أطفال مبتورو الأطراف.. معاناة ممتدة في غزة وألم لا حدود له
في قلب مستشفى "شهداء الأقصى" وسط قطاع غزة، تتجسد مأساة الطفولة في أبشع صورها، حيث يرقد أطفال فقدوا أطرافهم وأحلامهم بأسلحة إسرائيلية حوّلت حياتهم إلى جحيم لا يطاق.
من بين هؤلاء الأطفال، برزت قصة الطفلة إيليا يونس ذات السنوات الأربع التي تحكي واحدة من آلاف قصص الأطفال المبتوري الأطراف في قطاع غزة.
يقول والد الطفلة إن ابنته فقدت قدمها اليمنى إثر إصابتها بشظايا صاروخ إسرائيلي استهدف منزلهم في مخيم النصيرات، بينما لا تزال قدمها اليسرى وكفّا يديها مهددة بالبتر بسبب الحروق العميقة التي غطت 45% من جسدها الصغير.
وأضاف والد إيليا أن منزلهم استهدف بقصف مباشر يوم 7 سبتمبر/أيلول دون سابق إنذار، مما أدى إلى استشهاد ابنه ذي السنوات التسع، إضافة إلى والدته وشقيقته، مشيرا إلى أن باقي أفراد عائلته أصيبوا إصابات بالغة.
لم يدر في خلدنا ونحن نتحدث مع والد إيليا الشهر الماضي، أن تكون هذه آخر مقابلة قبل أن يعلن عن استشهاد ابنته في أحد المستشفيات الأميركية. فبعد محاولات علاج طويلة في قطاع غزة المفتقر للإمكانات الطبية، تم تحويل إيليا إلى الولايات المتحدة لتلقي العلاج، فإنها استُشهدت يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، تاركة خلفها فراغا وجرحا لن يندمل في قلوب عائلتها وكل من عرف قصتها.
حنان ومسك
في قسم آخر بالمستشفى، تجلس السيدة شفا الدقي التي تروي مأساة ابنتي شقيقها اللتين لم تتجاوزا الثلاث سنوات، بعدما تعرضتا للبتر إثر قصف الاحتلال الإسرائيلي منزلهما في دير البلح، واستشهاد والدتهما.
وتوضح شفا أن ابنة شقيقها حنان ذات السنوات الثلاث، فقدت ساقيها وتعاني من حروق شديدة وتهتك في الأمعاء نتيجة شظايا الصاروخ الذي قذفها مسافة 6 أمتار بسبب قوة الانفجار، مشيرة إلى أنها تحتاج الآن إلى عمليات تجميلية وترقيع للجلد، إضافة إلى العلاج الطبيعي والنفسي.
أما شقيقتها مسك التي تبلغ من العمر عاما و3 أشهر، فقد تعرضت لبتر في قدمها اليسرى، وهي بحاجة إلى علاج طويل ومكثف للتأهيل.
إصابات البتر
وأوضح الدكتور محمد شاهين، طبيب جراحة العظام في مستشفى "شهداء الأقصى"، أن المستشفى يستقبل إصابات كبيرة، معظمها من الأطفال والنساء، في ظل الحرب الابادة المستمرة على قطاع غزة.
وذكر الدكتور شاهين، في حديث للجزيرة نت، أن الأولوية تُعطى لحالات البتر والكسور المفتوحة، خاصةً لدى الأطفال، ويتم تقسيم الحالات وفقًا للأولوية الطبية بهدف تقليل حالات البتر قدر الإمكان. لافتا إلى أنه يتم إدخال الأطفال إلى غرف العمليات فورًا لمحاولة ترميم الأطراف المكسورة بقدر المستطاع وتجنب حالات البتر.
وأشار إلى تنوع الإصابات التي يعالجها يوميا، مثل البتر والجروح العميقة الناتجة عن شظايا الأسلحة الإسرائيلية، التي زادت من معدل عمليات البتر بين الأطفال، بالإضافة إلى نوعية الإصابات غير المعهودة التي تحدثها تلك الأسلحة.
وأضاف أن التعامل مع بتر الأطراف عند الأطفال يتطلب عناية خاصة لتجنب المضاعفات والالتهابات التي قد تؤدي إلى الوفاة.
وأوضح الدكتور شاهين أن الفريق الطبي الذي يتعامل مع حالات البتر يضم طبيبا وممرضًا وأخصائي علاج طبيعي وأخصائي دعم نفسي، يعملون معا لدعم علاج الأطفال والجرحى بعد عملية البتر.
ونبه الدكتور إلى أن دور الطبيب يتوقف بعد البتر، ودور الممرض يتوقف بعد إغلاق الجرح، لكن دور أخصائي العلاج الطبيعي والدعم النفسي يبدأ لإعادة تأهيل المصابين لممارسة حياتهم بشكل طبيعي.
تحديات طبية ونفسية
وقال عرفات أبو مشايخ، رئيس قسم الصحة النفسية في مستشفى "شهداء الأقصى"، في تصريح للجزيرة نت، إن الدعم النفسي للأطفال الذين تعرضوا للبتر يختلف حسب أعمارهم، مشيرا إلى أن عددا كبيرا منهم، خاصة من هم أقل من 10 سنوات، يعتقدون أن أطرافهم المبتورة ستنمو مجددا.
وأوضح أبو مشايخ، أن الطفل غالبا يدخل في مرحلة الإنكار ولا يكون على دراية كافية بالأطراف الصناعية، مبينا أن سوء التغذية يؤثر سلبا على صحة الأطفال وعلى عملية التئام الجروح.
وأشار إلى أن نقص الرعاية الصحية والنفسية، بالإضافة إلى غياب التأهيل النفسي والعلاج الوظيفي، يؤدي إلى تدهور حالة الأطفال الصحية والنفسية.
وأكد أن الأطفال الذين يعانون من البتر يعانون أيضا من مشكلات اجتماعية، حيث يشعرون بالعجز مقارنة بأقرانهم، إذ لا يستطيعون المشي أو اللعب أو ممارسة حياتهم اليومية بشكل طبيعي. كما أن فقدان أحد الوالدين أو كليهما يؤثر على نفسية الطفل، خاصة الشعور بالأمان والحصول على الدعم الكافي من الأسرة.
وأوضح أبو مشايخ أن الدعم النفسي يمكن أن يتضمن إنشاء مجموعات علاجية تجمع بين الأطفال مبتوري الأطراف، أو عرض فيديوهات تُظهر قصص نجاح لأشخاص تمكنوا من ممارسة حياتهم بشكل طبيعي بعد البتر.
وأضاف أن التأهيل النفسي يجب أن يركز على إقناع الطفل، من الناحيتين النفسية والطبية، بالخروج من مرحلة الإنكار إلى مرحلة التقبل، مع تأكيد أن البتر ليس نهاية العالم، بل يمكن أن يكون بداية جديدة لحياة مختلفة لكنها قريبة من الطبيعية.
وأكد أن التأهيل النفسي يشكل 90% من عملية العلاج، بينما تشكل الأطراف الصناعية 10% فقط، مشدد على أهمية التأهيل التدريجي، بما في ذلك الدمج الاجتماعي وتعزيز الاستقلالية، بحيث يتعلم الطفل الاعتماد على نفسه في أنشطة حياته اليومية.
وتشير إحصائيات رسمية محلية ودولية إلى أن الحرب تسببت في أكثر من 11 ألف حالة بتر أطراف، من بينها 4 آلاف حالة بتر في أوساط الأطفال، لا تتوفر لهم أطراف صناعية ومتطلبات العلاج اللازمة في القطاع المحاصر.
وبدعم أميركي تشن إسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حربا على غزة خلفت أكثر من 148 ألف شهيد وجريح فلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.