سودانيون في دائرة النزوح بلا أي مقومات للحياة
لأول مرة منذ 50 عاما، لم تتمكن فاطمة الحسين من تجهيز مستلزمات رمضان التي اعتادت فعلها كل عام، فغابت قسرا عن تحضير "الحلو مر" المشروب الشعبي الأول للسودانيين في رمضان، ولم تشتر اللحم والبصل لتجفيفه، ولا حتى أواني جديدة.
تجسّد فاطمة أحوال ملايين السودانيين الذين عايشوا الحرب على مدى سنة تقريبا، فأذاقتهم أهوال النزوح والفقد والعوز ليطرق الجوع وشظف العيش أبوابا كانت ميسورة الحال، تجعل من رمضان شهرا للصدقات وإعانة المحتاج، لكنها باتت اليوم تنتظر العون والفرج.
وبعد أن فاقمت الحرب معاناة ملايين الذين وضعهم القدر في مواجهة الرصاص والقذائف وحملات النهب والسلب والتنكيل، عقّد انقطاع المياه والكهرباء ونقص الطعام الوضع، وحفّز على المغادرة بحثا عن ملاذ آمن تتوفر فيه أيسر مقومات الحياة.
معاناة كبيرة
غير أن الحال في مراكز النزوح ودور إيواء عديدة بالولايات الآمنة نسبيا، لم يكن كما المأمول، وفق روايات عديدة للجزيرة نت من نازحين وصلوا إلى مدن عدة في شمال السودان حيث تفتقر تلك المراكز -وغالبها مدارس ومواقع غير مؤهلة- للقدرة على استقبال أعداد كبيرة من الوافدين.
تروي فاطمة (75 سنة) للجزيرة نت كيف أنها خرجت من منزلها في مايو/أيار الماضي بعد تواصل القتال بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وتصف المعاناة العظيمة التي تواجهها داخل أحد مراكز الإيواء في مدينة الدامر بولاية نهر النيل شمال السودان.
وتؤكد أن رمضان هذه السنة يختلف تماما مع الحرب التي "قضت على حياة السودانيين"، وجعلتهم يهيمون على وجوههم.
وحسب إحصاءات رسمية، فإن ولاية نهر النيل المتاخمة للعاصمة الخرطوم استقبلت قرابة مليوني نازح، وأن عدد الوافدين ارتفع بقوة بعد اجتياح الدعم السريع لولاية الجزيرة، حيث عملت الحكومة المحلية على توزيعهم في نحو 288 مركز إيواء تعاني جميعها من نقص شديد في الغذاء والرعاية الصحية.
وتقول المنظمة الدولية للهجرة إن ولاية نهر النيل تحتضن 11% من نسبة النازحين داخليا في السودان، بينما تحوز دارفور الرقم الأكبر من النازحين بنسبة تصل إلى 37%.
ولأول مرة منذ 200 عام كما يقول إبراهيم عادل قرشي، لن يكون هناك إفطار للعابرين والمسافرين، كما اعتاد أهالي منطقته "المسيد" بولاية الجزيرة وسط السودان.
وتمثل هذه العادة، التي يُعرف بها سكان البلدات الواقعة على طريق مدني-الخرطوم، واحدة من أكبر موائد الإفطار في البلاد، فيعِدّ الأهالي الأطعمة والمشروبات، ويرصفونها على طول الطريق، ثم يجبرون المسافرين على الإفطار قبل مواصلة الرحلة.
ومع اجتياح الدعم السريع لولاية الجزيرة يوم 18 ديسمبر/كانون الأول الماضي، واضطرار آلاف السكان لهجر قراهم جراء التنكيل والنهب والترهيب، لن يكون هناك من يُعدّ هذه المائدة ولا حتى من يعبر إحدى تلك الطرقات خوفا من مصير مجهول، ولن يحيي أحد تلك العادة الشهيرة، يقول قرشي للجزيرة نت.
مدينة أشباح
ولا يختلف الحال في الخرطوم التي اشتهرت أحياؤها العريقة بموائد رمضان العامرة، مثلما يؤكد هاني الهادي من سكان حي الختمية بالخرطوم بحري، فهي المرة الأولى -منذ عرف الناس شهر رمضان- التي ستكون فيها غالب أحياء العاصمة خالية من الموائد الرمضانية، بعد أن تحولت المدينة الصاخبة إلى خراب.
ويذكّر، للجزيرة نت، بتوقف الحركة تماما في الخرطوم وأسواقها الكبيرة وفقدان التحضيرات التي تتبناها النساء للشهر الفضيل، وبحلول روائح البارود وأصوات الرصاص مكان روائح "الحلو مر" وتكبيرات المساجد المحببة.
ويضيف الهادي أن الحرب جعلت من الخرطوم أشبه بمدينة أشباح حيث توقفت الحياة بشكل كامل، ولم تشهد مئات المساجد توافد المصلين للتراويح في سابقة لم تحدث منذ نشأة العاصمة.
وتؤكد مشاعر أحمد، التي تقطن في أم درمان، عدم وجود استعدادات لرمضان مع تعالي أصوات المعارك حول منطقتها، التي يسيطر الجيش السوداني على الجزء الأكبر منها.
وتقول للجزيرة نت إن المعاناة تمددت مع اعتماد الأُسر في أم درمان على التطبيقات البنكية في استقبال التحويلات المالية من خارج البلاد، لكن الخدمة توقفت مع قطع الإنترنت والاتصالات بنحو ضاعف الأزمة، وجعل من المستحيل تلبية الاحتياجات الضرورية للشهر الفضيل.
وتضيف مشاعر أن معظم الأحياء لجأت إلى نظام "التكية"-وهو مطبخ مدعوم يشمل كل سكان حي أو أحياء متعددة- للفطور والغداء قبل رمضان، ويستعد القائمون عليه لوجبات الإفطار والسحور.
ويضطر بعض الناس -وفق مشاعر- لمغادرة أم درمان إلى مدينة شندي بولاية نهر النيل -على بعد 181 كيلومترا- للتمكن من الحصول على شبكة اتصالات وإنترنت لاستقبال التحويلات البنكية بالهاتف وشراء المستلزمات، ومن ثم العودة مرة أخرى.
وتؤكد توفر المواد الغذائية في محال وأسواق صغيرة في أم درمان، بيد أن قطع الاتصالات والإنترنت خلّف صعوبة واستحالة كاملة للتعامل بين الناس والتجار، إلى جانب افتقار "التكايا" نفسها للتحويلات وعدم وجود فرص أمام الداعمين لها لتوصيل إسهاماتهم المالية.
وجبة واحدة
ويأكل غالب المتبقين من سكان الخرطوم -بالكاد- وجبة واحدة في اليوم بعد رحلة كفاح تنتهي بتوفير الموجود، مثلما يروى مجاهد محمد للجزيرة نت.
ويضيف "هناك ندرة في غاز الطهي ولجأ الناس إلى حطب الأشجار لطبخ بعض الأكلات اليسيرة للأطفال وكبار السن، بينما لا تزال غالبية المتاجر مغلقة وحركة البيع متوقفة في مدينة بحري".
وفي الرابع من مارس/آذار الجاري، أعلنت غرفة طوارئ ولاية الخرطوم -في تقرير- توقف 221 من المطابخ الجماعية التكافلية من أصل 300 نتيجة انقطاع الاتصالات والإنترنت.
وذكرت الغرفة توقف 100 مطبخ بمحلية شرق النيل، و53 بمحلية الخرطوم، و38 بمحلية بحري، و20 بمحلية أمبدة، و10 بمحلية جبل أولياء.
وأكدت أن توقف تلك المطابخ يعود لانقطاع شبكات الاتصالات والإنترنت التي كانت تُعدّ الوسيلة الأساسية لتقديم الخدمات وإرسال الدعم عبر التطبيقات البنكية، وأنه توجد في ولاية الخرطوم نحو 240 ألف أسرة مهددة بالجوع "ما يتطلب استجابة عاجلة من كل الجهات المعنية".
ويقول برنامج الأغذية العالمي ووكالات الإغاثة الأخرى إنهم يكافحون من أجل الحفاظ على إمكانية الوصول المستمر للمحاصرين بمناطق القتال حيث يتهدد الجوع 18 مليون سوداني، كما عمّت حالات سوء التغذية الوخيم معسكرات النزوح ومناطق واسعة في إقليم دارفور غربي السودان، ويعاني حوالي 3.8 ملايين طفل سوداني دون سن الخامسة من سوء التغذية.