إستراتيجية طهران في شرق أفريقيا.. الطموحات والعوائق
احتل شرق أفريقيا مكانة مركزية في جولة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الأفريقية في يوليو/تموز 2023، حيث حطت طائرته في كينيا وأوغندا قبل أن تتوجه نحو محطتها الأخيرة في زيمبابوي، في أول جولة من نوعها لرئيس إيراني منذ أكثر من 10 سنوات.
مثلت هذه الزيارات استئنافا لإستراتيجية طهران في توسيع علاقاتها مع دول الجنوب العالمي، والتي بلغت ذروتها في عهد الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد (2005-2013)، لتعود إلى الواجهة مع إبراهيم رئيسي الذي أعلن بعد أيام فقط من توليه منصبه في أغسطس/آب 2021 أولوية تطوير علاقات بلاده مع أفريقيا، مؤكدا توجهه نحو تفعيل جميع إمكانيات التعاون مع دول القارة.
أهمية متعددة الأبعاد
وتتمتع منطقة شرق أفريقيا بميزات إستراتيجية جاذبة لطهران نتيجة للأرباح المحتملة من التعاون السياسي والاقتصادي، نظرا لمواردها الطبيعية وسوقها الاقتصادية السريعة النمو، إلى جانب موقعها الإستراتيجي المتحكم بمضيق باب المندب والمطل على البحر الأحمر والمحيط الهندي.
وزاد من هذه الأهمية تحول المنطقة إلى ممر للأسلحة المرسلة من إيران إلى حلفائها، خاصة مع صعود دور الحوثيين في اليمن، حيث تشير التقارير إلى تعاون بين طهران مع جماعات في الصومال لإيصال الإمدادات إلى اليمن، وفي وقت سابق كان السودان معبرا رئيسيا للأسلحة الإيرانية المتجهة إلى غزة.
تكثيف النشاط الدبلوماسي
يوضح تقرير صادر عن مركز "صوفان للدراسات الأمنية" أن جولة رئيسي في شرق أفريقيا هدفت إلى تخفيف آثار عزلة طهران الاقتصادية والسياسية عن المنظومة الغربية، وبناء تحالفات جديدة تمكنها من مواجهة الضغوط الأوروبية والأميركية المرتبطة ببرنامجها النووي، والتي تزايدت مع التأكيدات الغربية على دعم إيران روسيا في حربها بأوكرانيا، وهو ما دأبت طهران على نفيه.
وفي هذا السياق، عملت الدبلوماسية الإيرانية على توسيع نشاطها مبكرا، إذ بلغت نسبة السفارات الإيرانية في شرق أفريقيا 40% من الممثليات الخارجية المفتتحة في عهد أحمدي نجاد، كما عملت طهران على إحياء العلاقات الدبلوماسية مع الدول التي قطعتها تضامنا مع السعودية إبان أزمتها مع طهران، حيث تمكنت الأخيرة من استعادة علاقاتها مع جيبوتي والسودان عام 2023.
هذه الجهود الدبلوماسية ترجمت في قدرة طهران على كسب دعم بعض دول المنطقة لبرنامجها النووي كإريتريا والسودان، في حين كررت إثيوبيا دعمها الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة 5+1.
وترصد ورقة صادرة عن "المعهد الألماني لدراسات المناطق" آثار الجهود الدبلوماسية الإيرانية من خلال تحليل النمط التصويتي للدول الأفريقية في الأمم المتحدة في القضايا المتعلقة بطهران بين عامي 2005 و2022، حيث خلصت إلى أن العديد من هذه الدول -بما فيها الواقعة شرقي أفريقيا- ظلت محايدة أو مؤيدة لإيران في تصويتها على قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بحقوق الإنسان.
توسيع "جغرافيا الممانعة"
يبدو التوجه الإيراني نحو أفريقيا عموما مدفوعا بمجموعة من العوامل، يأتي على رأسها تمديد نفوذها إلى خارج الشرق الأوسط، ولا سيما في المناطق المحيطة به، وضمان توسيعها جبهات "جغرافيا المقاومة".
وأكد مقال منشور في وكالة "تسنيم" المقربة من الحرس الثوري -عقب اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني عام 2020- أن تمكن الفيلق من جعل أفريقيا جزءا من العمق الإستراتيجي لإيران سيتيح لطهران الفرصة لتوجيه ضربات إلى واشنطن هناك.
وفي هذا الإطار، أعلنت وسائل الإعلام المحلية القبض على عملاء أمنيين تابعين للحرس الثوري الإيراني في دول مثل أوغندا وتنزانيا وكينيا بتهمة التخطيط لاستهداف المصالح الإسرائيلية والأميركية في شرق أفريقيا بين عامي 2019 و2023.
احتواء نفوذ المنافسين الإقليميين
من جهة أخرى، تهدف الإستراتيجية الإيرانية إلى احتواء نفوذ منافسيها الإقليميين -مثل إسرائيل وتركيا والسعودية والإمارات- الذين تمكنوا من تحقيق اختراقات كبيرة في شرق أفريقيا.
وعلى سبيل المثال، فإن تركيا هي أحد أهم اللاعبين في القرن الأفريقي، ووفقا لمسؤول في هيئة الاستثمار الإثيوبية فإن تركيا هي ثاني أكبر المستثمرين في بلاده برأسمال استثماري يبلغ 2.5 مليار دولار، في حين يعد الصومال العمود الفقري للنفوذ التركي في المنطقة باحتضانه القاعدة العسكرية التركية الوحيدة في أفريقيا.
التعاون الدفاعي
مثّل التعاون في الجانبين الأمني والعسكري جزءا مهما من إستراتيجية إيران تجاه شرق أفريقيا، إذ أبرمت اتفاقيات تعاون دفاعي تشمل نقل المعرفة والتدريب وتحديث البنية العسكرية والتعاون البحري.
وترصد دراسة صادرة عن "المعهد الألماني لدراسات المناطق" الاتفاقيات الدفاعية التي عقدتها طهران مع الدول الأفريقية بين عامي 2002 و2017، حيث خلصت إلى أن أكثر من نصف من هذه الاتفاقيات تمت مع دول من شرق القارة، مثل السودان وتنزانيا وجيبوتي وجزر القمر.
دبلوماسية الطائرات المسيرة
وفي زيارته إلى العاصمة الكينية نيروبي عام 2023 شارك رئيسي في معرض أقامته شركات إيرانية للطائرات المسيرة غير القتالية، مما دفع المراقبين إلى اعتبار ذلك رغبة من طهران في دخول سوق السلاح الأفريقية من خلال كينيا، والترويج لقدراتها العسكرية في منطقة تعاني اضطرابات أمنية حادة.
وفي السياق ذاته، ومع تصاعد حرب التيغراي في إثيوبيا (2020-2022) تحدثت مصادر عدة عن دعم عسكري إيراني للحكومة الإثيوبية، ففي رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش اتهم دبرصيون جبر ميكائيل قائد الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي طهران بدعم الجيش الإثيوبي بأسلحة تضمنت طائرات مسيرة.
وتشير هذه الخطوة الإستراتيجية في شرق أفريقيا إلى الأهمية التي توليها طهران للتعاون مع إثيوبيا باعتبارها دولة محورية في إقليمها، إلى جانب رغبتها في اقتناص فرصة التوتر الإثيوبي الغربي الحاد على خلفية الحرب في تيغراي لتقويض العلاقات بين الشريكين التاريخيين، بالإضافة إلى منافسة خصومها الإقليميين، مثل تركيا التي صدرت طائراتها المسيرة إلى أديس أبابا، وإسرائيل التي فرضت قيودا على تصدير بعض أنواع الأسلحة إلى حليفتها الأفريقية.
التعاون الاقتصادي
يحتل الاقتصاد جانبا مهما في العلاقات التي تنسجها طهران مع شرق أفريقيا، ويتجلى هذا في إعلان المدير العام لقسم أفريقيا في "منظمة ترويج تجارة إيران" عن افتتاح 8 مراكز تجارية في القارة بين عامي 2022 و2023، 3 منها في كينيا وتنزانيا وأوغندا.
بالمقابل، تشير الأرقام الصادرة عن "نادي التجار الإيرانيين والأفارقة" عام 2023 إلى أنه من ضمن 49 دولة أفريقية فإن كلا من السودان وكينيا وموزمبيق كانت ضمن الدول الأكثر استيرادا للسلع الإيرانية عام 2022، في حين تصدرت كينيا وتنزانيا قائمة الدول الأفريقية المصدرة للسلع إلى إيران في العام نفسه.
وخلال جولته الأفريقية وقّع رئيسي اتفاقيات اقتصادية مع كينيا وأوغندا، حيث تعتزم إيران إنشاء مصنع للمركبات الإيرانية في مومباسا الكينية، في حين أكد الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني أن بلاده ستتواصل مع إيران للاستفادة من تجربتها لتطوير قطاع الطاقة بنقل التكنولوجيا أو تمويل المشاريع.
الالتفاف على العقوبات
وفي مواجهة العقوبات الاقتصادية، ترصد ورقة أصدرها الباحث الإيراني أمين نائيني لجوء طهران إلى الاستثمار في شركات قائمة على المعرفة، حيث تعمل هذه المؤسسات على تسويق نتائج الأبحاث العلمية، ولا سيما في المجالات الطبية والزراعية التي تحتاج إليها دول القارة، ونظرا لكونها تتبع القطاع الخاص وترتبط في أعمالها بالمنتجات الإنسانية فإن احتمال وقوع هذه المؤسسات تحت طائلة العقوبات يظل منخفضا.
وفي هذا السياق، شهد عام 2020 افتتاح "البيت الإيراني للابتكار والتكنولوجيا (آي إتش آي تي)" في كينيا، والذي يعرّف عن نفسه بأنه سيكون منصة لازدهار الشركات الإيرانية القائمة على المعرفة، والشركات الناشئة والصناعات الإبداعية وتسويق الأفكار.
كما أعلن سفير طهران في نيروبي في العام نفسه رغبة بلاده في إنشاء منطقة اقتصادية في كينيا تتيح للمستثمرين الفرصة للإنتاج والتصدير من الأراضي الكينية، مما يؤدي إلى تخلصهم من الخضوع للعقوبات المفروضة على طهران.
وفي أوغندا، تم افتتاح مكتب لتصدير منتجات التكنولوجيا الحيوية الإيرانية عام 2021، حيث تضمن المشروع في المرحلة الأولى افتتاح مزرعة نموذجية لاختبار أنواع مختلفة من البذور والأسمدة لـ8 شركات إيرانية، في خطوة نحو توسيع هذا القطاع ليشمل كامل شرق أفريقيا.
طموحات وعوائق
أبرزت الهجمات الحوثية على المصالح الإسرائيلية الأهمية الفائقة للمناطق القريبة من المعابر المائية الحيوية، من ضمنها شرق أفريقيا، مما يرجح تصاعد طموحات إيران المتعلقة بتوسيع حضورها في المنطقة.
لكن العديد من العوائق ستقف في طريقها، حيث يبرز تأثير العقوبات السلبي على الاقتصاد الإيراني، والتي كانت أحد العوامل في عدم قدرة طهران على مجاراة إستراتيجيات خصومها الإقليميين والدوليين بالقارة السمراء.
كما أن سعي طهران لنشر التشيع -وفق تصريحات رسمية- لا يزال عائقا آخر أمام تقدمها في العديد من المواقع، فقد سبق أن أعلن الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود في يناير/كانون الثاني 2023 أن مخابرات بلاده رصدت تحركات إيرانية لنشر التشيع عبر مؤسسات خيرية خلال ولايته الرئاسية الأولى التي انتهت عام 2017، مما دفعه إلى إغلاق سفارة طهران وحظر أنشطة تلك المؤسسات حتى الآن.
بالمقابل، تؤكد بعض المؤشرات أن مرحلة ما بعد الحرب على غزة ستشهد تصعيدا غربيا وإسرائيليا لمحاصرة طهران ومنعها من توسيع دوائر نفوذها في الخارج، بما في ذلك شرق أفريقيا، مما سيؤثر على مواقف دول المنطقة من التعاون مع إيران.