستشار السابق في وزارة الخارجية الفرنسية مناف كيلاني أن هم ماكرون الوحيد اليوم هو الاستمرار في السلطة دون أن يجبره أحد على الاستقالة، وأفضل طريقة للقيام بذلك هي إعطاء المفاتيح لائتلاف غير قادر على قيادة شؤون البلاد.
وأضاف كيلاني في حديثه للجزيرة نت أنه "في ظل الأزمات الحالية، مثل الاقتصاد المتدهور والحرب في أوكرانيا وفي قطاع غزة وعدم اليقين بشأن الألعاب الأولمبية، سنجد مجموعة من الهواة والمبتدئين على رأس السلطة لأول مرة، وماكرون يعي ذلك جيدا، لذا يأتي قراره كطريقة لتجنب كل المسؤولية عما سيحدث لاحقا".
انتحار سياسي
سبق أن تأهل حزب "التجمع الوطني" في أكثر من 200 دائرة انتخابية في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية لعام 2022، مما يضعه على رأس الخصوم السياسية ذات الحظوظ الوفيرة لتحقيق الفوز.
وفي هذا الإطار، يؤكد إيف سنتومير أن ماكرون سيبقى في السلطة حتى نهاية ولايته بعد انتهاء الانتخابات التشريعية المقبلة، وهو ما حدث بالفعل في الماضي مع رئيسي الجمهورية فرانسوا ميتران وجاك شيراك، واصفا قراره بـ"الانتحار السياسي"، لأن شعبية حزبه الحاكم منخفضة للغاية، وقد لا تؤهله إلى الفوز.
لكن الكاتب والمحلل السياسي مناف كيلاني لا يعتبر حل البرلمان انتحارا سياسيا، لأنه لم يكن أحد يتنبأ بعكس ذلك، كما أن ماكرون استنفد كل موارده البشرية "ولم يعد هناك أشخاص يعتمد عليهم في حكومته الحالية" حسب قوله، ويضيف "واليوم، يسعى إلى تسليم المسؤولية -بما فيها كل السلطة التنفيذية عمليا- إلى حزب لا يمثل أي أغلبية، وغير قادر على فعل أي شيء، وسيتحمل في الأخير المسؤولية النهائية عن فشل النظام السياسي".
ويعتبر كيلاني أن قاعدة الناخبين اليمينيين المتطرفين لن تتزحزح، لأنها صلبة ومستقرة باختيار حوالي 9 ملايين ناخب، وتركز على رفض الهجرة والإسلام، لكن ذلك لا يعني أنها ستستطيع في غضون 3 أسابيع فقط تشكيل ائتلاف قادر على بناء وإعداد برامج سياسية، وتصور كيفية تطبيقها خلال السنتين المتبقيتين، أو حتى نهاية ولاية ماكرون البالغة 5 سنوات".
قفز نحو المجهول
وكرد فعل سريع، أعلنت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، التي تسعى إلى رئاسة فرنسا عام 2027، عن استعداد التجمع الوطني لممارسة السلطة "إذا منحنا الفرنسيون ثقتهم"، فيما أعلن حزبها أن جوردان بارديلا سيكون مرشح الحزب لمنصب رئيس الوزراء.
وبما أن حزب التجمع الوطني وأتباعه لن يكونوا وحدهم في الائتلاف، فمن المتوقع أن تتشكل اختلافات عميقة داخل البرلمان، قد تؤدي إلى اقتراب البلاد والمجتمع والاقتصاد من مرحلة بالغة الخطورة، فضلا عن حقيقة أن رئيس الجمهورية الخامسة عيّن أكبر عدد من رؤساء الوزراء خلال ولايته المتعاقبة، وهو دليل حقيقي على عدم استقرار النظام ككل.
هذا التحليل يدعمه كيلاني المستشار السابق في وزارة الخارجية الفرنسية، قائلا إن قرار حل البرلمان يعطي المفاتيح لكل من بارديلا وماريون ماريشال، وهي مرشحة حزب "الاستعادة" الذي أنشأه اليميني المتطرف إريك زمور، والتي ستنضم إلى هذا التحالف، وسط حالة ضبابية هائلة بسبب عدم وجود أي بوصلة واضحة.
ويتوقع المستشار وجود كثير من الارتجال والارتباك والأخطاء خلال مرحلة تولي اليمين للسلطة، مما سيؤدي حتما إلى تفاقم الوضع الاقتصادي والسياسي لفرنسا، ويلحق الأذى بصورتها على المستوى الدولي.
ومن زاوية أخرى، يشير كيلاني إلى أن الانتخابات التشريعية ستنتهي قبل أسبوعين فقط من بدء الألعاب الأولمبية، وهذا يعني أن من سيتولى منصب رئيس الوزراء سيتحمل كامل مسؤولية فشل تنظيم هذا الحدث "غير المكتمل وغير الجاهز"، وهو ما اعترف به ماكرون خلال مقابلات سابقة.
أما الخبير في السياسة الداخلية إيف سنتومير، فيرى أن المشكلة الأساسية تتمثل في غياب إستراتيجية واضحة لدى ماكرون لبناء تحالفات مع اليمين أو اليسار، مضيفا أنه كان من المحتمل أن تصاب حكومته ذات الشرعية الواهية بمزيد من الشلل بعد هذه الهزيمة الأوروبية "لكن الاندفاع المتزايد نحو اليمين المتطرف لا يمكن أن يكون مسؤولية ماكرون بالكامل لأنه توجه بُني منذ سنوات".
وختم سنتومير قائلا "نرى اليوم أن حكومة ألمانيا ضعيفة جدا، وإيطاليا لديها حكومة قانون راديكالية، ومن المتوقع جدا أن يحدث الأمر ذاته في فرنسا في غضون أسابيع قليلة، وهي موضة سياسية لا تقتصر على فرنسا فقط، وإنما ستهز أركان أوروبا بأكملها".