رجال الدفاع المدني بغزة يسطرون ملحمة البقاء رغم الاستهداف

العقيد رائد الدهشان محافظ الدفاع المدني في مدينة غزة.ضيف تقرير (1)
العقيد رائد الدهشان محافظ الدفاع المدني في مدينة غزة (الجزيرة)

غزة– بأيد عارية ينقبّون عن الحياة في بطن الموت، لا يحملون عُدّة سوى عهد مقدس في قلوبهم قطعوه على أنفسهم ألا يتركوا شعبهم وحده، هكذا يسعى رجال الدفاع المدني في غزة لإنقاذ من يمكنهم إنقاذه من تحت الأنقاض، دون الركون إلى استراحة محارب منذ 14 شهرا، متحدّين العجز والقلة.

وأعلن محافظ الدفاع المدني في غزة، رائد الدهشان، توقف مركبات الإطفاء والإسعاف عن العمل في غزة، لاستمرار رفض الاحتلال توفير الوقود اللازم لتشغيلها، إضافة إلى تعنّته في منع إدخال المعدات اللازمة لأداء المهام وصيانة المركبات.

وأوضح الدهشان، في حوار خاص مع الجزيرة نت، أنه بينما تُبدّل دول العالم مركبات الدفاع المدني كل 10 سنوات، لا يزال الجهاز في غزة يعتمد على معدات ومركبات يعود تاريخها إلى تسعينيات القرن الماضي، تبرع بها مانحون مع تأسيس السلطة الفلسطينية، وذلك ما يجعل صيانتها أمرًا مُلحًّا تطالب به إدارة الدفاع المدني إلى حين القدرة على استبدالها.

دفع جهاز الدفاع المدني ثمنًا باهظًا جراء استمراره في العمل في منطقة شمال الوادي، ومن دون مبررات أصبح هدفًا واضحًا ضمن بنك الأهداف الإسرائيلية عن سبق إصرار وترصد، فقد قدم جهاز الدفاع المدني 87 فردًا من عناصره شهداء، وأكثر من 300 مصاب، في حين تعتقل قوات الاحتلال 21 فردا منه دون تهمٍ أو أحكام.

سيارات الدفاع المدني في مدينة غزة متوقفة عن العمل لمنع الاحتلال ادخال السولار (2)
الدفاع المدني في مدينة غزة يعتمد على مركبات تعود إلى التسعينيات (الجزيرة)

استهداف ممنهج

تكبّد الجهاز خسائر مادية تقدر بمليون ونصف الميلون دولار من معدات الإطفاء والإنقاذ والإسعاف، ودمر الاحتلال بشكل كلي 14 مركزًا ومقرا تابعًا لهم، ودمر 56 مركبة رغم اتباع الجهاز لبرتوكول الترميز الذي تم التوافق عليه مع منظمة الصليب الأحمر، بحيث يتم ترميز أرقام السيارات بشكل واضح ووضع شعار الحماية المدنية عليها، ورغم ذلك استهدفت المركبات في المهمات الخاصة إضافة إلى استهدافها في المقار أثناء توقفها.

إعلان

يقول الدهشان "لقد استهدفت طواقمنا بشكل مباشر أثناء نومهم في مقراتنا 6 مرات، كما استهدفوا خلال قيامهم بمهمات إنقاذ ميدانية أكثر من 18 مرة، وذلك يعني أن الاحتلال ضرب عرض الحائط بكل المواثيق التي كفلت للدفاع المدني العمل بأريحية وتسهيل إيصال الموارد له بحسب اتفاقية جنيف الرابعة".

يبدو فقدان أحد عناصر الدفاع المدني "خسارة لا تعوض"، وهو أمر يحدث إرباكا في الكادر البشري، كما يقول الدهشان الذي أضاف "رجال صنعتهم حروب متتالية وخبرة تزيد على 15 سنة لن يكون من السهل تعويضهم ببدائل".

يتعالى أفراد الدفاع المدني على جراحهم، يودعون الرفاق الذين كانوا بينهم قبل ساعات ثم يكملون مهامهم. يتوجه أحدهم لمهمة فيفاجأ بأن المنزل المستهدف هو منزل عائلته وأن المهمة الموكلة إليه هي انتشال والديه وإخوته، يتبادلون المواقع في مهمات تستمر أياما، بفتات طعام وغفوات نومٍ بسيطة.

شباب لم يبرحوا أماكنهم ولم يصلوا إلى بيوتهم منذ دقّت طبول الحرب، وآخرون رفضوا النزوح مع عائلاتهم إلى جنوب القطاع فتفرقوا عنهم، وألقوا على عاتقهم مسؤولية تتطلب منهم التضحية دون انتظار جزاء دنيوي، كما يقولون.

سيارات الدفاع المدني في مدينة غزة متوقفة عن العمل لمنع الاحتلال ادخال السولار
سيارات الدفاع المدني في غزة بين مدمر باستهداف إسرائيلي أو خارج الخدمة بسبب نقص الموارد لصيانتها (الجزيرة)

الأقدر على التكيف

وبينما لم تتوقف محاولات التواصل مع المنظمات الدولية، لا يزال إدخال المعدات يقابل بالرفض، وكأن سيارة الإطفاء هي قاذف صواريخ بحسب تعبير محافظ الدفاع المدني في غزة الذي أكد أن العجز والقلّة لم يدفع كوادر الدفاع المدني إلى الوقوف مكتوفي الأيدي، بل "كانوا الأقدر على التكيف مع الظروف وتطويعها".

وأضاف "حين استشهد سائق سيارة الإطفاء تولى مدير المركز مهمة قيادتها، وحين تعطلت المركبة أكمل الطاقم طريقه نحو الحادثة سيرًا على الأقدام، وحين لم يجدوا المعدات الثقيلة كسروا الأسقف الإسمنتية بأيديهم وحفروا بمخالبهم لانتشال العالقين".

إعلان

ولفت الدهشان إلى أن الاحتلال منذ بداية الحرب قام عمدا بقطع خط الرقم المجاني المعروف للدفاع المدني، وقاموا بتعميم رقم جديد لهم على وسائل الإعلام لتسهيل التواصل معهم عند وجود استهداف.

كذلك أوضح أن جهازه يتّبعُ أولويات المفاضلة في التعامل مع حالات الإنقاذ، بحيث تتم دراسة المكان من قائد المهمة الذي يوجه الطواقم للأماكن التي فيها أناس على قيد الحياة، معتمدين على استراق السمع عقب نداءاتهم في ثغرات الجدران "في حد عايش؟!".

وبعد ذلك تأتي مرحلة تقسيم الضحايا بين شهيد، ومصاب بحالة حرجة ميؤوس منها، ومصاب يمكن إنقاذه. ويضيف الدهشان "يؤجل التعامل مع الشهداء العالقين تحت الأنقاض إلى حين الانتهاء من انتشال الأحياء الذين من الممكن إنعاشهم وإدراكهم في أقرب مركز صحي".

وبينما كان الدفاع المدني هو المستجيب الأول والمسؤول الميداني عن مهام الإسعاف وإطفاء الحرائق والإنقاذ من تحت الأنقاض، فلا يمكن لأي جهات غيره القيام بمهمتي الإطفاء والإنقاذ.

معاناة نفسية وصمود

ولفت الدهشان إلى الحالة النفسية الصعبة التي يعيشها الأفراد بعد المهام التي لا تخلو من مشاهد الأشلاء ومن رائحة الجثامين المتفحمة، مما يؤرق نومهم ويسدّ شهيتهم.

ووجه شكره لرجاله الذين لم ينصفهم العالم الذي تركهم في الميدان وحدهم دون دعم أو مساندة بحسب قوله، فناموا في الطرقات وفي المركبات وتشردوا في البيوت المهدمة وجاعوا دون أجر أو مقابل، ورغم كل ذلك لم يتوانوا عن تلبية أي نداء استغاثة لهم منذ اليوم الأول للحرب.

وأكد محافظ الدفاع المدني في غزة أنهم يستمدون صمودهم من صمود شعبهم في القطاع، وأضاف "مستمرون حتى الرمق الأخير ما دام فينا قلب ينبض ولو اضطررنا إلى خلق طاقة لنا من العدم".

المصدر : الجزيرة

إعلان