الأقطاب المتشابهة تتنافر ولكن ماذا عن ترامب ومودي وعلاقة أميركا والهند!
تدخل العلاقات الهندية الأميركية مع فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية، مرحلة جديدة قد تكون حافلة بالتحديات والتحالفات المتشابكة، كما يمكن أن تشهد مزيدا من التوافق في الرؤى، نظرا لأن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، قادم من خلفية يمينية كالرئيس الأميركي المنتخب.
وتربط الهند بالولايات المتحدة علاقة إستراتيجية متينة، مبنية على المصالح المشتركة والتحالفات السياسية، لكن هذه العلاقات تحمل في طياتها ملفات شائكة وخلافات تضفي عليها نوعا من الهشاشة، خاصة في ظل التحولات السياسية العالمية وارتفاع حدة التوترات مع الصين.
تحقيق المكاسب
ومن القضايا الرئيسية التي تلقي بظلالها على العلاقة بين واشنطن ونيودلهي، النزاعات التجارية، وملف الأقليات، والهجرة، وتباين المواقف تجاه روسيا وإيران، والموقف الهندي من التحالفات الغربية لاحتواء الصين، كالحوار الأمني الرباعي "كواد" (QUAD) الذي يضم إلى جانب الهند كلًّا من الولايات المتحدة، اليابان، وأستراليا.
ومن المتوقع أن تتأثر العلاقات بين البلدين بسياسات ترامب الصارمة في ملفات عدة خاصة مواجهة الصين والهجرة والتجارة، مما قد يشكل تحديا لنيودلهي التي تفضل الحفاظ على توازن دقيق في علاقتها مع الصين بعيدا عن المواجهة المباشرة.
من خلال فترة حكمه السابقة يمكن استقراء المواقف السياسية لترامب، حيث يحكم سلوكه مجموعة من المبادئ لعل من أهمها حماية الصناعة الأميركية، والتوقف عن إعطاء خدمات مجانية للآخرين -كما يقول- والعودة بالإنتاج والصناعة إلى داخل الولايات المتحدة من أجل توليد فرص العمل.
بالإضافة إلى ذلك فإن سياسات ترامب ليست مسكونة بالبعد القيمي بل قائمة على تحقيق المكاسب -وفق كثير من المراقبين-، فهو لا يلقي بالا إلى كثير من المواضيع التي يعدها الديمقراطيون جزءا من مبادئ السياسة الخارجية لبلادهم، وعلى سبيل المثال موضوع التجارة الحرة، والتغيّر المناخي، وحقوق الأقليات والمرأة والمثليين، وهي قضايا كانت تشكل عنصرا مهما في العلاقة بين الإدارة الديمقراطية مع الآخرين.
التجارة العادلة
يعتبر ترامب الصين العدو الأول للولايات المتحدة، في حين ينظر إلى نيودلهي على أنها شريك أساسي في مواجهة بكين، فقد سبق أن صرح خلال زيارته الرسمية للهند في فبراير/شباط 2020، بأنّ "الهند شريك إستراتيجي رئيسي، وخاصة في مواجهة التحديات الصينية".
في المقابل، أكد رئيس الوزراء الهندي في القمم الثنائية التي جمعت البلدين في عامي 2019 و2020، "أن التعاون مع الولايات المتحدة يتجاوز القضايا الثنائية؛ إلى التحالف الذي يعزّز الاستقرار في المنطقة"، ورغم هذه التصريحات الوديّة، حذّر بعض المسؤولين الهنود من أن "توجهات ترامب الاقتصادية قد تزيد من صعوبة التعاون التجاري بين الطرفين".
كما عبّر رئيس منتدى الشراكة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والهند موكيش أغهي، عن أن فوز ترامب بولاية جديدة قد يؤدي إلى التركيز على خفض العجز التجاري الأميركي، مشيرا إلى أن ذلك قد يتطلب من الهند تقديم تنازلات صعبة في المفاوضات التجارية.
وتخيّم قضايا التجارة والهجرة على العلاقة الهندية الأميركية، ويسعى ترامب إلى إعادة تقييم الميزات التجارية الممنوحة للهند نتيجة موقعها الحساس في قارة آسيا واستقطابها لصالح مواجهة للصين.
وفي إطار ما يسميه "التجارة العادلة"، أشار ترامب خلال حملته الانتخابية إلى ضرورة دفع الدول المستفيدة من السوق والنفوذ الأميركي مقابل "التكافؤ" في التعامل، مشددا على ضرورة إصلاح العجز التجاري.
وتشير تصريحاته إلى أنه قد يفرض مزيدا من الرسوم الجمركية على واردات هندية، واتخاذ سياسات اقتصادية صارمة كما حدث في ولايته الأولى.
وتجدُّد هذا النهج في ولايته الجديدة، يعني أنّ الامتيازات التي تمتّعت بها الهند سابقا ستخضع لإعادة تقييم، بما فيها وضع قيود إضافية على تأشيرات العمل للمهاجرين الهنود، حيث أكد ترامب مؤخرًا على "الحاجة لإيجاد عمالة أكثر مهارة"، وهو ما يثير قلقًا في نيودلهي، لوجود حوالي 5 مليون هندي في الولايات المتحدة، وهم أكبر تجمع هندي خارج البلاد.
وتُعدّ الولايات المتحدة وجهة مفضلة للشباب الهندي للدراسة والعمل، وتشديد الإجراءات ربما يعني الإضرار بهذه العمالة الضخمة، كما أن نيودلهي كانت تطمح لأن يشكل الوجود الهندي هناك مدخلا للتأثير السياسي مستقبلا لصالحها.
ومع ذلك ربما يعمل ترامب على منح الهند بعض الامتيازات في هذا الملف، من خلال ما أسماه "العمالة المفيدة والعمالة غير مفيدة"، من خلال استقبال العمالة الهندية المدربة والأكثر كفاءة والتي يمكن أن تخدم في مفاصل يحتاجها الاقتصاد الأميركي، وهو ما يجعلها مشكلة يمكن التغلب عليها، ويضاف لذلك، موضوع التعريفات الجمركية واختلال الميزان التجاري، فالولايات المتحدة تمثل شريكا مهما للهند وهذا بحدّ ذاته شيء مطمئن في سياق استقرار العلاقة بين البلدين في المرحلة المقبلة.
حقوق الإنسان
تزايدت الانتقادات الأميركية الرسمية والحقوقية للهند بسبب الاضطهاد الذي تتعرض له الأقليات، وهو ما شكل ضغوطا متزايدة على نيودلهي وتوترا للعلاقات بين البلدين، خاصة في ظل قانون تعديل المواطنة المثير للجدل، والذي يهدف إلى تسهيل منح الجنسية لغير المسلمين القادمين من أفغانستان وباكستان وبنغلاديش، وهو تعديل تم إقراره في ديسمبر/كانون الأول 2019 على قانون المواطنة الهندي لعام 1955.
ووفقا لهذا القانون، يمكن لأتباع الديانات الهندوسية، السيخية، البوذية، الجاينية، البارسية، والمسيحية الذين وصلوا إلى الهند قبل 31 ديسمبر/كانون الأول 2014 الحصول على الجنسية الهندية، ويعتبره منتقدوه قانونا تمييزيا لأنه يستثني المسلمين من الفئات المستفيدة، مما يتعارض مع القيم العلمانية التي ينص عليها الدستور الهندي.
كما أبدت منظمات أميركية وأخرى دولية قلقها من تراجع حرية الصحافة في الهند، كما واجهت انتقادات من الولايات المتحدة بسبب -ما يُوصف- بالتضييق على النشطاء السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، وتركزت الانتقادات على استخدام قوانين مشددة مثل "قانون الأمن القومي" و"قانون الأنشطة غير المشروعة" لاحتجاز المعارضين.
وفي تقاريرها السنوية حول حقوق الإنسان، تناولت وزارة الخارجية الأميركية بانتظام الأوضاع في الهند، وسلطت الضوء على الانتهاكات التي تتعلق بمعاملة الأقليات، خاصة المسلمين، وقضايا حرية الصحافة والتعبير.
وفي تقريرها لعام 2022، أشارت الوزارة إلى "زيادة الضغوط على الصحفيين والنشطاء واعتقالات في كشمير"، و"تشريعات مقلقة تتعلق بالمواطنة وتستثني بعض الأقليات".
كما عبر بعض أعضاء الكونغرس عن قلقهم إزاء أوضاع حقوق الإنسان في الهند، وكتب النائب الديمقراطي بريت شيرمان رسالة دعا فيها الهند إلى مراجعة سياساتها الخاصة بالمواطنة، مشيرا إلى أنها تثير قلقا بشأن التمييز الديني.
ومارست الولايات المتحدة، خاصة في عهد الإدارات الديمقراطية، ضغوطا دبلوماسية على الهند لتحسين سجلها في مجال حقوق الإنسان، وإن كانت هذه الانتقادات أحيانا تتراجع نظرا للشراكة الإستراتيجية بين البلدين.
لكن ترامب يظهر عدم اكتراث واضح بالمخاوف الحقوقية مقارنة بالإدارات الديمقراطية، حيث لا تشكل قضايا مثل الحريات الدينية أو حقوق الأقليات أولوية بالنسبة له، ولا ضمن مبادئ السياسية الخارجية مع الدول، إضافة إلى أنه متهم بالعنصرية ضد المسلمين والمهاجرين، بل بالعكس فإن الخلفية اليمينية التي يأتي منها ستجعله أكثر تفهما للسياسات الهندية في هذا المجال، على الأرجح.
مواجهة الصين
تعتبِر الولايات المتحدة الهند شريكا أساسيا في إستراتيجيتها وجهودها لاحتواء النفوذ الصيني، ومن ذلك تصريحات ترامب بأن "الهند جزء أساسي من الإستراتيجية الأميركية لمواجهة الصين"، متوقعا من نيودلهي اتخاذ خطوات واضحة لدعم التحالفات التي تقودها واشنطن، لكن من الواضح أن الهند تحاول تجنب التورط في صدام مباشر مع بكين، عبر تعزيز علاقاتها التجارية والدبلوماسية مع الصين، واتباع سياسة متوازنة للحفاظ على استقرار منطقة المحيطين الهندي والهادي.
وقد أوضح ترامب أن "مواجهة الصين تتطلب تحالفات قوية في المنطقة الآسيوية، والهند تلعب دورا محوريا في هذا التحالف"، وهذه الفكرة صرح بها بوضوح خلال زيارته إلى الهند في فبراير/شباط 2020، في تجمع جماهيري بحضور رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، وهو ما يعزز من أهمية الحوار الأمني الرباعي (QUAD) بين الهند وأميركا واليابان وأستراليا.
ورغم أن نيودلهي تُعد عضوا رئيسيا في التحالف الرباعي، لكنها تميل لتقديمه كتحالف هجين لا يرتكز فقط على الجانب العسكري، من خلال طرح قضايا إنسانية كالصحة والتقنية، في محاولة منها لتلطيف التجمع وجعله أكثر قبولا، وهذا الأمر لن يقبله ترامب وإدارته الجمهورية إذ يمكن أن يعدّوه وسيلة لتمييع هوية وأهداف التجمع.
لذا فإنه من المتوقع أن يُجري ترامب تغييرات على هذا النهج، وأن يطالب الهند بتعزيز الجانب العسكري ضمن التحالف وتقديم التزامات محددة أكثر وضوحا وصراحة بهذا الخصوص، مما قد يشكل تحديا لنيودلهي التي تفضل الحفاظ على توازن دقيق في علاقتها مع الصين، خاصة أن التجارة الثنائية بين البلدين تتطور رغم الخلافات الحدودية.
وإذا كانت الهند لم توقع على اتفاقية البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB) والذي يُعد الشريان الرئيس لمبادرة الحزام والطريق (BRI) الصينية، ويضم في عضويته 110 بلدان، مما يعني أنها ليست جزءا من المبادرة، إلا أن تجارتها مع الصين تتطور، مما يؤشر أنها تحاول عمل شبكة أمان في علاقتها مع بكين دون الاعتماد بالكلية على الولايات المتحدة.
كما يبقى منطق المواجهة الأميركية مع الصين ليس حتميا بالضرورة وإن كان هو المرجح، إذ أثنى ترامب على الرئيس الصيني شي جين بينغ في عدة مناسبات، منها تصريحاته في منتدى الاقتصاد العالمي في دافوس بتاريخ 21 يناير/كانون الثاني 2020، حيث أشاد بعلاقته الشخصية مع شي، مشيرا إلى أنهم "يحب بعضهم بعضا"، رغم التوترات التجارية بين البلدين.
وفي مقابلة مع جو روغان في عام 2024، وصف ترامب شي بأنه "رجل عبقري" و"قائد بقبضة حديدية"، مؤكدا احترامه لقدراته في إدارة بلد ضخم مثل الصين، كما أن لدى الطرفين مقاربات براغماتية عالية ليس مستبعدا في ظلها وجود صفقات بين الجانبين، خصوصا في ظل سياسة ترامب المعلنة في الابتعاد عن إشعال الحروب.
ولدى ترامب خصومة مع المجمع الصناعي العسكري في الولايات المتحدة، لذا فهو يعتمد على إستراتيجية حل النزاعات بهدوء دون تدخل عسكري، وهو معني بإنهاء الحرب الأوكرانية كما أعلن مرارا، ومن غير المرجح أن يذهب إلى حالة مواجهة عسكرية مع الصين من أجل تايوان، بل بالعكس يمكن أن يسعى إلى تبريد العلاقة بينهما كما حصل سابقا مع كوريا الشمالية، وربما يشمل ذلك أيضا موضوع بحر جنوب الصين.
روسيا وإيران
تحافظ الهند على علاقات تاريخية وثيقة مع كل من روسيا وإيران، وتمثل هذه العلاقات بعدا إضافيا للعلاقات الهندية الأميركية، فقد يتعامل ترامب بمرونة أكبر مع ملف روسيا، حيث سبق أن قال في خطاب ألقاه في نادي الاقتصاديين الأميركيين بمدينة نيويورك في 5 سبتمبر/أيلول 2024، "إنه يسعى لإنهاء الصراع في أوكرانيا وإعادة روسيا إلى المجتمع الدولي"، وهذا يمنح نيودلهي هامشا أوسع لتعزيز علاقاتها بروسيا دون ضغوط كبيرة من واشنطن.
ومع تأكيد ترامب على أولويته لتطوير الاقتصاد الأميركي، فقد يغض الطرف عن تقارب الهند مع إيران، خصوصا إذا كان ذلك يخدم أهدافا اقتصادية مشتركة، إلا أن مسؤولين أميركيين أكدوا أن "علاقة الهند بإيران ستظل عاملا حساسا في السياسات الأميركية"، مما يثير تساؤلات حول كيفية معالجة إدارة ترامب لهذا الملف الشائك.
ورغم الخلافات المحتملة، تظل العلاقة بين الهند والولايات المتحدة مدفوعة بمصالح إستراتيجية مشتركة، أهمها التصدي للصعود الصيني، وتعزيز التعاون في مجالات التكنولوجيا والطاقة المتجددة والاقتصاد.
ومن المتوقع أن تشهد بعض الأولويات تغييرات في عهد ترامب، مع احتمالية زيادة الضغوط التجارية وإعادة تقييم سياسات الهجرة ومع ذلك، يبدو أن العلاقة بين البلدين ستستمر في التوازن بين المصالح المشتركة والتوترات السياسية.
وبالنظر إلى أسلوب ترامب الشخصي في تطوير العلاقات خلال ولايته السابقة، يُرجح أن تتسم العلاقات مع الهند بقدر من الانسجام، خاصة مع وجود تشابه بين شخصيتي ترامب ومودي؛ فكلاهما يأتي من خلفية يمينية، وهو ما قد يسهم في إيجاد قواسم مشتركة تعزز التفاهم بينهما.