أساليب بدائية لمواجهة قسوة الشتاء بغزة
غزة – تحت التحليق المكثف للطيران الحربي الإسرائيلي على مدار الساعة، يعمل فايز العزازمة وفريقه في إنتاج الفحم من بقايا أشجار جرفتها قوات الاحتلال خلال توغلها البري في شرق مدينة خان يونس ومناطق جنوبي قطاع غزة.
يقول للجزيرة نت إنها مهنة مضرة صحيا ومخيفة في ظل الحرب، وبينما تُسمع أصوات انفجارات ناجمة عن غارات جوية إسرائيلية وقصف مدفعي بشكل واضح، يضيف "نعمل طوال الوقت على وقع هذه الانفجارات، ونخشى أن نكون هدفا لغارة جوية أو قذيفة مدفعية".
ولمواجهة فصل البرد والأمطار، يعمل فلسطينيون في خان يونس على إنتاج الفحم لاستخدامه بديلا عن الوقود وغاز الطهي من أجل التدفئة والاستخدامات الحياتية الأخرى.
مخاطر وأضرار
ويحل الشتاء الثاني على الغزيين وغالبيتهم مشردين في الخيام ومراكز الإيواء في ظل أزمة حادة في غاز الطهي الأكثر استهلاكا في القطاع، وانقطاع تام للكهرباء وعدم توفر وسائل الطاقة البديلة وارتفاع أسعارها على نحو غير مسبوق.
ولكن العزازمة لا يكترث بهذه المخاطر بغية توفير "لقمة العيش" لأسرته التي خاض معها تجربة النزوح المريرة من مكان إلى آخر منذ نزوحهم القسري من شمال غزة مع بدايات الحرب عقب هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
يقول هذا الأب المكافح "في ظل هذه الحرب القاسية لم يعد أمامنا خيارات كثيرة من أجل البقاء على قيد الحياة وتوفير المأكل والمشرب لعائلاتنا وأطفالنا". تبدو على وجه العزازمة ملامح الشقاء من ظروف العمل القاسية وتعرضه ساعات طويلة لانبعاثات الدخان الكثيف الناجم عن احتراق الحطب.
ويجلب عاملون هذا الحطب من أراضٍ زراعية قريبة من السياج الأمني الإسرائيلي شرق خان يونس كانت قوات الاحتلال قد جرفتها ودمرت أشجارها، غالبيتها من الزيتون، ويقول العزازمة إنها "مهمة خطرة للغاية، فالوصول إلى تلك المناطق مغامرة كبيرة قد يدفع الشخص حياته ثمنا لها".
ونتيجة اعتماد الغزيين على الأخشاب والحطب بديلا للوقود وغاز الطهي، شهدت أسعارها ارتفاعا هائلا وتناقصت كمياتها في الأسواق، مما رفع من كلفة إنتاج الفحم بصورة لم يعهدها العزازمة من قبل، ويضيف "الحرب أثرت علينا في كل شيء ودمرت حياتنا، وبصعوبة بالغة نتدبر احتياجاتنا".
وبينما يتحدث العزازمة عن ظروف العمل المعقدة، انهمك عمال في تقطيع الحطب إلى قطع صغيرة ورصه على هيئة هرم، ثم تغطيته بالقش وبطبقة من الرمل تتخللها فوهات صغيرة ينبعث منها دخان كثيف نتيجة إشعال النار في القش واحتراق الحطب.
"بعد هذه المرحلة ننتظر أياما حتى يحترق الحطب بصورة كاملة تماما ويتحول إلى فحم، ونقوم بتعبئته وعرضه للبيع"، يوضح العزازمة.
حصار خانق
وليس بمقدور كثير من الغزيين، الذين فتكت بهم الحرب وأفقدتهم أعمالهم ومصادر رزقهم ومدخراتهم، شراء الفحم نظرا لارتفاع أسعاره، وبحسب العزازمة فإن سعر الكيلوغرام منه يبلغ 20 شيكلا (حوالي 6 دولارات) أو أكثر، في حين لم يكن سعره قبل الحرب يتعدى 5 شواكل (أقل من دولارين).
وحتى اندلاع الحرب، كان اعتماد الغزيين بصورة أساسية على الفحم المستورد، غير أن دولة الاحتلال تمنع إدخاله عبر معبر كرم أبو سالم التجاري الوحيد الخاضع لسيطرتها، وتواصل احتلال معبر رفح البري بين القطاع ومصر للشهر السابع على التوالي.
ويندرج ذلك في سياق حصار خانق تفرضه إسرائيل وألقى بظلاله الثقيلة على زهاء 2.3 مليون فلسطيني في القطاع الساحلي الصغير، وطال حتى المساعدات الإنسانية، ولم يعد معه غالبية الغزيين قادرين على تدبر احتياجاتهم الأساسية، وصاروا يبحثون عن بدائل بدائية.
وبالنسبة للبعض، فإن استخدام الفحم أقل كلفة من غاز الطهي الذي يباع في السوق السوداء بأسعار باهظة تتراوح بين 70 و100 شيكل للكيلوغرام الواحد (بين 20 و27 دولارا)، في حين لا يزيد سعر الأسطوانة وزن 12 كيلوغراما عن 65 شيكلا (18 دولارا) قبل الحرب.
ويقول فايز العزازمة إن له زبائن من النازحين في الخيام ومراكز الإيواء يعتمدون بشكل أساسي على الفحم، خاصة مع دخول فصل الشتاء، حيث لا تقيهم هذه الخيام البرد الشديد، ويضيف أنه في كل مرة يطالبهم بالحذر الشديد لمخاطر استخدام الفحم في الخيام والأماكن المغلقة.
ولا يشكل لجوء الغزيين للفحم أو الحطب للتدفئة والطهي سابقة، فقد اعتاد كثير منهم على ذلك منذ فرض الاحتلال الحصار في منتصف العام 2007، ومعاناتهم مع أزمة كهرباء دائمة وتلاعب إسرائيلي متكرر بحركة المعابر مع القطاع.
ظواهر جديدة
وجراء غلاء الأسعار وأزمات مركبة خلقتها الحرب، برزت ظاهرة أطفال يجوبون الشوارع ويجمعون كل شيء قابل للاشتعال من أخشاب وأقمشة وكرتون وبلاستيك، يستخدمه نازحون لإشعال النار في أفران من الطين أقاموها في أماكن نزوحهم.
بدورها، تنجز أم علي أبو عمشة (37 عاما) أعمالها اليومية على فرن من الطين بناه زوجها في مدرسة نزحوا إليها قرب مجمع ناصر الطبي، وتقول للجزيرة نت "الأسعار نار وأسرتي كبيرة، وبصعوبة شديدة نوفر مستلزماتنا اليومية، الشتاء على الأبواب وربنا يستر".
هذه النازحة من بلدة بيت حانون في شمالي القطاع هي أم لـ11 طفلا، تنقلت بهم من مكان إلى آخر منذ اليوم الأول للحرب، آخرها في مايو/أيار الماضي على وقع اجتياح بري إسرائيلي لمدينة رفح التي أقاموا فيها لبضعة شهور.
وخسرت أم علي وأسرتها منزلا ومطعما دمرتهما قوات الاحتلال في بلدتهم، وتقول إن النزوح استنزف مدخراتهم ويقيمون حاليا في صف داخل مدرسة يشاركهم فيه أقارب آخرون، وتتخوف من آثار الشتاء على صحة أبنائها مع البرد والأمراض المعدية.
وفي ظل أزمة غاز طهي حادة، تعتمد هذه العائلة على نار الحطب وتضطر لشراء الرطل منه بـ15 شيكلا (نحو 4 دولارات)، وهو شحيح للغاية وتوفيره ليس سهلا.
وجراء ذلك، تقضي الطفلة ملك نضال (13 عاما) ساعات طويلة يوميا تتنقل بين الشوارع والأزقة والمباني المدمرة لتعبئة أكياس بكل شيء يمكن أن تستخدمه والدتها لإشعال نيران فرن على الطين. وهي الأكبر بين أخوتها في أسرة من 7 أفراد، ووالدها مبتور الساق من الحرب الإسرائيلية السابقة على غزة عام 2021 التي أفقدته عمله، وتقول إنها مضطرة للعمل لتوفير الطعام لعائلتها.
وبحسب الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، فإن الحرب حرمت نحو 650 ألفا، أكثر من 50% منهم من الفتيات، من التعليم الأساسي وشردتهم عن مقاعد الدراسة، وأجبرت الكثير منهم على أعمال شاقة للمساهمة في إعالة أسرهم.