ضرب النووي الإيراني.. معضلة نتنياهو والحلم الذي يراوده
لطالما اعتبر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مواجهة المشروع النووي الإيراني مرتكزا لسياسته الخارجية والأمنية، فقبل وصوله إلى الحكم بسنوات نشر مقالا عام 1993 حذر فيه من خطر هذا المشروع على وجود إسرائيل.
وعبّر نتنياهو مرارا عن قناعته بأن "التهديد الأكثر خطورة على وجود إسرائيل ليس موجودا اليوم في الدول العربية وإنما في إيران التي ستكون لديها قنبلة نووية في سنة 1999″، مؤكدا أن على إسرائيل العمل بسرعة على وضع حد لهذا الخطر الذي يهدد وجودها.
وخلال سنوات حكمه الطويلة انتهج نتنياهو سياسة تقوم على عنصرين أساسيين في مواجهة المشروع النووي الإيراني، أولهما يقوم على حشد دولي وإقليمي لفرض عقوبات قاسية على إيران تجبرها على التخلي عن مشروعها النووي، وفي حال فشل هذا المسار العمل بصرامة على استخدام القوة العسكرية لتنفيذ المهمة.
تفرد إسرائيل بالقوة
تقوم النظرية الأمنية الإسرائيلية التقليدية على ضمان التفوق العسكري الإقليمي والتفرد بقوة الردع الإستراتيجي النووي، وهي النظرية التي أرسى قواعدها أول رئيس وزراء لإسرائيل ديفيد بن غوريون، وطبقها من بعده مناحيم بيغن، وينتمي نتنياهو إلى هذه النظرية.
وقد دمرت إسرائيل في عام 1981 إبان حكم بيغن المفاعل النووي العراقي، ثم دمرت في عام 2007 المنشأة النووية السورية خلال عهد رئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت.
وقد غامر نتنياهو مرارا بعلاقاته مع الإدارات الأميركية الديمقراطية بسبب معارضته الدائمة أي اتفاق دولي مع إيران بشأن برنامجها النووي لا يضمن تخلي طهران عن مشروعها، ودخل في مواجهة علنية مع إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما بلغت ذروتها بعد اتفاق دول "5+1" عام 2015 مع إيران حين وجه خطابا شهيرا في الكونغرس الأميركي هاجم فيه إدارة أوباما.
واعتبرت تلك اللحظة مفصلية في تحالف نتنياهو مع الرئيس الأميركي السابق والمرشح الجمهوري الحالي دونالد ترامب، وظهر ذلك من خلال النجاح الاستثنائي الذي حققه حين اقنع ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران عام 2018.
لكن سياسة نتنياهو في دفع إدارة ترامب إلى فرض مزيد من العقوبات الاقتصادية على إيران أدت إلى اتجاه مغاير من طهران التي جعلت من الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي فرصة لدفع برنامجها إلى الأمام وزيادة نسبة تخصيب اليورانيوم بشكل مطرد أصبحت به "دولةَ عتبةٍ نووية"، وامتلكت المتطلبات الأولية للانضمام إلى النادي النووي الدولي.
ووفقا للوكالة الدولية للطاقة النووية، زادت إيران إجمالي احتياطيها من اليورانيوم المخصب حتى منتصف مايو/أيار 2022 بأكثر من 18 مرة حتى وصل إلى 3809 كيلوغرامات بدلا من 202 كيلوغرام وفق الاتفاق النووي.
حرب الظلال
انتهج نتنياهو مدعوما من المؤسستين الأمنية والعسكرية خيارا وسطا بين الحرب المباشرة على إيران وضرب مشروعها النووي، وبين الاكتفاء بالرهان على العقوبات الاقتصادية، وتمثل ذلك الخيار الوسط بتوجيه ضربات إلى أهداف ومصالح إيرانية في سوريا والعراق وحتى داخل إيران، بحيث لا تتبناها إسرائيل.
وشملت تلك الضربات سلسلة اغتيالات لمستشارين وقادة في الحرس الثوري الإيراني وعلماء ومهندسين مرتبطين بالمشروع النووي الإيراني، أبرزهم محسن فخري زاده في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 الذي يعد "الأب للمشروع النووي الإيراني".
وسريعا ما انتقلت حرب الظلال لتصل إلى مبتغاها الأساسي، وهو المشروع النووي الإيراني، وكان من بين هذه العمليات العسكرية اعتداءات كبيرة على منشأة نطنز، وقع الأول في يوليو/تموز 2020، إذ أتى حريق كبير على جزء من منشأة لإنتاج أجهزة التخصيب، وجرى الثاني في أبريل/نيسان 2021، وقد دمر انفجار كبير نظام الكهرباء الداخلي الذي يغذي أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم في باطن الأرض.
من جانبها، وجدت إيران أن جبهة البحر إحدى نقاط الضعف الإسرائيلية التي يمكن لطهران من خلالها الرد على استهدافات واغتيالات إسرائيل غير المعلنة، وشنت طهران ما بين 2021-2023 سلسلة هجمات على سفن مرتبطة بإسرائيل كرد على حرب الظلال الإسرائيلية.
لم تشكل نتيجة حرب الظلال إنجازا إستراتيجيا لإسرائيل، فلم توقف المشروع النووي الإيراني ولم تلحق به أضرارا تذكر، كما لم تحقق أهدافها فيما يخص النفوذ الإيراني في المنطقة ومسارات دعم حلفائها بالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين.
الخيار العسكري
وقد ولّد ذلك شعورا خاصا عند نتنياهو -الذي عاد للحكم- إلى أن خيارات العقوبات الاقتصادية وحرب الظلال واستهداف حلفاء إيران في المنطقة لن تؤدي في نهاية المطاف إلى دفع إيران للتراجع عن مشروعها النووي، وعلى إثر ذلك بدأت القيادات السياسة والعسكرية الإسرائيلية في الحديث عن الخيار العسكري الإسرائيلي.
وتواجه إسرائيل تحديات فنية عدة أمام الخيار العسكري ضد المشروع النووي الإيراني، ويحتاج الأمر إلى مشاركة أميركية مباشرة في الهجوم، مما يعيد النقاش بشأن الدور الأميركي إلى محوريته الأساسية، فالمسافة الفاصلة بين إسرائيل والمواقع النووية الإيرانية تتراوح بين 1200و1500 كلم، وهي مسافة تحتاج استعدادا عسكريا خاصا على صعيد الطائرات المستخدمة، والراجح أن إسرائيل لا تمتلك القدرات اللازمة لتوجيه هذه الضربة.
وهناك حاجة إلى قنابل هائلة القوة قادرة على اختراق عشرات الأمتار من الصخور والخرسانة المسلحة، والسلاح الوحيد الذي قد يحقق هذا الهدف بشكل معقول هو القنبلة الأميركية "جي بي يو-57 إيه بي"، وبحسب تقرير لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية فإن هذه القنبلة قادرة على اختراق ما يصل إلى 61 مترا من الخرسانة المسلحة.
الأمر الآخر أن هذه القنبلة لا يمكن حملها بواسطة الطائرات المقاتلة الأميركية العادية، بما في ذلك طائرات الجيل الخامس "إف-35" التي تمتلكها إسرائيل، وفي الواقع، فإن هذه القنابل تُحمَل فقط عبر قاذفة الشبح الأميركية "بي-2 سبيريت" التي لا توجد منها سوى 21 نسخة فقط عالميا تُشغَّل جميعا بواسطة القوات الجوية الأميركية.
وتتخطى تعقيدات العملية مسألة القنبلة والتقنيات إلى الحاجة لغطاء سياسي وعسكري أميركي، وقبل ذلك الاتفاق على تقدير الموقف حيال توجيه ضربة إلى منشآت إيران النووية وما سينتج عن ذلك من ردة فعل إيرانية.
ضربات متبادلة
ومع تصاعد الضربات البينية بين إيران وإسرائيل منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 أظهرت طهران أن خياراتها في الرد على استهداف مصالحها وسيادتها تجاوزت خطوطا حمرا نشأت عبر سنوات من معادلات الردع المتبادل بين الجانبين.
كما أن أبرز نتائج التصعيد المتبادل بين الجانبين احتياج إسرائيل إلى المنظومة الأميركية والغربية المنتشرة في المنطقة للدفاع عنها أمام الضربات الإيرانية.
وقد أحدثت الضربة الإيرانية الأخيرة -التي جاءت ردا على اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران والتصعيد الإسرائيلي ضد حزب الله واغتيال أمينه العام حسن نصر الله– صدمة داخل إسرائيل وحلفائها بعد نجاح إيران في توجيه ضربات محددة إلى قواعد عسكرية إسرائيلية، واقتربت بذلك المخاوف الأميركية من الواقع باندلاع صراع إقليمي واسع.
ومما يصعّب الأمر على الولايات المتحدة أن التصعيد الحاصل هذه الأيام يأتي في ظلال عملية طوفان الأقصى التي أطلقتها حماس قبل عام، إذ يأتي التصعيد كنتيجة لعملية الطوفان واستجابة لها وتطورا في نظريتها ونجاحا لمن أطلقها بتعاظم التحديات أمام إسرائيل في المنطقة ومنعها من كسب الحرب التي تشنها في غزة ولبنان وعموم المنطقة.
نشوة إسرائيلية
وبعد توجيهه ضربة قوية إلى حليف إيران الأبرز في المنطقة (حزب الله) وبدء عملية عسكرية برية في الجنوب اللبناني، وعقب الرد الإيراني الأخير، ومع حالة النشوة التي يشعر بها نتنياهو تصاعدت في الأيام الأخيرة التكهنات بشأن طبيعة الرد الإسرائيلي المرتقب على الرد الإيراني غير المسبوق، ومن بين تلك الخيارات المطروحة توجيه ضربة إلى المنشآت النووية الإيرانية، وهي اللحظة التي انتظرها نتنياهو طويلا.
لكن الأيام الأخيرة التي تلت العملية البرية في جنوب لبنان وأداء حزب الله التصاعدي والذي بدا عليه التماسك قد أعادت نتنياهو إلى مرحلة الحسابات التي حكمت سلوكه حيال هذه القضية لسنوات، فتوجيه ضربة إلى المنشآت النووية الإيرانية ما زال يحمل التداعيات نفسها في ظل حفاظ حزب الله وحلفاء إيران في المنطقة على قدرتهم على توجيه ضربات مباشرة إلى العمق الإسرائيلي.
وقد ظهرت هذه الحسابات بالتحفظات التي أبدتها إدارة بايدن بضرورة أن يكون رد إسرائيل منسجما مع مبدئها بعدم اندلاع حرب شاملة وإقليمية في المنطقة، وهي كلمة السر لعدم استهداف مصالح حيوية لإيران، خاصة مشروعها النووي.
وحذر بايدن إسرائيل من استهداف مواقع نووية أو منشآت الطاقة، وقال إن أي رد يجب أن يكون "متناسبا" مع الهجوم الذي شنته إيران على إسرائيل الأسبوع الماضي، مما يعني أنه يعترف بأن هناك ضرورة لرد مضاد.
ورغم تعهدات الولايات المتحدة المتكررة بضمان أمن إسرائيل فإن إصرار إدارة بايدن على عقد مشاورات مع نتنياهو يُظهر أن الطريق ليست معبدا لضربة للمشروع النووي الإيراني كما يحلم رئيس الوزراء الإسرائيلي.
وبدا ذلك من خلال حديث وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي كان "واضحا" مع نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت بأن الولايات المتحدة تريد من إسرائيل تجنب اتخاذ خطوات انتقامية قد تؤدي إلى تصعيد جديد من قبل الإيرانيين، كما نقلت صحيفة نيويورك تايمز، فالتصعيد الذي أحدثه نتنياهو في المنطقة عبر إصراره على استمرار الحرب على غزة وتوسيعها نحو لبنان لم يحسم الحرب مع محور المقاومة ولم يضعفه بالمستوى الذي يجعل من ضرب إيران ومنشآتها النووية أمرا عابرا أو تحصيل حاصل.
حلم يراوح مكانه
تمنح أجواء التصعيد الحالية إيران وحلفاءها الشرعية اللازمة لاستمرار توجيه ضربات إلى العمق الإسرائيلي، مما سيعود بتبعات ثقيلة على إسرائيل خلافا لما يحرص نتنياهو على إظهاره من تفوق عسكري حاسم، وسيدفع ذلك الولايات المتحدة إلى حرب إقليمية في إطار اضطرارها للدفاع عن إسرائيل.
وفي ظل التعقيد الذي تفرضه الانتخابات الأميركية المقبلة على الإدارة الديمقراطية فإن الذهاب إلى خيار حرب إقليمية يتورط فيها الجيش الأميركي لا يخدم مساعي الديمقراطيين ومرشحتهم للرئاسة كامالا هاريس بالفوز في الانتخابات.
وعليه، فإن الظرف العسكري والتصعيد الحاصل في المنطقة والتعهد الإيراني بتجاوز الصبر الإستراتيجي أمام الاعتداءات الإسرائيلية والتقييم الأميركي بأن ضرب المنشآت النووية الإيرانية سيعني بالضرورة حربا إقليمية لا تريدها الإدارة الديمقراطية، ولذلك فإن أحلام نتنياهو بضرب المشروع النووي الإيراني تراوح مكانها ويعتريها شك كبير.